1 - على ضفاف لافلي كريك
2 - إنيد
3 - شروق الشمس في البراري
4 - رحلة السفينة أنخيسيس
5 - «الرهان على استمرار تحليق نسور الغرب»
1 - على ضفاف لافلي كريك
2 - إنيد
3 - شروق الشمس في البراري
4 - رحلة السفينة أنخيسيس
5 - «الرهان على استمرار تحليق نسور الغرب»
واحد منا
واحد منا
تأليف
ويلا كاثر
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
الكتاب الأول
على ضفاف لافلي كريك
1
فتح كلود ويلر عينيه قبل أن ترتفع الشمس في كبد السماء، وهز شقيقه الأصغر بقوة؛ إذ كان يناصفه السرير الذي ينام عليه. «رالف، رالف، استيقظ! قم وساعدني في غسل السيارة.» «ولماذا تغسل السيارة؟» «عجبا، ألن نذهب إلى السيرك اليوم؟» «السيارة نظيفة. دعني وشأني.» أدار الفتى جسده وسحب اللحاف حتى غطى به وجهه كي يحجب الضوء الذي بدأ يتسرب من خلال النوافذ الخالية من الستائر.
نهض كلود وارتدى ملابسه، وهو عمل بسيط لم يستغرق كثيرا من الوقت. نزل سلما يتكون من مجموعتين من الدرجات، وتحسس طريقه في الظلام وشعره الأحمر واقف منتصب مثل عرف الديك. عبر من المطبخ إلى الحمام المتاخم له الذي به حوضان من البورسلين بصنبورين من المياه الجارية. من الواضح أن الجميع اغتسل قبل الخلود إلى النوم، وكان الحوضان بهما رواسب داكنة لم يذبها الماء العسر والقلوي. ولما أغلق الباب على هذه الفوضى عاد إلى المطبخ وأخذ حوضا من القصدير يخص ماهيلي، وغمس وجهه ورأسه في الماء البارد، وبدأ يسرح شعره المبلل.
أتت ماهيلي العجوز من الفناء ومئزرها مليء بقلوب أكواز الذرة لتشعل فرن المطبخ. رمته بابتسامة محب أبله؛ إذ كثيرا ما كانت ترميه بتلك الابتسامات عندما يكونان بمفردهما. «ما الذي أيقظك بهذا النشاط أيها الفتى؟ هل ستذهب إلى السيرك قبل الإفطار؟ لا تحدث ضوضاء، وإلا ستجدهم كلهم هنا قبل أن أشعل النار.» «حسنا يا ماهيلي.» ارتدى كلود قبعته واتجه للخارج راكضا، ونزل إلى جانب التل باتجاه الحظيرة. أطلت الشمس فوق حافة المرج كأنها وجه ترتسم عليه ابتسامة عريضة، تدفق الضوء على مراعي شهر أغسطس المحصودة وعلى ثنيات نهير لافلي كريك ذات التعرجات المتحدرة التي تحوطها الأشجار، وهذا النهير كان عبارة عن جدول صغير صاف ذي قعر رملي يتعرج ويستدير مبتهجا عند القسم الجنوبي من مزرعة ويلر الشاسعة. كان يوما رائعا للذهاب إلى السيرك في فرانكفورت، كان يوما رائعا للقيام بأي نشاط؛ ويوم كهذا لا مناص من أن يسير كما خطط له بنحو أو بآخر.
أخرج كلود السيارة الفورد الصغيرة من مكان انتظارها، وقادها إلى حوض شرب الخيول، وبدأ في إلقاء المياه فوق الطين الملتصق بالعجلات والزجاج الأمامي. بينما كان يعمل، رأى الأجيرين - دان وجيري - يأتيان بخطى متثاقلة من أعلى التل كي يطعما الماشية. جيري كان يتذمر ويقسم على شيء ما، ولكن كلود عصر الخرق المبللة الخاصة به ولم يهتم لأمرهما فيما عدا إيماءة. وبطريقة ما، دائما ما كان والده يتمكن من استئجار أكثر الرجال في الريف فظاظة وقذارة كي يعملوا عنده. كان كلود حينها غاضبا من جيري بسبب معاملته لأحد الخيول.
كانت مولي فرسة عجوزا وفية، وهي أم للعديد من المهور؛ تعلم كلود وشقيقه الأصغر ركوب الخيل عليها. وعندما أخذها ذاك الرجل جيري من أجل العمل في صباح أحد الأيام، تركها تخطو على لوح خشب به مسمار. انتزع المسمار من حافرها ولم يقل شيئا لأي أحد، وقادها إلى العمل في الحراثة طوال اليوم. إنها كانت الآن تقف في مكانها في الحظيرة منذ أسابيع وهي تتألم صابرة، وقد هزل جسدها حتى أصبحت جلدا على عظم، وتورمت ساقها حتى أصبحت تشبه ساق الفيل. قال الطبيب البيطري إن عليها ألا تخرج للعمل حتى يسقط حافرها ذاك وينمو مكانه حافر جديد، وبعدها ستكون لديها مشكلة دائمة في الحركة. لم يسرح جيري من العمل، وكان يتحدث عن الفرسة المسكينة كأنه أنقذها.
خرجت ماهيلي إلى قمة التل ودقت جرس الإفطار. وبعدما صعد الأجيران إلى المنزل، انسل كلود إلى الحظيرة كي يطمئن أن مولي حصلت على قسمتها من الشوفان. رآها تأكل في هدوء منكسة رأسها ورافعة قدمها قليلا عن الأرض؛ إذ كان جلدها جافا وكأنها ماتت دون بقية جسدها. عندما ربت على رقبتها وتحدث إليها، توقفت عن مضغ الطعام وحملقت فيه حزينة. لقد كانت تعرفه؛ ومن ثم جعدت أنفها وسحبت شفتها العليا كي تظهر أسنانها المتآكلة؛ كي تقول له إنها تحب أن يداعبها. تركته يلمس قدمها ويفحص ساقها.
عندما وصل كلود إلى المطبخ، كانت والدته تجلس عند أحد طرفي مائدة الإفطار وتسكب قهوة خفيفة، وكان شقيقه ودان وجيري يجلسون في مقاعدهم، وماهيلي تخبز فطير الصاج في الفرن. بعد لحظة، نزل السيد ويلر على السلم المسيج ومشى بطول المائدة حتى وصل إلى مكانه. كان الرجل يتصف بضخامة الجسم الشديدة؛ إذ كان أطول وأعرض من أي أحد من الجيران. ونادرا ما كان يرتدي معطفا في الصيف، وكان يخرج قميصه المجعد من فوق حزام سرواله من دون أن يأبه لذلك. وكان وجهه المشرب بالحمرة حليقا تماما، وكثيرا ما كان يظهر على فمه آثار تبغ، وكان وجهه يوحي بكل من الطيبة وروح الفكاهة الفظة، وكذلك بالرزانة الشديدة. لم ير أحد في المقاطعة البتة نات ويلر قلقا بشأن أي شيء، ولم يسمعه أحد البتة وهو يتحدث بنبرة جادة بالكلية. لقد كان يحافظ على لينه ودماثة أخلاقه المازحة حتى مع عائلته.
بمجرد أن جلس، مد يده إلى وعاء السكر الذي كان يسع ربع كيلو، وبدأ في إضافة السكر إلى القهوة. سأله رالف إن كان سيذهب إلى السيرك. غمز السيد ويلر بعينه. «ربما لو حدث أن كنت في المدينة قبل أن ينتهي عرض الفيلة.» تحدث بتأن شديد، بلهجة سكان ولاية مين، وكانت كلماته سلسة ومفهومة. «ولكن من الأفضل أيها الفتية أن تذهبوا في وقت مبكر. يمكنكم أخذ العربة والبغال، ونقل جلود البقر. فقد وافق الجزار على أخذها.»
وضع كلود سكينه جانبا. «ألن نأخذ السيارة؟ لقد غسلتها من أجل ذلك.» «وماذا عن دان وجيري؟ إنهما يريدان مشاهدة السيرك كما تريدان تماما، وأريد أن أبعث بالجلود؛ فأسعارها جيدة الآن. لا مانع لدي من غسلك للسيارة؛ يقولون إن الطين يحافظ على الدهان، ولكن لا بأس هذه المرة يا كلود.»
ضحك الأجيران ضحكة خفيفة وقهقه رالف. واشتعل وجه كلود المليء بالنمش غضبا. وتيبست قطعة الفطير، وأصبحت ثقيلة في فمه واستصعب ابتلاعها. كان يعلم والده كرهه لقيادة البغال إلى المدينة، ويعلم مدى كرهه للذهاب إلى أي مكان بصحبة دان وجيري. بالنسبة إلى الجلود، فقد كانت لأربعة عجول مخصية هلكت بسبب العاصفة الثلجية في الشتاء الماضي نتيجة لإهمال مستهتر من نفس هذين الأجيرين، وما كان الثمن الذي تجلبه يبلغ نصف مقابل الوقت الذي قضاه والده في سلخها ودباغتها. كانت تلك الجلود توجد في سقيفة علوية طوال الصيف، وذهبت العربة إلى المدينة عشرات المرات. ولكن لما أراد أن يذهب إلى فرانكفورت اليوم مهندما ومن دون مسئوليات، بات لزاما عليه أن يأخذ هذه الجلود ذات الرائحة الكريهة ورجلين بلسان بذيء، ويقود زوجا من البغال لا يكفان عن النهيق والوقوف فجأة والتصرف بحماقة وسط حشود الناس. على الأرجح، نظر والده من النافذة ورآه يغسل السيارة؛ ومن ثم قرر أن يوكل إليه هذه المهمة لما كان يرتدي ملابسه. هكذا كان مفهوم المزحة بالنسبة إلى والده.
نظرت السيدة ويلر إلى كلود متعاطفة، وشعرت أن خيبة الأمل تملكت منه. ربما ساورها الشك هي أيضا بأن هذه مزحة. إنها تعلم أن الفكاهة يمكن أن تأخذ أي شكل.
بينما كان كلود في طريقه إلى الحظيرة بعد الإفطار، ذهبت تهرول إلى الممر ونادته بصوت خافت؛ دائما ما تجعلها الهرولة تلهث. لما وصلت إليه، رفعت بصرها إليه بحرص، واضعة يدها على جبهتها بلطف كي تظلل على عينيها. وقالت بنبرة حزينة: «إذا أردت، فسأجهز معطفك الكتاني يا كلود، إذ يمكنني كيه ريثما تنتهي من ربط العربة.»
وقف كلود يركل كومة من الريش المنقط الذي كان يوما ما دجاجة صغيرة. رأت والدته أن كتفيه كانتا غير محنيتين، وكان يوحي شكله بأنه مفعم بالحيوية ولديه تحكم راسخ بالنفس. «لا عليك يا أمي.» تحدث بسرعة متمتما بالكلمات. «الأفضل أن أرتدي ملابسي القديمة ما دمت سآخذ الجلود. إنها مليئة بالدهون، وستصبح رائحتها أسوأ من رائحة السماد عندما تتعرض للشمس.» «أظن أن الرجلين سيهتمان بأمر الجلود. ألا تشعر بأنه من الأفضل أن ترتدي ملابس تليق بالمدينة؟» كانت لا تزال تنظر لأعلى نحوه. «لا تشغلي بالك. جهزي لي قميصا ملونا نظيفا إذا أردت. سيكون هذا مناسبا.»
استدار متجها إلى الحظيرة، وعادت والدته أدراجها عبر الممر إلى المنزل بخطى بطيئة. كانت جسورة ومحنية الظهر جدا، تلك الأم العزيزة! قال في باله إنها ما دامت تتحمل هؤلاء الرجال وتطهو وتغسل لهم، فلا ضير من أن يأخذهم إلى المدينة!
بعدما غادرت العربة بنصف الساعة، ارتدى نات ويلر معطفا من صوف الألبكة، وانطلق في عربته ذات الجرس التي كان يستخدمها للتجول في أنحاء البلدة على الرغم من أن لديه سيارتين. لم يقل شيئا لزوجته؛ فمن شأنها أن تخمن هل سيعود إلى المنزل على العشاء أم لا. كان أمامها هي وماهيلي وقت كاف للتنظيف والكنس طوال اليوم؛ إذ لا يوجد رجال حولهما يعطلون عملهما.
السنة كانت تتخللها بضعة أيام لا يذهب فيها ويلر بعربته إلى أي مكان، لا إلى مزادات البيع أو المؤتمرات السياسية أو اجتماع مديري شركة فارمرز تليفون، وحينها كان يتفقد الجيران ويرى مدى تقدمهم في عملهم، إن لم يكن لديه شيء آخر يقوم به. كان يفضل عربته على السيارة لأنها خفيفة، ويسهل التنقل بها على الطرق غير المستوية أو المزدحمة، ومتهالكة جدا لدرجة أنه لم يفكر قط في أن يقترح على زوجته أن ترافقه فيها. بالإضافة إلى ذلك، كان يستطيع أن يرى الأنحاء أفضل عندما لا يكون على ذهنه الانشغال بالطريق. أتى إلى هذا الجزء من نبراسكا عندما كان الهنود الحمر والجواميس لا يزالون يتجولون بحرية في المكان، وكان يتذكر عام غزو الجراد والإعصار الكبير، ورأى المزارع وهي تظهر واحدة تلو الأخرى بعد أن كان المكان مقفرا، وكانت الريح وحدها تسكنه. شجع مستوطنين جددا على أخذ مساكن لهم في المكان، وحثهم على الود فيما بينهم، وأقرض الشباب الأموال من أجل الزواج، ورأى العائلات وهي تكبر، حتى شعر بأن هذا كله مشروعه الخاص. كانت تثير اهتمامه التغييرات التي كان يراها، ولم تهمه التغييرات التي أحدثتها السنون فحسب، بل أيضا تلك التي كانت تحدثها الفصول.
كان الناس يتعرفون على نات ويلر وعربته وهي على بعد ميل. كان يجلس مرتاحا بجسده الضخم، ويتثاقل على أحد طرفي المقعد المائل، ويده التي تقود العربة موضوعة على ركبته. حتى جيرانه الألمان - آل يودر - الذين كانوا يكرهون التوقف عن العمل لمدة ربع ساعة لأي سبب من الأسباب، كانوا يسعدون برؤيته قادما. كان يفتقده التجار في البلدات الصغيرة المنتشرة في المقاطعة إذا لم يزرهم مرة على الأقل في الأسبوع أو نحو ذلك. لقد كان ناشطا في مجال السياسية، ورغم أنه لم يسبق له الترشح لمنصب ما، فإنه كان غالبا ما يناصر أي صديق له يفعل ذلك ويقود له حملته.
يتجسد المثل الفرنسي «فرحة الشارع حزن المنزل» في السيد ويلر، وإن لم يكن بالطريقة الفرنسية على الإطلاق. كانت شئونه الخاصة ذات أهمية ثانوية بالنسبة إليه. في بداية حياته، استوطن واشترى وأجر أراضي كثيرة بالقدر الكافي، وكان هذا سببا في ثرائه. والآن، كان عليه ألا يؤجر تلك الأراضي لغير المزارعين الجيدين الذين يحبون العمل، ولكنه لم يفعل ذلك، ولم يخف ذلك. ولما كان يمكث في المنزل، فعادة ما كان يمكث في غرفة المعيشة بالطابق العلوي ويقرأ الجرائد. كان لديه اشتراك في 12 جريدة أو نحو ذلك - تضمنت القائمة جريدة أسبوعية مخصصة للفضائح - وكان على اطلاع واسع بما يجري في العالم. لقد كان يتمتع بصحة جيدة، ويأخذ المرض الذي يصيبه أو يصيب غيره على سبيل المزاح. ومن المؤكد أنه لم يعان البتة من أي مرض صعب أكثر من ألم الأسنان أو الدمامل أو نوبة صفراوية عرضية.
كان ويلر يجود بما لديه للكنائس والجمعيات الخيرية، ولا يبرح يقرض الأموال أو الآلات لجار يفتقر إلى أي شيء. كان يحب أن يضايق الأشخاص الخجولين ويصدمهم، ولا تخلو جعبته من القصص المضحكة. كان يندهش الجميع من حسن العلاقة بينه وبين ابنه الأكبر بايليس ويلر. لم يكن بايليس خجولا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه كان غير متفتح؛ من نوع الشباب الحذر الذي لا يتوقع أن يحبه نات ويلر.
كان بايليس يمتلك متجرا خاصا بتجهيزات المزارع في فرانكفورت، وعلى الرغم من أنه لم يبلغ الثلاثين بعد، فقد أحرز نجاحا ماليا كبيرا. على الأرجح، كان يفخر ويلر بفطنة ولده في العمل. على أي حال، كان يذهب إلى المدينة عدة مرات في الأسبوع كي يرى بايليس، ويذهب إلى أسواق السلع والماشية معه، ويجلس في متجره ساعات متواصلة دون أن يفعل شيئا سوى المزاح مع المزارعين الذين يأتون إليه. كان يعاقر ويلر الخمر في النهار بشراهة، ويأكل كميات كبيرة. كان يتصف بايليس بالنحافة ويعاني عسر الهضم، كما أنه كان من أنصار تحريم الخمر المتزمتين؛ كان يود لو أنه ينظم لكل فرد نظامه الغذائي حسب قانونه الواهن. حتى السيدة ويلر - التي ترضى بما قسمه الله لها فيما يتعلق بنصيبها من الرجال - كانت تتعجب من انسجام العلاقة بينه وبين والده، وكيف يذهبان إلى المؤتمرات معا ويستمتعان بوقتهما، رغم أن كلا منهما كان لديه مفهوم مختلف عن الاستمتاع بالوقت.
مرة كل بضع سنوات، كان السيد ويلر يشتري بدلة جديدة ودزينة قمصان خشنة، ويذهب إلى ولاية مين لزيارة أشقائه وشقيقاته الذين كانوا أفرادا هادئين وتقليديين للغاية. ولكنه دائما ما كان يسعد بالعودة إلى المنزل، وإلى ملابسه القديمة، ومزرعته الكبيرة، وعربته وابنه بايليس.
جاءت السيدة ويلر من ولاية فيرمونت لتصبح مديرة مدرسة ثانوية لما كانت فرانكفورت بلدة حدودية، وكان نات ويلر عازبا ثريا. لا بد أنه أعجب بها للسبب نفسه الذي أحب ابنه بايليس من أجله؛ إذ كانت مختلفة عنه تمام الاختلاف. يقال عن نات ويلر إنه يحب كل أصناف البشر؛ يحب الطيبين والمخلصين، ويحب الأوغاد والمنافقين، ولكنه كان يحب الصنف الأخير أكثر. إذا سمع أن أحد الجيران دبر مكيدة مفجعة أو ارتكب فعلا لا ينكر أحد وضاعته، فإنه يحرص على أن يذهب إليه كي يراه على الفور كأنه لم يقدره قدره قبل ذلك.
كان يحظى والد كلود بوقار كبير بين ربوع البلاد. كان يحب أن يستفز الآخرين لإثارة ضحك شديد، ولكنه لم يضحك البتة على نحو صاخب. عندما يروي الناس القصص عنه، غالبا ما كانوا يحاولون تقليد صوته المهيب الناعم الذي كان قويا، ولكنه لم يعل قط. وحتى عندما يدخل إلى قلبه فرح كبير من أي شيء - مثل الوقت الذي تخلع فيه ماهيلي المسكينة ملابسها في ليلة من ليالي الصيف المظلمة، وتجلس على ورق لاصق لإبادة الحشرات - فإنه لا يحدث صخبا. إنه أب مرح وسهل الإرضاء حقا بالنسبة إلى فتى لم يكن مرهف الحس جدا.
