وهكذا رأينا ثروت وسط الزوبعة السياسية يكد ويعمل في أتم سكينة وصمت، لا ثرثرة ولا افتخار ولا دعوى، ولا إضاعة للوقت الثمين في المجادلات العقيمة المجدبة وخوض النظريات الخيالية المستحيلة، ولا في الشقشقة الهدارة والجلجلة الطنانة، ولكنه وقف مجهوداته العظيمة على الكد الدائب وحصر هممه الجسيمة في العمل المتواصل، وبارك الله في الأعمال إنها أجل وأعظم من الأقوال! ألا إنما الأعمال المملوءة بالروح حافلة بالحياة جياشة بمادتها الغزيرة الزاخرة. الأعمال طافحة بالحياة الصامتة التي هي برغم صمتها حقيقة مقررة واقعة، حاضرة الخير، حاصلة الأرباح والفوائد، والأعمال تزكو وتنمو كالشجر المبارك الثمار، وهي تعمر فراغ الوقت، وتملأ فضاء الزمان، وتكسوه خضرة ونضرة.
ثروت باشا لا يميل بطبعه إلى الجدل والثرثرة، ولا إلى المباهاة والمفاخرة، ولا إلى الإعلان عن كفاءاته ومواهبه. فإذا كان دور الكلام والاسترسال في ميادين النظريات المستحيلة والمشروعات الخيالية، والمباهاة بأساليب المنطق الأجوف الفارغ المؤدي إلى غير نتيجة، وبتفويق سهامه الطائشة التي قصاراها أن تزل من فوق سطوح الحقائق المتينة القاسية دون أن تصيب أكبادها - وتنزلق من فوق أديم الحقائق الخشنة الجافية دون أن تنفذ إلى صميمها - فتسقط تلك السهام متعثرة خائبة عن أجساد الحقائق، وتبقى الحقائق بعد ذلك على حالها لم تذلل ولا تمتلك، ولم يقبض على أزمتها؛ تواجهك - كما كانت من قبل - مرة أليمة قاسية، قد نفدت الجعب والكنائن دون أن تؤثر فيها مثقال ذرة، وكأنما لم نصنع شيئا، وكأنما انتهينا من حيث ابتدأنا. أقول إذ كان هذا الدور - دور الكلام والخيالات والمستحيلات - رأيت ثروت باشا قد اعتزل الميدان، لا عن ملال ويأس، ولكن تحينا للفرصة وتحفزا للوثبة، ثم ربض في مكمنه، وخدر في غيله سمير أفكاره وأنيس وحدته.
ولكن إذا جاء دور العمل وواجهتنا الحقيقة المرة الأليمة، وتبادر الرجال لتذليل هذه الحقيقة، وفك معضلتها، وللأخذ بناصيتها، والقبض على زمامها واستثمارها لمنفعة البلاد وصالح الأوطان، ورأيت رجال النظريات المستحيلة والمنطق الأجوف يرسلون سهامه الطائشة على هيكل تلك الحقيقة فتزل من فوق سطحها، وتنزلق عن أديمها الأملس الذي كأنه جلدة الأفعى، وكذلك تستمر أفعى الحقيقة سائرة في طريقها سليمة مصححة كأهدأ ما كانت وأنعم بالا - إذا كان هذا هو قصارى زمرة الخياليين المتشدقين ذوي المنطق الأجوف - ثم جاء دور ثروت باشا رأيت ذلك الرجل العملي قد هاجم أفعى الحقيقة وساورها، وقبض على ناصيتها وأخذ بكظمها، وطفق يعالجها أشد علاج، ويصارعها أعنف صراع - ليرى أهو أم هي أشد بأسا وأصعب مراسا - يجالدها ويكافحها بقوة جنانه؛ أعني بقوة جلده ومثابرته، في أمل ورجاء، بل في استيئاس واستماتة وصبر لا ينفد وإيمان عميق وذكاء متوقد.
كل هذه القوى العقلية والخلقية تبرز من مكامنها حينما يصارع ثروت باشا (أو غيره من عظماء رجال العمل) أفعوان الحقيقة، وفي هذه المعركة وحدها - وعند هذا الصراع فقط - يمكننا أن نقيس مقدار همة الرجل، ونزن مبلغ كفاءته وقدرته.
العمل وحده عنوان الفضل وآية القدرة، ومسبار غور الرجل، ومقياس عمقه، وعلى صحائف الأعمال يلوح في سطور من النور بيان ما يكمن في صدور الرجال من كنوز الفضل والحكمة والأدب والنهى، ومن ذخائر الصبر والجلد والجد والمثابرة والحزم والعزم والإخلاص والأمانة وصحة النظر ونفاذ البصيرة والحذق والبراعة. أجل، كل ما ينطوي عليه الرجل من قوة يلوح متلألئا في أحرف من النار والنور على صحيفة عمله. أو ليس العمل الجدي المخلص هو أن يواجه الرجل الطبيعة ونواميسها الأبدية فيعالجها ويمارسها ليسيرها في سبيل مقاصده وأغراضه؟ وعلى قدر فهمه لأسرارها ومطابقته لقوانينها يكون مبلغ فوزه ونجاحه، وهي الطبيعة تصدر على الرجل وعلى كفاءته حكمها حسب ما تراه من أسلوبه في معالجتها ومسايرتها؛ إذ تقول في حكمها على الرجل هذا مبلغ ما وجدت فيه من فضل وكفاءة - هذا القدر لا أكثر ولا أقل - هذا مبلغ ما فيه من قدرة على فهم أسراري والائتلاف معي ومجاراتي والسير على منهاجي ومراعاة شرائعي ونواميسي، وعلى حسب هذا كان نجاحه أو خيبته وسعادته أو شقوته كما ترى وتشاهد.
