ولا ننكر هنا أن الرأي العام في ألمانية كان ساخطا على الصحافة الإفرنسية وتهجمها المستمر، ومع ذلك لو استطاع نابليون أن يضمن عطف إنجلترة لاضطرت الوزارة البروسية إلى البقاء على الحياد، ولكن وزارة دربي لم تشاطر الشعب البريطاني عطفه على إيطالية إلا قليلا، وكانت تهدد كل من يخل بالسلم، وكان مالسيوري وزير خارجية إنجلترة يجهل السياسة الإيطالية كل الجهل، ولا يكترث مطلقا للآمال القومية الإيطالية؛ لذلك أخذ يسعى لإصلاح البين بين فرنسة والنمسة وكانت سياسته ترمي إلى إزالة جميع الحجج التي تسوغ نشوب الحرب، وكانت الحجج المذكورة في نظره أربعة: (1) الاحتلال الأجنبي لدويلات الباب. (2) الاستبداد المخيم على البلاد. (3) توتر العلاقات بين بيمونته والنمسة. (4) معاهدات سنة 1847 التي عهدت للنمسة بقمع كل حركة في الدوقيات. فإذا ما استطاعت إنجلترة بتوسط ودي أن تتلافى هذه الأسباب أصبح اجتناب الحرب ممكنا، وقد وافق الإمبراطور على المنهج الإنجليزي بتحفظ، أما النمسة فظهر أنها مستعدة للتساهل وأرسلت إنجلترة اللورد «كوله ي» إلى فيينا بمهمة خاصة، ولكن الإمبراطور ظل على تردده المعهود، وأخذ هو وكافور ينكران المرة تلو المرة أي تصميم على مهاجمة النمسة.
ثم مال الإمبراطور إلى الاقتناع بتأجيل المخاصمات إلى أجل غير مسمى، وازداد تهديد ألمانية وأخذ وزراء نابليون الذين كانوا يجهلون معاهدة 18 كانون الثاني يبذلون جهدهم لمسك الإمبراطور، وفي 5 آذار ظهر مقال في جريدة المونيور يؤكد بأن الإمبراطور غير ملزم بمساعدة بيمونته ما لم تهاجم، ولما اطلع فيكتور عمانوئيل على المقال المذكور، أرسل إلى الإمبراطور كتابا يهدد فيه باعتزال عرشه إذا تخلى الإمبراطور عنه.
ولما رأى الإمبراطور أن الأمور سوف تنعقد في تورينو؛ أرسل إلى فيكتور عمانوئيل رسالة مطمئنة، ورأى أخيرا أن أحسن وسيلة للتخلف من تعهداته لبيمونته أن يحيل الأمر على مؤتمر دولي، وربما كان يتوقع أن يحمله ضغط الدول المنظمة على التخلص من تعهداته، وأما إذا كانت الحرب لا مناص منها فإنه يكون قد كسب الوقت لمقاتلة النمسة وهو على استعداد حسن، وبإيعاز منه طلبت روسية عقد المؤتمر في 18 آذار فوافق مالسيوري على ذلك وحذت بروسية حذوه، أما النمسة فوافقت بتحفظ زائد طالبة أن تسرح بيمونته قواتها والمتطوعين قبل انعقاد المؤتمر.
وحاولت إنجلترة الضغط على بيمونته لحملها على الموافقة وقالت إنها تتعهد بالاشتراك مع فرنسة الوقوف في وجه أي هجوم نمسوي عليها ولكن كافور رفض الموافقة على تسريح القوات، ووعد بألا يهاجم النمسة إذا كفت في المستقبل عن أي تجاوز، بيد أنه كان يشعر بخطورة ما قد يولده عدم الاعتراف بالمؤتمر من استقرار أوروبا كلها، ومع ذلك فإنه اقتنع بأن تفاهم الدول الخمس في المؤتمر المذكور سيؤدي إلى القضاء على آماله ولن تبقى لديه أية وسيلة يتخذها لحمل النمسة على إعلان الحرب، وعليه فإن بيمونته تصبح منعزلة وعاجزة.
ثم خيل إليه أن المؤتمر إنما هو إدارة اتخذها الإمبراطور للتعمية واكتساب الوقت؛ فرأى أن يشاطر الإمبراطور الخداع، ولكنه ظل يتردد بين الشك واليقين وينذر ويتوعد الإمبراطور بأنه سيضع البارود في النار إذا نكث الإمبراطور بوعده، وقد استدعى الإمبراطور كافور إليه وأخذ يسعى لتهدئته، وربما حاول بكل جهده أن يحمل كافور على الموافقة على تصريح الجنود.