2
وصل كلود وبغلاه إلى فرانكفورت في الوقت الذي بدأت فيه آلة الكاليوبي العزف في الشارع الرئيسي عند مدخل السيرك. وبمجرد أن تخلص من الحمولة البغيضة والرفيقين غير الملائمين، شق طريقه وسط الزحام على الرصيف، وأخذ يبحث عن بعض فتيان الجيران. كان السيد ويلر يقف على ناصية بنك المزارعين، وقد كان أطول من الجميع، وقد أخذ يمزح مع رجل أحدب نحيل كان يجهز لعبة من ألعاب الحظ. وكي يتحاشى كلود والده، انعطف ودخل إلى متجر أخيه. اكتظت نافذتا العرض الكبيرتان بأطفال البلدة، وكانت أمهاتهم يقفن خلفهم لمشاهدة العرض. كان بايليس يجلس في صومعته الزجاجية الصغيرة عاكفا على الكتابة وإمساك الحسابات. أومأ إلى كلود وهو جالس على مكتبه.
دخل كلود مهرولا وكأنه في عجلة شديدة من أمره، وقال: «مرحبا. هل رأيت إرنست هافل؟ ظننت أنني قد أجده هنا.»
استدار بايليس بكرسيه الدوار كي يعيد كتالوج المحاريث إلى الرف. «ما الذي سيأتي به إلى هنا؟ الأفضل أن تبحث عنه في الحانة.» لا أحد يستطيع أن يرمي تلميحات وضيعة ضمن ملاحظات غامضة ومملة أكثر من بايليس.
استشاط كلود غضبا. وبينما كان يستدير ليذهب، لاحظ شيئا غير عادي في وجه أخيه، ولكنه ما كان ليبلغه مراده بسؤاله عن سبب الكدمة الموجودة حول إحدى عينيه. إرنست هافل كان بوهيميا، وعادة ما كان يحتسي كأسا من الجعة عندما يأتي إلى المدينة، ولكنه كان يتسم بالرزانة وبعد التفكير أكثر من أقرانه الشباب. وانطلاقا من تعليق بايليس، قد يعتقد المرء أن الفتى كان يتسكع ويعاقر الخمر.
في تلك اللحظة، رأى كلود صديقه على الجانب الآخر من الشارع خلف عربة من الكلاب المدربة كانت تلحق بمؤخرة الموكب. ركض بين حشد من الفتية الذين كانوا يتحدثون بأصوات عالية، وأمسك إرنست من ذراعه. «مرحبا، إلى أين أنت ذاهب؟» «ذاهب لتناول غدائي قبل أن يبدأ العرض. تركت عربتي بجانب محطة الضخ عند النهير. ماذا عنك؟» «ليس عندي برنامج معين. هل لي أن أذهب معك؟»
ابتسم إرنست. «توقعت ذلك. لذا، لدي غداء يكفي فردين.» «نعم، أعرف. إنك دائما ما تفعل ذلك. سألحق بك بعد قليل.»
أحب كلود أن يأخذ إرنست إلى الفندق ليتناول العشاء معه. كان لديه مال كثير في جيوبه؛ فوالده مزارع ثري. في عائلة ويلر، كان لا يناقش أمر شراء آلة درس حبوب أو سيارة جديدة، ولكن يعتبر الذهاب إلى الفندق لتناول العشاء إسرافا. إن سمع والده أو بايليس أنه ذهب إلى هناك وعرف بايليس كل شيء، فسيقولان إنه يتصرف بغرور وسيعاقبانه. حاول أن يبرر جبنه بقوله إنه كان متسخا وإن رائحة الجلود طالته، ولكنه كان يعلم في أعماق قلبه أنه لم يطلب من إرنست الذهاب إلى الفندق معه لأن طريقة تربيته تصعب عليه القيام بهذا الأمر البسيط. اشترى بعض الأشياء من متجر الفاكهة وكشك السيجار، ثم أسرع على طول الطريق المترب باتجاه محطة الضخ. كانت عربة إرنست تقف في ظل بعض أشجار الصفصاف، على قاع رملي صغير محاط نصفه بجانب من النهير منحن مثل حدوة الحصان. رمى كلود نفسه على الرمال بجانب النهير، ونفض الغبار عن وجهه المتعرق. شعر الآن كأنه طوى صفحة ذلك الصباح البغيض.
أخرج إرنست سلة غدائه.
قال: «لقد وضعت زجاجتي جعة في النهير كي أبردهما. أعلم أنك لن ترغب في دخول أي حانة.» «أوه، انس الأمر!» تمتم كلود بتلك الكلمات وهو يرفع غطاء جرة من المخللات. لقد كان يبلغ عمره تسعة عشر عاما، ويخشى الذهاب إلى الحانات ، ويعلم صديقه أنه يخشى ذلك.
بعد الغداء، أخرج كلود بعض السيجار الجيد التي سبق أن أحضرها من كشك السيجار. وابتهج إرنست؛ إذ لم يكن بإمكانه شراء هذا النوع من السيجار. أشعل واحدة وظل وهو يدخنها ينظر إليها بشيء من العجب ويلفها بين أصابعه.
وقفت الخيول ورأسها أعلى صندوق العربة، وأخذت تمضغ الشوفان. تدفق ماء النهير تحت جذور شجر الصفصاف محدثا خريرا هادئا يبعث على التأمل. استلقى كلود وإرنست في الظل ووضعا معطفيهما تحت رأسيهما وتحدثا قليلا جدا. ومن حين لآخر، كانت تمر سيارة في الطريق باتجاه المدينة وتنفجر سحابة من الغبار، وتنتشر رائحة الوقود فوق قاع النهير، ولكن لم ينقطع - معظم الوقت - الصمت الذي كان يسود في وقت الظهيرة في هذا اليوم من أيام الصيف الدافئة والهادئة. عادة ما يكون بإمكان كلود نسيان أسباب انزعاجه وامتعاضه عندما يكون بصحبة إرنست. لم يكن الفتى البوهيمي مترددا على الإطلاق، ولم يتحير بين طريقين أو ثلاثة في الوقت نفسه. كان بسيطا ومباشرا. كان لديه عدد من الاهتمامات غير الشخصية؛ إذ كان مهتما بالسياسة والتاريخ والاختراعات الجديدة. شعر كلود أن صديقه يعيش في جو يوفر له حرية الفكر، لم يحلم هو قط أن يحظى بمثله. بعدما تحدث مع إرنست بعض الوقت، بدت الأشياء التي لم تسر على ما يرام في المزرعة أقل أهمية بالنسبة إليه. تكاد والدة كلود تحب إرنست مثلما يحبه ابنها. لما كان الفتيان في المدرسة الثانوية، غالبا ما كان إرنست يأتي في المساء كي يذاكر مع كلود؛ وفي أثناء المذاكرة على طاولة المطبخ الطويلة، كانت السيدة ويلر تحضر الأشياء التي ترفوها، وتجلس بجوارهما وتساعدهما في دراسة اللغة اللاتينية والجبر. حتى ماهيلي العجوز كانت تتعلم من عبارات الحكمة التي يدرسونها.
قالت السيدة ويلر إنها لن تنسى أبدا الليلة التي وصل فيها إرنست من بلده الأم. ذهب أخوه جو هافل إلى فرانكفورت كي يقابله، وحينها كان عليه أن يتوقف في طريق عودته إلى المنزل ويترك بعض أغراض البقالة لعائلة ويلر. تأخر القطار القادم من الشرق؛ أعلنت الساعة عن العاشرة مساء عندما كانت السيدة ويلر تنتظر في المطبخ في تلك الليلة، وسمعت صوت عربة هافل وهي تحدث صوتا على الجسر الصغير الذي يمر من فوق نهير لافلي كريك. فتحت الباب الخارجي ودخل جو من فوره وفي يده سلة تحوي بعض الأسماك المملحة وجوالا من الدقيق على كتفه. وبينما كان ينزل السمك إلى القبو، ظهر شخص آخر في المدخل؛ فتى صغير قصير ومحني الظهر ويرتدي قبعة مسطحة على رأسه، ويحمل على ظهره حقيبة كبيرة من القماش الزيتي مثل التي يحملها الباعة الجائلون. غط في النوم في العربة، ولما استيقظ ووجد أن أخاه قد ذهب، ظن أنهما في المنزل واندفع يبحث عن حقيبته. وقف في المدخل يرمش بعينيه لما رأى النور، وبدا مندهشا، ولكنه كان مستعدا لإنجاز ما هو مطلوب منه أيا كان. نظرت السيدة ويلر إليه واعتبرته أحد أولادها. ثم ذهبت إليه وحاوطته بذراعها، وابتسمت وقالت بصوتها الهادئ وكأن بإمكانه أن يفهمها: «عجبا، لا تزال فتى صغيرا على أي حال، أليس كذلك؟»
قال إرنست بعدئذ إن هذه كانت هي المرة الأولى التي يرحب فيها به في هذا البلد، على الرغم من ترحاله مسافة بعيدة، وقد دفع وصيح في وجهه أياما لا يعلم عدتها. في تلك الليلة، تصافح مع كلود ونظر بعضهما إلى بعض بارتياب، ولكنهما أصبحا صديقين حميمين منذ ذلك الوقت.
بعد النزهة، ذهب الفتيان إلى السيرك والسعادة تغمرهما. في خيمة الحيوانات، قابلا ليونارد دوسن الضخم - الابن الأكبر لأحد جيران عائلة ويلر المقربين - وجلس ثلاثتهم من أجل مشاهدة العرض. قال ليونارد إنه أتى إلى المدينة بمفرده في سيارته، وسأل كلود إن كان يريد الركوب معه. ابتهج كلود كثيرا لترك مسألة قيادة البغلين إلى رالف؛ حيث إن اصطحاب الأجيرين ليس مشكلة بالنسبة إليه مثل كلود.
كان ليونارد يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما وهو فتى يتصف بضخامة الجسم وميول البشرة إلى اللون البني، وكانت له يدان كبيرتان، وقدمان كبيرتان، وأسنان بيضاء، وعينان لامعتان مليئتان بالحيوية. كان لا يعمل هو ووالده وأخواه في مزرعتهما الكبيرة فحسب، بل كانوا يستأجرون قطعة أرض مساحتها 160 فدانا من نات ويلر. لقد كانوا مزارعين بارعين. وإذا مر صيف جاف من دون محصول جيد، فما يكون من ليونارد إلا أن يضحك ويبسط ذراعيه الطويلتين ويبذل جهدا كبيرا حتى يحصل على محصول أكبر في السنة التالية. ودائما ما كان كلود متحفظا قليلا تجاه ليونارد؛ إذ يشعر بأن الشاب كان يكره الطريقة العشوائية التي تسير بها الأمور في مزرعة ويلر، ويظن أن الالتحاق بالجامعة مضيعة للوقت. لم يلتحق ليونارد حتى بالمدرسة الثانوية في فرانكفورت، ولكنه حقق بالفعل نجاحا أكثر من النجاح الذي يمكن أن يحققه كلود يوما ما. يعتقد ليونارد أن تلك الأشياء متساوية في نظره، ولكنه كان يحب كلود.
عند غروب الشمس، كانت السيارة تسرع فوق طريق عريض ومعبد يمتد عبر الأرض المستوية التي تقع بين فرانكفورت والأرض الوعرة الأكثر التي تمتد بطول نهير لافلي كريك. أظهر ليونارد إعجابا شديدا بأداء محرك سيارته الذي لا يتعطل. وفي ذلك الوقت، ضحك في نفسه والتفت إلى كلود. «هل تنزعج لو قلت مزحة عن بايليس؟» «أظن أنني سأنزعج.» لم تنم نبرة كلود عن أي حماسة لديه. «هل رأيت بايليس اليوم؟ هل لاحظت فيه شيئا غريبا، مثل كدمة صغيرة حول إحدى عينيه؟ هل أخبرك بالسبب؟» «كلا. لم أسأله.» «حسن إذن. ولكن سأله كثيرون وقال إنه كان يبحث عن شيء في متجره في الظلام، واصطدم بآلة حصاد. حسنا، أنا آلة الحصاد!»
نظر كلود باهتمام. «هل تريد القول إن بايليس دخل في شجار؟»
ضحك ليونارد. «يا إلهي، كلا! ألا تعرف بايليس؟ ذهبت إلى هناك البارحة كي أدفع فاتورة، ثم أتت سوزي جراي وفتاة أخرى كي تبيعا التذاكر من أجل عشاء رجال الإطفاء. كان مروج للسيرك يتسكع في المكان، وبدأ يتحدث بنبرة جريئة بعض الشيء، لم يتفوه بحديث فظ، بل تحدث بالطريقة المعتادة لدى هؤلاء الأشخاص. ردت عليه الفتاتان بالطريقة نفسها، وباعتا له ثلاث تذاكر وقطعا الحديث معه. لم أفهم كيف فكرت سوزي بسرعة فيما قالته. وفي اللحظة التي خرجت فيها الفتاتان، بدأ بايليس في انتقادهما؛ وقال إن كل فتيات الريف يصبحن وقحات جدا في التعامل مع الآخرين، ويعرفن أكثر مما ينبغي فيما يتعلق بالتعامل مع الرجال العابثين، وفي هذه اللحظة ذهبت إليه ولكمته. وصلت اللكمة بقوة أكبر مما قصدت. قصدت أن أصفعه، لا أن أضربه بقوة على عينه. ولكن لا تسير الأمور كما خطط لها دائما، وعندها أصبحت متحفزا بشدة. انتظرت أن يرد لي الضربة. أنا أضخم منه، ورغبت أن أرضيه. ولكنه ظل في مكانه ولم يتحرك. وقف هناك ولم يتوقف وجهه عن الاحمرار، ودمعت عيناه. لا أقول إنه بكى، ولكن دمعت عيناه. قلت: «حسنا يا بايليس. احفظ يديك عن الرد إذا كان هذا مبدأك، ولكن احفظ لسانك أيضا، خاصة إذا كانت الأطراف المعنية غير موجودة.»»
لم يعلق كلود إلا بقوله: «لن يتجاوز بايليس هذا الأمر مطلقا.»
حرك ليونارد رأسه إلى أعلى. «ليس عليه أن يفعل ذلك! أنا عميل جيد، يمكن أن يتقبل الأمر أو لا، ولكني لن أتزعزع عن موقفي!»
في البضع الدقائق التالية، كان الشاب منشغلا بمحاولة صعود تل وعر بسرعة عالية. كان يستطيع فعل هذا في بعض الأحيان، ولا يستطيع ذلك أحيانا أخرى، ولكنه لم يستطع تبين السبب. بعد أن حرك ناقل الحركة إلى النقلة الثانية ببعض الاشمئزاز، وترك السيارة تسير ببطء كما تشاء، لاحظ الارتباك على رفيقه.
تحدث كلود بصوت متوتر: «أتعرف، يا ليونارد، أعتقد أن العدل يقتضي أن ننزل هنا من السيارة وتمنحني فرصة كي ألكمك؟»
لف ليونارد عجلة القيادة بحدة كي يتفادى عربة على الجانب السفلي من التل. «ما هذا الهراء الذي تتفوه به يا فتى؟» «تظن أنك تستطيع هزيمتنا دون شك، ولكن عليك أن تعطيني فرصة أولا.»
نظر ليونارد مندهشا إلى يديه الكبيرتين ذاتي اللون البني المستقرتين على عجلة القيادة. «أيها الأحمق الهالك، لماذا كنت سأخبرك بكل هذا لو لم أعلم تمام العلم أنك جبان آخر؟ لم أظن قط أنك على وفاق تام مع بايليس.» «لست على وفاق معه، ولكن لا تظن أنه يمكنك أن تصفع أي أحد من عائلتي وقتما تشاء.» علم كلود أن تفسيره بدا أحمق، وكان صوته ضعيفا وغاضبا، على الرغم من الجهود التي بذلها كي يخفي ذلك.
علم الشاب ليونارد دوسن أنه جرح مشاعر الفتى. «يا إلهي، أعلم أنك مقاتل يا كلود. بايليس لم يكن كذلك قط. كنت في المدرسة نفسها معه.»
انتهت الرحلة بسلام، ولكن كلود ما كان سيترك ليونارد يوصله إلى المنزل. لذا، نزل من السيارة بسرعة شديدة ورمى عليه تحية المساء بنبرة فظة، وركض عبر الحقول المظلمة باتجاه الضوء الساطع من المنزل أعلى التل. وعلى الجسر الصغير على النهير، توقف كي يلتقط أنفاسه ويحرص على أن يظهر بمظهر هادئ قبل أن يدخل المنزل ويرى أمه.
تمتم بصوت عال وأغلق قبضته: «اصطدم بآلة حصاد في الظلام!»
لما استمع إلى نقيق الضفادع العميق، وإلى نباح الكلاب البعيدة في المنزل، بدا هادئا أكثر. مع ذلك، تساءل في نفسه ما الذي يجعل المرء مسئولا في بعض الأحيان عن سلوك أشخاص لهم طبيعة مخالفة لطبيعته كليا.
3
أقيم عرض السيرك يوم السبت. وفي الصباح التالي، كان كلود يقف عند التسريحة وأخذ يحلق. طال شعر ذقنه، وكان أغمق من شعر رأسه قليلا، ولكنه ليس بنفس حمرة بشرته. حاجباه ورموشه الطويلة كان لها لون أصفر فاتح؛ مما جعل عينيه الزرقاوين تبدوان أفتح مما هي عليه في الحقيقة، وبحسب ظنه كان الجزء العلوي من وجهه يوحي بأنه خجول وضعيف. كان مظهره ليس بالمظهر الذي يريده على الإطلاق. كان يكره رأسه على وجه الخصوص؛ إذ كان له رأس كبير على نحو جعله يواجه صعوبة في شراء القبعات، وكان رأسه يتخذ شكلا مربعا واضحا؛ وهو ما جعله يبدو كشخص أبله على نحو مثالي. كان يحمل اسمه مصدرا آخر للشعور بالخزي. كلود اسم يعني «الأبله» مثل إلمر وروي، وهو اسم يعني الريفي الذي يحاول أن يرتقي. في مدارس الريف، كان هناك دائما صبي أحمر الشعر ذو يدين مغطاتين بالبثور وأنف لا ينفك عن السيلان يسمى كلود. منحه الله جسما قويا؛ ذراعاه وساقاه متناسقتان ويكتنزان بالعضلات، وكتفاه قويتان، وهي الصفات الجسمانية التي تليق بفتى مزارع. مع الأسف، لم يتصف بالرزانة التي كان يتمتع بها والده، وغالبا ما تبرز قوته من تلقاء نفسها على نحو غير ملائم. في بعض الأحيان، تتسبب العواصف التي تدوي في رأسه في نهوضه أو جلوسه أو رفع شيء بقوة أكبر مما تستدعيه الأسباب التي دفعته إلى القيام بذلك.
نام أهل البيت حتى وقت متأخر في صباح يوم السبت، حتى ماهيلي لم تستيقظ حتى الساعة السابعة. الإشارة العامة إلى موعد الإفطار كانت رائحة قلي كعك الدونت. في هذا الصباح، نزل رالف عن سريره في اللحظة الأخيرة، وارتدى ملابس داخلية نظيفة على عجل من دون استحمام. لم يأبه لذلك على الإطلاق، على الرغم من أنه استغرق بعض الوقت في تلميع حذائه الجديد الملون بلون دم الثور بلطف باستخدام منديل جيب. وصل إلى المائدة بعدما أكل الآخرون نصف وجبتهم، وعبر عن اعتذاره بسؤال والدته بنبرة لطيفة إن كانت لا تريده أن يوصلها بالسيارة إلى الكنيسة.
نظرت إلى الساعة متشككة وقالت: «أود الذهاب معك إن كان لي أن أنجز أعمال المنزل في وقتها.» «ألا تستطيع ماهيلي إنجازها بدلا منك هذا الصباح؟»
ترددت السيدة ويلر. «يمكنها إنجاز الأعمال كافة ما عدا استخدام فرازة اللبن. ولكنها لا تستطيع تجميع كل الأجزاء بعضها مع بعض. إنه قدر كبير من العمل، كما تعلم.»
بينما كان يفرغ رالف محتويات إبريق الشراب السكري على كعكاته، قال بخفة دم: «والآن يا أمي، أنت متعصبة لرأيك. لا أحد يفكر في خض اللبن هذه الأيام. المزارعون المسايرون للزمن يستخدمون الفرازة.»