مصر في أشد أزمات جهادها، وأضيق مآزقه (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) أصبحت بأمس حاجة إلى رجل العمل الدائب والكد الشديد والمجهودات الهائلة. لقد جربت من قبل ذلك اللجب والضوضاء والصياح والصراخ، وجربت الشقاشق الهدارة والجلاجل الطنانة، وجربت طواحين الهواء والألعاب النارية التي تملأ الجو طنينا ودويا، وألاهيب وهاجة، وشعلا براقة تساور السماء وتلامس الجوزاء ، ثم تسقط رمادا وتتبدد هباء، جربت هذا وذاك فلم يغنها فتيلا ولا قطميرا، وإن كان أفادها تلك الحقيقة الخطيرة، وهي أن الكلام في موضع العمل عبث باطل، وأن النزاع والشقاق في مقام التضامن والاتحاد ضلال مبين، وأن الصياح وحده هواء يذهب في الهواء، وأن السبح في بحار الخيال يؤدي إلى ساحل الخيال الذي إذا أرسيت لديه وجدته ضبابا ينقشع من تحت قدمك، وهباء يفر من بنانك، وليس يؤدي إلى ساحل الحقيقة المادية الصلبة التي تحصل في ملكك، وتقع في حوزتك.
لما جربت مصر هذه الوسائل الكلامية، واستنفدت ما هيأت لها معامل الحناجر، ومصانع الأجهزة التنفسية من بارود الصراخ والهتاف، وقنابل «يسقط ويحيى»، فألفت كل هذا، لم يغن ولم يثمر، ووقفت حائرة مبهوتة إزاء الحقيقة المرة، وإزاء لغز السياسة، بل لغز الحياة المعضل المعقد الذي أبى أن ينحل على الرغم مما صبت على أم رأسه من بارودها الهتافي وقنابلها «الإسقاطية الإحيائية». تحننت عليها الطبيعة، ورق لها فؤادها الكبير، وتقدمت لعونها وإمدادها، وقالت لها: استريحي هنيهة، واختارت لحل اللغز وفك المعضلة رجل العمل والدأب والحزم والعزم والحجى والدهاء: عبد الخالق ثروت.
وكذلك الطبيعة السمحة السخية ما كانت لتضن على الشعب المجاهد بالرجل العظيم عند الحاجة إليه، ولا يزال كلما ارتطمت الأمة المجاهدة في المأزق الضنك والزحلوقة الزل أسرعت الطبيعة إلى إسعافها فساقت إليها رجل الساعة، وبطل الميدان، فلا يلبث أن يقيل عثرتها، ويأخذ بيدها، ويهديها سواء السبيل؛ ذلك دأب الطبيعة وديدنها الذي لن تعدل عنه إلا إذا كانت قد أرادت بهذا العالم الأرضي الخراب السريع والدمار العاجل.
ولما اختارت لحل اللغز وفك المعضل رجل الجد والعمل ثروت باشا، ودفعت به في جوف الزوبعة - كما أوضحنا آنفا - وفي وسط العوامل المتنازعة، والقوى المتدافعة، والعناصر المتكافحة المتلاطمة ارتاح لذلك العقلاء، واستبشروا وقالوا: «أما والله، ما كانت قط زوبعة فوضى فرمى الله في جوفها بروح النظام ممثلة في رجل حازم، إلا بدأت فيها حركة مباركة نحو ائتلاف العناصر المتنافرة، والتوفيق بين القوى المتضاربة، واستبقاء النافع ، وإسقاط الضار من الأسباب والعوامل - حتى ترى الفوضى سائرة إلى النظام، والثورة إلى الهدوء، والضجيج إلى السكينة، وتبصر مكان الجدب والعقم الإنتاج والإثمار - فتوقن بحسن المآل والعاقبة»، ولا جرم. فما من فوضى تقيم في وسطها روحا عالية نبيلة إلا آلت إلى النظام والخير والفلاح بفضل ذلك. هذا، وإن الطبيعة تحب النظام، وتبغض الفوضى ولا تطيقها ولا تحتملها، ولا تصبر عليها إلا ريثما تهيئ لها روحا سامية تعالج بها شرها، وتزيل خطرها، وهذا الكوكب الأرضي النبيل المقدس الذي نعيش فيه ونتقلب، مهما طال صبره على مروجي الهرج والفوضى، فهو في النهاية لا يطيقهم، ولا يلبث أن يريح نفسه منهم، وهذا من أشد ضرورات العالم إذ كانت سنته الصلاح والرقي، وكانت مادة الخير فيه أكثر من مادة الشر، وكان الحق فيه متغلبا على الباطل.
وأي خير في الفوضى إلا إذا أصبحت تتجه نحو النظام، وأي بركة في الثورات السياسية إلا إذا تولى المصلحون تنظيمها برسم الخطط والبرامج العملية.
अज्ञात पृष्ठ