إهداء الكتاب
مقدمة
1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
3 - الحالة الحاضرة
4 - مناقب ثروت باشا
إهداء الكتاب
مقدمة
1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
अज्ञात पृष्ठ
3 - الحالة الحاضرة
4 - مناقب ثروت باشا
أبطال مصر
أبطال مصر
تأليف
محمد السباعي
إهداء الكتاب
إلى مليكنا المفدى صاحب الجلالة أحمد فؤاد الأول، خلد الله ملكه وأدام سلطانه.
في عهدك الميمون استروحت مصر نسمات الحرية، وذاقت حلاوة الاستقلال، وفي ظل رعايتكم الظليل وفق رجال عاملون إلى خدمة قضية البلاد، وإنما بمددك وعونك وفقوا، وبحولك وقوتك اعتزموا وصمموا، وبهمتكم العالية خاضوا الغمار وساوروا الأخطار، وبعزيمتك الماضية ابتدروا في سبيل رفعة الأوطان غاية المجد والفخار. فإن كان لهم في ذلك فضل فمن معين مواهبك الغزيرة مغترفه ومستقاه، ومنك وإليك في كل حال مبتدؤه ومنتهاه.
فإليك يا مليك البلاد أتقدم بإهداء هذا الكتاب المضمن كلمات صدق وإخلاص عن أولئك الرجال أبطال دولتك، حاملي رايتك، ومنفذي مشيئتك، ولابسي مطارف فضلك ونعمتك.
अज्ञात पृष्ठ
وإني أضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يصون دولتك، ويحوط سلطانك، ويبقيك لرعاياك المخلصين ذخرا عتيدا، وظلا مديدا، وروضا مريعا، وكهفا منيعا، وأن يقر عينك وعيون المصريين جميعا بولي عهدك المفدى الأمير فاروق كعبة آمالنا ومطمح أمانينا.
ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول وولي عهده الأمير فاروق ورجال دولته المخلصون.
عبدكم الخاضع
محمد السباعي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن عصور النهضات في كل أمة لا تزال مملوءة بعظائم الحوادث، مزدانة بعظماء الرجال، والحقيقة أن كل حركة أو نهضة تعتري الشعوب الساكنة المطمئنة فتحدث فيها تطورا أو انقلابا، إنما هي في الحقيقة نوع من الزلزال، فلا عجب إذا رأيت هيكل الأمة قد تفجر عما يستكن في جوفه من ملكات ومواهب وفضائل ومناقب، وتفتحت كنوزه فباحت بخفايا بدائعها وأبرزت خبايا ودائعها، وهنالك يقذف المنجم ياقوته وعقيانه، ويلفظ اللج لؤلؤه ومرجانه، وهنالك تظهر فحول الرجال وعظماء الأبطال.
أولئك الفحول والعظماء من جلة رجال الأمة، يبرزون على مسرح النهضة فيلعب كل دوره الذي أعدته له الفطرة والطبيعة، وهيأته لتمثيله الظروف والأحوال.
لكل رواية دورها المصيب المسمى في الاصطلاح التمثيلي أزمة الرواية أو «قمتها»، حيث يبلغ السيل الربى، ويصعد الترمومتر إلى درجة الغليان، ويجلس القدر على منصة الحكم، وينصب الميزان، وإذ ذاك تتشوف أبصار وتشرئب أعناق، وتخفق أفئدة، وتبهر أنفاس، ويلوي القلق والإشفاق أوتار القلوب، ويقوم الشعب بين الخوف والرجاء على سراط الشك المرهف الذليق، الأملس الزليق، المعلق فوق هاوية التلف والخسار، يؤمون لدى نهاية هذا السراط وادي السعادة والنعيم، مسترشدين في مأزق هذه الرحلة الخطرة المخوفة بكوكب الأمل الدائم الخفق واللمعان.
تلك هي حالنا بالدقة في دورنا الحالي الخطير، وإن كنا قد اجتزنا بعد من مناطق هذا السراط أشدها خطرا وأوعرها مسلكا، ودخلنا فيما نستطيع أن نجعله بفضل الحكمة والحزم منطقة سلامة وخطة نجاة.
अज्ञात पृष्ठ
وبديهي أن مثل هذا الدور العصيب من أدوار رواية الجهاد الوطني جدير أن يحرك بعظيم أحداثه من نفوس الكتاب ما لا تحركه العصور الخاوية الفارغة، وأن يثير من خواطرهم بما يبديه من مآثر الرجال، ومفاخر الأبطال ما ليس تثيره الأوقات الساكنة الوسنى بأشخاصها الصغار العاديين. أجل، إن عصر النهضة خليق بفضل حوادثه وأبطاله أن يهز جدران النفوس من أرسخ أساسها، ويثير لجج الأرواح من أعمق أعماقها حتى تفعم الأذهان من مزدحم الأفكار والعواطف بما يأبى إلا التدفق على أسلات الألسن والأقلام؛ لعجز أربابه عن حبس طوفانه في أوعية صدورهم، ودفن نيرانه في حنايا ضلوعهم.
وكذلك الكلمة الحارة هي كالدمعة الحارة إن نفثت أراحت وفرجت، وإن كتمت أمضت وأرمضت، فهي مدفونة في الجنان أخبث داء، ومنطلقة من اللسان أنجع دواء، ورب كلمة خزنت في الضمير فكانت منية صاحبها وآخرين، وكلمة لفظت فكانت حياة صاحبها ومنجاة ملايين.
فبديهي بعد ما تقدم أن أصبح - كغيري ممن تصدوا للكتابة عن عصور النهضات - يأبى ضميري إلا نفث ما يجول به ويزدحم من سوانح الفكر والخواطر عما يبدو لي من حوادث هذا العصر ومآثر رجاله وأبطاله.
وسأتوخى في كتابتي - إن شاء الله - وصف الواقع لا أقل ولا أكثر، ونعت الحقيقة جهد طاقتي، محاولا أن أكون في ذلك كالمرآة المنبسطة تعكس صورة الأشياء كما هي دون أدنى تحوير أو تبديل - ليس كالمرآة المحدبة أو المقعرة التي تعكس شبح الشيء مفرغا في قالبها المشوه - وأن أجعل من مخيلتي مجازا ومعبرا للحقائق ليس إلا، تدخل من أحد طرفيه وتخرج من الآخر ثابتة على حالها لم يخالطها مزاج ولم تشبها شائبة، متحاشيا أن أجعل من مفكرتي وعاء طيب وغالية تمر به الحقائق فتخرج مضمخة بذكي نشره وعاطر أريجه. ولكني سأجعل من يراعتي معزفا ترتل عليه الطبيعة ألحان الحقائق خالصة حرة صريحة، لم يتعرض لها ملحن الأنانية فيطبعها بألحان الأغراض ويوقعها على نبرات الحب والبغضاء والسخط والرضى.
والله أسأل أن يجيء هذا السفر غير خال من النفع والفائدة، وأن يجعله وسيلة هداية وإرشاد في ظل صاحب العرش الكريم المحفوف بالعناية والتأييد، جلالة ملك مصر والسودان فؤاد الأول، أدام الله ملكه وسلطانه، وأغدق على رعاياه المخلصين بره وإحسانه، وأرتعهم من جنانه الفسيح في أخصب واد وأطيب منتجع ومستراد، وأحلهم من ركنه الوطيد في أسمى ذروة وقمة، وأمنع ملاذ وعصمة، ما هبت نسمة ولاحت نجمة، والله سميع الدعاء.
محمد السباعي
الفصل الأول
مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
ليست حياة الأمة الناهضة الساعية إلى استقلالها بالحياة السهلة الهينة، ولا مسيرها إلى غايتها المجيدة بالنزهة الجميلة بين الحدائق والبساتين في سنا رونق الساعات الذهبية، وعلى شجا ترتيل النغمات الشهية، ولكنها حرب طاحنة ضروس، وجهاد شاق في أوعر المسالك وأضيق المآزق، ولا تزال مثل هذه الأمة تتنقل في تاريخ نهضتها من طور إلى طور، وتتحول عن دور إلى دور، وكل أدوارها وأطوارها صعب شديد وإن تفاوتت في درجة الشدة والصعوبة تبعا لتغير الظروف والأحوال، على أنها لا تلبث أن تصل يوما ما إلى ذلك الدور الذي يصح لنا بحق أن نسميه عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث يخيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص ولا مستروح ولا متنفس، وأن متن الرجاء قد انبتر ، وظهر السعي قد انبت وانحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وأن القلم الأعلى قد سجل حكم الشقاء على الأمة في صحيفة الأبد.
مثل هذه الأزمة العصيبة والساعة السوداء لم تكد تخلو منها سير الأمم الناهضة أثناء حركاتها الثورية، وقد أصيبت بها الحركة المصرية الحالية في أول ديسمبر سنة 1921 وذلك حينما رمتنا السياسة الإنكليزية بمشروع كرزن، ومذكرة اللورد النبي الإيضاحية التي شفع بها ذلك المشروع.
अज्ञात पृष्ठ
لقد كان لتلك المذكرة الإيضاحية أسوأ وقع في نفوس الشعب عامة، وآلم أثر في قلوبه، وأشد صدمة لآماله ومطامحه، وأدمى طعنة لعزته وكبريائه؛ ذلك أن الشعب المصري بعدما أتته دعوة المفاوضة من جانب الحكومة الإنكليزية في أجمل شكل وأحسن صيغة، مال إلى حسن الظن بتلك الحكومة، وقال في نفسه: «لا يبعد أن هذه الدولة الجبارة قد اهتدت أخيرا إلى أن أقصد السبل، وأنجع الوسائل إلى حل مشكلتنا وتسوية مسألتنا هي سياسة الصراحة والوضوح، والأخذ بمبدأ العدالة والحق بعد ما تبين لها فشل سياسة الختل والخديعة.» وبناء على ذلك فاوضت مصر إنكلترا على لسان وفدها الرسمي الذي كان يرأسه دولة الرئيس الخطير عدلي يكن باشا، فكيف كانت نتيجة المفاوضات؟ كيف كانت نتيجة ما ادعاه الإنكليز من سياسة الصداقة والوداد والمحابة والمصافاة والعمل على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه؟ كانت هذه النتيجة هي قطع المفاوضات من جانب وفدنا الرسمي بما شرفه وشرف الأمة جمعاء، وإعلان إنكلترا تلك المذكرة الإيضاحية المصرحة - بما لا يتفق مع ما ادعاه القوم من الميل إلى المسالمة والمصافاة، والنية على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه - من مظاهر الاستعباد الذي ليس دونه استعباد، وآيات الاستبداد الذي ليس وراءه استبداد. كانت نتيجة ذلك هي تلك المذكرة التي صورونا فيها بصورة شنيعة منكرة؛ تبريرا لما أعدوه لنا من أغلال الرق ونير العبودية، حتى قالوا إنهم يرون من واجباتهم حماية عرش سلطاننا، وحماية بعضنا من بعضنا كأنما الشعب المصري قد بلغ من همجيته وانحطاطه أنه صار عدو نفسه، وهي لعمري نقيصة يبرأ منها إلى الله أشد الأمم همجية وانحطاطا. كانت النتيجة أنهم لم يكتفوا بإعلان ذلك المشروع البغيض حتى كلفونا أن نرضاه ونقره بعدما علموا وعلم العالم أجمع رغباتنا ومطالبنا، واطلعوا على برنامج وفدنا. كانت النتيجة - وذلك أشنع فصولها وأنكر أركانها - أنهم أنذرونا وهددونا بتنفيذ مشروعهم على الكره منا، وعلى الرغم من أنوفنا بالقسر والقوة.
من أجل ذلك كله، نقول إن يوم 3 ديسمبر الذي أعلنت فيه هذه المذكرة الممقوتة كان أعصب يوم في تاريخ الحركة المصرية.
ما كان أكذب آمال الأمة المصرية يوم غرتها من مواعيد الإنكليز في الدعوة إلى المفاوضات لمحات السراب وبارقات الخلب! سحابات أبخرة الأباطيل تنقشها بأجمل الألوان كف الخديعة الخاتلة! ما أجملها في عين ناظر يشيمها بلحظ الغرور! وما أروحها لقلب ساع يهرع نحوها بسرعة الصب المفتون! وما أفرغها في النهاية! وما أخلاها من كل فائدة وطائل!
كيف خبت كواكب الأمل المشرقة، واكفهر وجه السماء، وأنذرتنا من جانب الأفق طوالع النحس؟ فهل كان الرجاء انقطع بتة؟ وهل ضاع الأمل آخر الأبد؟ كلا، إنما أرجئ الأمل وسوف الرجاء. لم يمح الأمل ولم يزل، وإنه وايم الله بطبيعته غير قابل للمحو والزوال، وهو العنصر الأبدي في طبيعة الإنسان، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه، وهو ميراث الإنسان وذخيرته الوحيدة حين تسلب منه سائر الذخائر. أو لم يسم الفلاسفة والحكماء هذه الدار الفانية التي يسكنها الإنسان «دار الأمل»؟
ما أقسى تقلبات الصروف السياسية بهذه الأمة المصرية المجيدة! وكيف لا يزال مصباح الأمل يستدرجها على سنا شعاعه البراق في أوعار السياسية العسوف وفي صعابها وأوعاثها! وكيف لا يزل يومئ إليها أن تتتبع شبحه المتلون في تلك المجاهل والمعاسف، مشرقا عليها تارة بابتسامة العطف والتشجيع، وتارة متأججا متوهجا بلهيب النذير والتحذير؟! ولكنه باق أمام عينها في جميع الحالات، وعلى كل التقلبات، لا يخبو مصباحه، ولا يخمد لماحه - حتى في أشد حالات اليأس والقنوط. وما هو اليأس، وما معناه؟ وهل اليأس سوى نوع من الأمل؟ وهل كان فرط اليأس وغلواؤه إلا مقياسا لمبلغ ما فينا من قوة وحياة ومقياسا أيضا لمقدار حقنا في الأمل والرجاء؟ وهل ترى دخان اليأس مهما اشتد سواده إلا مصيبا يوما ما من روح الله، ومن همة الشعب جذوة صدق، وجمرة حق تشعله ضراما وهاجا يملأ الأرض والسماء بضيائه؟
لا خوف على الأمة المصرية الكريمة مما أصابها من شديد الحزن لأسوأ ما حل بها أثناء جهادها المجيد - أعني لتلك المذكرة الإيضاحية التي مست صميم كرامتها، وجرحت كبرياءها وعزتها، وسخرت من مقدس أمانيها ومطالبها - لا خوف على الأمة المصرية مما أصابها من حزن وكمد في سبيل جهادها. بل لا خوف على الأمم عامة ولا على الأفراد من الحزن الشريف والكمد المجيد؛ فإن نيران مثل هذا الحزن لهي خير بوتقة لتصفية جوهر النفس وتنقية معدن الروح، وهي أقوى أداة لإشعال الهمم وإلهاب العزائم حتى تندفع في سبيل جهادها الشريف بإضعاف ما بها من قوة وحدة. فلتغتبط الأمة بأحزانها في سبيل قضيتها، أو ليس ذلك الحزن مقياسا لمبلغ ما عندها من شعور وإحساس ومن مقدرة وكفاءة، بل من غلبة وظفر وانتصار؟ ألا إن حزن الأمة المجاهدة ما هو إلا صورة معكوسة لمقدار ما لها من عزة وشرف ونبل؟ فلتغتبط الأمة المصرية الكريمة بأحزانها، ولتبتهج بأشجانها، ولتجعلها مصدر همة وعزم ومضاء.
ولتوقن أن هذا الاستعباد الإنكليزي إنما هو أبطولة وأكذوبة، وكل أكذوبة فإلى الزوال مصيرها مهما امتدت بها العصور وتراخت بها الأزمان. بذلك قضت نواميس الطبيعة، وحكمة هذا النظام المقدس، فإنه لا دوام للباطل؛ بل إن الحق ذاته لا يدوم على صورة واحدة، ولا بد له أن يغير صورته ويبدل شكله وصيغته من آن إلى آن، حيث يخلق خلقا ثانيا ويولد من جديد. أما الأكاذيب - وعلى الأخص أكذوبة استعباد الأمم والأفراد التي خلقها الله حرة طليقة - فلقد سجل عليها حكم الإعدام منذ الأزل في صحيفة الأقدار، فهي تسير بطيئا أو سريعا إلى ساعتها المحدودة - إلى حينها المحتوم، وحتفها المحموم، والسر في ذلك أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على أساس الباطل، وهذا الإنسان (الذي هو صورة الله في الأرض، مهما شابت قداسة روحه شوائب الخبائث والدناءات) لا يمكن أن يقوم على أساس من الكذب والضلال، ولكن السياسة - تنفيذ لمآربها الأنانية وأغراضها الاستعمارية - تجهل ذلك أو تتجاهله، وليس بنافعها هذا الجهل أو التجاهل إزاء ناموس الطبيعة العادلة وسنة الله الحكيمة، واستبدادها العقيم مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالفناء مهما طال أجله وتراخت مدته.
لقد يخيل إلى زمرة الساسة والاستعماريين أن استمرار سياسة الظلم والجور في أرض الله بلا قامع ولا مبيد، وتمادي دولة الاستبداد والاستعباد دون أن يصدر وينفذ عليها ما تستحقه من حكم العدالة الإلهية؛ دليل على خلو هذا العالم الأرضي من قانون العدل والإنصاف، ولكنهم في ذلك مخطئون غافلون، فإن حكم العدالة الإلهية في هذه الحياة الدنيا قد يؤجل اليوم واليومين بل القرن والقرنين، ولكنه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها ولا مناص منها، حقيقة محتومة كالحياة نفسها وكالموت ذاته. ولا جرم، فإنك إن أنعمت النظر في زوبعة الحياة الدنيا - تلك الزوبعة المضطربة العاصفة الهوجاء البادية لعينك كأنها كلها هرج ومرج وتشويش واختلاط - وجدت أنه في أعماق أعماقها يستقر، وينطق إله منصف عادل، وألفيت أن روح هذه الدنيا إنما هي الحق والعدالة. فهذه الحقيقة الهائلة التي ما برحت منذ كان الإنسان تبدو لعينه ناصعة باهرة - سواء كان مسلما أو كتابيا أو بوذيا أو وثنيا، وسواء سكن قصور باريز أو غابات أمريكا أو زمهرير القطب أو سعير الاستواء - هذه الحقيقة الهائلة إذا جهلها الساسة فقد جهلوا كل شيء، وقد باعد الله بينهم وبين النجاح كما باعد بين الأرض والسماء، وأنى لهم بالنجاح وقد ظلوا يناوئون ويعادون ناموس الطبيعة وروح الوجود، ويكافحون الكون أجمع في معركة لن يخرجوا منها إلا مثقلين بأفدح أعباء الهزيمة والخسران.