رمشت عينا السيدة ويلر الشاحبتان. وقالت: «لن أكون أنا وماهيلي قط مسايرتين للزمن يا رالف. إننا لا نعلم غير الطرق القديمة، ولا أريد سوى أن تدعنا كذلك. أستطيع تبين ميزات الفرازة إذا كنا نحلب ست بقرات. إنها ماكينة عبقرية للغاية. ولكن تنظيفها بالماء الساخن وتركيبها يحتاج إلى جهد أكبر بكثير مما يتطلبه التعامل مع اللبن بالطريقة القديمة.»
طمأنها رالف: «لن يكون الأمر كذلك عندما تعتادين عليها.» رالف هو كبير الميكانيكيين في مزرعة ويلر، وعندما لا يجد ما يفعله مع أدوات المزرعة والسيارات، كان يذهب إلى المدينة ويشتري آلات من أجل المنزل. وبمجرد أن تعتاد ماهيلي على استخدام غسالة أو ممخضة ما، كان يحضر رالف إلى المنزل واحدة أخرى أحدث كي يواكب مسيرة الاختراعات المتسارعة. لم تتمكن قط من استخدام غسالة الأطباق الميكانيكية، والمكاوي المسطحة والأفران التي تعمل بالزيت ذات العلامات التجارية كانت تدفعها للجنون.
طلب كلود من والدته أن تصعد إلى الطابق العلوي وترتدي ملابسها؛ كان سينظف الفرازة ريثما يجهز رالف السيارة. كان لا يزال يعمل على ذلك عندما أتى أخاه من المرآب كي يغسل يديه.
صاح غاضبا: «يجب ألا تثقل كاهل والدتك بأعمال مثل تلك يا رالف. هل جربت من قبل أن تغسل هذه الآلة اللعينة بنفسك؟» «بالطبع فعلت ذلك من قبل. إذا كان بإمكان السيدة دوسن فعل ذلك، فأعتقد أن أمي تستطيع.» «السيدة دوسن أصغر في السن. على أي حال، لا جدوى من تدريب ماهيلي وأمنا على استخدام الآلات.»
رفع رالف حاجبيه ردا على فظاظة كلود. وقال محاولا الإقناع: «اسمعني، لا تشجعها أنت على الاعتقاد بعدم إمكانية تغييرها لطرقها. بإمكان والدتنا التعامل مع كل ما نحضره من أجهزة موفرة للجهد والوقت.»
ضرب كلود الأقماع المعدنية المتدرجة التي يزيد عددها عن الثلاثين، التي كان يحاول تركيبها بتسلسلها الصحيح. «لا بأس، إن كان هذا سيوفر الجهد والوقت حقا.»
قهقه الفتى الأصغر وركض إلى الطابق العلوي كي يجلب قبعة بنما الخاصة به. لم يتشاجر مع أخيه البتة. في بعض الأحيان، كانت تتعجب السيدة ويلر من تحمل رالف لكلود.
بعدما انطلق رالف ووالدته بالسيارة، ذهب السيد ويلر كي يرى جاره الألماني جاس يودر الذي اشترى لتوه ثورا غير مهجن. كان دان وجيري يلعبان لعبة رمي حدوات الخيول على أحد الأوتاد خلف الحظيرة. كلود أخبر ماهيلي أنه ذاهب إلى القبو لوضع الرف المعلق الذي كانت تريده؛ حتى لا تستطيع الفئران الوصول إلى خضراواتها. «شكرا لك سيد كلود. لا أعلم ما الذي يجعل الفئران بهذا السوء. إن القطط تمسك تقريبا بواحد كل يوم.» «أظن أنها تأتي من الحظيرة. لدي لوح عريض ومتين في المرآب ينفع لعمل الرف.» القبو كان مغطى بالأسمنت ورطبا وجافا، ويحتوي على خزانات عميقة لتخزين الفاكهة المعلبة والدقيق وأغراض البقالة، وصناديق للفحم وأكواز الذرة، وغرفة مظلمة مليئة بمعدات التصوير الفوتوغرافي. أخذ كلود مكانه على منضدة النجارة تحت إحدى النوافذ المربعة. أشياء غامضة كانت منثورة من حوله في الشفق الرمادي؛ بطاريات كهربائية، دراجات قديمة وآلات كاتبة، ماكينة لصناعة أعمدة السياج الخرسانية، فرن لتصليد المطاط، ستريوبتكون بعدسة مكسورة. كانت تخزن في هذا المكان الألعاب الميكانيكية التي لا ينجح رالف في تشغيلها، وكذلك تلك التي سئم منها. إذا تركت هذه الألعاب في الحظيرة، كان يراها السيد ويلر كثيرا، وفي بعض الأحيان كان يبدي عليها تعليقات ساخرة إن اعترضت طريقه. توسل كلود إلى والدته كي تسمح له أن يجمع هذه الأشياء المبعثرة في عربة ويدفنها في حفرة عميقة على امتداد النهير، ولكن السيدة ويلر نهرته وقالت له إنه يجب ألا يفكر في ذلك؛ لأنه بهذا كان سيؤذي مشاعر رالف. وتقريبا في كل مرة كان يذهب فيها كلود إلى القبو، كان يأخذ قرارا منفعلا بأن يخلي المكان في يوم ما، ويقول في نفسه بمرارة بأن الأموال التي تنفق على هذا الحطام كان يمكن أن تكفي مصاريف الجامعة لأي فتى.
لما كان كلود يسوي بالفأرة اللوح الذي أراد أن يدليه من الروافد، تركت ماهيلي عملها ونزلت كي تشاهده. تظاهرت قليلا بأنها أتت لتأخذ بعض البصل المخلل، ثم جلست على صندوق بسكويت، وعلى مقربة منها كانت توجد «أرجوحة بزنبرك» منجدة بنسيج قطيفة ومكسورة منها إحدى ذراعيها، ولكنها لم تظن أنه من الأدب أن تجلس عليها. كان في عينيها شيء من الرضا الناعس بينما كانت تتبع حركات كلود. راقبته كأنه طفل صغير يلعب. استقرت يداها على نحو مريح على حجرها. «لم يزرنا السيد إرنست منذ مدة طويلة. لا أظنه متضايقا من شيء، أليس كذلك؟» «أوه، كلا! إنه مشغول للغاية هذا الصيف. رأيته في المدينة أمس. ذهبنا إلى السيرك معا.»
ابتسمت ماهيلي وأومأت. «جميل. يسعدني أن تحظيا بوقت طيب معا. السيد إرنست فتى طيب، طالما أحببته بشدة. إنه فتى صغير مع ذلك. إنه ليس كبيرا مثلك، أليس كذلك؟ أظن أنه لا يبلغ حتى السيد رالف في طول القامة.»
قال كلود بين ضربات تثبيت الرف: «هذا صحيح. ولكنه قوي وينجز قدرا كبيرا من العمل.» «أوه، أعلم! أعلم أنه كذلك. أعلم أنه يعمل بجد. كل الأجانب يعملون بجد، أليس كذلك يا سيد كلود؟ أعتقد أنه أحب السيرك. ربما ليس لديهم سيرك مثل الذي عندنا، في المكان الذي أتى منه.»
بدأ كلود يخبرها عن الفيل الذي يقوم بحركات كوميدية والكلاب المدربة، وجلست تستمع إليه وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة سعيدة بلهاء، وكان يوجد أيضا وراء ابتسامتها شيء ينم عن حكمة وبعد نظر.
أتت ماهيلي للعمل لديهم منذ وقت طويل، وحينها لم يكن يتجاوز عمر كلود أكثر من بضعة أشهر. أتت إلى الغرب مع عائلة من فيرجينيا لا تحسن التدبير؛ ومن ثم تشتت وتفرق أفرادها تحت وطأة حياة المزارع الجديدة. وعندما ماتت الأم في تلك العائلة، لم تجد ماهيلي أي مكان تذهب إليه؛ ومن ثم استأجرتها السيدة ويلر. لم يكن لدى ماهيلي أحد يعتني بها، ولم يكن لدى السيدة ويلر أحد يساعدها في العمل؛ ولذا لقي العون بعضهما في بعض.
عاشت ماهيلي أياما صعبة في شبابها؛ إذ تزوجت من إنسان همجي يعيش في منطقة جبلية، أساء معاملتها في أغلب الأحيان، ولم ينفق عليها على الإطلاق. كان بإمكانها أن تتذكر أوقاتا كانت فيها تجلس في الكوخ وبجانبها برميل وجبات فارغ ووعاء حديدي بارد تنتظر «إياه» كي يحضر سنجابا اصطاده أو دجاجة سرقها. وفي كثير من الأحيان كان لا يدخل إلا بإبريق من ويسكي جبلي وقبضتين وحشيتين يضربها بهما. الآن، كانت تعتقد أنها في رغد من العيش؛ إذ لا تتوسل من أجل الطعام ولا تضطر إلى التوغل في الغابات من أجل جمع الحطب؛ ومن ثم فهي تضمن الحصول على سرير دافئ وحذاء وملابس جيدة. كانت ماهيلي ابنة لأبوين أنجبا ثمانية عشر ابنا، نشأ معظمهم بإعاقة ذهنية أو في حياة الجريمة، وأنهى اثنان من إخوتها - مثل زوجها - حياتهما في السجن. لم تلتحق بالمدرسة البتة؛ ولذا فهي لا تستطيع القراءة والكتابة. ولما كان كلود فتى صغيرا، حاول أن يعلمها القراءة، ولكن ما تتعلمه في ليلة كانت تنساه في الليلة التي تليها. كان يمكنها العد ومعرفة الوقت من الساعة، كما أنها تفخر بشدة بمعرفتها الحروف الأبجدية، وبقدرتها على تهجي الحروف المكتوبة على جوالات الدقيق وعبوات القهوة. كانت تتمتم: «هذا حرف
A
كبير، وذاك حرف
a
صغير.»
كانت ماهيلي تتمتع بفطنة في تقدير الناس، وكان يعلم كلود أنها تصدر أحكاما ملائمة بشأن الكثير من الأشياء. واتضح له أنها تدرك جميع أطياف المشاعر الشخصية، ومواطن الاتفاق والاختلاف بين أفراد المنزل، تماما كما كان يفعل، وما أحب أن يفوته رأيها السديد. لقد كانت تستشيره في جميع الصعوبات الصغيرة التي كانت تواجهها. فإذا تعرضت ساق طاولة المطبخ إلى الخلخلة، فإنها كانت تعلم أنه سيثبتها لها ببراغي جديدة. وعندما كسرت يد مرقاق العجين، وضع له يدا أخرى، وركب مقبضا لسكين تقطيع اللحم التي تفضلها بعد أن قال الجميع إنه يجب رميها. حظيت تلك الأشياء بقيمة جديدة في نظرها بعد إصلاحها؛ ومن ثم أحبت العمل بها. وعندما كان يساعدها كلود في رفع شيء أو حمله، فإنه كان لا يتحاشى قط ملامستها، وكانت تشعر بذلك في أعماقها. كانت تشك بأن رالف ربما لا يحبها، وأنه يفضل أن تتولى المطبخ امرأة شابة ونشيطة.
في مثل الأيام هذه التي لا يوجد فيها الآخرون في المكان، كانت ماهيلي تحب أن تتحدث مع كلود عن الأشياء التي فعلاها معا عندما كان صغيرا؛ عن تجولهما بالقرب من النهير يوم الأحد، حيث كانا يقطفان العنب البري ويراقبان السناجب الحمراء، أو يتسكعان معا عبر المراعي العالية حتى يصلا إلى أجمة من البرقوق البري في الطرف الشمالي من مزرعة ويلر. بإمكان كلود أن يتذكر أيام الربيع الدافئة لما كانت أشجار البرقوق مزهرة كلها، وكانت ماهيلي معتادة على الاستلقاء تحت ظلها والغناء لنفسها، وكأن حلاوة العسل الشهية للبرقوق جعلتها تشعر بالنعاس؛ أغاني من دون كلمات في معظمها، ولكنه كان يتذكر أغنية رثائية جبلية لم تنفك عن التغني بها تقول: «وأدخلوا جيسي جيمس إلى قبره.»
4
كان يقترب وقت رجوع كلود إلى الكلية الدينية المتشددة، الواقعة على أطراف عاصمة الولاية التي قضى فيها شتاءين موحشين وغير مثمرين.
لما سنحت له الفرصة أن يتحدث مع والدته بمفردهما في صباح أحد الأيام، قال: «أمي، ليتك تسمحين لي بترك كلية تمبل والانتقال إلى جامعة الولاية.»
انتقلت ببصرها إليه من كتلة العجين التي كانت عاكفة على عجنها. «ولكن لماذا يا كلود؟» «حسنا، أحد الأسباب أن بإمكاني تعلم المزيد. كما أن الأساتذة في تمبل ليسوا جيدين. ومعظمهم واعظون لا يكفيهم الوعظ بصفته مصدر دخل لهم.»
ارتسمت ملامح الألم التي دائما ما كانت تجعل كلود يلين على وجه والدته على الفور. «يا ولدي، لا تقل هذا الكلام. لا أصدق سوى أن اهتمام المعلمين بطلابهم يزيد عندما ينشغلون بتلبية احتياجاتهم الروحية والعقلية على حد سواء. يقول القس ويلدون إن العديد من الأساتذة في جامعة الولاية ليسوا مسيحيين، حتى إنهم يتباهون بذلك في بعض الأحيان.» «أوه، أظن أن معظمهم أناس جيدون دون شك؛ على أي حال، إنهم متمكنون من مادتهم العلمية. هؤلاء الواعظون الصغار الحمقى من أمثال ويلدون يتسببون في كثير من الأذى؛ إذ لا يفعلون شيئا سوى التجول في البلاد والحديث. إن مهمته جذب الطلاب إلى كليته. وإذا لم يأت بهم، فسيخسر وظيفته. ليته لم يصل إلي قط. ومعظم الطلاب المطرودين من جامعة الولاية يأتون إلينا، تماما كما فعل.» «ولكن من أين يمكن أن تأتي الدراسة الجادة إن كانوا يخصصون وقتا كبيرا من أجل الألعاب الرياضية والملهيات؟ إنهم يدفعون لمدرب كرة القدم لديهم راتبا أعلى من رئيس الجامعة. كما أن مساكن الطلبة تلك أماكن يتعلم فيها الفتيان كل أنواع الشرور. لقد سمعت عن بعض الأشياء المريعة التي تحدث داخلها في بعض الأحيان. وبجانب هذا كله، إنها تتكلف أموالا أكثر، ولا يمكنك العيش بقليل من المال كما هو الحال في منزل آل تشابين.»
لم يرد كلود بشيء. وقف أمامها عابسا، وأخذ يفرك بقعة خشنة في راحة يده. نظرت إليه السيدة ويلر بحزن. وقالت: «أنا متأكدة من أنك ستستطيع الدراسة على نحو أفضل إذا كانت البيئة المحيطة بك هادئة وجادة.»
تنهد وابتعد عنها. لو كانت والدته مداهنة ولو بقدر أقل من القس ويلدون، لاستطاع إخبارها بحقائق عديدة توضح لها الأمور. ولكنها كانت تركن إلى حسن الظن والبساطة، وكانت مستقيمة بشدة بطبيعتها، ولا تعلم شيئا عن الحياة كما علمها هو؛ ولذا كان لا فائدة من النقاش معها. كان بإمكانه أن يصدمها ويجعلها تخشى العالم حتى أكثر مما كانت تخشاه الآن، ولكنه لم يستطع أن يفهمها ذلك قط.
كانت والدته غير مسايرة للعصر. كانت تظن أن الرقص ولعب الأوراق من المسليات الخطيرة - إذ لم يقم بتلك الأشياء سوى الأشقياء وهي فتاة في فيرمونت - وأن «أهل الدنيا» ما هو إلا مرادف للأشرار. ووفقا لمفهومها عن التعليم، يجب على المرء أن يتعلم، لا أن يفكر؛ وفوق كل هذا، ما ينبغي للمرء أن يسأل. تاريخ البشرية لا يخفى على أحد - حيث إنه السبب في وجودهم - ومصيرها كذلك لا يخفى على أحد؛ لأنه محتوم أمامهم. كما يجب ألا يحيد العقل عن المفهوم اللاهوتي للتاريخ.
نات ويلر لم يكن يشغله أي مؤسسة تعليمية يتعلم فيها ولده، ولكنه - هو الآخر - كان يسلم بأن الكلية الدينية أرخص من جامعة الولاية، ويسلم بأنه نظرا إلى أن الطلاب هناك يبدون أقل هنداما، فإنه يقل احتمال أن يعرفوا الكثير وأن يمارسوا ذكاءهم بطريقة بغيضة في المنزل. وعلى الرغم من ذلك، أخبر بايليس عن تلك المسألة لما كان في المدينة في أحد الأيام. «يريد كلود أن ينتقل إلى جامعة الولاية هذا الشتاء.»
وعلى الفور، أظهر بايليس على وجهه ذلك التعبير الحكيم الذي يبدو منه أنه مستعد للأسوأ، الذي جعله يبدو حصيفا ومتمرسا منذ طفولته. «لا أرى أي فائدة من التغيير ما لم تكن لديه أسباب وجيهة.» «حسنا، يعتقد أن مجموعة القساوسة الموجودة في تمبل لا يعدون أساتذة مميزين.» «أعتقد أن بإمكانهم مع ذلك تعليم كلود الكثير. وإذا التحق بفريق كرة القدم الفاجر هذا في جامعة الولاية، فلن يستطيع أحد السيطرة عليه.» كان يمقت بايليس كرة القدم الأمريكية لسبب أو لآخر. «وهذا النشاط الرياضي عمل مضر بشدة. وإذا أراد كلود التدريب فيمكنه زراعة القمح في فصل الخريف.»
في تلك الليلة، فتح السيد ويلر الموضوع على العشاء وسأل كلود، وحاول أن يعرف سبب سخطه. كان أسلوبه مازحا كالعادة، ولكن كلود كان يكره أي مناقشة لأموره الشخصية على الملأ. خشي فكاهة والده عندما كانت تقترب بشدة منه.
ربما كان سيستمتع كلود بالعروض الهزلية الكبيرة والوقحة إلى حد ما التي يثري بها السيد ويلر الحياة اليومية، لو لم يكن هو مؤلفها. ولكنه رغب من أعماق أعماقه أن يكون والده هو الأكثر احتراما، كما هو بلا شك الأوسم والأذكى في المجتمع. إضافة إلى ذلك، كان كلود لا يتحمل التهكم كثيرا. إنه كان يحس به قبل أن يصيبه؛ أي إنه عندما كان يراه قادما كان يستبقه. لاحظ السيد ويلر هذه السمة فيه لما كان صبيا يافعا، ونعتها بالفخر الزائف، وتعمد أن يثير حفيظة مشاعر كلود كي يقوي قلبه، كما فعل مع والدته التي كانت تخشى كل شيء إلا الكتب المدرسية ولقاءات الصلاة لما تزوجها في البداية. كانت لا تزال متحيرة بنحو أو بآخر، ولكنها تغلبت على أي مشاعر خوف منه، أو من العيش معه منذ زمن بعيد. لقد تقبلت كل شيء في زوجها باعتبارها جزءا من ذكوريته الخشنة، وكانت تفخر بذلك بأسلوبها الهادئ.
لم يغفر كلود لوالده قط بعضا من مداعباته السمجة. ففي يوم حار من أيام الربيع حينما كان صبيا مشاغبا في الخامسة من عمره، وكان يلعب داخل المنزل وخارجه، سمع والدته تتوسل إلى السيد ويلر أن ينزل إلى البستان ويقطف عناقيد الكرز من شجرة محملة بالثمار. تذكر كلود أنها استمرت في التذمر قائلة إن عناقيد الكرز عالية ولا تستطيع الوصول إليها، وحتى لو حصلت على سلم فسيؤلم ظهرها استخدامه. كان السيد ويلر ينزعج دائما إن أشارت زوجته إلى أي ضعف جسدي تعاني منه، خاصة إذا اشتكت من ظهرها. نهض وخرج. ثم عاد بعد برهة. نادى مبتهجا وهو يمر من المطبخ: «كل شيء على ما يرام الآن يا إيفانجلين. لن يسبب لك الكرز أي مشكلات. يمكنك أنت وكلود الذهاب وجمع ثماره بمنتهى السهولة.»
