إني لا أريد التعريض بالرئيس الحالي إذا قلت إنها حالات قليلة تلك التي يتمثل فيها الغنم للقلة والغرم للكثرة - أعني عدم المساواة - بشكل أشد مما يتمثل في منصب الرياسة كما يراه البعض. إن عاملا أمينا يحفر في مناجم الفحم نظير سبعين سنتيا في اليوم، بينما يحفر الرئيس العقليات نظير سبعين دولارا، وواضح أن الفحم أكبر قيمة مما تساويه العقليات، ومع ذلك فما أشنع ما نرى بين الثمنين من عدم المساواة! فهل يقترح الرئيس لهذا السبب إلغاء الرياسة؟! إنه لن يفعل ذلك وينبغي ألا يفعله، إن القاعدة الصحيحة للبت في قبول أمر أو رفضه ليست أن نتساءل هل ثمت شر في هذا الأمر، ولكن هي أن نتساءل هل فيه من الشر أكثر مما فيه من خير؛ فالأشياء التي هي خير كلها أو شر كلها قليلة، ويكاد كل شيء - وبخاصة سياسة الحكومة - يكون مزيجا لا ينفصل من الخير والشر؛ وعلى ذلك فإن المفاضلة بينهما - وهي أحسن ما نتبع للحكم على الأشياء - أمر مطلوب أبدا.»
هذا هو منطق لنكولن القائم على الفهم والإنصاف، تراه لا يتمسك برأي لمجرد المغالبة واللجاج، وترى روح العدالة تسيطر على ما يعرض من الآراء لا يستطيع أن يلتوي أو يداجي أو يتعامى عن الحق، وله مع ذلك حصافة وقوة حجة وقريحة طيعة تواتيه بالأمثلة وتعينه خير عون على المقارنة والقياس والحكم، فما يسع سامعه إلا الاقتناع.
وتجلت في الخطبة الثانية مقدرته العظيمة على التهكم وزلزلة مجادلية بالفكاهة القوية في غير تبذل أو ترخص أو مجانة في القول، وتعد هذه الخطبة من أبلغ وأقوى ما نطق به لنكولن، لا في الكونجرس فحسب، بل في حياته السياسية كلها، وبها برهن أنه قادر أن ينال من خصمه بسلاح السخرية بقدر ما ينال منه بالمنطق القويم والتحليل السليم والسياق البارع.
عاب أحد الديمقراطيين من أنصار كاس مرشح الحزب الديمقراطي على الهوج تناقضهم؛ إذ ينكر بعضهم حرب المكسيك ثم يؤيدون ترشيح تيلور بطل هذه الحرب للرياسة، وقال هذا الديمقراطي متهكما: إنكم أيها الهوج تتخذون مأواكم تحت ذيل حلة حربية. فقال لنكولن: «يقول هذا السيد إننا تركنا مبادئنا جميعا، واتخذنا مأوانا تحت ذيل حلة الجنرال تيلور الحربية، وإن هذا مشين لنا! وإذا كانت هذه هي عقيدته فله أن يعتقد ما شاء، ولكن ألا يتذكر ذيل حلة حربية غير هذا اتخذ تحته مأواه حزب معين آخر زهاء ربع قرن؟ أليست له معرفة بذلك الذيل القوي؛ ذيل حلة الجنرال جاكسون؟ ألا يعرف أن حزبه قد خاض عمار الانتخابات الخمسة الأخيرة للرياسة تحت ذلك الذيل، وأنهم الآن يخوضون المعركة السادسة تحت الغطاء نفسه؟ أجل يا سيدي إن ذلك الذيل قد استخدم لا في انتخاب الجنرال جاكسون نفسه فحسب، بل إنه منذ ذلك الوقت لا يزال كل مرشح ديمقراطي يستمسك به استمساك الاستماتة، إنكم لم تجرءوا ولن تجرءوا أن تبرزوا من تحته، وإن أوراقكم التي تنشرون في المعركة ظلت دائما ملأى بالإشارات إلى هكري العجوز،
1
وبالرسوم الشوهاء التي تمثل الجنرال الشيخ، كما أنها كانت مفعمة بشارات لا نهاية لها، متخذة من جذوع الهكري وأغصانها، ولقد أطلقتم على مستر بولك نفسه شجرة «الهكري الفتية» أو «الهكري الصغيرة»، وها هي ذي الآن أوراقكم الانتخابية تزعم أن كاس وبتلر من فصيلة الهكري ... لا يا سيدي، إنكم لا تجرءون على التحرر من هذا ... ولقد لبثتم متعلقين بذيل ذلك الأسد في منعزله حتى نهاية حياته، وها أنتم أولاء ما زلتم تتمسكون به، وتستمدون منه عونا بطريقة بغيضة بعد موته. زعموا أن رجلا أعلن ذات مرة أنه أحدث كشفا به يستطيع أن يصنع رجلا جديدا من رجل قديم، وأنه قد بقي لديه فضل من مادة الرجل يكفي لصنع كلب أصفر صغير، وهكذا كانت شهرة الجنرال جاكسون لكم كذلك الكشف المزعوم؛ فإنكم لم تكتفوا بصنع رئيسين منه اعتمادا على شهرته، بل إنه لا يزال لكم فضل منه يكفي لأن تصنعوا منه رؤساء أصغر قدرا إذا قيسوا بمن مضوا، وما زال أهم ما تعتمدون عليه الآن هو أن تصنعوا رئيسا جديدا ...!