ألا إن في كل شيء خيرا؛ وقد كان للأمة المصرية في تلك المذكرة الإيضاحية خير وإن بدا متلفعا برداء وهاج من لهيب الألم وضرام الحزن المتسعر. لقد كانت الأمة أصيبت من قبل ذلك بشر ما يصيب الأمم الناهضة المجاهدة من العلل والأدواء - أعني بداء الانقسام والتحزب - وكان ذلك الداء الخبيث قد فشا في جسدها، ونقض من أسباب ائتلافها وتماسكها، وفصم من عرى اتحادها وتضافرها، وهدد كيانها بالتهدم والانحلال، وكاد يمسها في صميم نفسها، ويذهب بما قد ملأ قلبها من روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فما هو إلا أن لطمتها السياسة الإنكليزية تلك اللطمة القاسية، وطعنتها تلك الطعنة الدامية حتى أفاقت من سكرتها، وهبت من رقدتها، ونفضت عن أعطافها غبار الفتور الذي كان جللها به ريح الشقاق والنزاع، كما ينفض الأسد الهصور غبار الكسل عن لبده - ثم تحركت ونشطت كأنما قد أفعم قلوب ملايينها العديدة روح واحدة لا تقبل الانقسام والتجزئة، وأعلنت بلسان واحد وبصوت واحد يملأ الفضاء الرحب، ويهز هيكل الأرض من أعمق جذورها ودعائمها، ويصدع أديم السماء «أنها حية يقظة متحفزة ناهضة.»
أجابت مصر على المذكرة الإيضاحية بذلك الجواب المفحم الحاسم - أعني بما كانت أعلنته قبل ذلك على لسان جماعة الكونتننتال حين شعرت بما أضمره لها الإنكليز من الشر وسوء النية - أجابت بذلك القرار الذي كان الموحي به في الحقيقة هو روح مصر المنبثة في فضائها، الطائفة في جوها، المرفوفة على مضاجع أهليها وعلى سوامرهم وأنديتهم، الحائمة على مهود أطفالها وأكنان عجائزها وشيوخها - على الأجنة في بطون أمهاتها وعلى الأموات في بطون أجداثها - الحدبة العطوف على أمانيها وآمالها، الحذرة القلقة المشفقة على ماضيها ومستقبلها.
अज्ञात पृष्ठ
بهذا الجواب المفحم الحاسم أجابت مصر إنكلترا بلسان واحد، وصوت واحد - علت من نبراته صيحة الإنسانية المتألمة، وتأججت في هزاته جمرة الوطنية المحتدمة، وما أعظم صوت الأمم والشعوب وما أقواه وما أقهر سلطانه وما أشد وقعه! ألم تر إلى صرخة الشعب الواجد الغضبان كيف تصم أذن الظالم وتقرع حبة فؤاده، بل كيف تكاد تشل خلجات روحه، وتكاد تحرق زهرة الحياة في مغارس نفسه ووجدانه؟!
قال توماس كارليل في كتابه «الثورة الفرنسية»: «ما أجل صوت الجماعات وما أخطره! صوت غرائزهم التي هي أصدق من خواطرهم وأفكارهم، أما إن هذا الصوت لأجل وأخطر ما يصادفه الإنسان بين تلك الأصوات والأشباح التي يتكون منها هذا العالم الزمني؟! فكل من يجرأ على منافضة هذا الصوت ومقاومته فقد خرج بنفسه عن دائرة الزمان، وعن حدود نواميسه وشرائعه.»
أعلنت الأمة المقاطعة، وأعلنت وجوب الإضراب عن تأليف الوزارة تأييدا لمبدأ عدم الاشتراك مع الإنكليز في حكم البلاد وإدارة شئونها؛ إذ كان في ذلك الاشتراك دليل على الرضى بما يسومنا الإنكليز من خطة الذل والخسف والهوان. أعلنت ذلك الأمة المصرية، وتمسكت به أشد تمسك، ولم تسمح لنفسها فيه بهوادة ولا لين ولا تساهل، وحصنت نفسها بأمنع دروع الإصرار والتصميم والإباء والمعاندة، وتمسكت إنكلترا من الجهة الأخرى بخطتها أشد تمسك، وأظهرت أن مشروعها الأخير هو القضاء الفصل، والحكم النهائي الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا ولا نقضا ولا إبراما. وكذلك انفرجت مسافة الخلاف بين الطرفين واستحكمت حلقاته، وبلغت المشادة والمعاندة أقصاها، وأظلم ما بين الأمتين، وجف بينهما الثرى، وعظم الخطب، واستفحل الداء.
وهنا دخلت الأمة المصرية في أصعب أدوار حركتها الجهادية، وأشد أزماتها، وأفظع ساعاتها؛ ذلك الدور الذي سميناه في بدء كلامنا عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث خيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد انحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وقد سجل على الأمة الكريمة حكم الشقاء في صحيفة الأبد.
هنا جاء على الأمة المصرية أشنع أدوار حركتها الجهادية، واسود الأفق وحجبت نور السماء سحائب النحس، فماذا نصنع؟ وكيف نواجه هذا الكارث؟ وكيف نعد العدد، ونجهز آلات الدفاع، ونشحذ سلاح الهجوم؟ وأي عدد لدينا، وأي آلات، وأي أسلحة؟ دروع الصبر والجلد، وسلاح السكينة، وعدة الأمل والرجاء، ونعم الدروع والآلات والأسلحة، «لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا معاذ الله، وقد أوضحت آنفا أن استبداد الظالم أكذوبة، وأنه كسائر الأكاذيب مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالإعدام في النهاية، وأن صوت الأمة المظلومة أقوى صوت في العالم، وأن مآل الحق أن يتغلب على الباطل، وأن الأمل ميراث الإنسان وذخيرته، وأن الدنيا اسمها دار الأمل.» أجل، لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا، ولكني أقول: إن هذه الأسلحة السلبية إن أحرزت النصر والظفر لم يجئ ذلك إلا بطيئا، وليس النصر البطيء بأحسن أنواع النصر، وليس الفرح بالمتاع الآجل البعيد - الذي قد لا تمني نفسك بأن تراه لا أنت ولا أعقابك ولا أعقاب أعقابك - كالفرح بالمتاع الذي يزف إليك عاجلا، تلبس جميل زينته، وترشف عذب ريقته.
أقول: لا مشاحة في أن ذلك الدور كان أشنع أدوار قضيتنا، وتلك الساعة كانت أسود ساعات حركتنا. وحق لنا إذ ذاك أن نحار ونبهت وأن نأسى ونحزن، وحق لنا أن ندور بأعيننا بين أبناء أمتنا المجيدة فنفتش في نخبة رجالها وصفوة أبطالها عن رجل نرمي به هذا الحادث الجسيم، وننقب عن بطل نصدم به هذا الكارث العظيم.
إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع الإنساني وعلله تخلق أيضا أدوية هذه العلل والأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الحياة الإنسانية توجد أيضا وسائل إبادة هذه الآفات؛ وذلك لأن الطبيعة أساسها العدل، وروحها النظام، وغايتها الصلاح والنمو الحسن والرقي. فإن هي خلقت الأدواء والعلل والآفات فلم تقصد بذلك إلى الفساد والخراب ولا إلى الفشل والفوضى (وإن ظهرت تلك العلل والآفات في دورها الأول بمظهر الفساد والفوضى) ولكنها تقصد إلى الصلاح والنظام والرقي في النهاية، وإنما هذه العلل والآفات - مع ضررها المؤقت وشرها الزائل - عمليات ضرورية لا بد للمجتمع من اجتيازها في طريق نموه ورقيه - هلا نظرت إلى أوراق الشجر وأجزاء النبات حين تعصف بها الرياح الهوج فتسقط وتذبل، ثم تعفن وتبلى وتنحل؛ فيخيل إليك أنها فسدت وماتت - ولا موت ولا فساد في الطبيعة - ولكن هذا الذي يخيل إليك بلى وفسادا إنما هو عملية انتقال من حال إلى أحسن منها، فلا تلبث هذه المواد النباتية أن تستعيد حياتها وتجدد بهجتها، وقد تستحيل بعد عدة من هذه العمليات الأليمة المحزنة في ظاهرها إلى صنف أجود وأحسن، سنة التحسن والتقدم وقانون النشوء والارتقاء الذي هو روح الطبيعة وعملها وغايتها.
نقول: إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع تخلق أيضا أدوية هذه الأدواء، والطبيعة التي توجد آفات الإنسانية توجد أيضا مهلكات هذه الآفات. وإذا اشتد الجدب صاب الغيث، وإذا أربد الغيم بدده شعاع الشمس، وإذا تكاثرت المصائب على أشخاص المأساة الأبرياء فوق المسرح وتكاثفت الأرزاء، وأخذ الموت بالكظم وبلغت الروح التراقي - ظهر على المسرح من حيث لا يرجى ولا ينتظر بطل الرواية؛ فغير مجرى الحوادث وحول منهج الكوارث؛ فجلى دجى الخطب، وأشرق على الأبرياء بنور الصفو والخير والسعادة.
وكذلك لما ادلهمت مأساة السياسة على مسرح الحياة المصرية، وانتهت هذه المأساة بفضل المذكرة الإيضاحية إلى أزمة الأزمات وعقدة العقد - كما أسلفنا - وعظم الكرب واستفحل الداء؛ ظهر على المسرح لإبادة الشقاء وإسداء الخير والصفاء، بطل الرواية المصرية الحالية؛ عبد الخالق ثروت باشا.
إن العناية الأزلية لما بصرت بتناهي البلاء في هذا البلد الأمين، وبلوغ الشقاء والكرب أقصاه نثرت كنانتها بين يديها، ثم فتشت عيدانها فوجدت ثروت أمرها عودا، وأصلبها معجما فرمت به الحادث الجلل والمحنة النكراء.
अज्ञात पृष्ठ
أي ثروت! أيها الرجل القوي المتين؛ ماذا أمامك من العقد والمشاكل والأزمات والمعضلات؟! أمة مظلومة مهضومة واجدة على الظلمة، غضبى على الجورة، يتأجج صدرها بركانا، ويتقد في ألحاظها لهيب ما انطوت عليه الجوانح من نار الحنق المكتومة، وتقذف السماء بصيحات احتجاجها على الجبابرة، وبصرخات نقمتها. أمة تختمر في أفئدتها عوامل الهياج، وتفرخ في نفوسها جراثيم الفتنة، ويعب عباب غيظها، ويزخر تيار غضبها، وتجيش أعماق روحها بدوافع الثورة. أمامك خضم زاخر ينذر مسامعك من أعماقه نشيش غليان الطغيان، وأزيز فوران الطوفان. أمامك في أفق البلاد المظلم المربد آيات العاصفة، وأمارات الزوبعة ينذر مسامعك من لدنها دوي قصفها مخوفا مرهوبا، وأمامك من الجهة الأخرى الدولة القوية المخيمة على أرجاء المعمورة، الممسكة بأطراف العالم، المالئة الأرض بمدافعها والبحر بأساطيلها والجو بمناطيدها - جبارة متكبرة طاغية، مصرة على تنفيذ إرادتها ضد أوامر العاطفة والإنسانية ونواميس الحق والعدالة وعلى الرغم من الأقضية والأقدار، مصممة أباءة، مطرقة كالأفعوان والحية الرقشاء، لا تؤثر فيها الرقى والتعاويذ، قاسية جامدة صماء كالقدر أو كالموت.
وفوق هذا وذاك، أمامك من أمتك الفئة ذات الأهواء والأغراض الذين لا يريدونك، ولا يحبون أن يكون على يديك انفراج الأزمة وحل المعضلة وزوال النقمة وحلول النعمة، الباذلون أقصى الجهد في العمل على تنحيتك عن مواطن المجد ومواقف الفخار.
أي ثروت! أيها الرجل الجلد المكين! ما أحرج مركزك وأصعب موقفك! فبحقك ماذا أنت صانع وسط هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة؟ وأنت قائم بينها منفردا وحيدا كالجبل الباذخ تعصف الزوابع الهوجاء حول هامته الشماء فلا تحرك من سكينتها ولا تستخف من رزانتها، وتثور الزلازل حول أساسه فلا تزعزع من ثباته، وقد سمت قمته العلياء فوق سحب الأهواء والأغراض وضباب الحزازات الشخصية والإحن الأنانية، وواجهت شمس الحقيقة الساطعة والنزاهة الخالصة.
تقدم ثروت باشا إلى أمته فصرح لها أنه لن يقبل الوزارة حتى تجاب له شروط فيها رضى الأمة، ووفاء بأقصى ما يصح أن تطمح إليه في هذا الدور من قضيتها؛ تلك الشروط هي إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام، وتأسيس برلمان تكون حكومة البلاد مسئولة أمامه، وحصر مشاكل الخلاف بين الأمتين في أربع نقاط يتولى تسويتها البرلمان المصري بعد إنشائه مع الحكومة البريطانية، وإزاء هذه الحقوق المستردة لا تعطي مصر إنكلترا أدنى شيء ولا تتقيد لها بشرط ما.
تقدم ثروت باشا إلى الحكومة الإنكليزية بهذه الشروط العظيمة، وشدد كل التشدد في طلبها، وأكد لها أنه لن يتنازل البتة عن شيء منها، وأنه لن يتولى الوزارة إلا بعد إجابة شروطه هذه بحذافيرها.
كيف تقبل هذه الشروط الجسيمة، وتجيب هذه المطالب العظيمة، وترضخ لهذا الحكم الهائل؛ إنكلترا سيدة البحار وأقوى دول العالم؟ وأين ذهبت جيوشها وأساطيلها وسلطانها الباسط جناحيه على المشرق والمغرب؟ بل أين ذهب كبرياؤها وجبروتها وشرهها الاستعماري؟
تصعبت إنكلترا في أول الأمر كما هو المنتظر وتمنعت، وفي ذلك المشقة العظمى والصعوبة الكبرى.
وأما مصر فلم تكد تصدق نبأ هذه الشروط والمطالب، وحسبته حلما من الأحلام؛ اعتقادا منها أنه يكاد أن يكون من المستحيلات قبول إنكلترا مثل هذه الشروط الجسيمة. (لقد كان الوفد المصري من قبل ذلك لا يطمع في أكثر من أن تعطيه الحكومة الإنكليزية قبل دخوله معها في المفاوضات مجرد وعد بإلغاء الحماية أثناء التفاوض)، ولا تنس أولي الأغراض والأهواء والإحن والحزازات الذين مع فرط استعظامهم هذه الشروط واعتبارها كالأحلام أخذوا يرجفون بأن الأمر ليس بالجد، وإنما ألاعيب سياسية، يقصدون بذلك إلى ترويج سوء الظن بدولة الوزير الجليل، ويبثون في الأمة من روح التشاؤم ما يثبط الهمم ويفل العزائم.
بين هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة انبرى الرجل الكفء الضليع يكد ويعمل، مضاء في تؤدة، منصلتا في أناة، صارما في رفق، جريئا في حزم؛ والأمة المصرية والأمة الإنكليزية وأوروبا والعالم أجمع ينظر إليه نظرة إعجاب وإكبار، ويشرئب لاستطلاع نتيجة عمله العظيم، واستكشاف غاية شوطه الخطير وشأوه الرائع، كأنهم يرمقون عطارد أو المشتري أثناء سيرته المشرقة الزاهرة، ودورته المتألقة الباهرة.
وقف العالم ينظر إلى ثروت باشا أثناء تلك الفترة الحرجة العصيبة، تلك الفترة التي باتت تتمخض السياسة أثناءها عن ميلاد مستقبل أمة، لا يعلم أيجيء موفورا نضجا تاما، أم مبتورا منقوصا مشوها، أم ما هو شر من هذا؛ يولد ميتا؟
अज्ञात पृष्ठ
وقف العالم ينظر إلى هذا المخاض السياسي الهائل يرقب نتيجته بقلوب خافقة، حتى كاد يخيل إلى المرء أن الرياح والأعاصير ذاتها قد حبست أنفاسها والأفلاك شأوها، وأن الزمن نفسه وقف مبهوتا يتأمل.
أراك أيها الوزير الخطير في بحر السياسة البعيد الغور، العسوف الموج، العصوف الأعاصير والأنواء تسير سفينة الوطنية تتنكب بها مكامن الصخور والمهالك، وتتنحى بها مسالك الأمن والسلامة، تدير دفتها بيد مباركة ميمونة رائدها التوفيق والنجاح تكمن في أساريرها أسرار الحذق والمهارة، تؤم بالسفينة النفيسة ساحل الفوز والنجاة.
وأراك في بيداء السياسة المخوفة تقود الشعب الكريم خارجا به من نير عبودية الجبابرة، مجتازا به تيه الأضاليل السياسية، تؤم بالقافلة أفق الاستقلال وفضاء الحرية الرحيب.
وأراك من فوق زوبعة السياسة الثائرة، وفوضى العناصر المتنافرة تصفق جناحي نسر ساكن الجأش ثابت الجنان، تصرف أعنة الحوادث، وتدبر أزمة الشئون كأنك الملك الحارس الأمين كلما ازدادت الحوادث اضطرابا ازداد سكينة وهدوءا.
أرى ساكن الأوصال باسط وجهه
يريك الهوينا والأمور تطير
وأراك حين تفاوض ساسة الإنكليز تعلو عليهم في حومة الخطاب وميدان المحاجة بسليقتك الفائقة وسجيتك الغلابة، وبعقلك الراجح، وبشخصيتك الفتانة الخلابة التي هي خلاصة مجموع ما فيك من غرائز وشيم وطبائع، وكأنك حين تناقشهم قد اتخذ سلطان الإقناع عرشه بين شفتيك، وكمن هاروت تحت لسانك حتى تتركهم من إعجاب وإكبار يقولون فيك ما قاله نابليون الأول حين صادف شاعر الألمان العظيم «جيتا»: «هاكم رجل مستكمل الرجولة.» وما قاله أحد الساسة الإنكليز في المغفور له الشيخ محمد عبده: «لقد حق لمصر أن تفخر بمثل هذا الرجل، فإن أمة تخرج مثله لخليقة أن تفلح.»