ارتدت السيدة ويلر قبعتها الشمسية واثقة، وأعطت كلود دلوا صغيرا، وأخذت هي واحدا كبيرا، ثم ذهبا إلى البستان عبر تل المراعي، وكان هذا البستان مسيجا في الأرض المنخفضة بجانب النهير. لقد حرثت الأرض في ذلك الربيع كي تحتفظ بالرطوبة، وظل كلود يركض سعيدا في أحد الأخاديد عندما نظر إلى أعلى، ورأى مشهدا لن يستطيع أن ينساه أبدا. رأى شجرة الكرز الجميلة ذات القمة الدائرية المليئة بالأوراق الخضراء والثمار الحمراء، وقد قطعها والده بالمنشار! كانت تقبع على الأرض بجانب جذعها النازف. وبصرخة واحدة، تحول كلود إلى شيطان صغير. رمى دلوه المصنوع من القصدير بعيدا، وأخذ يقفز في المكان وهو يصرخ ويضرب الأرض الرخوة بحذائه ذي المقدمة النحاسية، حتى قلقت والدته عليه أكثر من قلقها على الشجرة.
صاحت: «يا ولدي، يا ولدي، إنها شجرة والدك. له الحق الكامل في قطعها إن أراد. وكثيرا ما قال إن الأشجار كثيفة هنا. ربما هذا أفضل للأشجار الأخرى.»
صاح كلود: «إنها ليست كذلك! إنه أحمق لعين، أحمق لعين!» وزمجر وظل يقفز ويركل، وكاد أن يخنقه الغضب والكراهية.
جثت والدته على ركبتيها بجانبه. «كلود، توقف! أفضل أن تقطع كل أشجار البستان على أن أسمع منك هذه الكلمات.»
بعد أن هدأته، جمعا الكرز وعادا إلى المنزل. وعدها كلود بألا يتفوه بكلمة، ولكن لا بد أن والده لاحظ نظرات الغضب التي كان يوجهها الصبي الصغير تجاهه طوال العشاء، وكذلك تعبير الاحتقار البادي على وجهه. وحتى ذلك الحين، كان يعرف كيف يكبح شفتيه المرنتين عن التعبير عن الصورة المكنونة بداخله. لعدة أيام بعد ذلك، كان يذهب كلود إلى البستان ويشاهد الشجرة وهي تضعف أكثر وتذبل وتموت. قال في نفسه لا بد أن الله سيعاقب من تجرأ وفعل بها ذلك.
المزاج الحاد والاضطراب الجسدي كانا من أبرز الصفات في كلود عندما كان صبيا صغيرا. كان رالف مطيعا، وبدت حنكته في الابتعاد عن المشكلات في وقت مبكر. وحيث إنه كان هادئا في أسلوبه، فقد كان بارعا في إثارة المتاعب، ولا يصعب عليه إقناع أخيه الأكبر - الذي كان لا يتوقف عن البحث عن شيء يفعله - لتنفيذ خططه. وعادة ما كان يمسك كلود لا غيره متلبسا بالجرم. ولما كان رالف يجلس على بساطه على الأرض هادئا ومتأملا، كان يهمس إلى كلود بأنه ربما يكون من المبهج الصعود وأخذ الساعة من فوق الرف، أو تشغيل ماكينة الخياطة. ولما كبرا وبدآ يلعبان خارج المنزل، كان يكفيه أن يلمح إلى كلود أنه خائف كي يحرضه على لمس فأس مغطاة بالثلج بلسانه، أو القفز من أعلى سطح السقيفة.
لم تكن متاعب الطفولة المعتادة في الريف كافية بالنسبة إلى كلود؛ فكان يفرض على نفسه عقوبات واختبارات جسدية. فكلما أحرق إصبعه اتبع نصيحة ماهيلي وقرب يده من الموقد حتى «يخرج النار من إصبعه». وفي أحد الأعوام، ذهب إلى المدرسة طوال الشتاء بسترته بغية أن يشد من عضده. كانت أمه تحكم أزرار معطفه، وتضع وعاء العشاء في يده وتجعله ينطلق في طريقه إلى المدرسة. وبمجرد أن يبعد عن أنظار من في المنزل، كان يخلع معطفه ويلفه تحت إبطه، وينطلق مسرعا بطول حافة الحقول المغطاة بالثلوج حتى يصل إلى سور المدرسة لاهثا ومرتجفا، ولكنه كان سعيدا بنفسه بشدة.
5
انتظر كلود من الكبار أن يغيروا رأيهم بشأن المكان الذي يجب أن يذهب إليه للدراسة، ولكن يبدو أن لا أحد اهتم كثيرا بالأمر، حتى والدته .
منذ عامين، أتى الشاب الذي تدعوه السيدة ويلر باسم «القس ويلدون» من لينكن، وعمل في الوعظ في المدن الصغيرة والكنائس الريفية، وسعى لجذب الطلاب إلى المؤسسة التي كان يدرس بها في فصل الشتاء. أقنع السيدة ويلر أن الكلية التي يعمل بها هي آمن مكان يمكن أن يذهب إليه فتى يغادر المنزل للمرة الأولى.
لم تكن والدة كلود تضمر تحاملا ضد الواعظين. كانت تعتقد أن جميعهم مختارون وطاهرون، وأسعد لحظات حياتها كانت عندما أتى أحدهم إلى منزلها وأخذت تطهو له وتعمل على خدمته. لقد وفرت كل سبل الراحة للسيد ويلدون الشاب؛ مما دفعه إلى البقاء في منزلها عدة أسابيع، شاغلا الغرفة الشاغرة حيث كان يقضي وقت الصباح في الدراسة والتأمل. لم يتخلف عن مواعيد الوجبات، وحينها كان يطلب البركة على الطعام ويجلس، وترتسم على عينيه ملامح الورع والخجل أثناء تقطيع الدجاج تمهيدا لتوزيعه. كان رأسه المدبب من الأعلى مائلا إلى أحد الجانبين قليلا، وكان شعره الخفيف مفروقا بالضبط فوق جبهته البارزة، وممشطا بتموجات بسيطة. كان لين القول ومتواضعا في تعامله، وكان لا يشغل مكانا كبيرا عندما يجلس. حلمه أثار إعجاب السيد ويلر الذي كان يحب أن يغدق عليه بالطعام، ولا ينفك يسأله بجدية: «ما الجزء الذي تفضله في الدجاجة؟» كي يسمعه وهو يتمتم: «قليل من لحم الصدر إذا سمحت»، وحينها كان يسحب مرفقيه بالقرب منه، وكأنه ينزلق ببراعة من فوق مكان خطير. فيما بعد الظهيرة، اعتاد القس ويلدون أن يرتدي ربطة عنق جديدة مصنوعة من قماش رقيق، وقبعة خشنة ولامعة من القش كانت تترك خطا أحمر على جبهته، ويمسك الكتاب المقدس الخاص به تحت ذراعه ويخرج داعيا للناس. وإذا ذهب إلى مكان بعيد، كان يأخذه إليه رالف بالسيارة.
كره كلود هذا الشاب منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها، ونادرا ما كان يرد عليه بطريقة مهذبة. السيدة ويلر التي كانت شاردة الذهن دائما، والتي كانت حينها مشغولة بشدة بواجب الضيافة للزائر، لم تلاحظ صمت كلود النابع من الازدراء حتى همست إليها ماهيلي - إذ لا تفوتها هذه الأشياء مطلقا - فوق الموقد يوما ما قائلة: «السيد كلود لا يحب الواعظ. إنه فقط لا يحترمه، ولكن لا تقولي لأحد.»
بسبب المدة التي أقامها القس ويلدون في المزرعة، أرسل كلود إلى كلية تمبل. بدأ كلود يعتقد أن أبغض الأشياء والأشخاص إلى قلبه هم من سيحددون له مصيره.
لما اقترب الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وضع بعض الملابس والكتب في صندوقه وودع والدته وماهيلي. أوصله رالف إلى فرانكفورت كي يلحق بالقطار المتجه إلى لينكن. وبعدما جلس كلود في عربة القطار العادية القذرة، أخذ يفكر في مستقبله. كانت هناك عربة فاخرة في القطار، ولكن الركوب في العربة الفاخرة في رحلة نهارية لم يكن من الأشياء التي يفعلها أحد من آل ويلر.
كان كلود يعلم أنه عائد إلى الكلية الخطأ، وأنه كان يهدر الوقت والمال معا. سخر من نفسه بسبب ضعف عزمه. قال لنفسه ما دمت مضطرا إلى التعامل مع الغرباء، فبإمكاني أن أحدد ما أريده وأحارب من أجله. ربما لم يكن باستطاعته مواجهة والده أو والدته، ولكنه كان يستطيع أن يتحلى بالجرأة مع بقية الخلق. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فلماذا استمر في العيش مع آل تشابين المزعجين؟ بيت آل تشابين كان يعيش فيه أخ وأخت. كان إدوارد تشابين رجلا في السادسة والعشرين من عمره ذا وجه رجل عجوز منهك، وكان لا يزال يدرس كي يصبح قسيسا. أخته أنابيل كانت تعتني بشئون المنزل؛ هذا يعني أنها كانت تقوم بواجبات المنزل كلها. كان الأخ يحصل على قوت يومه له ولأخته من العمل في وظائف غريبة في الكنائس والجمعيات الدينية؛ فقد كان يلقي «الخطبة» وقت مرض القس، ويقوم بأعمال السكرتارية في الكلية وجمعية الشبان المسيحيين. وعلى الرغم من قلة المبلغ الذي كان يدفعه كلود للإقامة والوجبات في هذا البيت، فإن هذا المبلغ كان يسهم كثيرا في راحتيهما.
التحق تشابين بكلية تمبل منذ أربع سنوات، وربما كان سيستمر سنتين أخريين حتى يكمل دراسته. اعتاد أن يذاكر دروسه في عربات الترولي، وفي أوقات الانتظار بجانب السكك الحديدية في الأماكن الخالية، وكان يذاكر حتى وقت متأخر من الليل. لا بد أن غباءه الفطري كان خارجا عن المألوف؛ فبعد سنوات من الدراسة المهيبة لم يستطع قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية من دون معجم وكتاب قواعد. لقد كان يخصص وقتا كبيرا من أجل التدريب على الخطابة والإلقاء. وفي بعض الأوقات، كان بيتهم القديم - المبني من جدران رفيعة من أجل الطلاب الفقراء، والمستقر على كتل خرسانية بدلا من الأساس - يردد صدى صوته الأجش والمنهك أثناء تدريبه على خطبة من إعداده أو إعداد ويندل فيليبس.
أنابيل تشابين كانت من زملاء كلود في الفصل. لم تكن غبية مثل أخيها؛ فلم يصعب عليها تعلم تصريف الأفعال والتعرف على أشكالها عندما ترد عليها مرة أخرى. ولكنها كانت فتاة سخيفة وذات عواطف فياضة، تتشكك في جمال كل شيء في حياتهم الوضيعة، كما أنها كانت مغرمة بكلود للأسف. كانت تتغنى أنابيل بدروسها مرارا وتكرارا لنفسها وقت الطهي والتنظيف. وكانت ممن يجعلون أفضل الأشياء تبدو مملة فقط بالإشارة إليها. في الشتاء الماضي، ظلت تتلو قصائد هوراس الغنائية في أنحاء المنزل - إذ كانت هذه هي فكرتها بالضبط عن الأشياء التي يجب أن يفعلها الطلاب - حتى خشي كلود أن يربط على الدوام ذلك الشاعر بسوء وجبات الغداء المعدة على عجل.
أحبت السيدة ويلر فكرة أن كلود كان يساعد هذين الأخوين المستحقين للمساعدة في كفاحهما من أجل إكمال رحلة تعلمهما، ولكنه رأى منذ أمد بعيد أنه ما دامت لم تثمر أي من جهود الأخوين عن نتائج كبيرة، فقد يكون من الأفضل أن يتخليا عن هذا الكفاح منذ البداية. لقد كان يعتني بغرفته الخاصة إذ يحافظ على نظافتها وصلاحيتها للسكن وخلوها من محاولات التودد من جانب أنابيل. ولكنه كان يمقت بشدة الادعاءات الواهية بالتدبر الخفيف لشئون المنزل. فقد ولد وهو يحب النظام، تماما مثلما ولد بشعر أحمر. إنها سمة شخصية فيه.
كان يشعر الفتى بالمرارة من الطريقة التي ربي بها، وحيال شعره والنمش الموجود في وجهه وارتباكه . وعندما كان يذهب إلى المسرح في لينكن، كان يأخذ مقعدا في البلكون؛ لأنه كان يعلم بأنه يبدو كفتى ريفي ساذج. لم يرتد ملابس مناسبة البتة. لقد اشترى ياقات طويلة جدا وربطات عنق براقة للغاية، وأخفاها في صندوق ملابسه. ولم تنجح تجربته الوحيدة في الاستعانة بخياط. لاحظ الخياط من فوره أن زبونه المتلعثم لم يكن يعرف ما يريد؛ ومن ثم قال له ما دام أنه في فصل الربيع، فإنه بحاجة إلى سروال فاتح بمربعات، وصدرية ومعطف أزرقين من قماش السيرج. وعندما ارتدى كلود ملابسه الجديدة للمرة الأولى وهو ذاهب إلى كنيسة سانت بول في صباح يوم الأحد، أخذ كل إنسان يقابله ينظر إلى سرواله المميز. وفي الأسبوع التالي، ظل ينظر إلى سيقان الرجال والشباب، وعلم أنه لا يوجد سروال بمربعات في لينكن غير الذي يرتديه. ولذلك علق ملابسه الجديدة في دولابه ولم يرتدها مطلقا مرة أخرى، على الرغم من نظرة أنابيل تشابين الحزينة إليها. وعلى الرغم من ذلك، ظن كلود أن بإمكانه تمييز الرجل الأنيق عندما يراه. حتى إنه ظن أن بإمكانه فعل الشيء نفسه مع النساء. وإذا ركبت امرأة جذابة عربة الترام وهو في طريقه إلى الجامعة ذهابا أو إيابا، كان يتشتت ما بين الرغبة في النظر إليها والرغبة في أن يبدو غير مبال.
كلود الآن في طريق عودته إلى لينكن، ومعه مصروف كبير إلى حد ما، لكنه لن يسهم كثيرا في راحته أو سعادته. إنه ليس لديه أصدقاء أو أساتذة يمكن أن ينظر إليهم نظرة إعجاب، على الرغم من أن الحاجة إلى الإعجاب هي الحاجة الأهم بالنسبة إليه الآن. إنه مقتنع بأن الأشخاص الذين يمكن أن يعنوا له شيئا دوما سيخطئون في الحكم عليه ولن يأبهوا له. إنه لا يخشى كثيرا الوحدة بقدر ما يخشى قبول البدائل الرخيصة؛ كأن يختلق أعذارا لنفسه بشأن أستاذ يتزلف إليه، أو يستيقظ في صباح يوم ما ويجد نفسه معجبا بفتاة لمجرد أن الوصول إليها سهل. إنه يخاف بشدة من البدائل السهلة، ويخاف كثيرا من أن ينخدع.
6
بعد ثلاثة أشهر وفي يوم غائم من أيام ديسمبر، كان كلود جالسا في عربة الركاب بقطار شحن به عربات للركاب، عائدا إلى المنزل لقضاء الإجازة. كان يضع كومة من كتبه على المقعد المجاور له، وكان مستغرقا في القراءة عندما توقف القطار بهزة قوية تسببت في سقوط تلك المجلدات على الأرض. رفعها من الأرض ونظر في الساعة. كان الوقت وقت الظهيرة. وكان قطار الشحن سيتوقف هنا ساعة أو أكثر حتى يمر قطار الركاب المتجه إلى الشرق. نزل كلود من العربة ومشى ببطء على الرصيف باتجاه المحطة. وضعت مجموعة من شجر التنوب الصغير بالقرب من مكتب الشحن، وأرسلت عبق عيد الميلاد بين ذرات الهواء البارد. كانت تقف بعض عربات الجر بالقرب من المكتب، وكانت الخيول مغطاة لحمايتها من البرد. تصاعد بخار بنفسجي قاتم من القطار، وانتشر في السماء الملبدة بالغيوم.
ذهب كلود إلى مطعم في الجهة المقابلة من الشارع، وطلب يخني محار. ومن رحلة إلى أخرى، دائما ما كانت تتذكره مالكة المطعم، وهي امرأة ألمانية قصيرة بدينة، ذات قصة متغضنة منسدلة على الجبين. ولما كان يأكل المحار، أخبرته أنها انتهت لتوها من شواء دجاجة مع البطاطا، وإذا أحب فيمكنه الحصول على أول قطعة مشوية من الصدر قبل أن يأتي قائدو القطار من أجل الغداء. وبعدما طلب منها إحضارها على الفور، جلس منتظرا على مقعد عال، وحذاؤه على مسند القدمين المصنوع من الرصاص، ومرفقاه على طاولة البيع البنية اللامعة، وأخذ يحملق في هرم السندوتشات التي تبدو صلبة تحت كرة زجاجية.
لما أحضرت السيدة فوكت الطبق، قالت له: «أنا أبحث عنك كل يوم. لقد وضعت قدرا كبيرا من المرق الجيد على البطاطا.» «شكرا لك. لا بد أن رواد مطعمك يحبونك.»
قهقهت. وقالت: «نعم، كل قائدي القطارات أصدقاء لي. في بعض الأحيان، يحضرون لي قليلا من الجبن السويسري من أحد المتاجر الكبرى في أوماها التي يتردد عليها الألمان. ليس لدي أطفال؛ ومن ثم اعتدت أن أعد بعض الأشياء من أجل أطفالهم، أليس هذا جيدا؟»
وقفت تنظف يديها القصيرتين والبدينتين تحت مئزرها، وتراقب كل لقمة يأكلها بشغف وكأنها تتذوقها هي. دخل قائدو القطار ونادوا عليها وسألوها ماذا أعدت من أجل الغداء، وركضت إليهم مثل دجاجة صغيرة مبتهجة، وأخذت تضحك وتثرثر معهم. تساءل كلود هل العمال لطفاء مع النساء العجائز في جميع أنحاء العالم كما هو الوضع هنا. لم يكن يظن ذلك. أحب أن يعتقد أن هذا اللطف لا يشيع إلا بين من يسميهم ب «أهل الغرب». اشترى سيجارا كبيرا وظل يتجول على الرصيف ذهابا وإيابا مستمتعا بالهواء المنعش حتى انطلقت صافرة قطار الركاب.
بعدما انطلق قطار الشحن باعثا كومة من البخار، لم يفتح كتبه مرة أخرى، ولكن جلس ينظر إلى المنازل القاتمة وهي تمر أمامه ومن حولها حقول الذرة الجافة والمحصودة، وقطع الأراضي المحروثة الكبيرة حيث يستقر القمح الشتوي. كان يمتد بعض الجليد اللامع مثل بلورات الصقيع بطول الحواف العالية الهشة بين الأخاديد.
اعتقد كلود أنه يعرف تقريبا كل مزرعة تقع على الطريق من فرانكفورت إلى لينكن؛ فهو يقوم بتلك الرحلة كثيرا مستخدما القطارات السريعة والبطيئة. كان يقضي كل الإجازات في المنزل، كما أنه كان يعود مرارا وتكرارا إليه لأسباب مختلفة؛ في وقت مرض أمه، أو عندما انقلب رالف بالسيارة وكسرت كتفه، أو عندما رفس والده حصان شرس. ولم يكن من عادة آل ويلر أن يأتوا بممرضة؛ فإذا مرض أي فرد في المنزل، فمعروف أن فردا آخر في المنزل كان سيتولى المهمة.
