Shugabannin Gyara a Zamanin Zamani
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
Nau'ikan
وكان ينشر ملحقا «للأستاذ» هو صفحات من كتاب ألفه وهو في المخبأ اسمه «كان ويكون» جمع فيه بعد، ولم يتم نشره، كان يريد من تدوينه عرض خلاصة أفكاره الدينية واللغوية والسياسية والأدبية والتاريخية والإنسانية، ملتزما فيه حرية الفكر، وعدم التعصب لدين أو جنس، ذاكرا فيه ما شاهده في مصر من أحداث، مبينا ما وراءها من علل.
ووضعه على نمط قصصي، إذ كان له صديق فرنسي أتى من باريس قبل الثورة العرابية، وتعلم العربية والتركية، وأقامه في مصر متتبعا حوادثها، وعرف عبد الله نديم في الإسكندرية سنة 1292 هجرية، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت له ضيعة قريبة من البلدة التي اختبأ فيها «النديم» فاتصل به في مخبئه، وكان الفرنسي يزوره ويخدمه في قضاء أغراضه؛ وكثيرا ما يدور الحديث بينهما في الدين والسياسة فبنى كتابه «كان ويكون» على هذا، ودون فيه ما كان يدور بينهما من حديث وجدل، وأكثر ما نشر كان في أصول الأديان، وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، يتخلل ذلك بعض أخبار عن أحواله في مخبئه، وبعض نظرات سياسية. ومما يؤسف له أن إقفال جريدة «الأستاذ» حال بينه وبين نشر القسم السياسي والتاريخ المصري من الكتاب، وما نشر منه يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الخير لمصر والشرقيين.
6
خرج «النديم» إلى يافا؛ حيث كان قبل العفو عنه، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريا يعيش بها، على شرط ألا يكتب شيئا في الجرائد يتصل بسياسة مصر.
وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشى به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العليا، ويلمز السلطان، فصدر الأمر بإبعاده أيضا.
فأخذ يذرع الأرض لا يعرف أن يستقر، فلا مصر تقبله، ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله، ونزل الإسكندرية أياما حتى تحل مشكلته.
وقد كان كثير من أحرار العثمانيين إذ ذاك قد سافروا إلى أوربا ومصر، وأنشأوا الجرائد يطالبون بالدستور وبإصلاح الدولة، وينقدون السلطان نقدا مرا. فكان من سياسة عبد الحميد في بعض الأوقات أن يسترضي هؤلاء الناقمين، ويحبب إليهم الإقامة في الآستانة تحت سمعه وبصره، ويجري عليهم الرزق الواسع، ويسند إليهم بعض المناصب، فيتقي آذاهم، ويستجلب رضاهم. فاحتشد في الآستانة من أرباب القلم واللسان عدد كبير، منهم السيد جمال الدين الأفغاني وغيره من أدباء الترك وشعرائهم وساستهم، فكان أن الغازي مختار باشا أشار على الدولة العليا أن تعامل عبد الله نديم هذه المعاملة فقبلت. وسافر إلى الآستانة، وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي بمرتب 45 جنيها مجيديا، مضافة إلى الخمسة والعشرين التي يتقاضاها من مصر - ينفق كل ذلك على نفسه وإخوانه، ومن يبره من أهله وأ قاربه، ومن أيام. المنصورة عرف بأنه صناع القلم واللسان، وأخرق اليد.
22
دخل الآستانة، فدخل القفص الذي دخل في مثله جمال الدين الأفغاني، وغاية الأمر أن قفص جمال الدين ضيق من ذهب، وقفص النديم واسع من حديد، يختلفان بمقدار الخطر من كل منهما ومكانته وحسبه ونسبه، فالسيد جمال الدين يخصص له بيت فخم، ويجعل تحت أمره عربة وخدم وحشم، ويجرى عليه 75 ليرة في الشهر، وتعرض عليه مشيخة الإسلام فيأبى، وعبد الله نديم يعين مفتشا للمطبوعات بخمسة وأربعين ليرة، ولا بيت ولا خدم - ولا غرو فالسيد جمال الدين سيد في طبعه وحسبه ونسبه، كان يعد نفسه قريبا للشاه والسلطان، لا يقل عنهما إلا بما شاء القدر من تحليتهما بالملك وعطله منه، وعبد الله نديم يرى أنه من الشعب وابن الشعب وخادمه، لا يمتاز إلا بما منحه الله من ذكاء ولسن. إذا دعا السيد جمال الدين إلى الإصلاح شعر بأنه يخطب الناس من أعلى مكان يشرف عليهم، وهو غضوب وقور، وإذا دعا «النديم» شعر بأنه واقف في وسطهم يضحك لهم ويضحك منهم ويصلحهم. ولهذا كان جمال الدين جليلا يسمع لقوله في رهبة وخشية، وينصح الناس وكأنه يضربهم بالسياط، كأن النديم محبوبا يقابل بالابتسام، ويقبل قوله في فرح، ولذلك كان أسف الناس في مصر على فراق النديم أكثر من أسفهم على فراق جمال الدين، لأن سؤدد
23
Shafi da ba'a sani ba