في تلك الزوبعة السياسية الثائرة، وفي ذلك الجو المتلبد بالغيوم، وفي مضطرب تلك العوامل المتدافعة والعناصر المتكافحة مضى ثروت في سعيه المجيد كالصارم المصقول، والكوكب المشبوب يعمل ويكد ليل نهار كأنه ينبوع قوة لا ينفد، وشعلة حريق تأبى أن تطفأ وتخمد، تملأ فضاء البلاد رونقا ونورا. أجل، إن مقدرة هذا الرجل الهمام على العمل والكد لا تحد ولا تحصر ولا يكاد يصدق بها الذهن، وليس يدري سوى من عاشره عظم ما قد تستطيعه القوة البشرية من العمل ومقدار ما تستثمره من جليل الفوائد في يوم واحد، إن ساعة هذا الرجل العظيم كعام غيره وشهره كدهره.
وكل هذه الأعمال الجسام ينجزها ثروت باشا في أتم سكينة وصمت، ألا حيا الله دولة الصمت وخلد ملكه وسلطانه! ولا حيا الله الجلبة والضوضاء والصخب!
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «ما أعظم الرجل الصامت وما أجل مقداره! أرأيت إذا أجلت بصرك في هذا العالم اللجب الصخاب، وفي كلماته الخالية من المعاني، وفي أعماله الخاوية من الفوائد، أفلا يلذ لك أن تتعشق جمال الصمت وجلاله؟ أفلا يلذ لك أن تتغنى بمحامد الرجال الصامتين ذوي الفضل والكرم والمروءة، العاملين في سكوت، الجادين في خشوع وتواضع، البانين صروح الحضارة والمدنية دون أن تجلجل بأسمائهم وألقابهم أبواق المجلات وطبول الجرائد؟ ألا إن أمة تخلو من أمثال هؤلاء أو يقل منهم نصيبها لخليقة أن تختل حالها، ويسوء مآلها، ويكون مثلها كمثل غابة خلت من الجذور والأصول واستحالت كلها ورقا وفروعا، فهي لا تلبث أن تذبل وتموت؟ لنا الويل والثكل إن كان كل عتادنا وذخيرتنا هو ما لدينا من الكلام والطنطنة والأشياء التي نعرضها على الملأ، ونرفعها لأعين المتفرجين والنظارة. ألا فقدس الله عالم الصمت! إنه لأسمى مقاما من الكواكب وأعمق غورا من عالم الموت! وإنه وحده هو النبيل والعظيم والجليل، وكل ما عداه حقير ضئيل تافه! فلتلزم أمتنا فضيلة الصمت ولتعتصم بها، ولتدع غيرها من الأمم المولعة بالجلبة والضوضاء وحب التظاهر تصيح في كل موقف، وتملأ الدنيا صياحا بكل صغيرة وكبيرة من شئونها، وتجعل بلادها مسرحا ترقص عليه وتلعب على مرأى ومسمع من المتفرجين والنظارة، فأمثال هذه الأمم المتظاهرة الصخابة ستصبح عاجلا أو آجلا غابات بلا جذور ولا أصول، مآلها الذبول والموت. ألا ما أقدس الصمت! إنه مستمد من ملكوت السماء! انظر إلى الدوحة العظيمة في الغابة تجدها قد لبثت ألف عام تنمو في أتم صمت وسكينة، فمتى تسمع صوتها؟ لا تسمع ذلك إلا حينما يجيئها الحطاب في نهاية الألف عام بفأسه ليقطعها، حينئذ تسمعك الدوحة صوتها، حينئذ تعلن الدوحة عن نفسها بتلك الصرخة الشديدة - صرخة الفناء والموت - صوت انصداعها وانقصامها. فهل أسمعتك الدوحة صوتها ساعة البذر والغرس المبارك حين نثرت بذرتها من حجور بعض الرياح الميمونة؟ هل أسمعتك صوتها ساعة اكتست حلل الورق النضر ووشي الزهر المفوف؟ (وما كان أمتعها ساعة وأملأها بالأفراح والمسار) كلا، لم تسمعك الدوحة صوتها في تلك الأوقات الهنيئة، ولم تنبس بحرف واحد إعلانا لهذه الحوادث المفرحة، إنما أسمعتك صوتها ساعة المصاب والفجيعة؛ ساعة الموت والفناء.»
अज्ञात पृष्ठ
وهكذا رأينا ثروت وسط الزوبعة السياسية يكد ويعمل في أتم سكينة وصمت، لا ثرثرة ولا افتخار ولا دعوى، ولا إضاعة للوقت الثمين في المجادلات العقيمة المجدبة وخوض النظريات الخيالية المستحيلة، ولا في الشقشقة الهدارة والجلجلة الطنانة، ولكنه وقف مجهوداته العظيمة على الكد الدائب وحصر هممه الجسيمة في العمل المتواصل، وبارك الله في الأعمال إنها أجل وأعظم من الأقوال! ألا إنما الأعمال المملوءة بالروح حافلة بالحياة جياشة بمادتها الغزيرة الزاخرة. الأعمال طافحة بالحياة الصامتة التي هي برغم صمتها حقيقة مقررة واقعة، حاضرة الخير، حاصلة الأرباح والفوائد، والأعمال تزكو وتنمو كالشجر المبارك الثمار، وهي تعمر فراغ الوقت، وتملأ فضاء الزمان، وتكسوه خضرة ونضرة.
ثروت باشا لا يميل بطبعه إلى الجدل والثرثرة، ولا إلى المباهاة والمفاخرة، ولا إلى الإعلان عن كفاءاته ومواهبه. فإذا كان دور الكلام والاسترسال في ميادين النظريات المستحيلة والمشروعات الخيالية، والمباهاة بأساليب المنطق الأجوف الفارغ المؤدي إلى غير نتيجة، وبتفويق سهامه الطائشة التي قصاراها أن تزل من فوق سطوح الحقائق المتينة القاسية دون أن تصيب أكبادها - وتنزلق من فوق أديم الحقائق الخشنة الجافية دون أن تنفذ إلى صميمها - فتسقط تلك السهام متعثرة خائبة عن أجساد الحقائق، وتبقى الحقائق بعد ذلك على حالها لم تذلل ولا تمتلك، ولم يقبض على أزمتها؛ تواجهك - كما كانت من قبل - مرة أليمة قاسية، قد نفدت الجعب والكنائن دون أن تؤثر فيها مثقال ذرة، وكأنما لم نصنع شيئا، وكأنما انتهينا من حيث ابتدأنا. أقول إذ كان هذا الدور - دور الكلام والخيالات والمستحيلات - رأيت ثروت باشا قد اعتزل الميدان، لا عن ملال ويأس، ولكن تحينا للفرصة وتحفزا للوثبة، ثم ربض في مكمنه، وخدر في غيله سمير أفكاره وأنيس وحدته.
ولكن إذا جاء دور العمل وواجهتنا الحقيقة المرة الأليمة، وتبادر الرجال لتذليل هذه الحقيقة، وفك معضلتها، وللأخذ بناصيتها، والقبض على زمامها واستثمارها لمنفعة البلاد وصالح الأوطان، ورأيت رجال النظريات المستحيلة والمنطق الأجوف يرسلون سهامه الطائشة على هيكل تلك الحقيقة فتزل من فوق سطحها، وتنزلق عن أديمها الأملس الذي كأنه جلدة الأفعى، وكذلك تستمر أفعى الحقيقة سائرة في طريقها سليمة مصححة كأهدأ ما كانت وأنعم بالا - إذا كان هذا هو قصارى زمرة الخياليين المتشدقين ذوي المنطق الأجوف - ثم جاء دور ثروت باشا رأيت ذلك الرجل العملي قد هاجم أفعى الحقيقة وساورها، وقبض على ناصيتها وأخذ بكظمها، وطفق يعالجها أشد علاج، ويصارعها أعنف صراع - ليرى أهو أم هي أشد بأسا وأصعب مراسا - يجالدها ويكافحها بقوة جنانه؛ أعني بقوة جلده ومثابرته، في أمل ورجاء، بل في استيئاس واستماتة وصبر لا ينفد وإيمان عميق وذكاء متوقد.
كل هذه القوى العقلية والخلقية تبرز من مكامنها حينما يصارع ثروت باشا (أو غيره من عظماء رجال العمل) أفعوان الحقيقة، وفي هذه المعركة وحدها - وعند هذا الصراع فقط - يمكننا أن نقيس مقدار همة الرجل، ونزن مبلغ كفاءته وقدرته.
العمل وحده عنوان الفضل وآية القدرة، ومسبار غور الرجل، ومقياس عمقه، وعلى صحائف الأعمال يلوح في سطور من النور بيان ما يكمن في صدور الرجال من كنوز الفضل والحكمة والأدب والنهى، ومن ذخائر الصبر والجلد والجد والمثابرة والحزم والعزم والإخلاص والأمانة وصحة النظر ونفاذ البصيرة والحذق والبراعة. أجل، كل ما ينطوي عليه الرجل من قوة يلوح متلألئا في أحرف من النار والنور على صحيفة عمله. أو ليس العمل الجدي المخلص هو أن يواجه الرجل الطبيعة ونواميسها الأبدية فيعالجها ويمارسها ليسيرها في سبيل مقاصده وأغراضه؟ وعلى قدر فهمه لأسرارها ومطابقته لقوانينها يكون مبلغ فوزه ونجاحه، وهي الطبيعة تصدر على الرجل وعلى كفاءته حكمها حسب ما تراه من أسلوبه في معالجتها ومسايرتها؛ إذ تقول في حكمها على الرجل هذا مبلغ ما وجدت فيه من فضل وكفاءة - هذا القدر لا أكثر ولا أقل - هذا مبلغ ما فيه من قدرة على فهم أسراري والائتلاف معي ومجاراتي والسير على منهاجي ومراعاة شرائعي ونواميسي، وعلى حسب هذا كان نجاحه أو خيبته وسعادته أو شقوته كما ترى وتشاهد.
مصر في أشد أزمات جهادها، وأضيق مآزقه (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) أصبحت بأمس حاجة إلى رجل العمل الدائب والكد الشديد والمجهودات الهائلة. لقد جربت من قبل ذلك اللجب والضوضاء والصياح والصراخ، وجربت الشقاشق الهدارة والجلاجل الطنانة، وجربت طواحين الهواء والألعاب النارية التي تملأ الجو طنينا ودويا، وألاهيب وهاجة، وشعلا براقة تساور السماء وتلامس الجوزاء ، ثم تسقط رمادا وتتبدد هباء، جربت هذا وذاك فلم يغنها فتيلا ولا قطميرا، وإن كان أفادها تلك الحقيقة الخطيرة، وهي أن الكلام في موضع العمل عبث باطل، وأن النزاع والشقاق في مقام التضامن والاتحاد ضلال مبين، وأن الصياح وحده هواء يذهب في الهواء، وأن السبح في بحار الخيال يؤدي إلى ساحل الخيال الذي إذا أرسيت لديه وجدته ضبابا ينقشع من تحت قدمك، وهباء يفر من بنانك، وليس يؤدي إلى ساحل الحقيقة المادية الصلبة التي تحصل في ملكك، وتقع في حوزتك.
لما جربت مصر هذه الوسائل الكلامية، واستنفدت ما هيأت لها معامل الحناجر، ومصانع الأجهزة التنفسية من بارود الصراخ والهتاف، وقنابل «يسقط ويحيى»، فألفت كل هذا، لم يغن ولم يثمر، ووقفت حائرة مبهوتة إزاء الحقيقة المرة، وإزاء لغز السياسة، بل لغز الحياة المعضل المعقد الذي أبى أن ينحل على الرغم مما صبت على أم رأسه من بارودها الهتافي وقنابلها «الإسقاطية الإحيائية». تحننت عليها الطبيعة، ورق لها فؤادها الكبير، وتقدمت لعونها وإمدادها، وقالت لها: استريحي هنيهة، واختارت لحل اللغز وفك المعضلة رجل العمل والدأب والحزم والعزم والحجى والدهاء: عبد الخالق ثروت.
وكذلك الطبيعة السمحة السخية ما كانت لتضن على الشعب المجاهد بالرجل العظيم عند الحاجة إليه، ولا يزال كلما ارتطمت الأمة المجاهدة في المأزق الضنك والزحلوقة الزل أسرعت الطبيعة إلى إسعافها فساقت إليها رجل الساعة، وبطل الميدان، فلا يلبث أن يقيل عثرتها، ويأخذ بيدها، ويهديها سواء السبيل؛ ذلك دأب الطبيعة وديدنها الذي لن تعدل عنه إلا إذا كانت قد أرادت بهذا العالم الأرضي الخراب السريع والدمار العاجل.
ولما اختارت لحل اللغز وفك المعضل رجل الجد والعمل ثروت باشا، ودفعت به في جوف الزوبعة - كما أوضحنا آنفا - وفي وسط العوامل المتنازعة، والقوى المتدافعة، والعناصر المتكافحة المتلاطمة ارتاح لذلك العقلاء، واستبشروا وقالوا: «أما والله، ما كانت قط زوبعة فوضى فرمى الله في جوفها بروح النظام ممثلة في رجل حازم، إلا بدأت فيها حركة مباركة نحو ائتلاف العناصر المتنافرة، والتوفيق بين القوى المتضاربة، واستبقاء النافع ، وإسقاط الضار من الأسباب والعوامل - حتى ترى الفوضى سائرة إلى النظام، والثورة إلى الهدوء، والضجيج إلى السكينة، وتبصر مكان الجدب والعقم الإنتاج والإثمار - فتوقن بحسن المآل والعاقبة»، ولا جرم. فما من فوضى تقيم في وسطها روحا عالية نبيلة إلا آلت إلى النظام والخير والفلاح بفضل ذلك. هذا، وإن الطبيعة تحب النظام، وتبغض الفوضى ولا تطيقها ولا تحتملها، ولا تصبر عليها إلا ريثما تهيئ لها روحا سامية تعالج بها شرها، وتزيل خطرها، وهذا الكوكب الأرضي النبيل المقدس الذي نعيش فيه ونتقلب، مهما طال صبره على مروجي الهرج والفوضى، فهو في النهاية لا يطيقهم، ولا يلبث أن يريح نفسه منهم، وهذا من أشد ضرورات العالم إذ كانت سنته الصلاح والرقي، وكانت مادة الخير فيه أكثر من مادة الشر، وكان الحق فيه متغلبا على الباطل.
وأي خير في الفوضى إلا إذا أصبحت تتجه نحو النظام، وأي بركة في الثورات السياسية إلا إذا تولى المصلحون تنظيمها برسم الخطط والبرامج العملية.
अज्ञात पृष्ठ
أي ثروت، أيها الرجل الحازم البصير! لقد قذفت بك الطبيعة في مضلة السياسة وتيهها، وفي مجاهلها ومهالكها، حيث اشتبهت المسالك، وأشكلت المناهج، وخفيت وجوه الرشاد، وخبت مصابيح الهداية، فانظر ما أنت صانع، وأي السبل تسلك، وأي الوجوه تنتحي. ألا فاعلمن أن راكب الصعاب وولاج المآزق مثلك إذا تشعبت في وجهه السبل، ووقف ينظر أيها يسلك إلى غرضه الأسمى، فلقد يوجد أمامه بلا شك بين هذه السبل منهج واحد هو أقصدها وأهداها، منهج يكون سلوكه في ذلك الظرف وتلك الآونة أحق ما يأتيه وأصوب ما يصنعه، منهج واحد إذا أتيح له سلوكه طوعا أو كرها كان الحازم البصير والأريب الداهية، كان الرجل المكتمل الرجولة الموفق إلى ما يرضي الرجال والآلهة، المساير لأنظمة الطبيعة ونواميسها الغامضة الخفية، فالطبيعة والكون أجمع يرحب بمثل هذا الرجل ويهتف له: «مرحى، بورك فيك وفي عملك»، ثم يكون اليمن رائده والنجاح حليفه. فهل أنت يا أيها الرجل النبيل والوزير الجليل مستبين بين ما يواجهك في تيه السياسة ومضاتها، وفي مجاهلها ومهالكها من متشعب الطرق والسبل، ذلك المنهج القويم الأوحد فسالكه إلى قصدك الأنبل وغرضك الأسمى - النجح والفلاح - إلى ضالة الوطن المبتغاة وبغيته المرتجاة وأمنيته المشتهاة؛ إلى الحرية والاستقلال؟ سنرى ذلك قريبا.
سنراك وقد قذفت بك الطبيعة وسط زوبعة السياسة الهوجاء وعواملها المتنازعة وعناصرها المتكافحة؛ تؤلف بما أوتيت من عزم وحزم بين هذه القوى المتمردة الطاغية، وبين هذه النزعات المتضادة المتعادية - ترد شواردها وتكبح جوامحها - آونة بسوط بأسك وسطوتك، ولكنه بأس الحازم المتدبر المتلهف على مصلحة بلاده، وسطوة المنصف العادل الحدب على منفعتها، وآونة بكف لينك الغريزي المغروس في طبيعتك ورقتك الفطرية المركبة في سجيتك. دأبك ذلك إلى أن تعنو لك عاصفة السياسة الهوجاء فترتد الفوضى نظاما، والزوبعة نسيما، والحرب سلاما. إنك وإن كان قد كتب لك بحكم الظروف والأحوال أن تعمل وسط الزوابع السياسية والثورات الوطنية - وسط ما يصح لنا أن نسميه نوعا ما من الفوضى - فإنك بطبعك ونحيزتك رجل نظام لا رجل فوضى، وتلك طبيعة العظماء كافة، كلهم مجبول على حب النظام؛ بل كلهم النظام مجسدا، وكذلك الرجل العظيم إنما هو رسول النظام في هذا العالم. (وكذلك مما يجب أن يكون شيمة كل إنسان يحمل الصورة الآدمية). أو ليس كل عمل من أعمال الإنسان في هذه الحياة هو «رد الفوضى إلى النظام»؟ أو ليس كل ذي حرفة وصناعة موكل في هذه الدنيا أن يجمع المواد الطبيعية المبعثرة في أنحاء الكون، المشتتة في أرجاء الوجود، المتباينة جوهرا، المتنافرة صفات وطباعا، فلا يزال يوفق بينها ويؤلف حتى يضم شتاتها، ويجمع بددها، ويفرغ تفاريقها في قالب محكم بديع عجيب الصنع محدود بالقواعد الهندسية والحسابية؟ كلنا مولودون بفطرتنا أعداء للفوضى عشاقا للنظام، هذه مزية البشر عموما، وهي في الرجل العظيم أضعاف أضعافها في الرجل العادي.
