عليك سلام الله أيها الموطن العزيز السعيد، موطن صباي ومرتع شبيبتي، ليت شعري أيسمح الزمان بالعودة إلى شقيقي الوحيد أم يضن بهذه الأمنية؟ آه، ما كان أسعدني حين كنت طفلا صغيرا! ألا ليتني لم أكبر وليت الزمان لم يتحول:
يا رجاء نأي مكانا قصيا
وهناء ما عشت فيه مليا
لهف ذاك الرجاء قد كان نبتا
قد سقته مدافع العين ريا
هصرته يد القضاء وأذوت
ذلك الغصن حين كان طريا
أف لدهر لم يصف يوما إلا تكدر في الثاني، دهر شأنه الغدر بكل حر! وأنت يا حبيبة الروح، لا تنسي أياما قضيناها في هذه الربوع، واذكريني فإن ذكرك يخفف بلواي على بعد الديار وشط المزار، إن قلبي ليتفطر حينما أرى نفسي مبعدة عن ديار تمتعت بهوائها وربيت بخيرها وحظيت فيها بأويقات السرور، إلى ديار لا أعرف فيها إنسانا.
وما زلت غارقا في بحار هذه الأفكار حتى وصل القطار إلى محطة مصر، فوجدت صديقي مع بعض التلامذة في انتظاري، وبعد التسليم والتعزية شكرتهم على حسن تعطفاتهم، وركبنا عربة ولم أشأ أن أذهب إلى نزل كديفيال فإنه يجدد أحزاني، بل أمرت السائق بالذهاب إلى نزل آخر. ولما وصلنا جميعا واستوى بنا الجلوس في إحدى غرف النزل، سألني صديقي عن عزمي، فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره، فلما سمعوا قصتي أسفوا لفراقي، وقال أحدهم: «بودي لو أتمكن من مساعدتك بأية طريقة كانت، وكنت أحب أن تتمم معنا دراستك، ولا شك أن أساتذتك يتكدرون لفراقك لما كانوا يعهدونه فيك من الاجتهاد، ويأملونه منك لخدمة البلاد»، فأجبته: «إني أشكرك يا صديقي على مثل هذه العواطف الشريفة، وأشاركك في الأسف لفراق وطن ربيت فيه وتمتعت بهوائه وأظلتني سماؤه، وإن قلبي ليقابل الخطر المحدق بي بكل ثبات وعزيمة، عالما بأن ما كان سوف يكون، ولكنما يزيد أسفي فراق الذين أحبهم ويحبونني من الإخوان والأصدقاء، ولعدم تمكني من خدمة بلادي معكم في مثل هذا الوقت، وأنا معيد عليكم ما سمعته من البك ...، صديق والدي، فقد قال لي: «إن تقدم بلادكم مرتبط بكم، وأنتم زهرة مصر فانشروا رائحتها الزكية، يشمها الداني والقاصي، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها استخفافا بأنفسكم أو استصغارا لقدركم، ولا إخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما أعرفه وزيادة. وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تسألون عنه كما يسأل أكبر الكبراء وأثرى الأغنياء وأفقر الفقراء والقوي والضعيف؛ فكونوا في أمتكم بمثابة الخطباء المذكرين بمجد أجدادهم، حاثين على اتباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك تقوى عصبيتكم وتجدون من أهل بلادكم من ينشطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، «ولا تفرقوا فتذهب ريحكم»، ودونكم تاريخ الأندلس وكيف تفرقوا شذر مذر، كأن القوم ما كانوا حين انقسموا طوائف طوائف ودبت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدين وراء ظهورهم ففتك بهم الغير بما تشق له المرائر وتتفتت له الأكبدة، كما قال شاعرهم يمثل حالهم:
فطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
Shafi da ba'a sani ba