رجع إلى أبي العلاء
وعلى الجملة فلا يختلف اثنان في علمه وفضله، ووقوفه على دقائق العربية، ولا عبرة بمن لحنه في قوله:
يذيب الرعب منه كل عضب
فلولا الغمد يمسكه لسالا
بأن مذهب الجمهور وجوب حذف الخبر بعد «لولا»، بناء على أنه لا يكون إلا كونا مطلقا، فإذا أريد السكون المقيد جعل مبتدأ، فكان عليه أن يقول: فلولا إمساك الغمد إياه لسال، أي موجود. وأما التركيب الذي أتى به فتركيب فاسد. انتهى.
قلت: وهذا المخطئ هو المخطئ لاحتمال تقدير يمسكه جملة معترضة بين المبتدأ والجواب والخبر محذوف، أو تقدير يمسكه بدل اشتمال على أن الأصل أن يمسكه، ثم حذفت «أن» وارتفع الفعل، وعلى هذا فالخبر محذوف أيضا. والمعنى: فلولا الغمد إمساكه موجود لسال. انتهى ملخصا من المغني وحواشيه. هذا إذا خرجنا البيت على مذهب الجمهور الذي تمسك به المعترض، والمذهب الحق ما ذهب إليه ابن مالك والرماني وابن الشجري والشلوبين؛ بأن الخبر إذا كان كونا مقيدا، ولم يدل عليه دليل، وجب ذكره، وإن دل عليه دليل جاز إثباته وحذفه. وعليه فلا وجه للتخطئة في البيت، فضلا عن ورود مثله في الكلام الموثوق به.
وأما ذكاؤه وسرعة فهمه وقوة حافظته؛ فقد رووا فيها غرائب، منها ما ينبو العقل عن تصديقه. وقد صرح صاحب معاهد التنصيص بأن للناس في ذلك حكايات مشهورة يضعونها، وغالبها مستحيل. إلا أن اشتراط استيفاء أخباره يقضي بذكر ما وقفنا عليه منها، وعلى القارئ تمييز الغث من السمين.
فمن ذلك: ما نقل عن تلميذ التبريزي أنه كان قاعدا بين يديه في مسجد بمعرة النعمان يقرأ عليه شيئا من تصانيفه. قال: وكنت أقمت عدة سنين لم أر أحدا من أهل بلدي، فدخل المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: أي شيء أصابك؟ فأخبرته خبر الرجل، فقال: قم وكلمه، فقلت: حتى أتمم النسق ، فقال: قم وأنا أنتظرك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئا كثيرا، إلى أن سألت عن كل ما بدا لي. فلما رجعت إليه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان. فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه من غير أن ينقص منه أو يزيد، فتعجبت غاية العجب، كيف يحفظ ما لم يفهمه.
ومنه: ما رواه بعض طلبته، أن جارا له أعجميا غاب عن المعرة، وحضر رجل من بلده يبحث عنه، فوجده غائبا، ولم يمكنه المقام، فأشار عليه أبو العلاء أن يذكر حاجته، فجعل الرجل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء مصغ إليه، ولم يكن يعرفها، إلى أن فرغ من كلامه، ومضى الرجل. وقدم جاره الغائب، فجعل أبو العلاء يردد عليه ما سمعه بلفظه، والرجل يبكي ويستغيث ويلطم، إلى أن فرغ من الحديث. وسئل عن حاله، فأخبر أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة من أهله.
وهذه الحكاية حكاها الوطواط في «الغرر والعرر» على غير هذا الوجه. قال: ومن عجيب حكاياته أن أبا زكريا التبريزي كان يقرأ عليه فأتاه رسول من عند أهله من تبريز، فجاء حلقة أبي العلاء، فسأل عنه، فأخبر أنه غائب في بعض شأنه. فقال له أبو العلاء: ما تريد به؟ قال: جئت برسالة من عند أهله، فقال: هاتها حتى نوصلها إليه. قال: إنها مشافهة. قال: فأسمعناها حتى نوصلها إليه. قال: إنها بالفارسية. قال: لا عليك أن تسمعناها ولا تسقط منها حرفا. فأوردها عليه. فلما جاء التبريزي أخبر أن رجلا جاء من تبريز ومعه رسالة من أهله، فقال: ليتكم أخذتموها منه، فإني مشوق لما يرد من أخبارهم. فقيل له: إنه قال إنها مشافهة. فتأسف لذلك، فلما رأى أبو العلاء تأسفه، قال له: لا عليك، إني سمعتها منه وحفظتها، ثم أملاها عليه. فجعل التبريزي يضحك مرة، ويبكي مرة! فسأله أبو العلاء عن ضحكه وبكائه؟ فقال: تارة تخبرني بما يسرني فأضحك، وتارة تخبرني بما يحزنني فأبكي. انتهى.
अज्ञात पृष्ठ