النظام يقتضي الشدة ويتطلب الصرامة أحيانا، وهذا بلا شك نوع من الحذر والإشفاق على المصلحة العامة. وفي هذه الظروف الضرورية يصبح اسم «الشدة والصرامة» غير منطبق تمام الانطباق على المعنى الحقيقي لما يتبعه الرجل الحازم من خطته الصارمة الشديدة التي يكون أحق بها وأولى، وأقرب إلى معناها الحقيقي أن تسمى «رقة معكوسة» و«عطفا مقلوبا»، إذ كان باعثها الحقيقي هو العطف والرقة، والحنان والشفقة، وكما أن الطبيعة تنجز أعمالها وتنتج نتائجها، آنا بالنسيم اللطيف وآونة بالإعصار العنيف، وتارة بالجدول السلسل وأخرى بالسيل الجارف، فكذلك الرجل المصلح - الذي هو شعبة من الطبيعة وفلذة من كبدها - يحدث آثاره النافعة ومآثره الجليلة باللين تارة وبالشدة أخرى، كالطبيب الحاذق يداوي بالعسل وبالصاب، وربما أزال السم بالسم، وشفى الداء بالداء.
نقول: لما أعضل على الأمة المصرية لغز السياسة المعقد واعتاص حله، ولم تفلح فيه سهام المنطق الأجوف وزخارف الآمال وأخاديع الأماني، ولم توفق إلى حله طمحات الأوهام، وسبحات الخيال، والاستناد على النظريات المستحيلة، والاحتجاج بالافتراضات الوهمية معززة بقذائف «الهتاف» والقنابل «الإسقاطية الإحيائية»، تقدم إلى معالجة هذا اللغز المعضل العويص رجل الحقيقة والجد والعمل عبد الخالق ثروت، ووقفت مصر وإنكلترا أو العالم أجمع ينظر إليه نظرة العجب والدهشة؛ ليرى ما هو صانع إزاء ذلك المشكل المعضل.
وقف رجل العمل والذكاء والدهاء أمام ذلك اللغز المخوف، وكأنا بذلك اللغز يخاطب الرجل العظيم قائلا له: «أتفقه معنى هذه الساعة العصيبة؟ أتفهم لغز الحياة في هذه العقبة الكئود والموقف الحرج؟ إن الآلهة تواجهك بسؤال معجز ولغز معضل، فهل عندك جوابه وهل لديك حله؟»
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «لقد جاء في أساطير الأولين أن جنية كانت تربض على قارعة الطريق للمارة، تواجه كل عابر بأحجيتها الصعبة ولغزها العويص، فإذا استطاع حله مر سالما آمنا في سربه، وإلا أهلكته وأوردته حتفه، ويزعمون أن هذه الجنية كان لها وجه حورية حسناء وصدرها الناهد وأعطافها اللينة، ولكن بدنها الغض الرشيق ينتهي بعجيزة لبؤة ضارية ومخالب سبعة عادية.
وكذلك الحياة هي كتلك الجنية لا فرق ولا خلاف؛ فالحياة تواجهك بجمال حورية وحسنها الفردوسي الذي معناه النظام البديع والحكمة العالية والخضوع لقانون العقل الأزلي السرمدي، ولكن فيها مع ذلك عنفا وطغيانا وظلمة وهلاكا - أحق أن تسمى آفات جهنمية - وهذه الحياة أو الطبيعة لا تزال - كتلك الجنية - تلقي على كل إنسان يعبر سبيلها بصوت رقيق رخيم هذا السؤال الخطير المرعب: أتفهم معنى هذا اليوم الذي أنت فيه؟ أتفقه مغزى هذه الساعة؟ أتدري أي مشكلة تواجهك وكيف تحلها؟ وأي سبيل تسلك إلى ذلك؟
أجل، إن الحياة أو الطبيعة أو الوجود أو القدر - كيفما سميت هذه الحقيقة الهائلة التي لا يستطاع تسميتها - والتي نعيش في وسطها ونجاهد - لهي حورية فردوسية وعروس سماوية، وربح وغنيمة للأريب اللبيب، والذكي الألمعي الذي يستطيع أن يتفهم أسرارها، ويحل لغزها، ويتبع قوانينها، ويصدع بأوامرها، وهي جنية فتاكة وشيطانة مهلكة لمن لا يفعل كذلك ولا يستطيعه، فافهم أسرارها وحل لغزها تسلم وتغنم.
أما إذا لم تعن بذلك ولم تأبه له، ومضيت في سبيلك دون أن تحل ذلك اللغز، وتجيب ذلك السؤال، فستحله لك جنية الحياة وشيطانة الطبيعة، ستحله لك بمخالبها وتجيبك ببراثنها وأنيابها الحادة، ثم لن تصادف فيها سوى لبؤة ضارية وسبعة عادية وحية رقشاء، أباءة صماء، لا تسمع دعاك، ولا ترق لشكواك، ولا تلين لرقاك.»
تقدم رجل الحقيقة والجد والعمل إلى العقدة الصعبة والمشكل المعضل بعدما أعجز أهل الخيالات والأوهام وطلاب المعجز والمستحيل، وقف ثروت باشا على قارعة السبيل، وواجهته شيطانة السياسة بلغزها العويص وطالبته بالحل والجواب، فهل هو مخطئ أو مصيب؟ هل هو معرض نفسه وبلاده لمخالبها وأنيابها أو مشيع منها بنظرة الرضى وابتسامة الارتياح إلى منهج التوفيق وسبيل النجاح؟ سنرى ذلك قريبا، سنرى رجلا ليس بأسير خيالات وأوهام، ولا متعلقا بأذيال الخوارق والمستحيلات، ولكن رجل الحقيقة والواقع، رجل الممكن والجائز، رجل الغريزة الصادقة والبديهة الحافلة والبصيرة النافذة، رجلا يسلط شعاع عينه الثاقبة على المشكل والمعضل فيبدد عنه ظلمات الشكوك وغيوم الريب والشبهات - كما تسلط العدسة البلورية طائفة الأشعة على الأشباح فتجلوها في أسطع مظهر من الوضوح والبيان - رجلا ينفذ بنور بصيرته إلى أكناه الأمور وجواهر الأشياء وأكباد الحقائق حتى يقهرها ويمتلكها آخذا بنواصيها قابضا على أعنتها - وذلك بفضل ما فاق به غيره من رجاحة العقل وصدق العزيمة وقوة الروح؛ ذلك رجل لا ينظر إلى الدنيا ومشكلاتها بمنظار النظريات والقياسات، ولكن بعين مجردة نافذة البصر ساطعة الشعاع كشافة اللمحات، رجل الإخلاص العميق، والغيرة الملتهبة، والقلب الذكي المتأجج، والروح الحي المتوهج.
अज्ञात पृष्ठ
سنرى رجلا مطويا على غريزة الاهتداء إلى سر الحقيقة وجوهرها أينما كان، رجلا قد ثبت قدمه على أساس الحقيقة الوطيد الراسخ، رجلا يستطيع أن يتبين بصادق نظره ونافذ بصره، من خلال التعاقيد والارتباكات، لباب الشيء وجوهره، فيعمد نحو ذلك، ويسدد إليه خطواته. لقد روي عن نابليون الأول أنه لما كان أمين قصره يعرض عليه يوما ما استجده في القصر من فرش وأثاث - وقد جعل هذا الأمين يطري هذه الأمتعة والأدوات، ويثني على صناعها، ويقول إنها قد جمعت إلى جودة الصنف ونفاسته رخص القيمة وقلة النفقة - لبث نابليون أثناء تلك الأقوال المسهبة والخطب المستفيضة صامتا لا ينبس بحرف واحد، ولكنه بعد نهاية هذا الكلام المطول أمر أمين القصر أن يجيئه بمقص، ثم عمد إلى هدابة ذهبية من هداب إحدى الستائر فقصها وطواها في جيبه وانصرف، وبعد مضي أيام قلائل أبرز الهدابة من جيبه في الفرصة المناسبة فعرضها على منجد القصر الذي كان صنعها، فارتاع ذلك الصانع التعس وأرعدت فرائصه: لقد كانت تلك الهدابة مغشوشة؛ لم تكن ذهبا كما زعم ولكن صفيحا! هذه النادرة على تفاهتها تبين ماهية طبيعة الرجل وعنصر خلقه، تبين أنه رجل عمل لا كلام، وأن غريزة نفسه الصادقة تدفع به إلى كبد الحقيقة مباشرة ضاربا صفحا عما يحيط بها ويحجبها من الأقاويل والأراجيف ومن الشكوك والشبهات، كذلك كان نابليون الأول، وكذلك كان غيره من رجال الحقيقة والجد والعمل، وكذلك نرى عبد الخالق ثروت.
هذا الرجل العظيم - ثروت باشا - يعرف بغريزته الصادقة كنه ما يحيط به من الظروف والأحوال، وماهية الأسباب والوسائل التي يستخدمها، ويتذرع بها إلى بلوغ غرضه، ويعرف كذلك درجة قوته ومبلغ قدرته، وأين تقعان من غايته وبغيته، يعرف النسبة بين كفاءته وبين ما يكتنفه من الظروف وما يستعمله من الوسائل، وهذا لا يتأتى بالنظر السطحي ولا باللمحات المتقطعة، ولكن بطوفان من نور البصيرة يغمر الأمر المبهم من جميع جوانبه وأركانه - بفضل العين الثاقبة والذهن المتوقد - وكذلك على مقدار فهم الرجل لحقيقة الموقف يكون حسن كفايته وبلاءه. فهل هو يستطيع أن يجمع الشتات ويؤلف الشوارد وينفث في الخليط المشوش روح النظام والتنسيق؟ هل يستطيع الرجل أن يقول في غياهب الشك وظلمات الشبهة: «فليكن نور» فيكون النور؟ هل يستطيع أن يخلق من عالم السديم والفوضى دنيا منظمة منسقة؟ ستكون قدرته على ذلك بحسب ما يحتويه قلبه من النور والضياء، وسنرى قريبا مبلغ نصيب الوزير الجليل من هذه الميزة العظمى، ميزة الملائكة وهبة الآلهة.
ذلك النور والضياء في فؤاد ذلك الرجل الألمعي - عبد الخالق ثروت باشا - هو مصدر ما يمتاز به من خلال النبل والكرم والهمة والمروءة والوطنية الملتهبة وخصال الصبر والجلد والحلم والرفق والتسامح.
ألا فقدس الله نور القلب وضياءه! أليس ذلك هو الذي يجلو لك ما يستكن في ضمائر الأشياء من روح النظام والائتلاف؟ أليس ذلك هو الذي يوضح لك مغازي الطبيعة ومقاصدها وما قد تخفيه تحت قشورها الخشنة ومظاهرها الكريهة من المعاني الموسيقية؟ (فإنه ليس من شيء كائن في هذا الوجود إلا يستكن في أعماق جوفه معنى موسيقي؛ أي روح نظامية تكون قوامه ومساكه وعماده وملاكه وبغيرها لا يتماسك ولا يكون). فنور القلب أو العين الثاقبة في عظماء الرجال عامة وفي ثروت باشا خاصة هي التي تهديه في زوبعة السياسة الثائرة - بآفاتها ومكارهها - إلى مواطن الخير والمنفعة والصالح، فيستخلص من المنكر معروفا، ومن المر حلوا، ومن السم درياقا كما سنرى قريبا.
لقد تقدمت أيها الوزير النبيل لعملك الجليل وسط أطلال صرح الاستقلال المتهدم وأنقاضه المبعثرة، وأمامك الخصم العنيد يحاول مقاومتك ومناهضتك بهدم ما تشيد وتقويض ما تبني، وحولك البناءون من بني وطنك: منهم المسعف المسعد الحاضر المدد والمعونة، ومنهم المتباطئ والمتلكئ والواني والمتهاون. فمصاعبك جمة ومتاعبك شاقة - أحجار وجلامد صلبة صماء تتأبى وتتعسر، ورجال تتأفف وتتضجر، وأمور متناقضة، وشئون متضاربة، وظروف عاتية متمردة - فلتقهرن هذه جمعاء ولتتغلبن عليها إن قدرت، وإنك على أمثالها لقادر.
إن المصاعب والآفات والمتاعب والعثرات قريبة ظاهرة مجابهة تتلقاك لدى كل خطوة - وإن عون الطبيعة ومددها وإسعافها (وإن كان في النهاية مؤكدا مضمونا) لمستتر مختبئ، فاستثره من مكامنه ونقب على خفاياه بالصبر الجميل وبالجلد والعزم والإخلاص - بقوة رجولتك ومضاء همتك، تغلب على كل عقبة وصعوبة، وحاول بكل ما أوتيت من حول وطول أن تشيد من هذه الأنقاض المبعثرة المشوشة صرح الاستقلال التام لبلادك؛ راسخ القواعد، موطد الأركان، منيع الجوانب، شامخ الذرى.
لبث الوزير الجليل عبد الخالق ثروت باشا ثلاثة أشهر طويلة يدافع عن حمى بلاده، ويذود عن حياضها، ويكافح عن حقوقها، ويناضل إزاء ألد الخصوم وأعتاها وأشدها استبدادا وجبروتا، ويطالب بتحقيق مطالب الوطن العزيز وأمانيه الكبيرة. ثلاثة أشهر جاهد فيها جهاد مشمر معتزم مستبسل في سبيل الحق، مقدما أصدق مثال على روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فكيف كانت نتيجة مساعيه وثمرة مجهوداته؟
في نهاية هذه الأشهر الثلاثة أذعنت لشروطه وأجابت مطالبه أقوى دول العالم، فأعلنت في 28 فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية عن القطر المصري، وأعلنت استقلاله التام، وأن يكون للبلاد دستور وحكومة مسئولة.
جزاك الله أيها الرجل العظيم عن البلاد وأهلها أكرم الجزاء، وقدرها على القيام بواجب الشكر نحوك.
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ
التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام
وكذلك في غرة شهر مارس سنة 1922 خطت مصر أفسح خطوة وأيمنها نحو غايتها المقصودة، وأمنيتها المنشودة، فصدعت عن نفسها أغلال الاستبداد الأجنبي، وتخلصت من ربقة الحكم البريطاني، ووضعت قدمها على قارعة طريق النجاة والسلامة، وبرزت من ظلمة سجن العبودية إلى فضاء الاستقلال الطلق الرحيب، وإلى جوه المشرق المستنير، وتنسمت أولى نسمات الحرية، تلك النسمات الغضة المنعشة التي هي غذاء الأنفس ومادة الأرواح وحياة الحياة؛ إذ كانت هي الشرط الأول لنهضة الأمم من وهدة التقهقر والانحطاط، والحجر الأساسي لبناء صرح المجد والعلاء، وكانت مفتاح باب النعمة والثراء والرغد والرخاء، وسلم الرقي إلى أسمى درجات المدنية والحضارة والحياة السامية النبيلة.
أعلنت إنكلترا في «التصريح لمصر » إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام، وأن يكون لمصر برلمان يمثل الأمة تمثيلا صحيحا، وحكومة مسئولة أمام الأمة ممثلة في برلمانها، وأن تتولى مصر بنفسها - دون أدنى تداخل من الدولة الإنكليزية - أمر تأسيس البرلمان وسائر مهمات الحكم والإدارة في بلادها، وأن يحصر الخلاف بين الأمتين في أربع نقط، وهي: (1)
حماية المواصلات البريطانية داخل حدود القطر المصري. (2)
حماية الأقليات والأجانب. (3)
الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي. (4)
مسألة السودان.
فهذه المسائل الأربعة ينظر في تسويتها وحلها بواسطة مفاوضات مستقبلة تدور بين الحكومة الإنكليزية، وبين البرلمان المصري الذي يكون هو وحده صاحب الحق في تحديد موعد هذه المفاوضات، والشروع فيها حسب ميله ومشيئته الحرة المطلقة، وفي مقابل هذه الفوائد الجمة والغنائم العظيمة التي استخلصها عبد الخالق ثروت باشا لمصلحة بلاده من يد الخصم الألد المعاند، لم يبذل دولة الرئيس الأجل لذلك الخصم أدنى ثمن في صورة شرط أو تعهد أو قيد، بل احتاز للوطن هذه الثمرات المباركة غنما بلا غرم، وطعمة سائغة هنية، وعربونا لما سوف تستوفيه مصر على يد برلمانها في المفاوضات المقبلة من موفور الحقوق ومستكمل المطالب.
كل ذلك نالته مصر بمعونة الله العلي الأكبر جل شأنه، وبهمة ملكها المعظم وفضل مساعيه الجليلة، ومجهوداته العظيمة محتذيا في ذلك حذو آبائه الأقيال الأماجد، وأجداده الصيد الصناديد، جاريا على سننهم الأغر الأوضح ومنهاجهم الأنبل الأشرف، متبدرا غاية من المجد والسناء تقع من دونها سابحات الآمال وطامحات الأماني، وتنحسر عن شأوها المديد أحث مطايا الحمد وأوحى سوابق الثناء والشكر، أدام الله سلطانه، ودعم بالعز بنيانه، ووطد بالعدل أسسه وأركانه، وأيد بالفتح المبين صولجانه، وأفسح في بحبوحة النعيم أرجاءه، وأخفق في رياح النصر لواءه، وجعل عهده الميمون مراد خصب عميم، ومرتع عز مقيم، وفاتحة خير للبلاد لا تجف على الزمان أخلافه، ولا يجمد على الحقب والأجيال هطاله ووكافه، إنه سميع النداء مجيب الدعاء.