جلس كلود يتفكر في حقيقة أنه لم يسبق له قط أن عاد إلى المنزل بتلك المعنويات المرتفعة. حدث له شيئان مبهجان من وقت أن ذهب في هذا الطريق منذ ثلاثة أشهر.
بمجرد أن وصل إلى لينكن في سبتمبر، سجل في جامعة الولاية من أجل برنامج دراسي خاص في التاريخ الأوروبي. في العام السابق، سمع محاضرة ألقاها رئيس هذا القسم أمام إحدى الجمعيات الخيرية، وقرر وقتئذ أن يدرس تحت إشراف ذلك الرجل حتى لو لم يتمكن من تغيير الجامعة. البرنامج الدراسي الذي اختاره كلود كان من البرامج الدراسية التي يمكن للطالب أن يخصص لها الوقت الذي يختاره. وكان يعتمد على قراءة المصادر التاريخية، وكان الأستاذ معروفا بشرهه إلى دفاتر الملاحظات الممتلئة بالكتابة. وكان دفتر كلود واحدا من تلك الدفاتر. كان كلود يظل يدرس في مكتبة الجامعة أوقاتا طويلة، وغالبا ما كان يتناول عشاءه في المدينة ويعود للقراءة حتى وقت إغلاق المكتبة. للمرة الأولى كان يدرس موضوعا بدا حيويا بالنسبة إليه؛ إذ يتعلق بالأحداث والأفكار بدلا من المعاجم وكتب القواعد. كم تمنى أن يقابل إرنست في المحاضرات! كان يستطيع أن يرى إرنست وهو يستوعب كامل محتوى تلك المحاضرات، ويتفق معه أو يعارضه بطريقته المستقلة. كان عدد الطلاب كبيرا للغاية، وكان يتحدث الأستاذ من دون ملاحظات أمامه؛ كان يتحدث بسرعة كبيرة وكأنه يتحدث مع مكافئين له، ولا يتخلل العرض طريقة الإقناع المتزلفة التي كان معتادا عليها طلاب كلية تمبل. كانت محاضراته مكثفة وكأنها مذكرة قانونية، غير أن صوته كانت تتخلله حماسة واهنة، وعندما كان يقاطع عرضه من حين لآخر لإبداء تعليق شخصي بحت، كان يبدو أنه تعليق قيم ومهم.
عادة ما كان يخرج كلود من هذه المحاضرات بشعور أن العالم مليء بالمحفزات، وأنه محظوظ لأنه حي وبإمكانه العثور على تلك المحفزات. وبفضل القراءة في ذلك الخريف، بدا المستقبل بالفعل أكثر إشراقا في عينيه؛ إذ بدا أنه يبشره بشيء. من الصعوبات الأساسية التي كانت تواجهه دوما أنه لم يستطع أن يجعل نفسه يؤمن بأهمية كسب المال أو إنفاقه. كان يرى أنه إن كانت تلك هي الحياة، فإنها لا تستحق العناء.
الشيء الجيد الثاني الذي حدث له هو أنه تسنى له التعرف على بعض الأشخاص الذين أحبهم. حدث هذا التعارف من غير ترتيب، بعد مباراة كرة قدم أمريكية بين فريق كلية تمبل وفريق جامعة الولاية؛ كانت مجرد مباراة تجريبية للفريق الأخير. كان كلود يلعب في مركز الظهير المساعد في فريق كلية تمبل. وقرب نهاية نصف الشوط الأول من المباراة، أتم تدخله في الطرف الأيمن بسلام، وأوقف هجمة كادت أن تنهي اللعبة، وانفرد بالكرة مسافة تسعين ياردة، وأخذ يعدو حتى وصل إلى منطقة الجزاء. واستطاع أن يساعد فريقه على تقديم عرض جيد في المباراة. هنأه أعضاء فريق جامعة الولاية بحرارة، حتى إن مدربهم لمح له بأنه لو أراد يوما تغيير فريقه، فسيجد مكانا له ضمن فريق جامعة الولاية.
حظي كلود بلحظة فخر، ولكن حتى وقت حديثه مع المدرب بالينجر، اندفع طلاب كلية تمبل من المدرج وهم يصيحون، ورمت أنابيل تشابين - التي كانت تظهر بمظهر مضحك لما ارتدت بدلة رياضية من تصميمها، كانت مزينة بألوان كلية تمبل، وأخذت تنفخ في بوق لعبة - بنفسها في أحضان كلود. خلص نفسه ولكن ليس بلطف بالغ، ومشى بعيدا مكتئبا إلى غرفة تغيير الملابس؛ فما الفائدة إذا كنت دائما مع الأشخاص الخطأ؟
أخذه جانبا يوليوس إرليش - الذي لعب نصف شوط مع فريق جامعة الولاية - وتحدث إليه بود قائلا: «تعال إلى المنزل كي تتعشى معي هذا المساء يا ويلر وتقابل أمي. تعال معنا وارتد ملابسك في المبنى العسكري. لديك ملابس في حقيبتك، أليس كذلك؟»
رد كلود مترددا: «إنها ملابس لا تكاد تصلح للزيارة.» «أوه، هذا لا يهم! إننا جميعا فتية في المنزل. لن تمانع أمي إن أتيت بملابسك الرياضية.»
وافق كلود قبل أن يتوفر له الوقت كي يخيف نفسه بالتفكير في الصعوبات. كثيرا ما كان يجلس بجواره الفتى إرليش في محاضرة التاريخ، وكان قد تحدث بعضهما إلى بعض عدة مرات. حتى ذلك الحين، كان يشعر كلود أنه «لا يستطيع فهم إرليش»، ولكن لما كان يرتديان ملابسهما بعد الاستحمام بعد ظهر ذلك اليوم، أصبحا صديقين مقربين في غضون بضع دقائق. على الأرجح، لم يشعر كلود بالتقييد في تفكيره وحركاته مثلما هو معتاد. وذهل بشدة لما وجد نفسه على وفاق وعلاقة ودية مع إرليش، حتى إنه لم يشغل باله بقميصه الذي كان يرتديه لليوم الثاني على التوالي، وبياقته ذات الحافة المتهالكة؛ وهي من الأمور البائسة التي اعتاد أن يشغل باله بها.
لم يمشيا أكثر من مربعين سكنيين بعد المبنى العسكري حتى دخل يوليوس إلى منزل خشبي كبير غير مخطط جيدا يضم حديقة غير مسيجة ومدرجة. قاد كلود إلى الجناح ودخلا من باب زجاجي إلى غرفة كبيرة، كانت ثلاثة جدران منها عبارة عن نوافذ بأعلى المنجور. وجد الغرفة ممتلئة بالفتيان والشباب الذين كانوا جالسين على أرائك، أو جاثمين على أذرع مقاعد كبيرة منجدة، ويتحدثون جميعا في وقت واحد. وعلى واحدة من تلك المقاعد، كان يضطجع شاب يرتدي سترة تدخين، ويقرأ بهدوء كما لو كان بمفرده.
قال المضيف: «خمسة من هؤلاء إخوتي، والباقون أصدقاء.»
تعرف الجمع على كلود وأشركوه في الحديث معهم عن المباراة. ولما ذهب الضيوف، قدم يوليوس إخوته إليه. اعتقد كلود أن جميعهم فتيان لطفاء، وأنهم مؤدبون ومرحون. كان الثلاثة الكبار يعملون، ولكنهم أيضا ذهبوا إلى المباراة التي أقيمت بعد ظهر ذلك اليوم. لم يسبق لكلود أن قابل إخوة يتحدثون هكذا بصراحة وانفتاح شديدين بعضهم مع بعض. لقد وجدهم ودودين جدا؛ تقدم إليه الأخ المضطجع كي يصافحه، وحافظ على المكان الذي توقف عنده في الكتاب بإصبعه.
كان يوجد على طاولة في منتصف الغرفة غلايين وصناديق تبغ، وسيجار في جرة زجاجية، ووعاء صيني كبير ممتلئ بالسجائر. بدا هذا الأمر هو الأبرز بالنسبة إلى كلود؛ لأنه في منزله كان يضطر إلى التدخين في حظيرة الأبقار. أذهله عدد الكتب تقريبا بالقدر نفسه؛ فجميع المنجورات في الغرفة كانت مصممة بحيث تكون أرفف كتب مفتوحة، وكانت ممتلئة بالمجلدات الكبيرة والصغيرة، التي بدت جميعها مثيرة للاهتمام ومستخدمة بكثرة. كان أحد الإخوة في حفل الليلة الماضية، ولما عاد إلى المنزل وضع ربطة عنقه حول رقبة تمثال صغير من الجص للشاعر بايرون الذي كان يقبع على رف الموقد. لم ينجذب انتباه كلود إلى شيء في الغرفة أكثر من ذلك الرأس، وربطة العنق تلك الموضوعة على نحو جذاب، ولسبب ما جعلاه على الفور يتمنى لو كان يعيش هناك.
أحضر يوليوس والدته، وعندما ذهبوا لتناول العشاء أجلس كلود بجانبها على أحد طرفي الطاولة الطويلة. بدت السيدة إرليش صغيرة السن جدا على أن تكون على رأس تلك العائلة. لم يفقد شعرها البني لونه، وكان ينساب على أذنيها ويلتف في ضفيرتين صغيرتين مثل السيدات التي تظهر في الصور الداجيرية القديمة. وجهها كذلك كان يوحي بأنها سيدة من عصر تلك الصور؛ إذ كان به شيء غريب وعتيق الطراز. بشرتها كانت بيضاء ناعمة مثل الزهور البيضاء التي بللها المطر. كانت تتحدث بإيماءات سريعة، وكانت إيماءتها البسيطة المقصودة غريبة وغير مفهوم كنهها. كانت تنظر بترقب بعينيها ذات اللون البندقي من فوق النظارة المستقرة على أنفها، وتراقب دائما الأمور حتى تتأكد من سيرها على نحو جيد، وتبحث دائما عن جنية ألمانية طيبة في الخزانة أو وعاء الكعك، أو في البخار الصاعد في يوم الغسيل.
كان الأولاد يناقشون أمر خطبة أعلن عنها للتو، وبدأت السيدة إرليش تحكي لكلود قصة طويلة عن الطريقة التي أتى بها ذلك الشاب الألمعي إلى لينكن وقابل تلك الفتاة الجميلة التي كانت مخطوبة بالفعل لشاب متبلد المشاعر وتقليدي، وكيف فسخت الفتاة خطبتها من الرجل الخطأ بعد عديد من الخلافات الشديدة، وخطبت إلى الرجل المناسب، وباتت السعادة تغمرهما الآن، وطلبت من كلود أن يصدقها في أن الجميع كانوا سعداء بالقدر نفسه! في منتصف القصة، ذكرها يوليوس مبتسما أنه ما دام كلود لا يعرف هذين الشخصين، فلا يرجى اهتمامه بقصتهما الرومانسية، ولكنها نظرت إليه من فوق نظارتها الأنفية، وقالت: «هكذا إذن، يا سيد يوليوس!» لا ريب أنها كانت ندا لهم.
أخذ الحوار ينتقل من موضوع إلى آخر. وبدأ النقاش يحتد بين الأولاد حول فتاة جديدة كانت تزور المدينة؛ هل هي جميلة، وما مقدار جمالها، وهل هي ساذجة؟ رأى كلود الحديث وكأنه مشهد في مسرحية. إذ لم يسبق له من قبل أن سمع إنسانا يتم تناوله وتحليله بتلك الطريقة. لم يسبق أن سمع حوارا عائليا بهذا القدر، أو بهذا القدر من الحماسة. هنا اختفى كل التحفظ البغيض الذي دائما ما كان يكتنفه في التجمعات العائلية، ولم يكن هناك حرج من أن يجلس أفراد العائلة واضعين أيديهم في حجرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، ولا يحاول أي منهم أن يخفي مكنونات قلبه، سواء من سر أو شك، مع السعي إلى الانتقال إلى موضوع لا يثير البلبلة. ذهل أيضا من وفرة الكلام؛ فكيف لأناس أن يجدوا هذا الكم من الكلام عن فتاة واحدة؟ لا ريب أن قدرا كبيرا منه بدا بعيد الاحتمال بالنسبة إليه، ولكنه اعترف آسفا أنه ليس حكما في تلك المسائل. ولما عادوا إلى غرفة المعيشة، بدأ يوليوس في العزف على الجيتار، وبدأ أخوه الملتحي في القراءة. ولما رأى أوتو - الأخ الأصغر - مجموعة من الطلاب يمرون من جانب المنزل، هرع إلى الحديقة ونادى عليهم كي يدخلوا؛ كانوا فتيين وفتاة متوردة الخدين ترتدي شالا من الفرو. عمد كلود إلى زاوية، وكان سعيدا بشدة بأن يكون في موقف المشاهد، ولكن سرعان ما أتت السيدة إرليش وجلست بجانبه. ولما فتحت الأبواب المؤدية إلى الصالة، لاحظت أن عينيه كانت تشردان إلى صورة منقوشة معلقة أعلى البيانو لنابليون، ودفعته إلى الذهاب عندها والنظر إليها. أخبرته أنها صورة منقوشة نادرة، وأرته بورتريه لجدها الأكبر الذي كان ضابطا في جيش نابليون. أما عن قصة كيفية الحصول على هذه الصورة، فيطول شرحها.
بينما كانت تتحدث السيدة إرليش إلى كلود، اكتشفت أن عينيه ليستا شاحبتين في حقيقة الأمر، ولكنهما كانتا تبدوان كذلك بسبب رموشه ذات اللون الفاتح. كان بإمكانهما قول الكثير عندما كانتا تنظران مباشرة إلى عينيها، وهي أحبت ما كانتا تقولانه. وسرعان ما اكتشفت تعاسته؛ مدى كرهه لكلية تمبل، ولماذا رغبت والدته في أن يلتحق بها.
لما غادر الطلاب الثلاثة الذين دعوا إلى الدخول وهم يمرون من جانب المنزل، نهض كلود هو الآخر. من الواضح أنهم كانوا معتادين على ارتياد المنزل، وخروجهم غير المكترث وأسلوبهم المرح لما قالوا «ليلة سعيدة على الجميع!» لم يعطياه أي اقتراحات عملية بشأن ما ينبغي له قوله الآن أو الطريقة المثلى للخروج. يوليوس صعب الأمور أكثر لما طلب منه أن يجلس لأنه لم يحن وقت الذهاب بعد. ولكن السيدة إرليش أخبرته أن هذا الوقت قد حان لأن المسافة إلى كلية تمبل بعيدة.
كان الأمر في الواقع غاية في البساطة. مشت معه إلى الباب، وأعطته قبعته وربتت على ذراعه على نحو مودع. وقالت: «ستأتي كثيرا لزيارتنا. وسنصبح أصدقاء.» اقتربت جبهتها التي تنسدل عليها خصلات شعرها البني المنمق من أسفل ذقن كلود، وحدقت فيه وفي عينيها هذا التعبير الغريب المفعم بالأمل، وكأن ... وكأنه قد يحقق نجاحا في حياته! بالتأكيد، لا أحد رمقه بنظرة كتلك من قبل.
تمتم إليها من دون حرج تماما: «كانت أمسية جميلة»، وفي سعادة لف مقبض الباب الزجاجي وخرج منه.
بينما كان قطار الشحن يمشي متباطئا في الريف ذي الجو الشتوي، مخلفا وراءه خطا أسود معلقا في الهواء الساكن، استرجع كلود تلك التجربة بكل ما فيها، وكأنه كان يخشى أن ينسى شيئا منها عندما يصل إلى منزله. كان بإمكانه أن يتذكر بدقة كيف عاملته السيدة إرليش والأولاد في تلك الليلة الأولى، وأن يكرر تقريبا كل كلمة وردت في الحوار الذي كان يعد جديدا للغاية بالنسبة إليه. ظن حينها أن آل إرليش أثرياء، ولكنه اكتشف بعد ذلك أنهم فقراء. لقد توفي الأب، واضطر كل الأولاد إلى العمل، حتى الذين لا يزالون في المدرسة. اكتشف أنهم كانوا يعرفون كيف يكسبون عيشهم، وأنهم كانوا ينفقون أموالهم على أنفسهم بدلا من الآلات التي تنجز الأعمال والآلات التي تروح عن الناس. كان يرى كلود أن الآلات لا تستطيع أن تصنع السعادة مهما كانت الأمور التي كانت تنجزها. كما أنها لا تستطيع خلق أناس لطفاء. وبحسب ما كان يرى، فإن الأمر الأخير يتحقق من خلال الممارسة الحصيفة تقريبا لكل شيء تعلم أن يتجنب الخوض فيه.
منذ الزيارة الأولى تلك، بالتأكيد لم يذهب كلود إلى منزل آل إرليش بالقدر الذي تمناه، وإنما ذهب بالقدر الذي كانت تسمح به جرأته. يبدو أن بعضا من طلاب الجامعة كانوا يذهبون هناك في الوقت الذي يريدونه وكأنهم أفراد من العائلة، ولكن مظهرهم كان أفضل من مظهره ، وصحبتهم أفضل من صحبته. بالتأكيد كان باومجارتنر الطويل القامة صديقا مقربا من تلك العائلة، وقد كان فتى أخرق ذا يدين حمراوين كبيرتين ويلبس حذاء به بقع ملونة، ولكنه على الأقل كان يستطيع التحدث بالألمانية مع الأم، ويعرف كيفية العزف على البيانو، ويبدو أنه كان يعرف الكثير عن الموسيقى.
لم يرد كلود أن يبدو مملا. فعندما كان يغادر المكتبة في بعض الأحيان في المساء كي يدخن سيجارا، كان يمشي متباطئا بالقرب من منزل آل إرليش، وينظر إلى النوافذ المضيئة لغرفة الجلوس، ويتساءل عما يدور بالداخل. وقبل أن يذهب إلى هناك لزيارتهم، كان يفكر في أشياء يتحدث عنها. وبالطبع كان يساعده في ذلك إذا كانت هناك مباراة كرة قدم أو مسرحية جيدة في المسرح.
تقريبا من دون أن يدرك ما كان يفعله، حاول أن يفكر مليا في الأشياء ويبرر آراءه لنفسه؛ حتى يجد ما يقوله عندما يسأله أولاد إرليش عنها. لقد نشأ على قناعة أنه ليس من مقامه أن يبرر آراءه، تماما كما يجب عليه الاهتمام بملبسه أو ألا يضبطه أحد وهو يحاول جاهدا فعل شيء ما. كان إرنست هو الشخص الوحيد الذي يعرفه، والذي كان يحاول أن يذكر بوضوح سبب اعتقاده بشأن هذا أو ذاك؛ ولذا كان يعتقد الناس في المكان الذي يعيش فيه أنه مغرور وغريب جدا. لم يكن من طابع الأمريكيين أن يبرروا آراءهم؛ ليس عليك أن تفعل ذلك! في المزرعة، يمكن أن تعبر عن رأيك بشأن أي شيء؛ تقول مثلا إن روزفلت محق أو مجنون. لكن لا يفترض أن تقول المزيد ما لم تكن خطيبا سياسيا؛ أي إذا حاولت أن تقول المزيد، فهذا لأنك تحب أن تسمع نفسك وأنت تتحدث. وما دمت لم تقل شيئا قط، فأنت لم تنم عادة التفكير لديك. وإذا أحسست بقدر كبير من الملل، كان عليك أن تذهب إلى المدينة وتشتري شيئا جديدا.