والآن أيها السيد رئيس المجلس، إن الخيل العتاق وذيول الحلل الحربية أو الذيول من أي نوع ليست من صور البيان التي أرتضي أن أكون أول من يدخلها فيما يجرى هنا من مناقشات، ولكن بما أن ذلك السيد المنتمي إلى جورجيا قد وجدها لائقة لأن يدخلها، فمرحبا به وبك في كل ما استطعتم أو ما تستطيعون أن تفعلوا بها، وإن كان لديكم مزيد من الخيل العتاق فأطلقوها، أو كان لديكم مزيد من الذيول فارفعوها وأقبلوا علينا. إني أكرر أني ما كنت أحب أن أدخل هنا هذا النوع من الكلام، ولكني أرغب أن يفهم السادة من الجانب الآخر أن استعمال الصور البيانية المشينة لعب قد يجدون أنفسهم فيه بحيث لا يصيبون كل مغنم [صوت ... كلا نحن نتخلى عنه] أجل إنكم تتخلون عنه وحسن ما تفعلون. وبهذه المناسبة هل علمت أيها الرئيس أني بطل من أبطال الحرب؟ أجل يا سيدي، في أيام حرب الصقر الأسود، قد حاربت وجرحت، وإن الحديث عن صنيع الجنرال كاس ليذكرني بصنيعي، إني لم أشهد هزيمة ستل مان، ولكني كنت على مقربة منها بقدر ما كان كاس على مقربة من استسلام هل، ولقد شاهدت المكان بعدها كما فعل هو، وإني على وجه اليقين لم أكسر سيفي؛ لأنه لم يكن لدي سيف حتى أكسره، ولكني حرفت بندقيتي عن وجهها بصورة رديئة ذات مرة، وإذا كان كاس قد كسر سيفه، فالمفهوم أنه فعل ذلك يأسا، أما أنا فقد حرفت بندقيتي بغير قصد، وإذا كان الجنرال كاس قد سبقني في التقاط البرقوق البري فأظن أني ظهرت عليه في هجومي على بري البصل، ولئن كان قد رأى هنودا مقاتلين فقد فعل ذلك أكثر مما فعلت، على أنني من ناحيتي قد منيت بمثل ما مني به من نضال دموي، ولكن مع البعوض! ولو أنني لم أدخ قط بسبب ما فقدت من دم، إلا أنني كنت أحس جوعا شديدا أكثر الوقت ...
أيها السيد الرئيس، إذا استطعت أن يكون شأني مع الديمقراطيين بحيث لا يجدون لديهم ما يمنع من ترشيحي لرياسة الولايات، فإني أقرر أنهم لن يسخروا مني كما يسخرون من الجنرال كاس بأن يجعلوا مني بطلا من أبطال الحرب ...
إني أذهب مذهب أحد الأصدقاء، أيها السيد الرئيس، فأرى في الجنرال كاس قائدا موفقا في هجماته، فإن له هجمات حقا لا على أعداء البلاد ولكن على خزانة البلاد! لقد كان حاكما لمتشيجان من اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1813 إلى اليوم الحادي والثلاثين من يوليو سنة 1831، وهي مدة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ولقد استولى أثناء ذلك من خزانة الاتحاد على ثمانية وعشرين وتسعة وستين ألف دولار لخدماته الشخصية ونفقاته الشخصية، فيكون لليوم الواحد أربعة عشر دولارا وتسعة وسبعون سنتيا طيلة هذه المدة، ولقد وصل إلى هذا المبلغ من المال بادعائه أنه كان يؤدي عملا في عدة أماكن مختلفة ، يظهر في كل منها عدة مواهب مختلفة، كل ذلك في وقت واحد!
إني لم أشر إلى حساب الجنرال كاس إلا لأبين لكم مقدرته الجسيمة العجيبة؛ فإنه لا يؤدي عمل عدة رجال في وقت واحد فحسب، بل يؤديه في عدة أماكن بينها مئات من الأميال، ويفعل ذلك في نفس الوقت! ...
अज्ञात पृष्ठ