هل أخبرك ما عانيت في حبك؟ هل أذكر لك خفقان النفس واضطراب الفؤاد؟ هل أذكرك بالأيام القديمة حين كنا صغيرين إلى جانب بعضنا؟.. وهأنذا اليوم أحرم مما كنت أنال صغيرا؟
إنني في انتظار كلمتك وأنت عليمة بمرارة الانتظار. وأقدم لك يا عزيزة حبي وإخلاصي.
حامد
لم يبق لحامد بعد أن رأى صاحبته إلا أن يؤنب نفسه على نسيانه لها كل تلك المدة الأخيرة، ويفكر من جديد في أن ينفرد بها ويفتح لها قلبه. ولم يجد وسيلة إلا أن يكتب كلمة يلقي بها في يدها. فكتب السطور المتقدمة، ووضعها في جيبه منتظرا أن يراها ليعطيها إياها.
وفي الصباح بعد أن أخذ فطوره مع إخوته قام إلى حيث هي، ودخل بعد أن استجمع كل قواه، وصمم في نفسه أن يعمل كل ما يمكنه للوصول إلى تلك الغاية التي يريد من زمان - من عام أو أكثر - فينفرد بالفتاة ويحدثها ويقص لها حكاياته الطوال التي تملأ رأسه. ونسي أوائل الربيع حين ضمه لصدره الكون وجماله، وتلك الزهوة التي تلبس كل شيء ويزين بها كل شيء. نسي ذلك وراجعه عهده القديم وهواه، ولم يعد يستطيع الصبر على وحدته في حين يتقطع قلبه كل يوم وكل ساعة وكلما ذكرها. وكم سيجد فيها من العزاء عن الأيام وشقائها؟!..
فلما ابتدأ يسلم على الحاضرات بدرته أولاهن ساعة وضع يده في يدها قائلة: أهلا بفلاحنا..
وجلس فسألته أن يقص عليهن حديثه في الغيط وشغفه به. ألم يك من قبل ذلك المستوكر في الدار لا يعرف عن الزروع والمزارع شيئا! ثم صار يزورها كما يزورها غيره من إخوته. فما تلك الغية الجديدة من المقام بها واتخاذها سكنا؟..
أي جواب يجيب به حامد في تلك الساعة؟ أيقول لهن عن وحي النجوم ونجوى القمر؟ أيخبرهن بلذة الفضاء الهائل العظيم؟ أيحكي لهن ما يدور في النفس من آمال وأحلام حين تطلع العين مطمئنة إلى ظلمة ليل الصيف ويسري النسيم ينعش الصدور يحمل معه أصوات الوجود الساكت؟ أيبين عن اللذة الكبيرة التي ينالها الإنسان حين يرى نفسه حرا من غير قيد؟.. إنهن لا يعرفن من ذلك شيئا. وإن كن قد طعمنه في الصغر فقد أنساهن إياه الزمان!.. أيسكت وهو أمام صاحبته ويعتقد أنها تحبه وتنتظر أن تسمع كلماته؟.. أم ماذا؟.. فقص عليهن تلك الليلة حين قام من نومه ولم يجد أحدا حوله، وطفق يرمي ببصره إلى كل ما يقدر أن يرى فلا يجد مؤنسا سوى الحيوانات التي عنده، ثم كيف وجد العامل الذي معه نائما في الطوالة.. فدارت على الثغور ابتسامة سرور، ورأى عزيزة تضحك. ثم قالت السيدة التي طالبته من قبل بالقصص: مسكين يا حامد..
وابتدأن جميعا يخرجن من أعماق ذاكرتهن مثل هاته الحادثة مما حصل لهن أو بعض أصحابهن.. وجئن بعد ذلك على مسائل شتى اعتراهن الخوف فيها وانتقلن لحكايات العفاريت: - وعلى رأي المثل «اللي يخاف من العفريت يطلع له» - قال ديك السنة لما الحاجة مسعده نزلت في الليل لقت في صحن الدار خروف قرونه كبار وفضل يكبر يكبر - يعلى لما سد قدامها السكة.. ولما صبحنا الصبح أتبيه خروف أولاد حسنين. - وما فضلوا يقولوا لما الواحد يفوت قدام زربية أولاد أم السعد تطلع له العفاريت، وهم لا عادوا بيطلعوا ولا ينزلوا.
وهكذا جعلن يقصصن تواريخ شتى، وحين ظهر العفريت لعمي جاد حارس النخل في هيئة حمار حصاوي ملجم مبردع فركبه العجوز وغرز مسلة في كتفه ثم زار عليه الأسياد في مصر وطنطا والمنصورة. وانتقلن إلى أشكال أخرى من الجن كالنداهة تنادي الناس بأسمائهم فإذا ذهبوا إليها أخذتهم ونزلت بهم في بئر ساقية مهجورة أو نحوها إلا إذا قرأوا عليها «قل هو الله أحد».
Shafi da ba'a sani ba