17
كان السيد سليم علوان جالسا كعادته إلى مكتبه بالوكالة حين جاءت أم حميدة لابتياع بعض اللوازم. وكان الرجل يستقبلها إذا جاءته بلطف؛ ولكنه لم يقنع هذه المرة بذلك، فدعاها إلى الجلوس على كرسي قريب منه، وكلف أحد العمال باستحضار ما تريد من ألوان العطارة. ونال هذا العطف من أم حميدة، فلهجت بشكره والدعاء له. والحق أن هذا العطف لم يكن ارتجالا، ولكن السيد كان قد نوى أمرا لا رجوع فيه؛ لأنه من العسير أن يعيش الإنسان موزع النفس، مضطرب الإرادة، لا يقر له قرار. وقد ساءه كثيرا أن يرى سماء حياته غائمة بالمشكلات المعلقة التي تستوجب الحلول، ثم لا يجد الإرادة التي تحلها. فهؤلاء الأبناء لا يخفى عليه قلقهم، وهذه الأموال المكدسة لا يدري متى يتاح له استغلالها، خصوصا وقد أرجف المرجفون باحتمال هبوط قيمتها النقدية بعد الحرب، ورتبة البكوية كلما ظن أنه حسم أمرها وانتهى منه عادت تلح عليه كأنها دمل كامن، وعلاقته بزوجه وهمه الناشئ من ذبول شبابها ونضوب حيويتها، وأخيرا - وليس آخرا - هذه العاطفة التي يعانيها ويلقى من اضطرامها ما يلقى من أشواق وآلام .. لبث بين هذه الهموم متحيرا، ثم رأى أن يفض أحدها بعزم ورغبة، ولكنه انساق في الاختيار مع هواه وهو لا يدري، فارتأى أن يسكن هذه العاطفة الغشوم، وتركز اهتمامه في ذلك، حتى لكأنه بالانتهاء منها إنما ينتهي من همومه جميعا. ولكنه لم يكن بالغافل عن العواقب، ولم يكن ليغيب عنه أنه بصدد مشكلة يعقب فضها المزعوم مشكلات جديدة لا تقل خطرا عن سابقاتها .. ولكنه الهوى .. لقد غلبه الهوى على أمره، وتسرب إلى أعماق نفسه، فتشبعت به جذور تفكيره وإرادته، وهانت عليه الصعاب التي كانت تعترض أحلامه، وقال لنفسه متبرما: «لقد انتهت زوجي كامرأة، ولست من الرجال الذين ينزلقون إلى الفسق في مثل هذه السن، ولا داعي مطلقا للرضا بالعذاب والغم. لقد يسر الله لنا، فلماذا نعسر على أنفسنا؟!» وهكذا انتهى إلى رأي لا عدول عنه، وأجمع على تحقيق رغبته، ولذلك دعا أم حميدة إلى الجلوس على كثب منه معتزما مفاتحتها بالأمر الخطير. ولبث السيد متخوفا من الكلام قليلا، لا لأن ترددا ساوره، ولكن لأنه لم يكن من اليسير أن ينزل عن مرتبته العالية دفعة واحدة ويخلط نفسه بامرأة كأم حميدة. وتصادف في تلك اللحظة أن دخل عامل حاملا صينية الفريك المشهورة، فرأتها أم حميدة وجرت على شفتيها شبه ابتسامة لم يفته ملاحظتها، وابتهل لهذه الفرصة ورأى أن يجعلها فاتحة حديثه، وتناسى تزمته ووقاره، وقال لها بلهجة تنم عن السخط: لكم تكدرني هذه الصينية!
وخافت أم حميدة أن يكون قد رأى ابتسامتها فقالت بعجلة: لماذا كفى الله الشر؟
فقال السيد باللهجة نفسها: لكم تحدث لي من متاعب!
فتساءلت المرأة وهي لا تدري ما يعنيه: لماذا يا سيدنا البك؟
فقال السيد سليم بهدوء متشجعا بأنه يحادث خاطبة: لا يرضى عنها الطرف الآخر.
فدهشت أم حميدة، وذكرت كيف تحلب ريق أهل الزقاق يوما على قطعة من هذه الصينية، وها هي ذي امرأة زاهدة لا ترضى عنها! وقالت المرأة لنفسها: «يعطي الحلق لمن ليس له أذنان.» ثم غمغمت مبتسمة، وبلا حياء: هذا شيء عجيب!
فهز السيد رأسه متأسفا. وكانت زوجه لا ترحب بالصينية من بادئ الأمر وهي بعد شابة في ريعان الشباب. كانت ذات فطرة سليمة تنفر من الشذوذ عن الطبيعة، ولكنها تحملت ما كانت تعده إرهاقا؛ إكراما لزوجها النهم، وإشفاقا من تكدير صفوه. ومع ذلك لم تتردد عن نصحه بالعدول عن أمر في المداومة عليه خطر، وأي خطر على صحته. ولما أن تقدم بها العمر قل صبرها، وتضاعف إحساسها بالأمر، وبدا تذمرها صريحا، حتى كانت تهجر بيت الزوجية إلى بيوت أبنائها، زيارة في الظاهر وهروبا في الحقيقة. وضاق بها السيد ذرعا، ورماها بالبرود والنضوب، وتكدر صفوهما، وتنغص عيشهما، دون أن يعدل عن هواه، أو يعطف على ضعفها الملموس. وقد اتخذ نشوزها - هكذا دعاه - حجة له في هواه وفيما يرتاد من حياة زوجية جديدة!
هز السيد رأسه متأسفا وقال بلغة لا يخفى مرماها عن مثل أم حميدة: لقد أنذرتها بالزواج من أخرى، وإني لفاعل بإذن الله.
وثار اهتمام المرأة، وتحركت غريزة العمل في باطنها، وحدجته بنظرة التاجر إلى زبون نادر الوجود، ولكنها قالت بشيء من الارتياب: لهذا الحد يا سي السيد؟!
Shafi da ba'a sani ba