لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
وأصل الفتاة أيضا، أصل الفتاة أيضا ما قد حصلت.
وهذا ينبغي أن يكون، ولكن الكائن اليوم غير ذلك، وإن عقيدة الناس الاجتماعية بمريم وأمثالها لمثل عقائدهم الدينية قديمة العهد، كثيرة العهود والقيود، والمتمردون عليها ينفعون المجتمع الإنساني وقلما يسعدون.
نورت نفس مريم في بلاد الجليل فاستمدت حياة من تربة رباها، وهواء حقولها، ومياه عيونها، وسماء بحيرتها، وجمال مروجها، وأريج أحراجها، فكانت وردة برية سماوية تليق أن يزين بها الناسك مذبح إلهه، ونفس مريم التي بدأت تنور في المدن في معترك الحياة ترويها مياه الاجتماع الآسنة ويغذيها هواء التمدن الفاسد جعلت تنمو كزهرة الأزاليا كبيرة، قوية، قانية، شديدة ساقها، متينة بتيلاتها، قليل - وا أسفاه - عبيرها، وقد أثرت فيها الخيبة أكثر من سواها، فغيرت الجفوة طباعها، وضاعف الفشل نمو الأزاليا في قلبها، فقد كانت مستهترة في حبها، مستهترة كوردة الحقل لا تروعها هبوب الرياح، ولا ظلمات الليالي، فأصبح قلبها كالأزاهر الجوية التي نصونها تارة من نور الشمس وتارة من الظل وطورا من الهواء، أدركت مريم هذه الحقيقة ولم تدرك بعد كيفية العمل بها، فتعرض أزاهر نفسها إلى الشمس وإلى الظل وإلى الهواء في الأوقات اللازمة النافعة، ولا مشاحة أن العمل جهلا أسهل من العمل علما، وقد يشفي هذا حينا ويسعد ذاك أحيانا، وأن تحب الفتاة وتستسلم خير لها من أن تحب وتتردد، وأن عذابها وهي تحب راغبة طائشة لأقل منه وهي تحب خائفة مرتابة محتقرة كارهة، والحق يقال أن قد دخلت مريم في هذا الطور المحزن من أطوار الحب، ولم ترفع فوق مدارجه السوداء غير واحد في العالم هو القس جبرائيل - ربي! وهل القس جبرائيل أبي؟ وهل يحب الأب ابنته أكثر من حب الراهب فتاة لقيطة؟ أيستطيع أن يزيد أبي على ما أسلفني القس جبرائيل من الصنع الجميل والمعروف والإحسان؟ بل لو كان أبي عالما بي وبسقوطي تلك السقطة المهلكة أكان ينقذني يا ترى من البلاء والعار؟ أيرعاني أبي ويكرمني ويحبني كما رعاني القس جبرائيل وأكرمني وخدمني وأحبني؟ لا أظن ذلك، لا، لا، بل كان يطردني من بيته لو علم بذنبي الذي هو ذنب غيري، ويلاه! ما أمر الحياة! الحق معك يا قس جبرائيل الحق معك.
وأخذت الذخيرة وطفقت تقبلها وتبكي. - أبي، أبي، أين أنت تحميني من الذئاب البشرية؟ آه يا قس جبرائيل حبذا أنت قريبا، لا، لا، مستحيل أن يكون أبي، فلو كان ما رمى بولدي في البحيرة، ولدي! وهل أنا أعلم بتصاريف الزمان وأسرار التقادير من حمام البحيرة وأسماكها؟ لا تكره شيئا لعله خير، أنا الآن أسعى لنفسي وأكاد أهلك جوعا، ولدي! لقد أغناه الله من شقاء الحياة، ووالدي؟ ما لي ووالدي فلا شك أنه أجرم على أمي كما أجرم علي، قد تكون أمي خدعت كما خدعت، وأذلت كما أذللت، وشقيت كما شقيت، أواه! أمي أين أنت الآن؟ أفي عالم الأحياء أنت أم في عالم الأموات؟ أمي ليتك قربي تأخذين بيدي الآن، ترشديني، تسليني، تدفئين نفسي، تجبرين قلبي الكسير، تشفين غليلي بقبلاتك وبكلماتك، تعلميني الكلمة التي فيها صيانة عرضي وصيانة اسمك.
قضت مريم تلك الليلة أسيرة الهموم والأحزان، فخلعت ثيابها وهي تحن شوقا إلى أمها، وأطفأت القنديل وهي تلعن من أهانها.
وفي تلك الليلة حلمت حلما رأت فيه أمها وسمعتها تقول: اخرجي من القاهرة، عودي إلى فلسطين، أقيمي في ظل القس جبرائيل. ولكنه حلم من الأحلام فلم تحفل به، ونهضت صباح اليوم التالي ترتدي ثيابها لتذهب إلى البنك الفرنساوي تطلب مقابلة جمال الدين باشا، فقد وطنت النفس على أن تقيم في القاهرة ولو خادمة في بادئ أمرها أو معلمة أو مربية، أقلعت مكرهة من جون الأمال تسلم إلى الحاجة شراعها، وهي تعلل النفس بالعود القريب، والفوز العجيب، وأما الآن وقد نفد مالها فلا بد من السعي في غير السبيل؛ سبيل المجد، وقد ينفعها الآن كتاب التوصية الذي بيدها، وبين هي خارجة من منزلها تقصد البنك الإفرنسي التقت في الباب بصاحب الكازينو الحاج محيي الدين فوقفت سامدة الرأس مدهوشة. - أريد مقابلتك يا ست مريم. - تفضل. - أعلى الرصيف؟ أفي الشارع تقابلين من يحمل إليك الأخبار السارة؟ - أومثلك يحمل إلى مثلي أخبارا سارة؟ - لا تؤاخذيني، فقد بدر مني البارح ما أسفت له. - عذرك مقبول، وماذا عندك غير الاعتذار؟ ماذا تريد؟ - أريد صالحك. - كثر الله خيرك، صالحي الآن بيدي، وهمت مريم بالذهاب. - كلمة واحدة لأبرهن لك في الأقل على حسن نيتي ورغبتي في قضاء حاجتك، وفي خدمتك.
فوقفت إذ ذاك مريم كأن خطر لها خاطر غير لهجتها وخطتها. - تفضل، تكلم.
فمال الحاج محيي الدين برأسه ينظر إليها متبرما ويشير باسطا ذراعيه إلى الباب. - لا حول ولا ... تفضل!
Shafi da ba'a sani ba