والمعروف أن كافور هدد الإمبراطور بتنزل الملك عن عرشه وذهابه إلى أمريكا الجنوبية ونشر كتب الإمبراطور وتفاصيل محادثات بلومبير، وقد أحس الإمبراطور أنه أصبح في قبضة هذا الرجل، وأن في طوق كافور أن يثير سخط أوروبا عليه فبذل جهده لمراضاته، وذهب كافور إلى تورينو واثقا بأن الحرب واقعة لا محالة منها، وأن النمسة لم توافق بادئ بدء على عقد المؤتمر إلا مرغمة؛ إذ كانت ترتاب من النية التي دفعت إلى عقد المؤتمر وأنه لا يقصد منه سوى إعطاء الوقت اللازم لفرنسة حتى تتهيأ جيوشها.
وكانت الأمور جميعها في النمسة تتجه نحو إحباط سياسة السلم ووضع مقاليد الأمور بيد أنصار الحرب، ولا سيما بعد أن شجعت إنجلترة بواسطة مندوبها كوله ي النمسة بأن وعدتها بمساعدتها إذا تحرجت الأمور، أما في ألمانية فهناك أسباب وجيهة تنبئ بأن الهياج فيها سيضطر بروسية والدول الصغيرة إلى عقد اتفاق مع النمسة، وكان الإمبراطور فرنسو جوزيف والحزب العسكري في النمسة يرغبان أشد الرغبة في معاقبة بيمونته البغيضة ويظنان أنهما يستطيعان سحقها قبل وصول النجدات الإفرنسية إليه.
ومع أن رئيس الوزراء النمسوي وعد رسميا بأن لا يهاجم بيمونته إلا أنه أصبح في موقف لا يستطيع معه أن يفي بوعده، وظلت النمسة مصرة على المطالبة بتسريح الجنود في بيمونته ورفضت اشتراك مندوبي بيمونته في المؤتمر، فسنحت بذلك لكافور الفرصة؛ إذ رفض تسريح الجنود أو الاشتراك في المؤتمر ما لم يكن في وضع الند للند بالنسبة إلى الدول الأخرى، وأدرك مالسيوري أن هذا الرفض ضربة قاضية على المشروع، ثم قدم اقتراحا أصر عليه باعتباره آخر تدبير ممكن لتسوية الأمور، وهذا الاقتراح كانت فرنسة اقترحته قبلا وهو يقضي بتخفيض عدد الجيوش الثلاثة «الإفرنسي، والنمسوي، والبيمونتي» إلى الملاك السلمي، فتظاهرت فرنسة بقبول الاقتراح وطلبت من بيمونته رسميا الموافقة عليه، بيد أن كافور - وفقا لتحريض الإمبراطور الخفي - أخذ يماطل ويقدم طلبات يعلم بأنها لا تقبل بسهولة، وفي الموعد الذي طالب مالسيوري فيه بتسريح عام دعت النمسة جنود الاحتياط إلى النمسة رغم أنها وافقت على التسريح.
وفي 9 نيسان عزمت الحكومة النمسوية على إرسال إنذار إلى بيمونته تطلب إليها فيه تخفيض جيشها إلى ملاك السلم وتسريح المتطوعين وإلا فهي تعلن الحرب عليها، وخشي الإمبراطور لويس نابليون أن يسحق الجيش النمسوي قبل وصول قواته إلى إيطالية ومخافة أن تسبق النمسة الحوادث؛ فأرسل إلى تورينو برقية يطلب فيها إلى الحكومة تخفيض الجيش، واستلم كافور هذه البرقية ليلة 18 نيسان فأضاع رشده وقال إنه سوف ينتحر، ثم أجاب - والحزن يملأ قلبه - أن بيمونته سوف تخضع لمشيئة أوروبا ولكن ما أسرع ما انقلب حزنه إلى فرح؛ لأن النمسة قبل أن تعلم بموافقة بيمونته على تسريح جيشها أرسلت الإنذار.
ووصل حامل كتاب رئيس الوزراء النمسوية إلى تورينو يطلب فيه إلى بيمونته أن تسرح جيشها بعد ثلاثة أيام وينذرها بالزحف العاجل إذا هي رفضت، وهكذا في الوقت الحرج الذي كاد كافور فيه أن يخفق إخفاقا كليا؛ انفرجت أزمته وأصبح سيد الموقف بفضل خطأ خصمه المشئوم.
Shafi da ba'a sani ba