نالت مصر كل هذه الفوائد والغنائم بفضل الله عز وجل، وبفضل ملكها المعظم - أدام الله عزه وخلد ملكه - وبفضل الوزير الأجل عبد الخالق ثروت باشا الذي رد إلى البلاد - بفضل حكمته وحزمه ومثابرته وجهاده - أوفر قسط من حقوقها المسلوبة - (وأنه على استرداد الباقي لمعتزم دءوب) - والذي محا ما كان أصاب كرامة الأوطان من وصمة «المذكرة الإيضاحية»، وأسى ما كانت أحدثته في أديم تلك الكرامة من ندوب وجراح، دون أن يقيد البلاد بإعطاء أدنى مقابل من شرط أو تعهد.
अज्ञात पृष्ठ
وبفضل مجهودات الشعب المصري ذاته الذي ما قصر في المطالبة بكامل حقوقه، ولا فرط ولا ونى ولا تبلد، والذي أظهر في الساعة العصيبة والمحنة النكراء (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) من ضم الصفوف، وتوحيد الكلمة ما شد أزر الوزير الجليل ثروت باشا وأيده، وكان من ورائه حصنا حصينا في مناهضة الخصم، وكهفا منيعا، وعروة وثقى.
وكذلك في أول مارس 1922 هب على مصر من نفحات رضوان الله نسيم الاستقلال، وحيا مسامعها من موسيقى النظام الأبدي نغمات الحرية المطربة الشجية، فحيا الله في الأيام ذلك اليوم الأغر المحجل، وقدس الله في الساعات تلك الساعة السعيدة الزهراء: ساعة هبط علينا البشير يحمل إلينا صحيفة السعادة الخالدة ممسكة بأذكى من شذى العطر، مصقولة الطراز بأبهى من سنا الفجر، وأي ساعة أجل وأعظم، وأحق بالتحميد والتمجيد من ساعة تنطلق فيها الروح الإنسانية بعد طول أسر واحتباس من قيود الرق، وأغلال الخسف والعسف فتنهض وتنبعث - ولو غشيها أثناء ذلك شيء من الدهشة والارتباك والحيرة - وتنشط من عقالها حالفة بالذي خلقها وسواها لتكونن حرة ولتبقين طليقة! الحرية وما أدراك ما الحرية؟ هي جوهر الروح، وعنصر النفس وملاكها الذي لا تقوم بغيره، وقوامها الذي لا تصح ولا تسلم إلا به، وهي البغية والطلبة التي لا تزال تنزع إليها الروح من أعماق أعماقها، وتشرئب وتطمح، وتصيح مفصحة أو معجمة، مبينة أو مجمجمة تطالب بها السالب المغتصب، مناوئة منابذة، ولو هددها بما في الأرض والسماء من قوة، وهي التي في سبيلها وحدها يبذل بنو الإنسان، بحكمة أو بلا حكمة، كل كد وعناء ومجهود وجهاد، ويغشون كل ملحمة ومعترك، ويقاسون كل ألم وكربة وبلاء. أجل، ما أجل تلك الساعة وما أعظمها! ساعة تنسم الأمة أنفاس الحرية المنعشة، ساعة يبدو للقافلة المكدودة الظمأى خضرة الروضة العشيبة وسط القفرة الجرداء، ويقر أعينها رفيف أيكها النضر في وقدة الهاجرة ولفحة الرمضاء.
لما قبلت إنكلترا شروط ثروت باشا وأجابت مطالبه انفكت الأزمة الوزارية، ورأى ذلك الوزير الجليل أنه لا بأس عليه في تلك الظروف الحسنة من قبول الوزارة، وحينذاك رأت جلالة الملك أن تسند إليه الرياسة، فلبى دعوة مليكه المعظم تلبية مسرع إلى طاعته، صادع بأمره، محتملا في سبيل خدمة البلاد أعباء تلك المهمة الشاقة. ثم اختار دولة الرئيس للوزارات المختلفة رجالا هم - صفوة أبناء الأمة ونخبتها، وعتادها في الأزمات والشدائد، وذخرها في الملمات والعظائم - من كل فاضل كفؤ وحازم، بصير مديد الشأو، رحب الذراع، بعيد الهمة، وحسبك أن يكون بينهم رجل كصاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، ذلك الفذ النابغة، الذكي الألمعي الذي كأنما تتوقد بين جبينه كواكب الفلك ومصابيح الحلك، ذلك المشهود له بدقة الذهن وصفاء القريحة، لا يطيش له في حومة النضال سهم، ولا يخبو له في ظلمة الشكوك نجم، وقد طالما عجمته الحوادث، وعركته الكوارث، فألفته صلد الصفاة، جلد الحصاة، لا تحل حبوته، ولا تفل عزمته، وكم دفعت به خطوب السياسة في المآزق والمضايق، فما راعنا إلا خروجه منها ظافرا وادع القلب وضاء الجبين، وكفاه نبلا وشرفا أنه كان موضع اختيار الرئيس الأجل، وأنه ما زال موطن ثقته واعتماده.
وحسبك أيضا أن يكون من بين من اصطفى الرئيس أيضا صاحب المعالي مصطفى ماهر باشا، وهو ذلك الرجل الجلد القدير على العمل الناهض بأعبائه مهما كدت وفدحت، وكم له من موقف في ميادين الأعمال الجسام أظهر فيه الحكمة مقرونة بالصرامة والتؤدة مشفوعة بالعزم والمضاء، وقد أحسن الرئيس كل الإحسان في اختيار مثل هذا الشهم الهمام لوزارة المعارف؛ لأنها أحوج الوزارات إلى عميد ينفحها بروح من عنده، ويبعث في كيانها تيارا ملتهبا من «بطارية» ذهنه المتقد، وجذوة حامية من مرجل حميته المحتدمة، وماذا عسانا بعد أن نقول في رجل رآه الرئيس أهلا لما ناط به من ذلك العمل الجليل والمنصب العظيم.
كذلك تألفت الوزارة باختيار ثروت باشا من رجال أكفاء سبقت لهم في خدمة البلاد أياد بيضاء، ومآثر غراء، تجلى فيها إخلاصهم وصدق وطنيتهم في حذق وبراعة، وقد تبوأ أولئك الوزراء مناصبهم في وزاراتهم المختلفة حيث أخذوا بالمبدأ السياسي الجديد - مبدأ الانفراد بالعمل والاستئثار بالسلطة - فقبضوا على أزمة الحكم وتسلموا مقاليده، وحققوا معاني ذلك المبدأ الجديد وأغراضه تحقيقا تاما لا يقبل شكا ولا ريبة؛ فأصبح الموظف الإنكليزي مهما علت درجته مرءوسا للوزير مرغما أن يخضع لإرادته ويصدع بأمره، وليس رئيسا مستبدا مطلق السلطة متحكما في جميع من حوله يأمر وينهى لا ناقض لحكمه ولا راد لكلمته، وربما استبد على الوزير نفسه، واغتصب سلطته، وأخضعه لمشيئته ورغبته - كما شوهد كثيرا في العهد السالف - فها نحن أولاء أصبحنا نرى بعين قريرة جذلى كبار رجالات الإنكليز يتقلص ظل سلطانهم عن منصات الحكم داخل بلادنا، ويطوى بساط نفوذهم عن دوائر حكومتنا، وينملس شبح صولتهم المرهوبة ويزول عن أبصارنا، ويحل محل هذا كله سلطة وزرائنا - أهل جلدتنا وأبناء آبائنا، وإخواننا في الله والوطنية، وشركائنا في السراء والضراء - الواردين معنا حياض المناعم والمكاره، والشاربين بالكأس التي بها نشرب إن علقما وإن شهدا، ورفاقنا في قافلة الجهاد وزملائنا في سفينة الأقدار، السائرين معنا إلى الهلاك أو النجاة، إلى الموت أو الحياة، المقرونة أسماؤهم إلى أسمائنا في سجل القضاء الأزلي، المخبوء لهم من القسم والحظوظ مثل ما خبئ لنا في خزانة الغيب ومستودع المجهول، الجاري لنا ولهم بالسعود والنحوس نجم واحد في فلك واحد. فليس من المعقول ولا من الجائز قياسا أو فرضا، ولا مما يسوغ في الضمائر أو يمر على الخواطر أن إخواننا الوزراء - من تجيش عروقهم بدمائنا وتنبض قلوبهم على دقات قلوبنا - ينزلون إلا على إرادتنا، أو يتوخون سوى أغراضنا ومقاصدنا، ولا سيما في هذا العهد المبارك، وفي هذا الدور المتقدم من قضيتنا، وبعدما أعلن الإنكليز رسميا إلغاء الحماية والاعتراف بسيادة مصر في الخارج وفي الداخل، فكان في ذلك أوضح برهان على ما عدلت إليه وعولت عليه الحكومة الإنكليزية من صحة العزم وصدق النية على عدم التعرض لإدارة مصر الداخلية، والحيلولة بينها وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.
أجل، إن الوزارة الحالية لا تألو جهدا ولا تدخر وسعا في استرضاء الأمة والنزول عن حكمها، وإن قامت العقبات والعثرات مؤقتا دون قيامها بإبلاغ الأمة كل رغباتها وجميع مشتهياتها، ولكن الوقت كفيل أن يبرهن للشعب على أن ما يؤجل الآن من أمانيه وبغياته - بحكم الظروف القهرية الناشئة عن حالة الانتقال والتطور السياسي - لن تلبث الوزارة أن تعمل على قضائه وتحقيقه في الحين المناسب متى تراخت الأزمة، وانفسح المجال، وتيسرت الظروف المسعدة المؤاتية، وفي سبيل تيسير هذه الظروف، وإرخاء تلك الأزمة، واستعجال ذاك الحين المناسب تبذل الوزارة الآن أقصى الجهد وتخطو أفسح الخطى.
فها هي قد تسلمت - كما أسفلنا - مقاليد العمل، وقبضت على أعنة السلطنة فنحت المستشار المالي عن حضور جلسات مجلس الوزراء - كما هو معروف - وتخلصت من معظم وكلاء الوزارات ومستشاريها الإنكليز، واستبدلت بهم وكلاء وطنيين، وها نحن أولاء لا يكاد يمر بنا برهة من الزمن إلا رأينا بعض كبار الموظفين الإنكليز يعتزل منصبه في الحكومة المصرية فيعين مكانه مصري من أبناء البلاد، وها نحن نرى الوزراء المصريين قد ملكوا نواصي الشئون والأحوال، وأمسكوا بدفة المسائل والأعمال في وزاراتهم المختلفة؛ فأحاطوا علما بكل دقيقة وخطيرة، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة، ومن ذا الذي لم يطلع في الجرائد السيارة على قرار صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا بهذا الشأن وفي ذلك الصدد، ذلك القرار الحاسم الجازم الذي أماط كل لثام، وجلى كل شك وشبهة عن هذا الأمر الخطير، فلم يدع مجالا للنقد ولا موضعا للاعتراض.
هذه كلها من فوائد العهد الجديد، ومن ثمرات الفوز السياسي المبين الذي أحرزته البلاد بمعونة الله عز وجل، وبفضل جدها ومجهودها وهمتها وتضحيتها - وعلى الأخص بما أظهرت من الاتحاد والتضامن (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) والقيام في وجه الخصم الألد المعاند متساندة متعاضدة كأنها روح واحدة في جسد واحد - وبفضل مجهودات وزيرها الأجل ومهارته وحنكته السياسية وكفاءته النادرة؛ فهو الذي استطاع أن يتخذ من صدق موقف الأمة وقوة تضامنها أحسن وسيلة، وأضمن ذريعة إلى إقناع الخصم واستمالته والتأثير في أعصابه حتى أمكنه أن يستخلص للبلاد من قبضته ما استخلصه من تلك الفوائد الجمة والغنائم العظيمة.
ولكن كيف كان موقف الأمة إزاء هذا التغير السياسي العظيم، وبماذا استقبلوا هذا العهد الجديد، وماذا كانت آراؤهم فيما قد تأتى للبلاد من تلك الفوائد والغنائم؟
انقسمت الأمة - بهذه المناسبة وفي هذا الموقف - من حيث الظنون والآراء شيعا بددا وطرائق قددا، فمنهم المستبشر المتفائل الفرح الجذلان بما نالته البلاد من ذلك الغنم العظيم وإن وقع دون أقصى غاية البغية والمراد، وتقاصر عن أبعد مرامي المقصود والمرغوب، ولم يسم إلى ما تطمح إليه الأمة من الاستقلال التام بأكمل معانيه وفي أسمى مراقيه وأسنى مجاليه. فهذا الفريق من أهل البلاد يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة فوز صريح وربح حاصل، وأنها بلا أدنى جدال خطوة إلى الإمام، وخطوة واسعة قد قربتنا من الغاية المقصودة شوطا بعيدا وشأوا مديدا، وحسنت موقفنا، وحصنت مركزنا، ورفعتنا من وهدة ضعف وحضيض مهانة كنا فيه تحت مدفعية الخصم نصلى نيران سطوته، ولهيب صولته، لا نستطيع له مطاولة ولا مصاولة - فرفعتنا هذه الخطوة إلى ربوة عزة ومنعة، وهضبة حصانة وقوة أصبحنا بها أولي قدرة على مناهضة ذلك الخصم ومناجزته، وأقدر على مواصلة سعينا إلى أمنيتنا المنشودة، أعني الاستقلال التام المطلق من كل قيد، المجرد من كل شائبة - أو لم يصبح هذا الغنم الذي استفدناه أخيرا أقوى سبب، وأمتن وسيلة نستطيع أن نتذرع بها إلى إحراز الفوز الأتم والنجاح الأكمل، أعني تحديد الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى، ونقصها وتلطيفها بما لا يتعارض مع استقلالنا ولا يضيره إلى أن يحين الوقت للعدول عنها، وإطراحها فتخلص مصر الخلاص التام من كل قيد من هذا القبيل وخلافه.
अज्ञात पृष्ठ
هذا فريق التفاؤل والتيمن الذي هو في الحقيقة أقرب من غيره إلى الصواب والمعقول؛ لأن جميع ما يحيط بالمسألة من شواهد الظروف وقرائن الأحوال تصدق رأيهم وتؤيد حجتهم، وثمة فريق آخر يناقض الفريق الأول في رأيه ومذهبه، فهو لا يثق ببريطانيا على الإطلاق، بل يفضل ترك الحالة معلقة - حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا - على قبول ما هو معروض الآن على مصر؛ محتجا لمذهبه هذا بأن الإنكليز ما برحوا منذ بدء احتلالهم هذا القطر يمنون أهله بأباطيل المواعيد وأضاليل الأماني، فإذا استسلمنا إلى وعودهم هذه المرة أيضا فقد تضعف العزائم، وتتخدر الأعصاب، ويتأخر سير القضية إلى غرضها الأسمى، ومرادها الأقصى، وفي هذا البلاء والشر كله.
ونحن نعترض على هذا الفريق ومذهبه بأن إنكلترا اليوم ليست بإنكلترا الأمس؛ لقد علمتها الحوادث والخطوب أن أمم الشرق وشعوبه الواقعة تحت سيطرتها ليست بالرمم البالية المقبورة في مدافن الدثور والعفاء، ولا هي بالخشب المسندة الملقاة في زوايا الإهمال والنسيان رهائن العجز والتبلد والخمود والجمود. لقد كانت إنكلترا تحسب أن الأمة المصرية وسائر أمم الشرق لم تشارك الشعوب الغربية المهضومة فيما أحدثته الحرب الكبرى في صميم كيانها من تلك الثورة الفكرية، والغليان السياسي الذي استحث حركتها العادية وسيرها المألوف في سبيل الرقي الطبيعي التدريجي نحو الغاية المحتوم عليها بلوغها - ولو ببطء وتريث وبعد تعطيلات العقبات والعراقيل - بحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية. فإنكلترا بالرغم من اعترافها للشعوب الغربية الصغرى بما أحدثته فيها الحرب الكبرى من الثورة الفكرية السياسية، وبالرغم من إذعانها لحكم هذه الثورة - أعني لحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية - تغافلت عن مصر في بادئ الأمر وتعامت، ولم تحسب لها حسابا في باب النهوض والتحفز، فلم تلق لمصر بدلو يوم ألقت الشعوب الغربية بدلائها في مناهل المؤتمرات، ولا أجالت لمصر قدحا ولا سهما يوم أجالت الشعوب الغربية سهامها وقداحها في قرعة السياسة على موائد المقامرة الدولية، لم تطرح إنكلترا مسألة مصر - ولا سمحت لمصر أن تطرحها بنفسها - في ميزان التسوية يوم طرحت مسائل الأمم الغربية في ذلك القسطاس الحكيم.
فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ نتيجة الغفلة والتفريط وعاقبة من لا يحسب للأمر حسابه ولا يتدبر عواقبه - كانت النتيجة مفاجأة الغافل المغتر بما لا يتوقع من الخطب الجسيم والحادث الجلل الذي ما برح يختمر ويتكون - أيام غفلته وغروره - في طي الخفاء حتى ظهر له حين انقشاع عمايته، وانجلاء غمرته بارزا جهيرا شنيعا بشعا جهما متنكرا يحملق إليه بعين الحقيقة المستعرة جمرا وشررا.
كانت النتيجة استيقاظ بريطانيا من رقدتها الطويلة بلطمة قاسية من كف الحقيقة المرة الأليمة حين استوفت هذه الحقيقة نموها واستكملت نضجها، ودرجت من منشئها ومرباها إلى ميدان العالم ومعترك الحياة؛ لتؤثر أثرها، وتؤدي وظيفتها.
كانت النتيجة أن مصر المهضومة المستضعفة - التي لم تحسب بريطانيا حسابها ولم تأخذ منها حذرها - ثارت ثورتها المعروفة في مارس 1919، وهبت في وجه بريطانيا هبة الأسد المسلسل صدع قيوده وأغلاله ووثب يطالب المغتصب بحقوقه المهضومة المسلوبة.
