90

رد الفتى باستخفاف وهو يرمي الجرس لأعلى كأنه كرة ويمسك به ثانية: «أوه، لا أعتقد ذلك!» «أوه، بل عليك أن تشعر بالخجل من نفسك. لا أظن أنني سأرى ثانية أيا من هذه الفعال إلى أن أعود إلى الجبهة. سأعود إلى هنا في غضون أسبوع، وسأعاقب أي أحد يضايقها.» أوشك قطار كلود أن يدخل إلى المحطة؛ لذا جرى كي يأخذ أمتعته. وبمجرد أن جلس في القطار، بدأ يفكر في بلدته التي كان يعرف فيها كل مزرعة يمر بها؛ كان يعرف الأرض حتى لو لم يعرف صاحبها، ويعرف المحصول الذي أخرجته وكم يساوي ثمنه بالتقريب. لم يبتهج لما رأى تلك المزارع كما توقع؛ لأنه غضب غضبا شديدا بسبب المضايقات التي تعرضت لها السيدة فوكت. كانت لا تزال حماسة الجندي المبدئية تتملكه. كان يعتقد أنه سيسافر إلى الخارج مع قوة استكشافية من شأنها أن تحارب بدون ضغينة، بل بفتوة وشهامة لا هوادة فيهما.

كان العديد من أصدقائه في المعسكر يشاركونه أفكاره الخيالية هذه. لقد جمعهم المعسكر من المزارع والمتاجر والطواحين والمناجم؛ بعضهم أتى من الجامعات، والبعض الآخر من الحانات الرخيصة في المدن الكبيرة؛ كان منهم راعي الأغنام وسائق الترام ومساعد السباك ومدون نقاط مباريات البلياردو. رأى كلود المئات منهم لما دخلوا للمرة الأولى؛ رأى «مقدمي عروض» يرتدون بدلات رياضية رخيصة وصاخبة الألوان، وعمال مزارع كبيرة يرتدون صدريات تريكو، وميكانيكيون لا تزال آثار الشحم توجد على أصابعهم، وعمال مزارع مثل دان يرتدون معاطفهم المخصصة للمناسبات التي لا يملكون منها سوى قطعة واحدة. كان بعضهم يحمل حقائب ورقية مربوطة بحبل، في حين وضع البعض الآخر كل ما يملك في منديل أزرق. ولكن كلهم أتوا من أجل العطاء وليس من أجل الأخذ، وما كانوا يهبونه لم يكن سوى أنفسهم؛ أيديهم الكبيرة الحمراء، وظهورهم القوية، والنظرة الثاقبة والصادقة والمتواضعة في عيونهم. لما كان كلود يساعد مسئول الفحص الطبي في بعض الأحيان، لاحظ القلق البادي على وجوه الصفوف الطويلة من الرجال المنتظرين. بدا كأن لسان حال كل منهم يقول: «إن كنت أصلح فخذني. لن أتخلى عن الأمر.» وجدهم على النحو التالي عندما تعامل معهم؛ مفيدين ولطيفين ومتحمسين للتعلم. إذا تحدثوا عن الحرب أو عن العدو الذي كانوا يستعدون لمحاربته، فعادة ما يكون الحديث بحس الفكاهة؛ كانوا في طريقهم إلى «وضع القيصر في جوال»، أو جعل ولي العهد يعمل من أجل لقمة العيش. لما أحب كلود الرجال الذين كان يتدرب معهم، لم يجد ما هو أفضل من العيش بصحبتهم.

تأرجح قطار الشحن بسرعة فوق وادي النهر؛ مما يعني أنه وصل إلى بلدته؛ أي المكان الذي دائما ما يتطلع إليه العقل بعد رحلة طويلة. مرت المزارع بسرعة ؛ أكوام القش، حقول الذرة، الحظائر الحمراء المألوفة، ثم مخازن الفحم الطويلة وخزان المياه، وهنا توقف القطار.

على الرصيف، رأى رالف والسيد رويس ينتظرانه للترحيب به. كان بانتظاره بالسيارة بالخارج والده ووالدته، وكان السيد ويلر في مقعد السائق. كان هناك صف من السيارات منتظر في مكان الانتظار. إنه أول جندي يعود إلى البلدة، وأتى بعض أهل المدينة كي يروه بالزي العسكري. لوحت له سوزي دوسن من إحدى السيارات، ولوحت له جلاديس فارمر من سيارة أخرى. لما توقف وتحدث إليهم، أخذ رالف أمتعته.

صاح السيد ويلر: «هيا تعالوا يا ولدي»، وأطلق بوق سيارته، وانطلق بالجندي في السيارة مخلفا وراءه سحابة من الغبار.

ذهب السيد رويس إلى سيارة دوسن العجوز، وقال بطريقة طفولية بعض الشيء: «لا يمكن أن يكون كلود قد أصبح أطول، أليس كذلك؟ أظن أنهم يعلمونهم هناك أن يبدوا هكذا. دائما ما كان الفتى يبدو كرجل.»

قالت سوزي بحماسة شديدة: «أعتقد أن أمه فخورة به. إنه لحظ سيئ ألا تكون إنيد هنا كي تراه. ما كانت لتسافر مطلقا لو علمت أن كل هذا سيحدث.»

لم تقصد سوزي الإساءة، ولكن كلامها كان له تأثير. استدار السيد رويس بعيدا وأشعل سيجارا ببعض الصعوبة. زاد عدم اتزان يديه بشدة في السنة الأخيرة، على الرغم من إصراره على أن صحته العامة جيدة كما كانت في السابق. مع التقدم في العمر، كان يزداد اكتئابه بسبب اعتقاده أن نساءه لم يضفن الكثير من الدفء والراحة إلى عالمه. على المرأة أن توفر جو الدفء والراحة، مهما كان ما تفعله بخلاف ذلك. شعر بالأسف تجاه عائلة ويلر وتجاه أصدقائه القدامى. بدا كأن بنتيه ليس لديهما قلب.

11

استمرت عادات المعسكر. في صباح اليوم الأول بالمنزل، نزل كلود للطابق السفلي قبل حتى أن تستيقظ ماهيلي، وخرج كي يلقي نظرة على الماشية. اشتدت حرارة الشمس وهو نازل من التل باتجاه حظيرة الماشية، وكان في داخله مسرورا من وجوده في بلدته، على أرض والده. ما الذي كان يسره بشدة في أن يقول «تلنا » و«نهيرنا الموجود هنالك»؟ في أن يشعر بسحق الطين الجاف لهذه الأرض على وجه الخصوص تحت حذائه؟

Shafi da ba'a sani ba