لكن كل الناس الذين قابلهم في منزل إرليش كان يمكنهم التحدث. إذا سألوه عن مسرحية أو كتاب وقال إنه «ليس جيدا »، فسيسألونه على الفور عن السبب. ظن أفراد آل إرليش أنه شخص هادئ، ولكن كلود يظن نفسه مذهلا في بعض الأحيان. هل يمكن لكلود أن يعبر عن آرائه بهذا الأسلوب الفظ؟ لاحظ في نفسه أنه كان يستخدم كلمات لم تمر من بين شفتيه من قبل، ولم يصادفها عقله في غير الأعمال المطبوعة. عندما كان يدرك فجأة أنه يستخدم كلمة ما للمرة الأولى، وربما يخطئ في نطقها، كان يرتبك بشدة وكأنه يحاول أن يشتري بعملة مزيفة من الرصاص؛ إذ كان يحمر وجهه ويتلعثم، ويترك أحدا غيره يكمل الجملة له.
لم يستطع كلود في بعض الأحيان مقاومة الذهاب إلى منزل آل إرليش فيما بعد الظهيرة؛ وفي ذلك الوقت كان لا يوجد الأبناء في المنزل، ويمكن أن يجلس مع السيدة إرليش بمفردهما لمدة نصف الساعة. عندما كانت تتحدث معه، كانت تعلمه الكثير جدا عن الحياة. أحب أن يسمعها وهي تغني أغاني ألمانية عاطفية وهي تعمل، مثل «اغزلي، اغزلي، يا ابنتي العزيزة». لم يعرف السبب، ولكنه ببساطة أحب الأمر بشدة! في كل مرة كان يخرج من عندها، كان يشعر بالسعادة وتغمره الطيبة، وكان يفكر في الغابات التي تنتشر بها أشجار الزان والمدن المسيجة أو في كارل شورز والثورة الرومانسية.
ذهب كي يرى السيدة إرليش قبل أن يذهب إلى المنزل لقضاء الإجازة، ووجدها تعد كعك عيد الميلاد الألماني. أخذته إلى المطبخ وشرحت له التقاليد شبه المقدسة التي تحكم طريقة تحضير هذه الأكلة المعقدة. رأى كلود أن حماستها وجديتها وهي تخفق المكونات وتقلبها كانتا رائعتين بشدة. عددت له على أصابعها المكونات الكثيرة للكعك، ولكنه اعتقد أن هناك مكونات لم تذكرها؛ وهي رائحة الصداقات القديمة، ووهج الذكريات الأولى، والإيمان بالقصائد والأغاني القادرة على فعل العجائب. لا ريب أن هذه أشياء جيدة تستحق أن توضع في الكعك الصغير! بعدما تركها كلود، فعل شيئا لم يفعله أحد من عائلة ويلر؛ ذهب إلى شارع أوه وأرسل إليها باقة من أكثر الزهور حمرة. وكان يحتفظ في جيبه برسالة الشكر القصيرة التي كتبتها من أجله.
7
أوشك الظلام أن يرخي أستاره عندما وصل كلود إلى المزرعة. وبينما توقف رالف كي يركن السيارة، مشى هو بمفرده إلى المنزل. لم يسبق أن عاد من دون أن تسكنه العواطف، رغم أنه حاول مرارا وتكرارا أن يتغاضى عن مرات المغادرة والرجوع هذه التي كانت جميعها معتادة بالنسبة إليه. عندما كان يصعد إلى التل بتلك الهيئة متجها إلى البيت العالي ذي النوافذ المضيئة، دائما ما كان ينقبض قلبه. كان يحب العودة إلى المنزل ويكرهها في الوقت نفسه. كان محبطا على الدوام، ولكن دائما ما كان يستشعر صواب العودة إلى منزله. وحتى عندما كان يثبط معنوياته ويحطم كبرياءه، كان يشعر أن الصواب في أن يظل متواضعا هكذا. لم يشك في أن أسوأ الحالات المزاجية هي أصدقها، وأنه كلما نأى الإنسان عن التفكير في نفسه، زاد احتمال أن يكون مصيبا في تقديره.
لما اقترب كلود من الباب، توقف لحظة ونظر إلى الداخل من نافذة المطبخ. رأى الطاولة معدة للعشاء وماهيلي واقفة عند الموقد تقلب شيئا في قدر حديدي كبير؛ على الأرجح عصيدة دقيق الذرة؛ فهي كثيرا ما تطهو هذه الأكلة لنفسها؛ لأن أسنانها بدأت في السقوط. لقد كانت تقف محنية تمسك بإحدى يديها القدر، وتضرب باليد الأخرى المكونات الصلبة، وتومئ برأسها بنفس إيقاع هذه الحركة الدوارة. تصاعدت عواطف مضطربة داخل كلود. ودخل مسرعا واحتضنها بقوة.
تجعد وجهها وهي تبتسم الابتسامة الساذجة التي كان يعرفها جيدا. وقالت: «يا إلهي، كم أرعبتني يا سيد كلود! لو زدت قليلا لسقطت مني العصيدة كلها على الأرض. تبدو بخير، أيها الفتى اللطيف!»
كان يعرف أن ماهيلي تسعد بعودته إلى المنزل أكثر من أي أحد آخر عدا والدته. ولما سمع وقع خطوات والدته المتنقلة وغير الواثقة على السلم المسيج، فتح الباب وجرى كي يقابلها في منتصف السلم واحتضنها بقوة بعض الشيء، ولكن بحنان كان يشعر به دوما، ولكن نادرا ما كان يستطيع إظهاره. مدت كلتا يديها باتجاهه وربتت على شعره للحظة، وأخذت تضحك كما يفعل المرء مع الصبي الصغير، وتخبره بأنها تظن أن حمرة شعره تزداد في كل مرة يعود فيها. «هل حصدنا كل الذرة يا أمي؟» «كلا يا كلود، لم نفعل. تعلم أننا دائما متأخرون. كان الطقس جيدا، ومناسبا للتقشير أيضا. ولكننا على الأقل تخلصنا من هذا البائس الذي يدعى جيري، وهذا شيء محمود. ما حدث أنه لما كان في المدينة في أحد الأيام، دخل في نوبة غضب شديدة وهو عائد إلى المنزل، ورآه ليونارد دوسن وهو يضرب أحد خيولنا بمقرن الرقبة. أخبر ليونارد والدك وعبر عن رأيه بصراحة، وعليه طرد والدك جيري. لو أخبرته أنت أو رالف بالأمر، فعلى الأرجح ما كان يرجى أن يتخذ أي إجراء. ولكني أظن أن كل الآباء على هذا المنوال.» انطلقت منها ضحكة خافتة على نحو واثق، وأخذت تتكئ على ذراع كلود وهما ينزلان على السلم. «أظن ذلك. هل تأذى الفرس كثيرا؟ أي فرس كان يضربه؟» «الفرس الصغير الأسود، بومبي. أعتقد أنه فرس سيئ بعض الشيء. يقول الناس إن إحدى العظام الموجودة فوق عينه قد كسرت، ولكنه على الأرجح سيتعافى ويصبح بحال جيدة.» «بومبي ليس سيئا؛ إنه عصبي. كل الخيل يكره جيري، ولديهم الحق في ذلك.» هز كلود كتفه كي يطرد صور هذا النذل المثيرة للاشمئزاز التي استرجعها عقله. سبق أن رأى أشياء تحدث في الحظيرة ولم يستطع أن يخبر والده عنها على الإطلاق. دخل السيد ويلر إلى المطبخ، وتوقف في طريقه وهو صاعد إلى الطابق العلوي بعض الوقت ليقول: «مرحبا يا كلود. تبدو بصحة جيدة جدا.» «نعم يا أبي. أنا بخير، شكرا لك.» «أخبرني بايليس أنك كنت تلعب كرة القدم كثيرا.» «ليس أكثر من المعتاد. لعبنا ست مباريات، واستطعنا الفوز فيها بوجه عام. ولكن جامعة الولاية لديها فريق رائع.»
رد السيد ويلر متشدقا وهو يصعد السلم: «توقعت ذلك.»
مر العشاء كالمعتاد. ظل دان يبتسم ابتسامة عريضة ويغمز إلى كلود؛ إذ كان يحاول أن يعرف إن كان قد علم بالفعل بما آل إليه مصير جيري أم لا. أخبره رالف بما جرى في الجوار؛ جارهم الألماني جاس يودر رفع قضية ضد مزارع أطلق النار على كلبه. كما أن ليونارد دوسن كان يعتزم الزواج من سوزي جراي. تذكر كلود أنها الفتاة التي صفع ليونارد بايليس بسببها.
بعد العشاء، خرج رالف والسيد ويلر بالسيارة لحضور احتفال بعيد الميلاد في مبنى مدرسة البلدة. جلس كلود وأمه كي يحظيا بحديث هادئ بجانب المدفأة التي تعمل بالفحم الصلب في غرفة المعيشة بالطابق العلوي. كان كلود يحب هذه الغرفة، خاصة عندما يغيب والده عن المنزل. السجادة القديمة والكراسي الباهتة اللون وطاولة الكتابة والنقش المهترئ البادي على الأريكة، والمستمدة كافة المشاهد البادية عليه من كتاب «رحلة الحاج»؛ كانت تشعره هذه الأشياء بالراحة الشديدة. كثيرا ما كان رالف يقترح إعادة تأثيث الغرفة باستخدام خشب البلوط، وأسلوب التصميم القائم على البساطة وقلة الزخرفة، ولكن كلود ووالدته حافظا عليها بشكلها الحالي حتى ذلك الحين.
جلس كلود على كرسيه المفضل وبدأ يخبر والدته عن أولاد إرليش وأمهم. استمعت إليه ولكنه لاحظ أنها كانت مهتمة أكثر بأحوال آل تشابين، وهل تحسن حلق إدوارد أم لا، وأين يعظ هذا الخريف. كانت تلك واحدة من الأشياء التي كانت تثبط رغبته في العودة إلى المنزل؛ كان لا يمكنه قط أن يثير اهتمام والدته بأي أشياء جديدة أو أشخاص جدد إلا إذا كانوا مرتبطين بالكنيسة بنحو أو بآخر. كان يعلم أيضا أنها دائما ما تتمنى أن تسمع أنه في النهاية شعر بالحاجة إلى أن يكون قريبا أكثر من الكنيسة. إنها لم تكن تلح عليه فيما يتعلق بهذه الأشياء، ولكنها أخبرته مرة أو مرتين أن لا شيء يمكن أن يحدث في العالم ويسعدها أكثر من أن تراه قريبا من الرب. ولما تحدث معها عن آل إرليش، أدرك أنها كانت تتساءل عما إذا كانوا من «أهل الدنيا» بشدة أم لا، وخشيت من تأثيرهم عليه. لم تسر الأمسية على النحو المطلوب؛ ومن ثم ذهب إلى الفراش مبكرا.
كان كلود يمر بوقت عصيب؛ إذ كان يعتصره الشك والخوف عندما يفكر كثيرا في الدين. ظل عدة سنوات - من سن الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة - يعتقد أنه سيضيع إذا لم يتب ويخضع لهذا التغيير الغامض المسمى بالهداية. ولكن كان بداخله شيء عنيد يحول دون استفادته من هذا العفو المقدم. كان يشعر بالذنب، ولكنه كان لا يريد أن يزهد في عالم لا يعرف عنه شيئا حتى الآن. كان يريد أن يخوض غمار الحياة بكل قوته، مطلقا العنان لكل ملكاته. لم يرد أن يكون مثل الشباب الصغير الذين يقولون في اجتماعات الصلاة إنهم يعتمدون على مخلصهم. لقد كان يكره طريقتهم في القبول الخانع للمتع المباحة.
في تلك الأيام، كان لديه خوف جسدي شديد من الموت. كانت أي جنازة - مشهد أحد الجيران وهو راقد متيبس في نعشه الأسود - يملأ أوصاله بالرعب. اعتاد أن يستلقي مستيقظا في الظلام ويفكر في الموت، ويحاول أن يضع خطة للهروب منه، ويتمنى غاضبا لو لم يولد من الأساس. ألا توجد طريقة للخروج من العالم غير تلك؟ عندما كان يفكر في ملايين المخلوقات الوحيدة المتحللة تحت الأرض، لا يرى الحياة سوى فخ يصيد الناس وينهي حياتهم نهاية مروعة. لم يظهر على الأرض إنسان مهما بلغ من القوة والصلاح استطاع الهروب من الموت. ولكنه كان يتسلل إليه شعور أكيد في بعض الأحيان بأنه هو - كلود ويلر - سيستطيع الهروب من الموت؛ كان يعتقد في واقع الأمر أنه سيبتكر تحولا ذكيا ما كي ينقذ نفسه من التحلل. وعندما يعثر عليه فلن يخبر أحدا؛ سيكون ماكرا وسيبقي الأمر طي الكتمان. التعفن، التحلل ... كان لا يستطيع أن يسلم جسده الجميل الذي ينبض بالحياة إلى هذا الفساد! ما الذي تعنيه تلك الآية الواردة في الكتاب المقدس التي تقول: «لن تدع تقيك يرى فسادا»؟
إن كان هناك شيء يمكن أن يشفي صدر فتى ذكي من المخاوف الدينية المرضية، فإنه كلية دينية مثل تلك التي أرسل إليها كلود. لقد نبذ الآن كل اللاهوت المسيحي لأنه يراه مليئا بالمراوغات والمغالطات، بحيث يصعب الاعتماد عليه. كان متأكدا أن من وضعوه لا يختلفون عمن يدرسونه. ووفقا لنظريتهم، يمكن أن يذهب للجحيم أنبل الناس، في حين يمكن أن ينقذ أي إنسان وضيع الأخلاق بسبب إيمانه. «الإيمان» - كما رآه يتجسد في أعضاء هيئة التدريس بكلية تمبل - يستعاض به عن معظم الصفات الإنسانية التي يعجب بها. كان يريد الشباب أن يصبحوا قساوسة لأن الخجل أو الكسل دربهم، ويريدون للمجتمع أن يقوم على رعايتهم، ولأنهم يريدون أن تدللهم نساء لطيفات وبريئات، مثل والدته.
على الرغم من أن كلود لم يهتم باللاهوت وعلماء اللاهوت، فإنه كان سيقول إنه مسيحي. إنه كان يؤمن بالرب وبقدسية الأناجيل الأربعة وبعظة الجبل. اعتاد أن يتوقف ويتأمل آية «طوبى للودعاء»، حتى إنه فكر في أحد الأيام أن تلك الآية نزلت تحديدا في أناس مثل ماهيلي، ولا ريب أنها كانت مباركة!
8
في يوم الأحد الذي تلا عيد الميلاد، كان كلود وإرنست يتمشيان على ضفاف نهير لافلي كريك. مشيا إلى نهاية أرض الغابة التي كانت تتبع السيد ويلر وعادا. بدا الوقت وكأنه عصر يوم خريف؛ إذ كان الجو دافئا جدا لدرجة أنهما تركا معطفيهما على أحد الأغصان الكبيرة لشجرة دردار ملتوية بجوار سياج المراعي. بدت الحقول وقمم الأشجار العارية وكأنها تسبح في الضوء. كانت لا تزال بعض الأوراق الذابلة معلقة في الأشجار الكثيفة على طول النهير. في المرعى العلوي الذي يقع على مسافة تزيد على ميل من المنزل، وجد الفتيان كرمة ثمارها ذات مذاق حلو ولاذع، تلتف حول شجرة قرانيا صغيرة وتغطيها بالتوت القرمزي. كان الأمر أشبه بإيجاد شجرة عيد ميلاد تنبت على نحو طبيعي خارج المنزل. كانا يتحدثان عن بعض الكتب التي أحضرها كلود إلى المنزل، وعن مقرر التاريخ الذي يدرسه. لم يستطع كلود أن يخبر إرنست عن المحاضرات بالقدر الذي أراده، وشعر أن الجزء الأكبر من الخطأ في هذا الشأن يقع على عاتق إرنست؛ إذ لم يكن ذا عقلية واسعة الخيال. وعندما وصلا إلى الكرمة التي ثمارها ذات مذاق حلو ولاذع في الوقت نفسه، نسيا مناقشتهما واندفعا إلى الضفة كي يتأملا العناقيد الحمراء المتدلية من شجرة الكرم ذات اللون الرمادي وأوراقها الذهبية الذابلة التي لا تحتاج إلى أكثر من لمسة كي تسقط على الأرض. كانت تختفي الكرمة والشجرة الصغيرة التي تظللها في شق واد؛ ومن ثم نجتا من الرياح العاتية ومن أعين التلاميذ الذين كانوا يأخذون طريقا مختصرا إلى المنزل عبر المراعي في بعض الأحيان. وعند جذورها، كان النهير يتهادى ببطء وقد تحول ماؤه للون الأسود بين طبقتين متعرجتين من الجليد الذائب.
لما غادرا المكان وصعدا مرة أخرى وأصبحا على الأرض المستوية، شعر كلود مرة أخرى بضرورة أن يخرج إرنست من مزاجه المعتدل والعقلاني. «ما الذي ستفعله بعد ذلك يا إرنست؟ هل ستبقى مزارعا طوال حياتك؟» «هذا طبيعي. لو كنت قد تعلمت مهنة أخرى لسبقت إليها منذ زمن. ما الذي جعلك تسأل عن ذلك؟» «أوه، لا أعلم! أعتقد أن المرء يجب أن يفكر في المستقبل أحيانا. وأنت عملي للغاية.» «أتتحدث عن المستقبل؟» وأغلق إرنست إحدى عينيه وابتسم. «هذه كلمة كبيرة. بعدما أمتلك مكانا خاصا بي وأبدأ بداية جديدة، سأعود إلى دياري كي أرى أهلي يوما ما. ربما سأتزوج فتاة جميلة وأعود بها إلى هنا.» «هل هذا كل شيء؟» «هذا كاف، إذا تم ذلك على خير، أليس كذلك؟» «ربما. قد يختلف الأمر بالنسبة إلي. لا أظن أنني يمكن أن أستقر يوما على أي شيء. ألا تشعر على هذا النحو أنه لا يوجد الكثير فيها؟» «في ماذا؟» «في الحياة بوجه عام، التي تجري على النحو الذي نعيشه. ما الذي نخرج به منها؟ لأضرب لك مثلا بهذا اليوم؛ إنك تستيقظ في الصباح سعيدا لأنك على قيد الحياة، إنه يوم مناسب للقيام بأي شيء وأنت متأكد من أن شيئا سيحدث. وسواء كان اليوم يوم عمل أو إجازة، فالأمر سيان في النهاية. تخلد إلى النوم في الليل، ولم يحدث أي شيء.» «ولكن ما الذي تنتظره؟ ما الذي يمكن أن يحدث لك إلا ما يدور في عقلك؟ إذا انتهيت من عملي، وفي العصر ذهبت كي أزور أصدقائي كما هو الآن، فهذا كاف بالنسبة إلي.» «حقا؟ ما دمنا نعيش الحياة مرة واحدة، فيبدو أنه من المفترض أن يكون هناك شيء ... حسنا، شيء رائع في الحياة، أحيانا.»
أصبح إرنست متجاوبا معه الآن. اقترب من كلود أكثر وهما يتمشيان، ونظر إليه من طرف عينيه باهتمام. وقال: «أنتم، الأمريكيين، دائما ما تبحثون عن شيء خارج أنفسكم كي يمنحكم السعادة، ولكن لا سبيل إلى ذلك. في البلدان القديمة حيث لا يمكن أن يحدث لنا الكثير، نحن نعلم ذلك ... ونتعلم كيف نخرج بأقصى استفادة من الأشياء البسيطة.» «لا بد أن الشهداء عثروا على شيء خارج أنفسهم. وإلا لكان بإمكانهم الاكتفاء بالأشياء البسيطة.» «عجبا، يمكنني القول إنهم هم الأشخاص الذين لا يمتلكون شيئا إلا فكرتهم! من السخف أن يعدم المرء حرقا من أجل فكرة. أعتقد أحيانا أن الشهداء كان لديهم أيضا قدر كبير من الغرور ليساعدهم في المضي قدما في طريقهم.»