عند ذلك أفاقت بريطانيا لأول مرة من غفلتها بالنسبة للمسألة المصرية، وصحت من سكرتها، وأقبلت على القضية المصرية تتأملها بعين الحذر والاهتمام المشوب بشيء من الخشية والرهبة، ولا جرم، فلقد راعها من عجيب تطور الأمة المصرية، وعظيم نهضتها وطفرتها ما راع «أهل الكهف» إذ هبوا من رقادهم، فهالهم ما هالهم من تغير حال الدنيا وتبدل الشئون والمشاهد، وكان بعد ذلك ما كان من محاولة بريطانيا المرة بعد المرة تسوية القضية المصرية بوسائل شتى؛ إحداها «لجنة ملنر» التي فشلت في مهمتها بفضل إجماع المصريين قاطبة، وتوحيد كلمتهم على مقاطعتها أشد مقاطعة وأقصاها، حتى أوصدوا في وجهها كل باب للمناقشة والمفاوضة، بل قطعوا منها كل أمل في ذلك، وكل هذا تأييدا للوفد المصري الذي كان إذ ذاك وكيل الأمة المفوض ومندوبها الذي لم ترتض سواه مندوبا ووكيلا.
وهنا يجدر بنا أن ننوه بما كان من سلوك ثروت باشا في تلك الآونة الدقيقة، وكيف كان موقفه إزاء لجنة ملنر، وبماذا أشار عليها؟
قابل ثروت باشا في ذلك الحين اللجنة المذكورة منفردا (كما قابلها عدلي باشا منفردا) لا مقابلة راغب في مفاوضتها - حاشا لوطنيته الشماء أن تفعل ذلك - ولكن مقابلة من أحب أن يبلغها جواب الشعب الصريح، واعتقاده الصحيح معبرا عن جنانه، ناطقا بلسانه، فأنبأها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشعب المصري - أن المصريين قاطبة قد أصروا على أن لا يكون لهم مع اللجنة شأن ما، وأن لا يدخلوا معها في مناقشة أو مباحثة؛ ذلك لأن لهم وفدا يمثلهم أصدق تمثيل وأصحه، فهم لا يرضون غيره محاميا عن القضية، ولا يثقون بمفاوض سواه كائنا من كان.
هذه المأثرة الجليلة من مآثر ثروت باشا - الدالة على ما ينطوي عليه فؤاد الرجل الكبير من صدق الوطنية وروح التضحية - أقل ما يؤثر من عظيم مآثره وجسيم مفاخره، وأدنى ما يذكر من مساعيه الجليلة في سبيل خير البلاد وصالحها، ولكنا رأينا أن نوردها هنا تذكرة لمن نسي، وتعريفا لمن لم يعرف. فليعلم الناس أن وطنية ثروت باشا ليست وليدة اليوم ولا بنت الأمس، بل هي عريقة فيه متأصلة منذ أدلى به عالم الخفاء إلى عالم الوجود، منذ:
سله الله للخطوب من الغي
अज्ञात पृष्ठ
ب كسل المهند المغمود
وكذلك كل رجل عظيم لا تكون فيه الوطنية مجرد عادة يعتادها، أو خصلة يتحلى بها، أو أداة يتذرع بها إلى شيء من مقاصده وأغراضه، بل تكون فيه غريزة غلابة، وطبيعة مسيطرة على جميع مشاعره ومداركه ونزعاته وعواطفه وشهواته، تكون مزاج دمه وأساس كيانه، والجوهر الذي صيغت منه نفسه، والعنصر الذي صورت منه روحه.
قلنا: إن بريطانيا لما أفاقت من سكرتها بالنسبة للمسألة المصرية، ولما قشعت يد القدر عن بصرها ما كان ران عليه من غشاوة الغفلة والغرور، وعن قلبها ما كان قد غشيه من حجب القسوة والجبروت فأصاخت إلى صوت مصر المتصاعد إلى عرش الله، وأصغت إلى نداء مصر المالئ ما بين الأرض والسماء، وقد أدركت أن مصر لا تقل عن نظائرها من الشعوب الأوروبية شعورا بعزتها وكرامتها، وعرفانا بقدرها وقيمتها، وإدلالا بسالف مجدها وعظمتها، وأنها لا تنحط في درج المدنية والحضارة عن مقام تلك الأمم، ولا تهبط في سلم الرقي الأدبي والاجتماعي عن منزلة تلك الشعوب. لما أدركت بريطانيا كل هذا، وجبهتها الحقيقة صلبة خشنة كالصخر الصماء، أرادت استرضاء الأمة المصرية، وحاولت بلوغ ذلك بتسوية قضيتها المرة بعد المرة بوسائل شتى منها «لجنة ملنر» - التي ذكرنا ما كان من فشلها بفضل إجماع المصريين على مقاطعتها بأقصى الشدة، وبتنفيذهم هذه النية بحد بجد وعزيمة وصرامة كانت ولا تزال موضع إعجاب العالم بأسره - وكان من تلك الوسائل أيضا دعوة بريطانيا الأمة المصرية إلى مفاوضتها: أولا: على لسان الوفد المصري (بصفة غير رسمية)، وثانيا: على لسان الوفد الرسمي (بصفة رسمية طبعا).
ليس غرضنا ههنا أن نأتي على تاريخ تينك المفاوضتين، ولا أن ندخل في تفاصيلهما - بل لم نذكرهما هنا بقصد تناولهما بالبحث والنقد - وإنما ألجأنا إلى التنويه بهما محاولتنا إقناع الفريق المتشائم المتطير المبالغ في إساءة الظن ببريطانيا أن إنكلترا اليوم - التي تدعو بنفسها مصر، وتمد يدها إليها للدخول معها في المفاوضة لاسترضائها وتسوية قضيتها - هي خلاف إنكلترا الأمس العاتية المتغطرسة التي كانت لا تسمع النداء ولا تصيخ لدعاء.
فلهذا الفريق المتشائم المتطير، الشديد الارتياب في صحة مواعيد بريطانيا وفي حسن نيتها، لمصر على أن لا يزال مدى الدهر يعتقد فيها مطل الوعود وختل العهود والسخرية من مطالبنا الوطنية وأمانينا القومية. نقول إن بريطانيا اليوم بالنسبة لقضيتنا غيرها بالأمس، وأنها تقف منا الساعة موقفا لم تقفه من قبل، فلقد أيقظناها من رقادها، ونبهناها إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن مصر أيضا أمة كغيرها من الأمم الغربية، وأنها تعرف مثلها معاني الحرية والاستقلال، وتصبو إلى أخذ مكانها بين دول العالم المجيدة وممالكه العظيمة، وتتوق إلى الصعود في مراقي المدنية السامية لاعتلاء ذروة العز، وتسنم غارب المجد والسؤدد، وأنها كسائر الأمم الغربية الناهضة لها قلب يجيش بأذكى جمرات الحمية، وأحمى مراجل الوطنية، ولها جانب صعب أبي ينفر بها عن مواطن الخسف والضيم، وأنف حمي يأبى لها النزول على العسف والرغم. أجل، لقد فتحنا عين بريطانيا بعد طول غموض إلى أن مصر كمثيلاتها من أمم الغرب لا تصبر على اغتصاب حقوقها، واستلاب تراث أسلافها، وأنها تقدر قيمة الحرية حق قدرها، وتعرف أنها الجوهرة الثمينة، والدرة اليتيمة التي من أجلها تخوض غمرات الخطوب، وتغامس حومات المحن والكروب: فإما تهلك وتفنى في خضم الجهاد، وإما تظفر بتلك الدرة اليتيمة فتردها إلى موضعها من إكليل مجد البلاد وتعيدها إلى نصابها من تاج حسبها المجيد وعزها التليد. لقد علمنا بريطانيا أنه ليس للغرب أن يفخر على الشرق زاعما أنه أوفر نصيبا منه في مزايا النهوض والتقدم، وأنه أذكى منه قلبا، وأنبل روحا، وأصفى جوهرا وأكرم عنصرا. لقد علمنا بريطانيا أنه لا شرق ثمة ولا غرب إذا هبت الأمة من سباتها تطالب بحقها المهضوم، وتحاول استرداد الحرية والاستقلال، لا شرق ولا غرب إذا زخر عباب الحياة في فؤاد مثل هذه الأمة وثار موجه، وجاش تياره في أعماق روحها المضطربة، ثم دفعتها رياح الوطنية العاتية إلى الموت أو الحياة. أجل، في مثل هذه الساعة الخطيرة تمحى من بين صفات الإنسان الطبيعية تلك الصفة الاصطلاحية الصناعية - أعني «شرقيا» و«غربيا» - وتسقط عن هيكل الإنسان المقدس تلك «الماركة» المعلقة عليه تعليقا، غير المتأصلة في جوهر الروح النقي الأصلي المستمد هو وسائر أرواح البشر من مادة الروح الكلي وينبوعه الأبدي.
لقد فتحنا عين بريطانيا إلى هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن الأمة المصرية لم تكن فيما مضى من الزمن ميتة ولا جامدة ولا خامدة ولا نائمة، بل حية تذكو في ضميرها جمرة الحياة والشعور، وإن حجبت شعاعها حجب الفتور والتبلد منا، وحجب الغفلة والغرور منهم. لقد علمنا بريطانيا هذه الحكمة البليغة، وهي أنه لا شيء في الحياة ميت أو هامد أو راكد. لقد ذكرناهم بما كان أوحى إليهم حكيمهم العظيم توماس كارليل في القرن السالف حيث قال في كتابه «الثورة الفرنسية»:
لا شيء في الكون ميت، وما نخاله ونسميه ميتا إنما هو في الحقيقة في حالة استحالة وتغير، تعتمل قواه الكامنة وتفتعل على نظام معكوس. فالورقة الذابلة رهينة البلى والعفن لا تزال تكمن فيها القوة، وإلا فكيف كان يتأتى لها أن تتعفن؟ ألا إنما الكون بحذافيره ليس سوى مجموعة غير محدودة من القوى المختلطة الممتزجة - تعد بالآلاف والملايين - من الجاذبية الجمادية إلى الفكر والشعور والإرادة - حرية الذهن المطلقة تكتنفها وتحدق بها ضرورات الطبيعة المحتمة - وفي خليط هذه القوى الهائل العظيم لا شيء يهمد أو ينام لحظة، بل كلها لا تزال أبد الآبدين يقظة فعالة.
فأما ذلك الشيء الجامد الهامد المنعزل عن دوامة هذه الحركة الأبدية فذلك ما لن تجده، ولن تراه في أي أنحاء هذا الوجود البتة، مهما فتشت ونقبت في سلسلة الكائنات من الجبل الصوان المستمر في حركة البلى البطيء منذ بدء الخليقة - إلى السحابة السارية، إلى الإنسان الحي، إلى أقل فعلة من أفعاله وأدنى كلمة من أقواله. أجل، إن الكلمة إذا خرجت من فم القائل مضت كالسهم النافذ، لا ماحي لأثرها، وأشد منها وأقوى الفعلة الواقعة. أو لم يتغن لنا الشاعر «بندار» قديما بحكمته المأثورة: «إن الآلهة أنفسها لتعجز أن تمحو أثر الفعلة المفعولة.» لقد صدق بندار، فإن هذه متى فعلت بقيت على الأبد الآبد مفعولة؛ أي دائمة المفعول والأثر - بقيت مسترسلة في فضاء الزمن اللانهائي - وسواء لبثت ظاهرة لنا بادية، أو مستترة خافية، فستبقى فعالة تزكو أبدا وتنمو عنصرا جديدا لا يفنى ولا ينعدم في غضون مزيج الكائنات اللانهائي. بل ماذا تحسب هذا المزيج اللانهائي ذاته الذي نسميه «الكون»؟ أتراه سوى فعلة أو مجموعة من الأفعال أو القوى؟ أتراه سوى مجموعة حية (يعجز الحساب عن جمعها وحصرها في جداوله وإن بدت لعينك مكتوبة على صفحة الزمن) مجموعة حية لهذه الثلاثة الآتية: كل ما فعل، وكل ما يفعل، وكل ما سوف يفعل.
فاعلم - علمت الخير - أن ذلك الكون الذي تراه إنما هو فعلة، هو النتيجة والمظهر لقوة مبذولة، هو البحر العديم السواحل الذي من ينابيعه تنفجر القوة، والذي في عباب حومته تجيش وتموج القوة زخارة منسقة منتظمة، فسيحة كاللانهاية، عميقة كاللابداية، جميلة مخوفة حسناء روعاء، غير مدركة ولا مفهومة. فهذا اللج الزاخر الذي لم يبرح يجيش ويرغي ويزبد من وراء الأفلاك ومن قبل بداية الزمن، ولم يزل يموج من حولك - بل أنت نفسك جزء منه في هذه النقطة من الفضاء، وفي هذه الدقيقة من الزمن - هذا هو ما يسميه الإنسان «الكون» و«الوجود».
وكذلك الحياة البشرية وكل ما فيها لا يزال في حركة دائمة، وفي فعل وتفاعل متطورا من حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل بتأثير نواميس نافذة محتومة نحو غاية محدودة ونتيجة لازمة، ونحن بني البشر، ألا ترى كيف نظل منغمسين مغمورين في أعماق سريرة الزمن وفي ظلمات لغزه العويص؟ ولا جرم، فنحن أبناء الزمن وسلالته - ومن الزمن حيكت أنسجتنا، ودبغ أديمنا، وصيغت صورنا وأشكالنا - وعلينا وعلى كل ما نملك أو نبصر أو نفعل قد كتب الزمن شعاره وحكمه: لا قرار في موضع ولا دوام على حال، سر إلى غايتك، وامض قدما إلى قسمتك.
अज्ञात पृष्ठ
أجل، لقد ألقت مصر على بريطانيا واقعيا وعمليا في الثلاثة الأعوام الأخيرة، ما كان ألقاه عليها كلاميا ونظريا حكيمها الأعظم توماس كارليل في الجيل السالف. لقد أعدنا عليها ذلك الدرس العظيم بالأعمال الصارمة ذات الأثر والمفعول والنتائج الخطيرة. لقد أيقظناها إلى الحقيقة المرة بثلاث صدمات شديدة كبحت جماحها، وكفكفت غربها، وألانت عريكتها حتى هيأتها نهائيا إلى التأثر بسياسة ثروت باشا في مناوراته الأخيرة، وإلى الاقتناع بناصع حججه ودامغ براهينه، وإلى الانقياد نوعا ما في زمام مهارته السياسية وبراعته المنطقية. أما هذه الصدمات الثلاث التي مهدت طريق النجاح لثروت باشا فهي كما يعرف الجميع: (1)
قومة مصر في وجه بريطانيا في مارس 1919. (2)
مقاطعة لجنة ملنر. (3)
قطع الوفد الرسمي الذي كان يرأسه دولة الوزير العظيم عدلي يكن باشا للمفاوضات المصرية-الإنكليزية، وما أعقب ذلك من التئام الصدع وائتلاف الشمل بين الأحزاب المصرية بعد طول تنابذ وتنازع، ثم انضمام الصفوف وقيام الأمة قومة سلمية بأساليب الدفاع السلبية، ولا ينس أحد أن صاحب الفضل الأعظم في هذه الوثبة الثالثة والصدمة الأخيرة (أشد الثلاث وقعا وأبلغها أثرا ومفعولا)، وأعظم مسبب لها، بل أساسها ومصدرها هو ذلك الرجل الخطير والبطل الكبير صاحب الدولة عدلي يكن باشا.
وماذا عسانا نقول في مدح ذلك البطل المجيد عدلي يكن؟ وأين تقع رائحات الحمد وغادياته، وسابحات الثناء وسارياته، من رفيع مقامه في ذروة المجد الشامخ، وذؤابة الحسب الباسق الباذخ؟! ماذا عسانا نقول في رجل حملته الأمة أمانتها فأحسن الحمل والأداء، وزجت به في حومة النضال عن حقوقها فأجاد الذود وصدق البلاء؟! أو لم يدفع عدلي بحر وجهه الكريم ما أرادت بريطانيا أن ترمي به وجه الأمة المصرية من آيات الخسف والهوان ممثلة في ذلك المشروع الذي رفضه هذا الهمام فكفى بذلك أمته غضاضة مناقشة المشروع والنظر فيه؟ أو لم تبعث به مصر في تلك المفاوضة نائبا عنها وممثلا فكان خير عنوان على ما لها من نبل وكرم، وأنفة وشمم، وشرف رفيع، وعز منيع؟ أو لم تكن طلعته الوضاءة البلجاء، وغرته الوضاحة الزهراء، صفحة صدق تتألق بنور الأمانة والإخلاص، ويسطع في جنباتها رونق اليقين والإيمان، ويترقرق ماء الحياة والعفة والنزاهة؟ أو لم يقرأ الإنكليز أنفسهم في أسارير جبينه الأغر سطور الحزم والعزم، والحلم والرفق، والحكمة والحذق، والمضاء والدهاء؟
ألم ينتشل عدلي باشا الشعب المصري الكريم من وهدة الضعف والفتور التي كان ألقاه فيها دعاة التخاذل والتواكل، وبغاة التفرقة والانقسام؟ ألم يستنقذ عدلي باشا أمته المجيدة من حضيض التواني، والاسترخاء الذي كان أهبطه فيه تجار الفشل والهزيمة ومروجو إشاعات السوء عن الوفد الرسمي، الذي أثبتت مآثره وحسناته أنه كأكرم وأنبل من انتدبت أمة للمطالبة بحقوقها والدفاع عن قضيتها، والذي سجل له التاريخ أشرف صور الفضل وأسنى آيات الوفاء في أمجد فصوله وأنصع صحائفه؟ ألم يبيض عدلي باشا وجه أمته بما أحرز لها من النصر الباهر بموقف الشمم والإباء والعزة والكبرياء الذي وقفه إزاء خصمها الألد وقرنها العنيد؟ ألم يفهم الإنكليز أن الذي يرفض مشروعهم بمنتهى الأنفة والنخوة والإباء هو الأمة المصرية بأسرها ممثلة من شخصه الكريم في مرآتها الحاكية مجموع نزعاتها ورغباتها وأمانيها وعواطفها، وفي لسان حالها الناطق بأخفى ما يجنه ضميرها وأدق ما يكمن في خبايا سريرتها؟ ألم يكن في إفهامه الإنكليز هذه الحقيقة وتقريرها في أذهانهم ما رفع من مقام الأمة المصرية في عيونهم بعدما أسقط منه ظهورها في أنكر مظاهر التفرقة والانقسام؟ ألم يكن في مجيد عمله هذا ما أعاد إلى قلوب الإنكليز تلك الهيبة والخشية التي كانت أوجدتها ثمة الأمة المصرية بفضل ما أظهرت في بدء حركتها من روح التضامن والاتحاد والتضافر؟ أو لم يشرف عدلي بموقفه العظيم ومأثرته الكبرى أمته العزيزة، ويعلي قدرها، ويرفع رأسها بين سائر شعوب العالم؟ ألم يقر عينها ويشرح صدرها؟ ألم يبعث فيها نشوة العزة وحميا الزهو ويرنح أعطافها بهزة التيه والخيلاء؟ ألم يزودها في تلك الساعة العصيبة والأزمة الكاربة والمحنة النكراء - في أظلم أدوار القضية وأوعر مراحلها حين خبت كواكب الأمل، ودجت غياهب التشاؤم - في تلك الآونة الصعبة التي بدأنا بذكرها هذا الكتاب، وسميناها عقدة العقد، وعقبة العقبات - نقول في تلك الكربة الكاربة والشدة الحازبة - ألم يزود عدلي باشا أمته من أسباب التأييد والتشجيع - مما نفثه فيها من روح الحمية والنخوة والعزة والإباء - بأجمل السلوى وأحسن العزاء عما رمتها به الأقدار من كوارث الظلم والاستبداد، وبأقوى الوسائل لاستنهاض همتها واستثارة عزمتها لاستئناف السعي في سبيل الجهاد ومواصلة السير إلى غاية المأمول والمراد؟
وكذلك في سبيل الحق والحرية نفر عدلي يكن تلك النفرة الشماء، وصاح تلك الصيحة التي صدم بهولها مسامع بريطانيا صدمة أيقظتها ثالث مرة من غفلتها، وفتحت عينها إلى تلك الحقيقة الكبرى وهي أن مصر - بالرغم مما أصابها مؤقتا من تخاذل أبنائها وتنابذهم - لا تزال مصرة على نيل حقوقها المسلوبة، مصممة جادة، معتزمة غير وانية ولا فاترة، وأنها كغيرها من الشعوب الغربية مندفعة بحكم السنن الكونية والنظم الطبيعية في سبيل النهوض والتقدم لأخذ المكان المقدر لها أزليا في مراقي الحياة؟
كذلك في سبيل الحق والحرية صاح عدلي يكن صيحته التي استرعى بها مسامع أمته، وأيقظها من غمرة التشاحن والتطاحن إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن كل نزاع بين أبناء الأمة هو غرم عليها، مغنم للخصم الذي يراه خير فرصة لإضعافها ونهك قواها بتوسيع الخرق بينها، وهدم كيان وحدتها، وتمزيق صفوفها، ورد سهامها الموجهة إلى شخصه في نحرها هي، وتحويل مجهوداتها المبذولة ضده في مصلحتها ضد نفسها بالضرر الجسيم عليها. أجل، لقد نبه عدلي بصيحته الشديدة أمته العزيزة إلى كل هذا وأكثر، فجمع بذلك كلمتها وألف شملها، ورأب صدعها، وشد أزرها، وراش لنهضتها جناحا من همته الحثيثة بعدما هاض النزاع الحزبي جناحها، وحفزها بريح عزمته الشديدة بعدما أركد الشقاق الداخلي رياحها، وآنسها بقوة روحه العظيمة في وحشة تلك الترهات السياسية الختالة بسراب الغرور والخديعة، وعزاها عن خيبة آمالها في وفاء بريطانيا وحسن نيتها.
