فحيثما خلت الأرض من هذه العاطفة الشريفة - إجلال الفضل والكرم والمروءة في أهلها من عظماء العالم وأبطاله - فقد احتجب نور الله عن هذه البقعة، وقد حيل ما بينها وبين ملكوت السموات، وقد حلت عليها نقمة الجبار ولعنته، بما قد أقفرت من أس المكارم وينبوع الفضائل، وأيما بقعة من أرض الله كان هذا شأنها وتلك حالها، فأي خير فيها وفي أهلها؟ وأي غبطة في معاشرتهم ومجاورتهم أو ثمرة في مخالطتهم ومعاملتهم؟ فقد وجب على البر الكريم أن يغادرها لتوه وساعته واهبا للشيطان الرجيم نصيبه منها ومن أهلها، وعليها وعليهم العفاء ما بقوا وما بقيت كذلك!
جبل الإنسان على الطرب إلى رؤية الجمال والجلال حيث كانا، والفرح بمشاهدة الرائع المليح، والتلذذ بإكبار البارع الفائق غريزة في نفوس البشر، بل إن الإعجاب الصادق الحق لجدير أن يحرر الروح البشرية - ولو برهة - من أغلال سخافات الحياة، ويصفيها من شوائب خبائثها ودناياها؛ ولذلك قيل: إن الناس يولدن من بطون أمهاتهم عبادا، فهم لا مندوحة لهم عن العبادة حيثما أصابوا لها موضعا، ولقد يطيق الإنسان أن يعبد الشيء الصغير إذا كان حقا، فأما الباطل فذلك ما لا يطيق إجلاله وعبادته مهما أصم الآذان بطنينه الأجوف، واستطار الأبصار بزبرجه المموه، وأي منظر - أصلحك الله - أدعى للرحمة والرثاء من منظر الجماهير والجماعات يزدحمون لإلقاء نظرات الإعجاب والإجلال إلى مواكب الملوك واحتفالات الزعماء، وأمثال ذلك من مظاهر الفخامة المزورة والأبهة الكاذبة؟ وليس في هذه الجماهير المحتشدة والجموع المتكاثفة إلا من تتوق نفسه إلى بذل عواطف الاحترام والإعظام، وأداء فرائض الإجلال والتقديس، ولكن كم منهم يعود أدراجه مطرقا كئيبا يشكو إلى الله خيبة أمله فيما كان قد حسب وقدر، وشدة هبوط ما يبصره من الحقيقة دون ما كان قد تخيل وتوهم؟
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون .
إن مذهب الناس في إجلال العظماء لهو في الواقع قطب رحى حياتهم، وعنصر كيانها، وعليه تترتب سائر فروعها وأركانها، وعلى حسبه تتكيف جميع فصولها وأدوارها - سواء في محافلهم العامة وسوامرهم الخاصة وفي مساجدهم وكنائسهم وأسواقهم - فليكن مذهبك في إجلال العظماء أن تحرص الحرص كله على الاهتداء إلى العظيم بحق الصادق البطولة ذي الفضل الخالص لا المزيف، فإنك إن اهتديت إلى ذلك كان إجلالك حرا صادقا، فأدركت الخير كله والبر بحذافيره وكلل النجاح مسعاك، وإن كان إجلالك كاذبا حداك إلى البطل الكاذب فأوسعته إكبارا وإعظاما فذهبت مع الشيطان كل مذهب، وركبت من الضلال كل مركب، واستحققت الإثم كله والشر أجمع، وبؤت بالخيبة والخذلان والخسارة. ألا فويل للناس إذا عميت منهم قلوب وبصائر فجازت عليهم أخاديع أدعياء البطولة، ثم خفيت عليهم مواطن العظمة الحقيقة فتهافتوا على مظاهرها الكاذبة! إذن لساد الباطل، وفسد الجم الكثير من مصالح هذه الحياة ومرافقها، وحل به الدمار والتلف، وظلت تعبث به أيدي البلي بمرأى من الناس من حيث لا يشعرون بذلك ولا يفطنون إليه؛ ذلك لأن هذه الحياة الدنيا إنما هي دار جد وإخلاص، وليست بألعوبة ولا أخدوعة، ولكن حقيقة من أخطر الحقائق.