اعتقد كلود أنه لم يسبق أن رأى إرنست مملا هكذا. نظر بعينين نصف مغمضتين في شيء براق عبر الحقول، وقال بنبرة حادة: «إرنست، الحقيقة هي أنك تعتقد أن الإنسان ينبغي أن يرضى عن سكنه وملبسه وإجازات الأحد، أليس كذلك؟»
ارتسمت على وجه إرنست ضحكة حزينة. «فكرتي عن الحياة لا تهم كثيرا؛ الأشياء لا تتغير. أعتقد أنه لن ينزل شيء من السماء ويعلو بإنسان إليها.»
تمتم كلود بشيء لنفسه ولوى ذقنه من فوق ياقته وكأن في فمه لجاما.
غابت الشمس، ولما رأت السيدة ويلر الفتيين من نافذة المطبخ، بدوا وكأنهما يمشيان بجانب حريق كبير في أحد المروج. ابتسمت لما رأت خيالهما يتحرك بطول قمة التل تحت السماء الذهبية؛ حتى من تلك المسافة بدا أحدهما متكيفا جدا والآخر متمردا جدا. كانا يتجادلان على الأرجح، وعلى الأرجح أخذ كلود الجانب الخطأ.
9
بعد الإجازة، عاد كلود مرة أخرى إلى القراءة في مكتبة الجامعة. لقد كان يجلس على طاولة بجوار الكوة الموجودة في الجدار التي توجد فيها الكتب الخاصة بالرسم والنحت. كانت طالبات الفنون الجميلة - إذ كان كل طلاب هذا القسم من الفتيات - يقرأن ويهمسن بعضهن مع بعض في هذا المكان، وكان هو يستمتع بصحبتهن من دون أن يكون عليه التحدث إليهن. كانت هؤلاء الفتيات يتمتعن بالحيوية واللطف؛ وغالبا ما كن يطلبن منه أن يرفع لهن الكتب والمجلدات الثقيلة من الرفوف، ويبادلنه التحية بمرح عندما يقابلنه في الشارع أو في الحرم الجامعي، وكن يتحدثن معه بالأسلوب الودي المعتاد بين الأولاد والفتيات في مؤسسة تعليمية مشتركة. واحدة من هؤلاء الفتيات، وهي الآنسة بيتشي ميلمور، كانت مختلفة عن الأخريات؛ كانت مختلفة عن أي فتاة أخرى عرفها كلود من قبل. كانت من جورجيا، وكانت تقضي الشتاء مع عمتها القاطنة في شارع بي.
على الرغم من أن الآنسة ميلمور كانت قصيرة وبدينة، فإنها كانت تمشي بخطوات رشيقة، وكانت تتمتع بأدب وتحفظ أكثر من الفتيات الغربيات. كان شعرها أصفر ومجعدا؛ الخصلات القصيرة القريبة من أذنيها كانت بلون الفرخ الصغير. كانت عيناها الزرقاوان البراقتان جاحظتين قليلا، وخداها متوردين بشدة. بدا أن خديها كانا ينبضان بالحيوية لدرجة تدفع المرء إلى الرغبة في لمسهما؛ كي يرى هل هما ساخنان أم لا. كان يطلق عليها أبناء إرليش وأصدقاؤهم اسم «خوخة جورجيا». كانت الفتاة تعد غاية في الجمال، وقد لفتت أنظار فتيان الجامعة عندما أتت إلى المدينة للمرة الأولى. ولكن منذ ذلك الحين، قلت شعبيتها بعض الشيء.
كثيرا ما كانت الآنسة ميلمور تتلكأ في مغادرة الحرم الجامعي كي تذهب مع كلود إلى المدينة. ومهما حاول أن يضبط طريقة مشيه التي كانت بخطوات طويلة مع مشيتها الرشيقة، فكان لا بد لها أن تلهث وهي تحاول اللحاق به. دائما ما كانت تسقط قفازها أو كراسة الرسم خاصتها أو حقيبة يدها، وأحب هو أن يلتقطها لها وأن يساعدها في لبس الجرموق المطاطي الذي كان ينزلق من عند الكعب. كان يعتقد أنها كانت طيبة جدا بحيث تخصه بالاهتمام وتكون ودودة جدا معه. أقنعته حتى أن ترسمه بملابسه الرياضية كعارض في محاضرة الرسم المخصصة لذلك صباح يوم السبت، وأخبرته أنه يمتلك «جسدا رائعا»، وهي مجاملة أربكته تماما. ولكنه فعل بالطبع ما أرادته.
كان كلود يتطلع دائما لرؤية بيتشي ميلمور، وكان يفتقدها إذا لم يجدها في المكان الخاص بطالبات الرسم في المكتبة، ولا يرى غضاضة في ضرورة أن تشرح له سبب غيابها، وتخبره كم مرة كانت تغسل شعرها وطوله عندما كانت تفكه.
في أحد أيام الجمعة من شهر فبراير، قابل يوليوس إرليش كلود في الحرم الجامعي، واقترح عليه أن يذهبا للتزلج في اليوم التالي.
رد كلود: «حسنا، سأذهب. لقد وعدت الآنسة ميلمور أن أعلمها التزلج. ألن تأتي كي تساعدني؟»
ضحك يوليوس بلطف. «أوه، كلا! في وقت آخر. لا أريد أن أقحم نفسي في ذلك.» «هراء! يمكنك أن تعلمها أفضل مني.» «أوه، لا أمتلك الشجاعة!» «ما الذي تقصده؟» «أنت تعرف قصدي.» «كلا، لا أعرف. على أي حال، لماذا دائما ما تضحك عندما ترى تلك الفتاة؟»
عبس يوليوس قليلا. «لقد كتبت بعض الرسائل العاطفية إلى فيل بوين، وقرأها هو بصوت عال في مساكن الطلاب في إحدى الليالي.»
سأل كلود بعدما استشاط غضبا: «ألم تصفعه؟»
رد يوليوس مبتسما: «حسنا، فكرت أن أصفعه، ولكني لم أفعل. كانت الرسائل سخيفة جدا لدرجة جعلتني لا أود إثارة ضجة حولها. أصبحت متحفظا تجاه خوخة جورجيا منذ ذلك الحين. وإذا تعاملت برقة مع هذا النوع من الشخصيات، فربما يبقى ملتصقا بك.»
رد كلود بغرور: «لا أعتقد ذلك. كل ما هنالك أنها طيبة القلب.»
رد يوليوس معترفا: «ربما أنت على حق. ولكني أخاف كثيرا من الفتيات الطيبات القلب بشدة.» لقد أراد أن يحذر كلود بشأنها منذ وقت طويل.
لم يقطع كلود علاقته بالآنسة ميلمور. أخذها إلى بركة التزلج عدة مرات، رغم أنه عبر لها في البداية عن خوفه من أن يكون كاحلاها ضعيفين للغاية. قضيا نزهتهما الأخيرة في ضوء القمر، وبعد ذلك المساء تحاشى كلود مقابلة الآنسة ميلمور قدر الإمكان من دون أن يكون فظا معها. لم تعد جذابة بالنسبة إليه. كانت طريقتها في إخضاع أي شخص تتمثل في التقرب منه وجعله يتعلق بها. يكاد أن نسمي هذا تخطيطا، ولكنه درجة أقل من ذلك. سبق أن أوقعت بهذه الطريقة ابن عم لها شاحب البشرة في أتلانتا؛ ولهذا السبب أرسلت إلى الشمال. اعترف كلود غاضبا بأن لا يوجد تحفظ لديها، على الرغم من أن مظهرها كان يوحي بأنها تتمتع بقدر كبير منه عند رؤيتها للمرة الأولى. لم يغره فرط المشاعر لديها ولو بأقل قدر. لقد كان فتى لديه غرائز قوية، وكان يمقت فكرة العبث بها. حكايات والده التي لا تنضب عن الرجال ذوي السمعة السيئة لم تفسده، وإنما جعلته يمقت بشدة الشهوانية. في الحقيقة، كان لديه فخر شديد بالعفة.
10
كان آل إرليش يحبون حفلات الذكرى السنوية وأعياد الميلاد والمناسبات. في ذلك الربيع، أتت ابنة عم السيدة إرليش - فيلهلمينا شرودر شاتس - التي كانت تغني لصالح شركة شيكاجو أوبرا إلى لينكن لتقدم عرضا غنائيا منفردا في مهرجان مايو. ولما كان قد اقترب موعد حفلها، بدأ أقاربها الترتيب من أجل الاحتفاء بها. خطط أن تقدم فرقة ماتينيه ميوزيكال حفل استقبال رسميا لها؛ ومن ثم قرر آل إرليش إقامة مأدبة عشاء لها. دعا كل فرد في العائلة ضيفا واحدا؛ ولذا واجهوا صعوبة كبيرة في تحديد الصديق الذي يستحق أن يحظى بهذا الشرف. كان الرجال سيصبحون أكثر من النساء؛ إذ تذكرت السيدة إرليش أن ابنة عمها فيلهلمينا لم تكن قط تميل إلى صحبة من هن من نفس جنسها.
لما كان أولادها يراجعون القائمة في إحدى الأمسيات، ذكرتهم السيدة إرليش أنها لم تسم ضيفها بعد. قالت بحسم: «أما عن ضيفي، فيمكنكم كتابة اسم كلود ويلر.»
قوبل هذا القول بتذمر وضحك.
احتج الابن الأكبر قائلا: «أنت لا تقصدين ذلك يا أمي. كلود الطويل البائس لن يعرف الغرض من كل ما يدور حوله، ويمكن أن يفسد شخص ممل واحد مأدبة العشاء.»
أشارت السيدة إرليش إليه بإصبعها باقتناع. «سترى؛ ستهتم ابنة عمك فيلهلمينا بذلك الفتى أكثر من أي من الآخرين!»
فكر يوليوس أنها لو عارضها أحد بشدة، فلربما تنازلت عن رأيها. تمتم: «أحد الأسباب يا أمي أن كلود لا يمتلك ملابس تناسب حفلات العشاء.» أومأت إليه. وقالت: «بل لديه، سيد يوليوس. إنه يخيط بعض الملابس. وعندما تحدثت معه، أخبرني أن لا صعوبة لديه في هذا الشأن.»
قال الأولاد ما دامت الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، فعليهم تقبل الأمر والتعامل معه على أفضل نحو متاح، وكتب كبيرهم «كلود ويلر» متحمسا.
إذا كان أولاد إرليش متخوفين، فقلقهم لم يضاه قلق كلود. كان عليه أن يأخذ السيدة إرليش إلى الحفل الغنائي الخاص بالسيدة شرودر شاتس، وفي مساء يوم الحفل جرجره الأولاد إلى الداخل وقت ظهوره عند الباب كي يروا مظهره. أضاء أوتو الأنوار كافة، ودخلت السيدة إرليش - بحزامها الأسود الجديد فوق الفستان المصنوع من الستان الأبيض - إلى الصالة كي ترى مظهر رفيقها.
خلع كلود معطفه كما أمر، وظهر بملابس سوداء جديدة مصنوعة من قماش الجوخ. نظرت السيدة إرليش إلى ساقيه الطويلتين، وكتفيه الناعمتين، وأخيرا رأسه المربع ذي الشعر الأحمر، المائل باتجاهها بتودد. ثم ضحكت وصفقت. «ستلتف جميع الفتيات وهن في مقاعدهن كي ينظرن ويتساءلن من أين جئت به!»
بدأ كلود يضع متعلقاتها في جيبي معطفه؛ منظار الأوبرا في جيب، ومروحة يد في الجيب الآخر. وضعت نظارة الأوبرا في حقيبتها الصغيرة إلى جانب عبوة مسحوق تجميل ومنديل ونشادر، حتى إنها وضعت عبوة فضية صغيرة من قطرات النعناع الفلفلي تحسبا أن تصاب بالسعال. لبست قفازها الطويل وهندمت وشاح دانتيل على شعرها، وفي النهاية أصبحت جاهزة أن ترتدي معطف السهرة الذي كان يضعه كلود على كتفيها. عندما مدت يدها وأمسكت بذراعه وانحنت إلى أولادها، ضحكوا وأحبوا كلود أكثر. كانت طريقته المنظمة الحامية تمثل إطارا للصورة الصغيرة المبهجة التي كانت ترسمها.
أقيمت مأدبة العشاء في مساء اليوم التالي. ضيفة الشرف - السيدة فيلهلمينا شرودر شاتس - أصغر ببضعة أعوام من ابنة عمها أوجوستا إرليش. كانت قصيرة وقوية البنية وذات صدر ممتلئ وشعر جميل وحضور قوي. صوتها الأنثوي الرنان القوي الذي لا تتحفظ في استخدامه رائع حقا، ويمنح الناس متعة كبيرة لا تقل عن متعة الطعام والشراب. ولما أتى العشاء، جلست عن يمين الابن الأكبر. جلس كلود بجانب السيدة إرليش على الطرف الآخر من المائدة، وأخذ يراقب باهتمام السيدة التي تلبس ملابس مخملية خضراء، وأحجارا لامعة شبيهة بالماس.
بعد العشاء، وبينما كانت السيدة شرودر شاتس تخرج من غرفة الطعام، أفلتت ذراعها من ذراع ابن عمها وتوقفت أمام كلود الذي وقف منتبها خلف كرسيه.
قالت: «أرجو أن تسمح ابنة عمي أوجوستا لي بمحادثة قصيرة معك. كانت هناك مسافة كبيرة بيننا.»
أخذت كلود إلى مقعد بجانب النافذة في غرفة المعيشة، ومن فورها اشتكت من وجود تيار هواء، فأرسلته كي يأتي لها بوشاحها الأخضر. أحضر الوشاح ووضعه برفق حول كتفيها، ولكن بعد بضع لحظات أنزلته وعلى وجهها لمسة انزعاج وكأنها لم ترده مطلقا. ذكرها كلود بقلق بأمر تيار الهواء.
رفعت ذقنها وقالت: «تيار الهواء؟ لا يوجد تيار هواء هنا.»
سألت كلود عن المكان الذي أتى منه ومساحة الأرض التي يمتلكها والده، والمحاصيل التي يزرعونها، والطيور والماشية التي يربونها. في صغرها، عاشت في مزرعة في منطقة بافاريا، وبدا أنها كانت تعرف الكثير عن الزراعة والماشية. استنكرت لما أخبرها كلود أنهم يؤجرون نصف أرضهم لمزارعين آخرين. قالت: «لو كنت في شبابي لبدأت في امتلاك الأراضي وما توقفت حتى أمتلك مقاطعة كاملة.» قالت إنها عندما كانت تقابل أناسا جددا، فإنها تحب أن تعرف شيئا عن طرق عيشهم؛ فطريقتها في العيش صعبة.
في وقت لاحق من الأمسية، تكرمت السيدة شرودر شاتس ووافقت أن تغني لأبناء عمومتها. عندما جلست على البيانو أشارت إلى كلود وطلبت منه أن يلتفت إليها. هز رأسه وابتسم بحزن. «آسف، ولكني جاهل ولا أعرف النغمات الموسيقية بعضها من بعض.»
ربتت على كمه. «حسنا، لا تقلق. قد أرغب في تحريك البيانو؛ يمكنك أن تفعل ذلك من أجلي، أليس كذلك؟»
لما دخلت السيدة شرودر شاتس إلى غرفة نوم السيدة إرليش، ووضعت مسحوق تجميل على أنفها قبل أن ترتدي دثارها، أشارت قائلة: «يا للأسف، يا أوجوستا، ليس لديك ابنة لتزويجها من كلود ميلنوت هذا. كان سيصبح زوج ابنة صالحا.»
تنهدت السيدة إرليش قائلة: «آه، لو كانت لدي واحدة!»
أردفت السيدة شرودر شاتس وهي تلبس بنشاط حذاء سفر كبيرا: «أو لو أنك أصغر ببضع سنوات، فلربما لم يكن الوقت قد تأخر كثيرا. أوه، لا تكوني حمقاء يا أوجوستا! لقد حدثت هذه الأشياء من قبل، وستحدث مرة أخرى. ولكن أفضل لي أن أبقى أرملة على أن أرتبط برجل مريض، وكأنه غصة في حلقي! إن زوجي مريض وأنا امرأة بكامل قوتي. [ثم أضافت بالألمانية] جاس هو العبء الذي يجب أن أتحمله!» وضربت صدرها، على الجانب الأيسر.
لما لبست السيدة شرودر شاتس معطفا مخمليا ثم عباءة من الفرو، مشت وكأنها سفينة شراعية كبيرة إلى غرفة المعيشة، وقبلت جميع أبناء عمومتها وكذلك كلود ويلر، وتمنت لهم ليلة سعيدة.
11
في عصر يوم دافئ في شهر مايو، جلس كلود في غرفته بالطابق العلوي في منزل تشابين، وعكف على كتابة بحثه الذي كان سيحل محل عقد اختبار في التاريخ. كان البحث عبارة عن نقد لشهادة جان دارك في جلسات التحقيق الخاصة التسعة خاصتها والمحاكمة في المحكمة. أعطاه الأستاذ هذا الموضوع بمرح. وعلى الرغم من كثرة الأقلام التي تناولت هذا الموضوع منذ القرن الخامس عشر، من أصحاب الكتابات المحايدة والمهاجمة وأصحاب الملاحم والمتشككين، فإنه شعر أن ويلر لن يبخس الأمر حقه.
في الحقيقة، بذل كلود قدرا كبيرا من الوقت والجهد في هذا الموضوع، وبدا بالنسبة إليه في ذلك الوقت أهم شيء في حياته. عمل من ترجمة إنجليزية لوقائع التحقيق والمحاكمة، ولكنه أبقى بجواره النص الفرنسي، ولكن بعض الردود صعب عليه فهمها باللغة التي لفظت بها. بدا له أن تلك العبارات كانت تشبه كلام القديسين الذين قالت عنهم جان «الصوت جميل وعذب ومنخفض، ويتحدث باللغة الفرنسية». أقنع كلود نفسه أن دراسته مجردة من أهوائه وميوله؛ وبذلك فهي تقييم محايد لدوافع الفتاة وشخصيتها حسبما تشير مواطن الاتساق والتضارب في ردودها، وكذلك للتغيير الذي أحدثه فيها السجن و«الخوف من الحرق».
عندما انتهى من كتابة الصفحة الأخيرة في بحثه وجلس يتأمل كومة الأوراق المكتوبة، أحس بعدما انكب على هذه الدراسة أن معلوماته في حقيقة الأمر عن عذراء أورليان زادت فقط بقدر ضئيل عن تلك التي سمعها من والدته عنها لما كان صبيا صغيرا. تذكر أنه حينها لزم البيت بسبب نزلة برد، وعثر على صورة لها بملابس عسكرية في كتاب قديم، فأخذها ونزل إلى المطبخ حيث كانت تعد والدته فطائر تفاح. نظرت إلى الصورة، ولما كانت تبسط العجين كي تضعه في المقالي، أخبرته بالقصة. نسي ما قالته - إذ لا بد أن القصة كانت مجتزأة جدا - ولكن منذ ذلك الحين، علم الوقائع الأساسية عن جان دارك، وظلت شخصية راسخة في عقله. بدت له حينها واضحة مثل الآن، ورآها أعجوبة الآن مثلما رآها في ذلك الوقت.
فكر متعجبا من قدرة هذه الشخصية على الرسوخ في العقل على هذا النحو؛ فبصورة أو كلمة أو عبارة، بإمكانها أن تظل متجددة في عقول كل جيل وتعلق مرارا وتكرارا بأذهان الأطفال. في ذلك الوقت، كان لم يسبق له أن رأى خريطة لفرنسا، وكان لديه نفور شديد جدا من أي مكان أبعد من شيكاجو، ولكنه كان مستعدا بشدة لتقبل أسطورة جان دارك، وكثيرا ما كان يفكر فيها عندما يدخل خيوله في المساء، أو عندما يرسل إلى طاحونة الهواء من أجل إحضار الماء، ويقف يرتجف في البرد بينما ترفعها المضخة الباردة ببطء. ظل يتخيلها كثيرا في ذلك الوقت كما كان يفعل الآن؛ تجمعت حول هيئتها في مخيلته سحابة مضيئة تشبه الغبار، وبداخلها جنود ... وراية بها زنابق ... وكنيسة عظيمة ... ومدن لها أسوار.