كل هذا صنعه لأمته عدلي يكن، ذلك البطل القوي الذي لن يجد التاريخ بدا من أن يسجل له هذا الفضل على بلاده، ولا من وضعه في مصاف الأبطال منقذي شعوبهم ومحرري أوطانهم أمثال شمشون، إلا أنهم تغلبوا على دليلة «الختل والخديعة» فلم تستطع قهرهم وإذلالهم.
كل هذا صنعه عدلي لأمته، ولا عجب فإنه عظيم، وبقوة الرجل العظيم وحوله تدعم أرض الله وتوطد أركانها، وبهمة الرجل العظيم ونجدته يثل عرش الظلم ويشاد صرح العدالة، وينجاب غيهب الباطل، ويسطع نور الحق، وبمكارم خيمه ومحامد شيمه ترق حاشية الزمان، ويخضر عوده ويورق، ويخضل روضه بندى الخير ويترقرق، ويشرق صحوه بسنا الصفاء ويتألق. حياك الله عدلي يكن! لقد طاب في كنفك العيش واحلولى، وافتر عنك مبسم الدهر وتلالا، وقد حسنت بك الدنيا وملحت وتأرجت بعبير ذكرك ونفحت، وقد شربنا بك ماء الحياة كوثرا، ونشقنا نسيمها عنبرا، وانتجعنا غيثها ثجاجا، وتوسدنا جنابها أنيق الروض مبهاجا. فجزاك الله أحسن الجزاء عن أربعة عشر مليونا من عباده رفعت بالعز هامهم، وثبت في مدحضة المعترك العنيف أقدامهم، وطهرت صحيفة أعراضهم من كل شائبة ووصمة، ونقيت أديم أحسابهم من كل ريبة وتهمة، وبعد، فإن مأثرتك هذه الجلى التي حاولنا عبثا توفيتها حقها من الحمد والشكر ليست لعمرك أخرى مآثرك، ولن تكون بحال ما خاتمة مساعيك ومفاخرك. يأبى لك ذلك فرط حبك لبلادك، وعطفك وحنانك على أبنائها الذين هم أبناؤك البررة، وصدق وطنيتك العميقة، وحميتك العريقة، وشدة إخلاصك لوطنك وتفانيك في خدمته والتذاذك بتضحية الأعز والأنفس في سبيله، وارتياحك إلى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، واعتساف الأوعار، ومغامسة الأهوال والأخطار من أجل الدفاع عنه، وصيانة حوزته وحماية بيضته. نقول: لم تنته بعد مساعيك في صالح البلاد، ولم تترك المسرح لغير رجعة، معاذ الله أن يكون ذلك، ومعاذ همتك البعيدة وشيمتك المجيدة، وحاشا لعزتك الشماء، وحميتك الذكية الروعاء أن ترى على سكونك هذا إلا خفاق الجوانح على وطنك راجف الأحشاء. فما كانت روحك الكبيرة السامية، ونفسك الجياشة المتوقدة لتسكن في هذه الآونة إلا تأهبا للحركة، وتحفزا للوثوب، وانكماشا للكرة إلى الميدان متى أهابت بك النوب والخطوب. بل أراك في عزلتك الراهنة لا تزال ينبوع أمل وقوة لمواطنيك، تنفث فيهم روح اليقين والثقة والرجاء كأنك زورق النجاة، لا يبرح باعثا يرد الطمأنينة في ركب السفينة مهما طغى الموج من حولهم واصطخبت الأنواء.
अज्ञात पृष्ठ
هذه كلمة حق، ونفثة صدق أرفعها إليك يا صاحب الدولة في عزلتك السياسية، أعبر بها عما يضمره لك ويعلنه من آيات الحب والولاء أهل وطنك أجمعين الذين لم يبق فيهم - بعد موقفك المشهور ومقام دفاعك المأثور في قضيتهم المقدسة - غامط لحقك العظيم، منكر لفضلك العميم، إلا جاحد عريق في الجحود، يحمل مكان قلبه أصم جلمود، سقيم الطبع، مريض الذوق، ينكر من علة ضوء الصباح، ومن آفة حلاوة العذب القراح، وما أحسب أن مثل هذا المخلوق يوجد بين مجموع الشعب حماه الله من أمثاله، وصان أديمه النقي من وصمة خلاله، وما أراني بعد يا صاحب الدولة قادرا على الوفاء لك بواجب الشكر، وليس يفي لك بهذا إلا صلوات المليك في السور.
نرجع إلى ما كنا فيه من أمر انقسام الأمة في الرأي والمذهب إلى قسمين إزاء تصريح إنكلترا العظيم الشأن بإلغاء الحماية، والاعتراف لمصر باستقلالها التام، وأن تكون ذات سيادة في الداخل وفي الخارج، وذات برلمان ووزارة مسئولة أمام البرلمان، وحصر الخلاف بين المملكتين في النقط الأربع المعروفة، وإعطاء الحق لمصر في بدئها مفاوضات مستقبلة تدخل فيها مع إنكلترا - مزودة بسلاح الاستقلال، مطلقة من قيد الحماية - لكي تسوي مع بريطانيا في تلك المفاوضات المقبلة قضية بلادها التسوية التامة، وكل هذه المغانم والأرباح والمزايا نالتها مصر دون أن تدفع فيها ثمنا من تقيد أو تعهد أيا كان.
نقول: إزاء هذا الحادث الجليل انقسمت الأمة من حيث الرأي والمذهب إلى فريقين؛ فريق التيمن والتفاؤل، وفريق التطير والتشاؤم، وقد ذكرنا أن هذا الأخير قد بنى تشاؤمه على ما يزعمه من سوء عقيدته في بريطانيا وجرأتها على خفر الذمم ونقض العهود وإخلاف العهود، وقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم هي غير إنكلترا الأمس، وأن تعدد الثورات والاضطرابات أثناء السنوات الأخيرة في ولاياتها ومستعمراتها قد أثبت لها بأنصع البراهين والأدلة؛ أن الأمم والشعوب ليست أشباحا ولا تماثيل تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء لها روح الاستبداد والمطامع الاستعمارية، ولكنها نفوس وأرواح كأخواتها ساكنات البلدان الغربية والممالك الأوروبية مستمدة مثلها من روح الله وينبوع القوة الأزلية، وأنها بذور الله قد غرسها في أرضه منطوية على جوهر الحياة وعناصر النمو والتفرع والسمو في جو الله إلى حيث تنسم في الفضاء الرحب أنفاس الله - أعني نسمات الحرية والاستقلال - وأنها كسائر البذور والأغراس لا بد أن تزكو وتكبر وتبلغ غاية نضجها، وتسمو إلى درجة الارتفاع المقدرة لها أزليا بسنة الطبيعة السارية وحكمها النافذ، وبحكم ما انطوت عليه من عوامل الإنبات والنمو والارتفاع، وعلى حسب نصيبها من تلك العوامل. أجل، لا بد لها - باعتبارها بذورا غرست في أرض الله - أن تنمو وتسمو، أو تذبل وتعفن لتستأصل أو تنشر من أجداثها وتعود إلى حياة ثانية وسيرة جديدة - على حسب ما يكمن فيها من عناصر القوة أو الضعف، ومن عوامل الرقي أو الانحطاط - هذا أو ذاك لا بد أن تفعله تلك البذور والأغراس (أو تلك الأمم والشعوب) بحكم النواميس الزمنية، والقوانين الكونية سواء أرادت بريطانيا أو لم ترد، وسواء سرها ذلك أو ساءها. هذه إرادة الطبيعة التي تأبى إلا تنفيذ إرادتها أحبت بريطانيا أو كرهت، ورضيت بريطانيا أو رفضت، كأنما بريطانيا - بأساطيلها ومدافعها وورشها ومعاملها وولاياتها ومستعمراتها - شيء تافه حقير في نظر الطبيعة، أو كأنها ليست موجودة، ولم توجد ولم تكن.
حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لفريق التطير والتشاؤم - المعدوم الثقة في بريطانيا، المملوء رعبا ووجلا من ألاعيبها وخدعها - أن بريطانيا قد آمنت بحقيقة تطور الأمم الشرقية، وصدق نيتها على المضاء في سبيل الجهاد لإحراز حقوقها المسلوبة مهما كلفها ذلك. حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى قد خلقت في العالم جوا اجتماعيا جديدا، مملوءا بعوامل جديدة كان من شأنها أن أبرزت في سطور من النور والنار تلك المبادئ التي حسبها العالم جديدة - وإنها لقديمة قدم الدهر والطبيعة ذاتها - والتي كان قد حجب سطورها - كثيرا أو قليلا - ما كان قد ركبها من غبار الفتور والتواني وحب الدعة والراحة والتراخي، أعني تلك المبادئ التي راجت وسادت بعد الهدنة كالقول بتحرير الشعوب وتفويض الأمم في حكم ذاتها وتقرير مصيرها.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى خلقت هذا الجو الجديد المملوء بهذه المبادئ الجديدة القديمة، وأن هذا الجو وهذه المبادئ قد نبهت من همم الأمم والشعوب المظلومة، وشحذت من عزماتها، واستحثت ما يكمن فيها من حركة التطور الطبيعي والنمو الغريزي، فكان ما كان مما شاهده العالم، وأربك بريطانيا وأزعج خاطرها من تلك الثورات والاضطرابات في ولاياتها ومستعمراتها وتوابعها المختلفة.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أنا - كبعض تلك الشعوب التي هبت في وجه بريطانيا تطالبها برد حقوقها المسلوبة - قد صدمنا بريطانيا ثلاث صدمات عنيفة: «حركة عام 1919»، و«مقاطعة لجنة ملنر»، و«قطع الوفد الرسمي للمفاوضات»، أيقظنا بها بريطانيا من غفلتها أو تغافلها، وزعزعنا بها أساس طمأنينتها وهدوئها، وأرجفنا بها قلبها، وبدلناها بالأمن حذرا، وبالاستهانة استعظاما، وبالوقار خفة، وبالاطمئنان وجلا.
وبذلك استطعنا أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم ليست إنكلترا الأمس، وأنه باعتبارها أمة تفهم وتعقل، وتعرف الخير من الشر والتمر من الجمر، وتشارك سائر خلق الله - حتى الأطفال والحيوانات - في الغريزة المشترك فيها كل الخلائق، والتي عليها مدار الحياة ونظام الكون، والتي لولاها ما حملت قدم جسما ولا احتوى جسم روحا - أعني غريزة النفور من الأذى والهروب منه إلى الخير - نقول إنه باعتبار بريطانيا هكذا، وبالنظر إليها في هذه الصورة الطبيعية الحقيقية - بالعين المجردة عن الأهواء، المتتبعة مهابط الحق ومواقع آثاره أين كان وكيفما كان - لا يسعنا إلا أن نراها قد غيرت من سياستها وبدلت من خطتها، وأنها قد وقفت اليوم لنا موقفا خلاف موقفها بالأمس (لا يمكن أن يكون أسوأ من الموقف السالف، بل أحسن بلا نزاع وأفضل). ولما كنا نحن المصريين الذين استطعنا بقوتنا وحكمتنا أن نغير موقف بريطانيا معنا، ونحوله عن حالة إلى أحسن منها - ولو قليلا - فليس يستحيل علينا ولا يتعذر ولا يبعد - بفضل اتحادنا وتضافرنا على الجهاد المستمر الدائب - أن نزحزحها شيئا فشيئا إلى مواقف أخرى أحسن لنا فأحسن؛ حتى نقفها أخيرا عند حدها، ونقيمها في مشعب الحق، ومقطع السداد والصواب، ومفصل الإنصاف والعدالة، وحينئذ نبلغ المراد وننال الغاية.
على أننا لو سلمنا جدلا بوجوب إساءة النية ببريطانيا، فأي ضرر علينا في قبول «إعلان إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام»؟ في قبول منحة الله لنا، بل منحة كدنا واجتهادنا، وثمرة ما بذرناه في مزرعة الجهاد من بذور هي عرق جباهنا، ودفع دمائنا وأفلاذ أكبادنا. أي ضرر علينا في قبول هذه الهبة الإلهية والانتفاع بها جهد طاقتنا، وبقدر ما فيها من خير وبركة؟ أي ضرر علينا في اتخاذها عمادا لنا ودرعا وسلاحا نضيفه إلى ما لدينا من الأسلحة؛ ليكون ذلك أقوى لنا على مناهضة الخصم ومغالبته؟
أليس الأجدر بنا والأضمن لخيرنا وفلاحنا أن ننظر إلى هذا الاستقلال في أول أدواره كباكورة أعمالنا المجيدة وبادرة مجهوداتنا الشديدة، وأنه مولود نهضتنا العظيمة الذي ما برح يتكون في أحشائها أزمان الحمل العسيرة، وأنه نتاج وطنيتنا المقدسة التي جعلت تتمخض عنه تمخض البحر عن دره ومرجانه، والكنز عن تبره وعقيانه حتى إذا ألقى به الحظ في حجورنا ذخرا نفيسا ، وثمرة مباركة كان من أوجب الواجب علينا أن نبتهل لله شكرا، ونرحب به ونهلل تحية لطلعته، واستبشارا بغرته قائلين مع الشاعر:
يمن الله طلعة المولود
अज्ञात पृष्ठ
وحبا أهله بطول السعود
ما لنا لا نطرب ونفرح بهذا المولود الجديد؟! ما لنا لا نحمد الله عليه ونحوطه بالنفوس والنفائس، ثم نعمل على تربيته وإنمائه، وترقيته وإعلائه حتى يبلغ أشده، ويستكمل قوته وأيده؟!
هذا الاستقلال الوليد إنما هو جذوة مقدسة اقتدحتها يد الشعب بزناد الكد والجهاد، واستثارتها معاول الكفاح والجلاد من صخرة الجبروت والاستبداد. فما لنا لا نحوط هذه الجذوة المقدسة؟ وما لنا لا نشبها ونذكيها بأنفاس هممنا الصادقة، ورياح عزماتنا الثاقبة حتى يتلهب سناها، ويسطع شعاعها فيخرج البلاد وأهلها من ظلمة الرق إلى ضياء الحرية؟!
