فلما خلت بنا الحجرة قبلت سكينة في جبهتها لأول مرة ولآخر مرة في حياتي، وودعتها الوداع الأخير ما بين زفرات تتصعد ودموع تتحدر، فكان المنظر يذيب القلوب ويفتت الأكباد، وكلما هممت بالخروج تمسكني وتتوسل إلي أن أتأخر ريثما تطفئ بعض أشواقها فخفت أن يفوتني القطار، فقلت لها: صبرا يا سكينة صبرا.
يود الفتى في العيش نيل مراده
ولكنها الأيام في حكمها تجري
فيا من هواها لا يغيره النوى
أعدي لبعدي ما استطعت من الصبر
فقالت ولآلئ الدموع تتناثر على خدها:
وهل صبر لبعدك يا حبيب
ولوعات الغرام لها لهيب؟!
ولم نزل على هذه الحال، أنا أهم بالخروج وهي تمنعني، حتى جاء الخادم قائلا: هلم بسرعة؛ فلم يبق على القطار إلا عشر دقائق.
فلما سمعت كلماته ودعتها الوداع الأخير، وخرجت كالسهم لا أعي ولا أسمع ما تقول، فوصلت إلى المحطة والدموع ملء عيني وأنا أتذكر أيام صباي في تلك البقعة وأني راحل عنها في مثل ما تزيد الحسرة ويولد الأكدار. وبالاختصار، ركبت القطار مع والد سكينة حتى محطة سيدي جابر، وفارقته عند سير القطار الذاهب إلى مصر بعد أن زودني بنصائحه المفيدة. ولما خلوت بالعربة وتذكرت أول مرة سافرت إلى المدرسة ومعي المرحوم والدي هملت الدموع من عيني، والتفت إلى الرمل والقطار ينهب الأرض نهبا، وخاطبت تلك البقعة الزاهية الزاهرة:
Shafi da ba'a sani ba