قال توماس كارليل: إن الأبطال ما برحوا موضع إجلال الناس حتى في هذه العصور الفاسدة الأخيرة، ولعل الإنسان لم تتحرك في روحه عاطفة هي أطهر وأنقى وأبر وأتقى من إجلاله لمن هو أعظم منه قدرا وأجل خطرا، وما أراني مغاليا إذ قلت إن هذه العاطفة هي الأثر الفعال في حياة البشر أو إنها الأساس الذي تقوم عليه الأديان سواء الوثنيات وما هو أرقى وأفضل من الديانات الأخرى. فهذه الديانة النصرانية هل ترونها في عنصرها وجوهرها سوى إجلال وإعجاب وضراعة وخشوع لذات إنسانية سامية إلهية - ذات أعظم أبطال العالم قاطبة - ذات من لا أسميه ههنا بلساني بل أترك ذلك الغرض المقدس لتأملات الصمت المقدس!
وإذا انتقلنا من الدين إلى غيره من مناحي الحياة وشئونها، ألفينا في جميعها من آيات احترام الصغير للعظيم والدقيق للجليل، ومن مظاهر ولاء الوضيع للشريف ما يماثل عقيدة الإيمان ومناسك العبادة في أمر الدين، وماذا ترى الإيمان الديني سوى عاطفة الاحترام والولاء لنبي أو قديس؟ وماذا عسى تكون عاطفة احترام الوضيع للشريف وولاء الصغير للكبير؟ تلك العاطفة التي هي في الحقيقة روح المجتمع الإنساني وعماده وقوامه إلا صنفا من عبادة الأبطال، وعلى هذا فعبادة الأبطال هي أساس المجتمع وسلك نظام الرتب والدرجات في سلم الإنسانية - ذلك الأساس الذي يقوم عليه صرح العمران، وذلك المحور الذي يدور عليه دولاب التعاشر والتعامل، حتى ليصح لنا أن نسمي مذهب «عبادة الأبطال»: «هيروأركي»؛ أي «حكومة الأبطال» - فالعظماء والأبطال وذوو الرتب والمقامات في الأمة يكونون لها بمثابة الأوراق المالية تمثل الذهب وتقوم مقامه، وإن اتفق أحيانا - لسوء الحظ - أن يجيء الكثير من هذه الأوراق المالية مزيفا مزورا، فنحن قد نحتمل الأوراق المالية ونعيش بها وإن وجد بينها المزيف المزور، فأما أن يكون كلها مزيفا فذلك ما لا يطاق ولا يحتمل ولا يستقيم به عيش ولا حياة، وإذ ذاك تهيج الفتن وتقوم الثورات، ويهب الناس يصيحون: «المساواة المساواة»؛ إذ تزول ثقتهم في الأوراق المالية الصحيحة أو الذهب - أعني تزول ثقتهم في الأبطال - فيظنون أن البطل المرتفع عن منزلة الاعتياديين من الناس مفقود لا وجود له، وأن عبادة البطل ضرب من الخرافة والخيال، والحقيقة أن صنف البطل وعباد الأبطال موجودة في كل زمان ومكان؛ فهي من العناصر المكونة منها الإنسانية، ولن تزول حتى يزول الإنسان من الوجود.
لقد فشا في هذا العصر الفاسد رأي فاسد، ذلك هو إنكار وجود الأبطال، بل كراهية وجودهم، إذا ذكرت للمرء بطلا من أبطال العالم الذين أنقذ الله بهم الدول والعصور من وهدة الخراب والدمار أخذوا يعيبونه ويتنقصونه وأوسعوه ذما وقدحا، ثم زعموا أن ما يعزى إليه باطلا من البطولة إنما هو في الحقيقة مستعار مما أحاط به من الظروف الخاصة والأحوال النادرة، يقولون: «الوقت هو الذي خلق ذلك البطل، فهو سليل تلك الآونة وابن هاتيك الساعة، ولولا ظرفه الخاص لكان كأي امرئ عادي» -
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا - يزعمون أن الوقت هو الذي أعاره ثوب البطولة الوهمي، وأفاض عليه نور العظمة السرابي، وأنه في الحقيقة لا بطل ولا عظيم، وأن كل ما جرى عليه من عظيم المآثر وجليل الفعال ليس من صنعه بل من صنع الوقت. فمتى كان الوقت هو الذي يصنع الخوارق، ويأتي بالمعجزات؟! لقد طالما رأينا الوقت يصيح: أين البطل العظيم، وينادي: هل من فتى همام وفارس ضرغام يقيم أودي، ويصلح مفاسدي، وينقذني مما أنا منحدر إليه من وهدة التلف وهاوية البوار؟ فلا يجد من يجيب دعاءه ويلبي نداءه، ويدور بعينيه في فضاء الله فلا يرى بطلا ولا عظيما:
إني أغمض عيني ثم أفتحها
على كثير ولكن لا أرى رجلا
अज्ञात पृष्ठ