واحتل من بعد ذلك موضوع الحديث عفريت الزار - ذلك العفريت النظك تقدم له أبدع الهدايا من أرق السيدات - وشاركت هنا صاحبة حامد الأخريات في الكلام وهو ساكت كل المدة إلا أنه كن يبدي علامات الاستغراب ما بين حين وآخر.
وتقضى وقت طويل في حديثهن هذا، وأراد حامد أن يتركهن فسلم عليهن وخرج وهو مرتاح البال قانع بأن رأى عزيزة تضحك عن طيب نفس، وتحول نظرها نحوه أحيانا، فإذا ما تقابلت عيونهما خفض هو من نظره واعتقد أنها هي الأخرى يضطرب قلبها وتطوق ثغرها ابتسامة خفية تصحب تلك الرعشة التي تعرونا حين تتقابل نظرتنا مع من نحب أمام ثالث يخيل إلينا أنه عليم بما في نفوسنا دائم الرقابة علينا.
ولكنه لم يعطها الجواب الذي كتب .
أحس به في جيبه بعد خروجه فجلس من جديد يقدر الذي به. أيستطيع أن يعطيها إياه. لكنه حسب أن من العبث محاولة ذلك بنفسه. كيف يمكنه وهي دائما مع من هي معهن ويسلم عليها أمامهن جميعا؟ وإذا كان أكثرهن لا يقرأن فسيثير عمله في نفوسهن شبهات، ويعملن لتعرف ما في هذا المكتوب، ويتساءلن طويلا عما يحويه..
ولكن ليس من السهل كذلك أن يسلمه لأحد يعطيها إياه، إذ يقع بذلك في مثل هذا الذي خاف ويفتضح أمره. يعلم الناس أنه يحب. سبة شر سبة وعار كبير. ... حياة كلها ضيق وهم من أولها إلى آخرها إن لم تحطها بكثير من أحلام وخيالات لا وجود لها في الواقع كانت الحنظل الصديد. وخطوة إلى عالم الحوادث تخرجنا من سعادتنا وتقذف بنا في شقاء لا محيص منه.
مثلي أحرى به أن يعيش في عالم غير الذي يعيش فيه الناس. قضيت كل أيامي في أمان وآمال، وهأنذا أريد أن أحقق أحدها فيسقط في يدي. كم أحببت هاته الفتاة! وكم صاحبني ذكرها أياما طويلة وشهورا! وهأنذا لا أجدها ساعة معي وهي مني بمثابة أختي.
ويل للوجود من مرير كله البؤس والأسى! إذا كانت آمال الشباب ضائعة فهل نكسب من آمال المشيب غير الموت الذي يريحنا! غير ذلك الداء الأخير نرجع معه إلى العدم الذي خرجنا منه: عدم الأبدية الخالد.
ولم الجري وراء هاته الأكاذيب؟! لم ذلك الحزن من غير ما سبب؟ إذا كنا حرمنا التمتع بالحب وملذاته - بذلك الأمل الواسع الكبير - فإن لنا في غيره عزاء. إن لنا في العاملات السافرات يحببننا من كل قلوبهن لكلمة نمن بها عليهن أو قبلة نضعها على ورد خدودهن لنعم العوض عن القصيات عنا، المتحجبات حتى عن حبنا، المتمنعات أن يقلن لواهب قلبه: «إني أحبك».
حقا، أليس في بنت الطبيعة العذبة المفتولة الجسم القوية تنفذ بساذج نظراتها المستعطفة إلى سواد القلب ما ينسينا هاتيك المصونات في خدورهن؟ جهل بجهل، والأولى عركت الأيام وعركتها، ونضارة بدل ذلك الشحوب الذي يصيب ربات الخدور ، وكرم وحلاوة نفس، وإلى جانب ذلك كله العفة الموروثة عن الأجيال السالفة إلى ما قبل التاريخ.
وخيل لحامد في تلك الساعة أن يذهب من غير مهل إلى الغيط ينتظر المقيل ويضحك الفتيات كلهن حتى ينتقم لنفسه من كل المحجبات.
Shafi da ba'a sani ba