إن استقلالنا في هذا الدور الأول ليس سوى هلال الحرية في أولى منازله، فما لنا لا ننتظر به النمو والزيادة؟! وما لنا لا نرقب له الكمال والتمام؟! وما لنا لا نقول مع الشاعر:
مثل الهلال بدا فلم يبرح به
صوغ الليالي فيه حتى أقمرا
ومع الآخر:
إن الهلال إذا رأيت نموه
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
وهبونا لم ندرك الغاية، أفلم نضع أقدامنا على فاتحة السبيل المؤدية بالمثابرة والمصابرة إلى الغاية؟ ألم نملك اليوم فوهة المسلك الواضح المستضيء بعد طول تخبط في الأوعار والدياجي؟ ألم يعثر الغريق بين طفوه في غمرة الكرب ورسوبه على لوح النجاة - ولو ضعيفا - وعلى عود السلامة - ولو ضئيلا؟ أو لم تخرج السفينة من منطقة الخوف والخطر وإن لم يزل بينها وبين الساحل عباب وغمار يحتاج خوضها واقتحامها إلى احتمال المشاق والمتاعب؟
अज्ञात पृष्ठ
يقول الفريق المتشائم إن بريطانيا تضمر لنا في سريرتها خفايا وتكن لنا دفائن وخبايا. فهب ذلك من الجائز، فلماذا لا ننتفع بالثمرة الواقعة، ثم نحذر المضرة المتوقعة؟ وهل يجوز في عقل أن ترفض الوردة من يد مهديها مخافة أن يهديك الشوكة يوما ما؟ أو ترد الكأس الروية إلى كف مديرها وساقيها خشية أن يدير عليك فيما بعد حنظلا وعلقما؟ أليس قياسا على هذا يحق لنا أن نرفض سواكب الغيث من السماء لما يحتمل من إرسالها للصواعق علينا يوما ما؟ وأن نغمض أبصارنا في وجه الأفق رافضين أشعة الشمس الضاحكة لما يتوقع يوما ما من عبوسه لنا بظلمة الضباب والغيم؟ فماذا تكون حال أبناء البشر إذا ساد في الأرض هذا المذهب، وتغلبت هذه الشريعة؟ وأي حياة يحيون؟ وكيف تدار دواليب الأعمال؟ وكيف يتقدم ركب الإنسانية في سبل الرقي إلى أمد الكمال؟
هبونا لم ندرك الغاية، فأي الحالتين أشرف وأمجد؟ وأي الموقفين أقوى وأمنع؟ وأي المركزين أدنى من أمل وأكفل بنجاح؟ دخولنا المفاوضات الآتية أحرارا مستقلين، أم دخولنا إياها تحت نير الحكم الأجنبي وفي قيود الحماية؟ أي الأمرين أفضل؟ ذهابنا للتفاوض مطلقين من هذه الأغلال مزودين بسلاح الاستقلال (ولو مثلوما مفلولا)، أم ذهابنا عزلا من السلاح كشفا من الدروع مكتوفين بأصفاد الحماية؟ ثم ماذا غرمنا بعد وماذا خسرنا؟ وماذا أضعنا بقبولنا ما نزلت عنه إنكلترا وما صرحت به من هذا الإلماء وهذا الاعتراف؟ هل بذلنا في سبيل ذلك شيئا من حقوقنا أو تخلينا عن شيء من مطالبنا؟ هل أعطينا بريطانيا في مقابل هذا العربون الجسيم ثمنا؟ هل سمحنا لها أن تأخذ علينا أدنى تعهد أو تقيد؟ كلنا يعرف الجواب على ذلك؛ كلا.
وبعد؛ فهل نسيتم أو غاب عنكم أن ما تحقرونه اليوم - بل تنقمون عليه من ذلك التصريح المتضمن إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال - قد كان يوما ما أقصى ما تطمح إليه أنظاركم يوم كان الوفد المصري لا يتمنى على بريطانيا - عند بدء دخوله المفاوضات معها - أمنية أجل وأعظم من مجرد إعطائها إياه وعدا بأن يكون إلغاء الحماية ضمن ما تعترف به لمصر أثناء المفاوضة؟ في ذلك اليوم (وليس العهد ببعيد) لم يكن الوفد المصري - ولا أي مصري كائنا من كان - يحلم أن في استطاعة الأقدار أن تستخلص من بريطانيا العظمى غنيمة «إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» - مبدئيا وقبل التفاوض - كعربون بلا ثمن، وكأداة تمهيد وتوطئة للمفاوضات المقبلة.
أنسيتم يوم كنا نشرئب بأعناقنا التي قطعها الظمأ ، ونتطاول بأبصارنا التي أرمدها السهاد - إذ نحن في مضال الحيرة وقفار اليأس - إلى ذلك المنهل العذب (منهل الحرية) الذي كان ممنوعا منا بأسوار الحماية المسلحة وأسلاكها الشائكة، وقد أذبل العطش أسلات ألسنتنا يوم كنا نتوق ونتلهف على رشفة من زلال ذاك المنهل الشبم؟ أم نسيتم ونحن في دياجير القنوط كيف كنا نتشوف إلى شعاع من ذلك السراج المنير - سراج الحرية الذي كان يطمس سناه ضباب الحماية وأدجانها المتراكمة الكثيفة - فها نحن أولاء نسير في وضح السراج المنير، وننقع الغليل بماء الحرية النمير. فما معنى هذا التسخط والتذمر؟ وماذا تريدون بهذا التأفف والتضجر؟ وما هذا القال والقيل، والصراخ والعويل، والتغرير بأبناء البلاد والتضليل؟
فخبرونا - بعيشكم - ماذا كنتم فاعلين لو أن هذا التصريح العظيم «بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» جاءكم في ظروف أخرى، وعلى أيدي آخرين (يوم كنتم لا تحدثون به أنفسكم ولا في الأحلام - يوم كنتم تعدون ما هو دونه بكثير منة عظمى ونعمة جلى - يوم كانت أقصى أمانيكم أن يكون هذا الإلغاء وعدا موعودا لا ثمرة حاصلة) - ماذا كنتم فاعلين إذ ذاك؟ أهناك أدنى شك في أنكم كنتم تملئون الأرض والسماء تكبيرا وتهليلا ونشيدا وترتيلا، وتحرقون البخور في المجامر إقامة لشعائر التقديس للذين ساقوا إليكم المغنم العظيم، وتأدية لمناسك العبادة للآلهة الذين غمروكم بالفيض العميم؟ أما كنتم تقيمون الصلوات في المحراب لأولئك الأرباب؟ أما كنتم تهزون أعواد المنابر إعلانا لمفاخر أولئك الأكابر؟ أما كنتم تنحرون النحائر، وتدقون البشائر، وتوقدون الشموع، وتزينون الربوع؟ أما كنتم تقطعون الحناجر، وتمزقون الرئات بالهتاف حتى تصبحون خرسا، لا تطيقون الكلام إلا همسا ونبسا؟ أما كنتم تمثلون في عرصات القاهرة رواية البعث والنشور؛ إذ تحشرون قبائل وشعوبا في صعيد واحد، متزاحمين متدافعين، متكدسين أكداسا مشتبكة متلاحمة، جبلا هائلا من الإنسانية الهائجة المائجة، وصرحا ممردا من الجماجم ليس فيه أدنى ثلمة ولا فرجة:
فلو حصبتكم بالسماء سحابة
لظل عليكم حصبها يتدحرج
ثم تخلعون كل عذار، وتندفعون في كل تيار مطلقي طوفان الغرائز الحيوانية من محابس التؤدة والرزانة، مرسلي سيول النزعات الشهوانية من قيود الورع والرصانة، سامحين لعنصر التراب والحمأ المسنون فيكم أن يتغلب على عنصر الروح الإلهي والنور السماوي، كأنكم كتلة جسيمة من الفوضى، يظل من يبصر فرط اضطرابها وتشوشها واختلاطها لا يكاد يصدق أن في استطاعة القدرة التي خلقت نظام العالم العجيب من عالم السديم المشوش أن ترد هذا البركان المتطاير الحمم والشظايا، وهذه الزوبعة المستطيرة الشرر والصواعق، وهذا الزلزال البادي في أشنع صور التخريب الذهني والتدمير الروحاني إلى سيرته الأولى من الحياة الهادئة المنظمة، وصورته المعهودة من مظاهر الإنسانية المهذبة.
وبالاختصار، أما كنتم تجددون عهد ذلك اليوم المعروف 5 أبريل 1921، الذي يسجل على ترمومتر الحياة الاجتماعية أعلى درجة لحيوانية الإنسان وأخفض درجة لروحانيته، ويقدم أصدق مثل تاريخي على تأصل طباع آباء البشر - ساكني الكهوف وقانصي الوحش - في نفوس أبنائهم مهما قدم العهد وتطاول الأمد؟
أجل، لقد كنتم تفعلون ذلك وفوق ذلك لو أن غنيمة هذا التصريح - بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام - جاءتكم في ظروف أخرى وعلى أيدي آخرين. فما بالكم اليوم لا تصنعون عشر معشار ما كنتم صانعيه إذ ذاك؟ بل ما بالكم لا تكتفون بمجرد إظهار الارتياح والانشراح، بل بمجرد السكينة والثبات، بل بلزوم سنة الصبر الجميل حتى تروا عواقب هذه البوادر، ونتائج هذه البشائر. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأمامكم مجال المعارضة الشريفة في صفاء جو الهدوء والحلم اللذين تقتضيهما سنن الجدال وقوانين المناقشة، رابئين بنفوسكم عن مواقف التغرير بالشعب والتضليل، وعن خبث مواطن الإرجاف والتهويل، وعن سفال مساف التشنيع بالوزارة الدستورية الساعية إلى خير الأمة، الممثلة لأمانيها، الباذلة أقصى الجهد في تنفيذ رغباتها، وعن خسة مهابط الانتقاص منها والنيل من كرامتها، وتوجيه كاذب التهم نحوها، وترويج سوء الظن بها مما يفسد أذهان الشعب - الذي تدعون أنكم قادته وأبطاله الذائدون عن حياضه - ويسمم عقيدته، ويضل رأيه، ويطمس على نور بصيرته. ما بالكم تحاولون - بإخماد جذوات الأمل في النفوس وإبدالها ظلمة اليأس - تثبيط الهمم وفل العزائم، وإقعاد الأمة عن مواصلة السعي في سبيل الجهاد، أو تحويل ذلك السعي في شر السبل وأشدها وبالا - أعني سبيل المشاحنات الحزبية، والمطاحنات الفرقية، وتقاطع الأرحام والصلات، وتدابر الخلان والثقات - ذلك السبيل الذي طالما أغريتم الناس بسلوكه فلم تجدوه يؤدي بقضية البلاد إلا إلى شر غايات الفشل، وأحرج مضايق الكرب، وأوخم مراتع الخيبة كما قد شاهدتم أن نذير الخطر كلما كان يصيح بالشعب محذرا الاسترسال في ذلك السبيل - سبيل التنابذ الممقوت - والإمعان في شعابه، داعيا إلى الرجعة لسبيل التضامن والاتحاد فيطيعه الشعب جامعا كلمته، حاشدا صفوفه، أدبر الشر والطلاح، وأقبل الخير والفلاح، وأبرمت روح الاتحاد من أسباب القضية ما كانت آفة التفرقة قد نكثت ونقضت، ووثقت عزة التضافر من أركانها ما كانت ذلة التخاذل قد هدمت وقوضت، فأشرق نجمها بعد أفول، وأورق عودها بعد ذبول. نقول: لقد جربتم هذا وذاك، ولقيتم من الخطتين النعمة والمصاب، وذقتم من الكأسين الشهد والصاب، فهل انتفعتم بتجارب الزمن، وحنكتكم تقلبات الدهر بين نعم ومحن؟ وهل فقهتكم الصروف، وفطنتكم تلونات الظروف؟ وهل سبكتكم نيران الكوارث في بوتقة التمحيص والتهذيب، وقومتكم أيدي الحوادث بثقاف الإصلاح والتأديب؟ أم وجدتكم هذه القوى والعوامل بمنعزل عن ندائها وبمنقطع عن صوت دعائها، فكانت إنما تحاول في هدايتكم تحريك الجبال، وتسكين الزلزال، وضبط هوجاء الرياح، وإسكات العارض السحاح، وكأن موقع وحيها وتعاليمها من قلوبكم موقع الرقم على صفحة الماء، والنقش في أديم الهواء، وكذلك لم تجد هذه المؤدبات الإلهية والمهذبات الطبيعية من بينكم إلا كل نافر شرود؟
अज्ञात पृष्ठ
جامع في العنان لا يسمع الزج
ر ولا يرعوي إلى الرواض
فلأي قوة في الكون يرضخ من أبى الرضوخ لأستاذ التجربة؟ ولأي إرشاد ينصت من لم يصغ إلى وحي العواقب؟ وأي درس يحفظ من أهمل درس الأسباب والنتائج؟ ولأي صوت يأذن من أغلق سمعه دون صوت الطبيعة؟ وبأي مصباح يسترشد من أغمض طرفه عن سراج الحق؟ وبأي شيء في هذا الوجود يصدق ويؤمن من خادع نفسه وغالط ذهنه في الواقع المحسوس والحقائق الملموسة؟
وأي إنكار للحاصل والواقع أشد من إنكاركم لتلك الحقيقة الكبرى التي أصبح يبصرها الضرير، ويسمع وقع آثارها الأصم، ويكاد يتحرك لها رفات الأموات في قبورها، تلك الحقيقة التي بتنا نتقلب في مضاجع راحتها وبين أعطاف نعمائها، ونجني باكورة ثمارها يانعة جنية؛ من تحكم في أمورنا، وتصرف في إدارة شئوننا، وقبض على أزمة السلطة في حكومة بلادنا، وتأسيس برلمان كأرقى برلمانات العالم دستورية وأحسنها نظاما، ووزارة مسئولة أمام ذلك البرلمان قد قام رئيسها الجليل ثروت باشا يبرهن للناس على حسن نيتها، ويقدم لهم أمثلة صادقة من مبدأ مسئوليتها بما قد جعل يلقيه على الملأ مرة بعد أخرى من خطبه الرائعة المملوءة بروح الديموقراطية، مما لم تعهده البلاد قبل اليوم من أي وزارة قامت بين ربوعها أو رئيس تقلد زمام الحكم فيها، ثم بتنفيذ نصوص هذه الخطب بالأعمال الجليلة والنتائج العملية.
أي إنكار للواقع الملموس أشد من إنكاركم إلغاء الحماية بعدما أعلنت ذلك بريطانيا، وصادق عليه برلمانها، وكساه الصورة الشرعية والصيغة الرسمية، وبعدما أمنت عليه دول العالم، وهللت له وصاحت، وتواردت به التهاني تطير بأجنحة البريد وتهفو على ساريات البرق - بل كادت تشترك في إعلانه الطبيعة ذاتها، فتتهامس بنجواه الرياح، ويفضي ببشراه المساء للصباح - فتقولون بعد كل هذا إنه ما حدث حادث ولا تغيرت حال، وإنه:
تخرص وأحاديث ملفقة
ليست بنبع إذ عدت ولا غرب
تقولون إن هي إلا أسماء سميتموها، ورنين ألفاظ زينتموها كلام في كلام، وأضغاث أحلام، ورماد يذر في الأجفان، وتخدير أعصاب وأبدان. فبحقكم هل كنتم قائلين ذلك لو سيق إليكم هذا الربح العظيم على أيدي آخرين؟ أم أنتم لا تعترفون بالفضل ومقداره إلا إذا انحدر إليكم من طريق مخصوص محبب إليكم، ولا تتحدثون بالنعمة إلا إذا جاءتكم في غلاف معين مبصومة بماركة معينة لفابريقة معينة؛ لا تعرفون غيرها، ولا تعترفون بسواها، ولا تؤمنون إلا بها، ولا تأخذون إلا مصنوعاتها. ثم المقاطعة التامة والويل والعفاء على البضاعة بعينها إذا صدرت عن فابريقة أخرى تحمل ماركة أخرى؟ فأنتم إنما تعنون بالواسطة لا بالنتيجة، وكل ما يهمكم هو الزي لا الكائن الحي المشتمل به، والوعاء لا المتاع المنطوي تحته، ومن كان هذا شأنه - متعلقا بالأعراض دون الجواهر، منصرفا عن مادة الحقائق إلى هباء المظاهر - كان يعيش في عالم من الخيالات والأحلام، وينقلب في جو من الأكاذيب والأوهام، وإن تشأ فقل عنه - ولا حرج - إنه لا يحيى ولا يعيش، ولا يكون ولم يكن.
ليت شعري، ماذا نقول للذين يستقبلون نعمة الله بالسخط والنقمة ويتلقون فضله العظيم بالاستياء والأسف؟ ليت شعري، ماذا نقول للذين يلقون وجوه اليمن الضاحكة بوجوه مربدة عابسة، وينفرون من عرائس النعم المزفوفة عليهم بأعطاف شامسة؟ أفلا نقول إن الطبائع البشرية قد انعكست فيهم فدواعي السرور تشجوهم، وبشائر الصفو تشجيهم، وانبساط الأمل يورثهم انقباض اليأس، وأسباب الطمأنينة تثير فيهم هواجس الوسواس. فأي فائدة ترجى من أمثال هؤلاء لصالح العالم عامة ولمنفعة أوطانهم خاصة؟ أي فائدة ترجى منكم يا من هذا دأبهم وديدنهم سوى أنكم تعملون على إماتة الأمل ونقض العزائم ونكث الهمم؟ تكدرون الصفو، وتعكرون الصحو، وتجعدون السلس، وتخشنون الأملس، وتوعرون السهل، وتعقدون المنحل، وتثيرون على رونق الأماني المشرقة غبار الضجر والتبرم، وتعقدون دون كواكب الرجاء غيوم التطير والتشاؤم، لا تنفكون تقيمون مناحة جدية على مصائب وهمية، ثم تجعلون تشاؤمكم هذا دليلا قاطعا على صدق وطنيتكم، وتسمون إنكاركم للواقع المحسوس، وإقامتكم العقبات في سبيل تقدم البلاد إلى غايتها المنشودة عنوانا على فرط إخلاصكم، وشدة تفانيكم في خدمة القضية.
فخبروني بربكم أهو الإخلاص والتفاني الباعث الحقيقي الذي يدفعكم إلى إتيان ما تأتون من المعارضة في الواضح المستنير والمكابرة في إنكار ما يراه الأكمه والبصير؟ وهل حقا تعتقدون في صميم أفئدتكم أنكم أنتم وحدكم المخلصون، وأن فريق التيمن والاستبشار هم المنافقون؟ وهل حقا في صدوركم وحدها يتأجج لهيب الوطنية، وعلى قلوبكم دون غيرها يتنزل وحي الوطنية؟ وهل الوطنية لم تضرب في غير ضمائركم قبابها، ولم تتخذ في سوى جوانحكم منسكها ومحرابها، ولم تقم خلافكم مداره يدافعون عن قضيتها، ولم تجند غيركم عسكرا يذودون عن جوزتها؟ وهل هي لم تتعشق سواكم ولم يهم قلبها إلا بكم؟ وهل كان من عداكم خونة غدرة وفجرة كفرة؟
अज्ञात पृष्ठ