في ذلك العصر الربيعي الجميل، شعر كلود أنه في تناغم وتوافق مع العالم. أسف على إنهاء عمله مثل إدوارد جيبن، ولم يستطع رؤية أي شيء آخر مثير للاهتمام يمكنه فعله في الآونة القادمة. كان لا بد أن يعود إلى المنزل بعد مدة وجيزة. كان سيخضع لبضعة اختبارات في كلية تمبل، وسيمضي بضع أمسيات أخرى مع آل إرليش، وسيذهب في رحلات إلى المكتبة كي يعيد الكتب التي كان يستخدمها؛ وبعد ذلك سيفاجأ بأنه لن يبقى أمامه سوى أخذ القطار إلى فرانكفورت.
قام متنهدا وبدأ تجليد أوراق بحثه التاريخي. ولما نظر من النافذة، قرر أن يذهب إلى المدينة مشيا ومعه بحثه الذي يجب تسليمه اليوم؛ كان الجو لطيفا لدرجة تصعب معه الجلوس والتعرض للاهتزاز في عربة ترام. الحقيقة هي أنه رغب في إطالة الاحتفاظ ببحثه أطول مدة ممكنة.
مضى في طريقه، الذي يمكن تسميته بصعوبة شارعا؛ إذ يمر من وسط أرض البراري المفتوحة حيث تزهر ثمار البرقوق. مشى كلود بوتيرة أبطأ من المعتاد، واندفعت قبعته المصنوعة من القش إلى خلف رأسه، وامتلأ وجهه بوهج الشمس. شعر جسده بأنه خفيف وسط الريح المعطر، واستمع على نحو ناعس إلى زقزقة عصافير القنبر على الأعشاب الجافة وسيقان دوار الشمس. في هذا الفصل، تكاد ألحانها توجع سامعها من عذوبتها الشديدة. كان يتذكر أحيانا هذه المسيرة بعد ذلك بمدة طويلة؛ فهو لم ينسها على الرغم من أنه لم يكن يعرف السبب في ذلك.
لما وصل إلى الجامعة، ذهب مباشرة إلى قسم التاريخ الأوروبي كي يترك بحثه على طاولة طويلة كانت توجد عليها كومة من الأبحاث الأخرى. خشي فعل ذلك بشدة، وسعد لما دخل ووجد الأستاذ يخرج من مكتبه الخاص ويأخذ بحثه المجلد في يديه، ويومئ له بود. «هل هذا بحثك؟ أوه نعم، جان دارك. إجراءات المحاكمة. لقد نسيت. إنه موضوع مثير للاهتمام، أليس كذلك؟» فتح الغلاف وتصفح الصفحات. «أظن أنك برأتها بناء على الوقائع؟»
توردت وجنتا كلود. «نعم يا سيدي.» «والآن، قد تحتاج إلى قراءة ما قاله عنها ميشليه. توجد ترجمة قديمة لعمله في المكتبة. هل استمتعت بالبحث؟» «استمتعت كثيرا.» تمنى كلود من أعماقه لو أسعفه الكلام. «لقد تعلمت الكثير والكثير من هذا البرنامج الدراسي، بوجه عام، أليس كذلك؟ سأحرص على أن أرى ما ستفعله في العام القادم. سررت ببحثك كثيرا.» عاد الأستاذ إلى غرفته، وسر كلود لما رآه يأخذ بحثه معه ولم يتركه على الطاولة مع الأبحاث الأخرى.
12
في الآونة ما بين الحصاد وتجهيز الدريس في ذلك الصيف، ذهب السيد ويلر ورالف إلى دنفر بالسيارة الكبيرة، وتركا كلود ودان من أجل زراعة الذرة. ولما عادا، قال السيد ويلر إن لديه سرا. وبعد عدة أيام من التكتم التي لزم فيها غرفة الجلوس يكتب خطابات، وكان يرمي فيها بكلمات وغمزات غامضة إلى رالف على الطاولة، أعلن عن مشروع أطاح بكل خطط كلود وأهدافه.
في رحلة العودة من دنفر، عرج السيد ويلر إلى مقاطعة يوكا بولاية كولورادو كي يزور صديقا قديما يعاني من بعض المشكلات. كان توم ويستد من أهل ولاية مين، ومن بلدة السيد ويلر. فقد الرجل زوجته منذ عدة سنوات. وتدهورت صحته، وقال الأطباء في دنفر إنه يجب أن يتقاعد عن العمل ويعيش في مكان على ارتفاع منخفض. أراد أن يعود إلى ولاية مين ويعيش بين أحبائه، ولكنه كان لديه يأس وخوف شديدان من أن تسوء حالته لدرجة جعلته لم يسع حتى لبيع مزرعته وماشيته. استطاع السيد ويلر أن يساعد صديقه، وفي الوقت نفسه عقد صفقة أعمال جيدة لنفسه. إنه كان يمتلك مزرعة في ولاية مين - وهي نصيبه من إرث والده - وظل يؤجرها سنوات مقابل أجرة زهيدة لا تكاد تزيد على تكاليف صيانتها. نقل السيد ويلر ملكية هذه الأرض للرجل مع أخذ قرض عقاري قابل للتحويل إلى طرف ثالث، وحصل في المقابل على مزرعة ويستد الرائعة التي تروى على نحو جيد. دفع له مبلغا جيدا مقابل الماشية، ووعد بأخذ الرجل المريض إلى مين مرة أخرى والحرص على استقراره هناك. شرح السيد ويلر كل هذه الأمور لعائلته عندما دعاهم إلى غرفة المعيشة في ليلة شديدة الحرارة بعد العشاء. نادرا ما تشغل السيدة ويلر بالها بشئون أعمال زوجها، ولكنها سألت غير مبالية عن سبب شراء المزيد من الأراضي، وهم يمتلكون بالفعل مساحات كبيرة ولا يستطيعون حتى زراعة نصفها.
رد السيد ويلر دون غضب: «شأنك شأن كل النساء يا إيفانجلين، شأنك شأن كل النساء!» كان يجلس في الوهج الكامل للمصباح الأسيتيليني وطوق عنق قميصه مفتوح، وياقته وربطة عنقه بجانبه على الطاولة، ويهوي على نفسه بمروحة من سعف النخل. «ربما ستسألينني أيضا لماذا أسعى إلى كسب مزيد من المال ما دمت لم أنفق كل ما لدي.»
قال إنه ينوي أن يترك مزرعة كولورادو تحت إمرة رالف و«يعطي الفتى بعض المسئوليات». رالف كان سيساعده رئيس العمال الذي يعمل لدى ويستد؛ حيث إن له باعا كبيرا في أعمال خدمة الماشية، وأبدى موافقته على البقاء في العمل مع صاحب المزرعة الجديد. طمأن السيد ويلر زوجته بأنه لم يستغل ظروف ويستد البائسة؛ الأشجار في مزرعة مين تستحق بالفعل مبلغا كبيرا، ولكن لأن والده كان دائما يتفاخر بشدة بأشجار الصنوبر الكبيرة الخاصة به، فإنه - على حد قوله - لم يشعر قط بالرغبة في العبث بتلك الأشجار وإتلافها. والآن، كان يقايض مزرعة قديمة خصبة لم تكن تدر أي ربح بمزرعة من عشب الجراما من المفترض أن تدر ربحا لا يقل عن عشرة أو اثني عشر ألف دولار في سنوات الرعي الجيدة، ولا تتسبب في خسائر كبيرة في سنوات الرعي السيئة. توقع أن يقضي نصف وقته في تلك المزرعة مع رالف. ثم علق بمرح: «عندما أكون هناك، فلن تكون هناك أعمال كثيرة أمامك أنت وماهيلي. ويمكنكما تكريس وقتكما للتطريز، إن جاز القول.»
تمتمت السيدة ويلر وهي لا تزال في الظلام قائلة: «إذا كان رالف سيعيش في كولورادو وأنت لن تكون هنا نصف الوقت، فلا أعلم ماذا سيحل بذلك المكان.»
رد زوجها وهو يمدد جسده الكبير حتى طقطق الكرسي الهزاز من تحته: «لا يهم أن تعلمي يا إيفانجلين. سيتولى كلود مسئولية الاعتناء بالمكان.» «كلود؟» مررت السيدة ويلر يدها على خصلة من شعرها، وأزاحتها عن جبهتها الرطبة في فزع غريب. «بالطبع.» نظر بعينين لامعتين إلى هيئة ولده الصامتة والواقفة في ركن الغرفة. «أظن أنك تعلمت ما يكفي عن علم اللاهوت، أليس كذلك؟ أنت لا تطمح إلى أن تصبح واعظا؟ في هذا الشتاء، أنوي تسليم زمام المزرعة لك وإعطاءك الفرصة كي تصوب الأمور فيها. لم تكن راضيا عن طريقة إدارة المكان في وقت ما، أليس كذلك؟ انطلق وطوره. يمكنك تطبيق أفكار جديدة إذا أردت، لا اعتراض لدي. إنها مكلفة ولكن لا بأس. يمكنك طرد دان إذا أردت والحصول على المساعدة التي تريدها.»
شعر كلود وكأن فخا يلتف من حوله. ظلل عينيه بيده. وقال بنبرة مترددة: «لا أظن أنني أتمتع بالكفاءة كي أدير المكان على النحو الصحيح.» «حسنا، أنت لا تظن أنني أيضا أتمتع بتلك الكفاءة يا كلود؛ ولذا نحن في موقف صعب. دائما ما كنت أعتقد أن الأرض خلقت من أجل الإنسان، على عكس دوسن العجوز الذي يرى أن الإنسان خلق كي يعمر الأرض. لا أمانع تحيزك إلى آل دوسن في اختلاف الآراء ذاك، إذا استطعت الحصول على نتائجهم.»
نهضت السيدة ويلر وخرجت مسرعة من الغرفة، وأخذت تتحسس طريقها عبر السلم المظلم إلى المطبخ. كان المكان مظلما وهادئا هناك. جلست ماهيلي في ركن هناك تخيط حواشي مناشف الأطباق على ضوء مصباح نحاسي قديم متسخ كانت تفضل الجلوس على ضوئه. ظلت السيدة ويلر تسير جيئة وذهابا في الغرفة الطويلة في انفعال هادئ وصامت، وتضغط بكلتا يديها بقوة على صدرها الذي كانت تشعر بألم فيه بسبب التعاطف مع كلود.
تذكرت توم ويستد الطيب. سبق أن بات معهم في المنزل عدة مرات، وأتى من أجل أن يواسوه بعد موت زوجته. بدا لها أن تدهور حالته الصحية وفقدانه الشغف، ورحلة السيد ويلر غير المتوقعة إلى دنفر، ومزرعة أشجار الصنوبر في ولاية مين؛ عناصر تجمعت بعضها مع بعض، وشكلت شبكة كي تحيط بابنها غير المحظوظ. كانت تعلم أنه كان ينتظر بنفاد صبر قدوم الخريف، وأنه للمرة الأولى كان يتطلع بشدة للعودة إلى الكلية. كان يشعر بالاشتياق إلى أصدقائه - آل إرليش - وانشغل عقله طوال الوقت بمقرر التاريخ الذي كان ينوي دراسته.
لكن كل ذلك ما كان ليزن شيئا في اجتماعات الأسرة؛ ولذا على الأرجح لن ينطق حتى بأي منه، كما أنه لم يكن لديه اعتراض واحد جوهري يبديه على رغبات والده. لذا سيكون إحباطه مريرا. تمتمت بصوت عال: «يا إلهي، هذا سيجعل قلبه ينفطر.» ماهيلي كانت ضعيفة السمع ولم تسمع شيئا. جلست رافعة عملها أمام الضوء، وأخذت تدفع إبرتها بكشتبان نحاسي كبير، وتومئ برأسها ناعسة بين الغرز. وعلى الرغم من أن السيدة ويلر لا تكاد تكون واعية بوجود المرأة العجوز، فإن هذا الوجود كان يريحها وهي تمشي ذهابا وإيابا بخطوات عشوائية وغير واثقة.
غادرت غرفة الجلوس خشية أن يغضب كلود ويتفوه بكلام فظ أمام والده، ولأنها لا تتحمل رؤيته على هذا الوضع. دائما ما كان كلود يجد الحياة صعبة العيش؛ كان يعاني بشدة حتى فيما يتعلق بالأشياء البسيطة، وكانت هي تعاني معه. من جهتها، لم تشعر بأي إحباط من قبل. لم تنزعج من قرارات زوجها المتهورة. وإن قال إنه لن يزرع الحديقة على الإطلاق هذا العام، فما كانت لتعترض. ماهيلي هي التي كانت تتذمر. إذا أراد أكل لحم عجل مشوي وذهب وذبح عجلا، فستفعل ما بوسعها كي تجيد طهي اللحم جيدا، وستحاول ألا تقلق إن أفسدت بعضه. عندما لا تستغرق في التأمل الديني، فربما تفكر في أحد الكتب القديمة التي قرأتها مرارا وتكرارا. حياتها الشخصية كانت منفصلة تماما عن أنشطتها اليومية، لدرجة أن الرجال المندفعين والعنيفين لا يمكن أن يقتحموها. ولكن فيما يتعلق بكلود، فقد عاشت في مستوى آخر ينحدر إلى درجة أدنى يشوبها الانفعال البشري، وتنبض بالمشاعر الإنسانية البائسة والعشوائية والغاضبة.
هكذا كانت الحال دوما. والآن رغم تقدمها في العمر وجسدها الذي لم يعد يهتم بالألم أو المتعة مثل صور الشمع المذاب في الكنائس القديمة، فإنها كانت لا تزال تهتز لمشاعره وتصبح سريعة الانفعال مرة أخرى من أجله. أحزانه أوهنت قواها. وكانت تتألم من داخلها عندما يتأذى أو يعاني. وعلى العكس، عندما يكون سعيدا، تسري موجة من الرضا في جسدها. وإذا استيقظت في الليل وتصادف أن اعتقدت بأنه كان سعيدا في الأوقات الأخيرة، فستنام في هدوء وسكينة في سريرها الدافئ.
عندما كانت تستيقظ على هذا الوضع وتفكر فيه، كانت في بعض الأحيان تهمس له في عقلها: «استرح، استرح، حبيبي القلق.» كانت عيناه تلمعان بضوء فريد عندما يبتسم إليها في أحد أيامه الطيبة، وكأنه يخبرها أن الأمور على ما يرام في مملكته الداخلية. سبق أن رأت هذه النظرة مرارا وتكرارا، وكانت دائما تستطيع تذكرها في الظلام؛ توهج سريع أزرق، رقيق وجامح بعض الشيء، وكأنه رأى رؤية أو لمح طموحا غير محدد.
13
كثر العمل في المزرعة في بضعة الأسابيع التالية. وقبل الانتهاء من حصاد القمح، حزم نات ويلر صندوقه المصنوع من الجلد، وارتدى «ملابسه الجاهزة»، وانطلق كي يعود بتوم ويستد إلى مين. في المدة التي غاب فيها، بدأ رالف يتهيأ للعيش في مقاطعة يوكا. أحب رالف أن يكون رجلا ذا شأن بين تجار فرانكفورت، ولم تسنح له من قبل فرصة كتلك. اشترى بندقية جديدة، وسروجا وألجمة، وأحذية عالية الرقبة، ومعطفين أحدهما طويل والآخر قصير؛ للوقاية من العواصف، وقطعا من الأثاث لغرفته، ووعاء حافظا للحرارة، وآلة فونوجراف، وشحن تلك الأغراض إلى كولورادو. لا تحب والدته موسيقى الفونوجراف، وتكره مونولوجات الفونوجراف؛ ولذا توسلت إليه أن يأخذ آلة الفونوجراف الموجودة في المنزل، ولكنه أكد لها أن المنزل سيكون مملا من دونها في أمسيات الشتاء. أراد شراء واحدة ذات أحدث العلامات التجارية الموسومة باسم مخترع أمريكي كبير.
بعض المزارع القريبة من مزرعة ويستد كان يمتلكها أناس من نيويورك أتوا مع عائلاتهم إلى هناك في الصيف. سمع رالف عن حفلات الرقص التي يقدمونها، وكان يعول على أن يكون واحدا من ضيوفهم. طلب من كلود أن يعطيه بدلة السهرة الخاصة به؛ لأنه لن يحتاج إليها بعد الآن.
قال كلود غير مبال: «يمكنك أخذها إن أردت. ولكنها لن تكون على مقاسك.»
رد أخوه بهدوء: «سآخذها إلى فريتس وأقصر السروال قليلا وأضيق الكتفين.»
لم يبال كلود. «خذها. ولكن إن قص هذا العجوز الألماني شيئا منها، فسيصبح شكلها قبيحا.» «أظنني سأجعله يحاول. لن يقول أبي شيئا عما طلبته من أجل المنزل، ولكنه لا يحبذ ملابس المناسبات الخاصة، كما تعلم.» من دون مزيد من اللغط، رمى ملابس كلود السوداء في المقعد الخلفي للسيارة الفورد، وانطلق إلى المدينة كي يذهب إلى الخياط الألماني.
لما عاد السيد ويلر، ظن أن رالف أطلق يده في الصرف، ولكن رالف أخبره أنه لا يستقيم أن يتولوا مسئولية المكان الجديد بإمكانيات متواضعة. «أصحاب المزارع هناك كلهم يعيشون حياة مرفهة. وإذا أمسكنا أيدينا، فسيعتقدون أننا لا نريد العمل.»
الجيران في البلدة، الذين كانوا دائما ما يعجبون بما يفعله آل ويلر، سروا بشدة ببذخ رالف بقدر ما سر هو به. قال أحدهم إن رالف أرسل بيانو جديدا إلى مقاطعة يوكا، وسمع آخر أنه طلب طاولة بلياردو. سأل جارهم الألماني الثري أوجست يودر متجهما إن كان بإمكانه استئجار قطعة أرض في المزرعة التي سيديرها رالف. ليونارد دوسن - المزمع زواجه في شهر أكتوبر - نادى على كلود في المدينة ذات يوم، وقال له: «يا إلهي، يا كلود، لم يتبق شيء في متجر الأثاث كي أشتريه أنا وسوزي! اشترى رالف كل شيء ما عدا النعوش. لا بد أنه سيعيش عيشة الأمراء هناك.»
أجاب كلود بهدوء: «لا أعلم شيئا عن ذلك. كل ذلك لا يخصني.» «كلا، أعتقد أن عليك أن تبقى في المكان القديم وتصلحه من أجل سداد الديون.» وقفز ليونارد إلى سيارته؛ ومن ثم لم تسنح الفرصة أمام كلود كي يرد.
لما لاحظت السيدة ويلر أيضا حجم هذه التجهيزات، بدأت تشعر أن الترتيب الجديد لم يكن عادلا بالنسبة إلى كلود الذي يعد هو الابن الأكبر والأعقل بكثير. دائما ما كان كلود يعمل بجد عندما يكون في المنزل، وكانت يده في العمل أكثر من رالف الذي لم يكن يفعل شيئا سوى العبث بالآلات، والقيام بمشاوير بالسيارة. لم تستطع فهم لماذا وقع عليه الاختيار لإدارة مشروع استثمر فيه مبلغ كبير جدا من المال.
في أحد الأيام، قالت على نحو حالم: «عجبا يا كلود، لو كان أبوك أكبر في العمر، لظننت أنه بدأ يفقد عقله. ألن نغرق في بحر عميق من الديون لو استمر الأمر بهذه الوتيرة؟» «لا تقولي شيئا يا أمي. إنها أموال أبي. لن يعتقد أني أريد أيا منها.» «ليتني أستطيع التحدث إلى بايليس. هل قال أي شيء؟» «لم يقل لي شيئا.»
سافر رالف والسيد ويلر مرة أخرى في رحلة سريعة إلى كولورادو، ولما عادا بدأ رالف يحث والدته كي تعطيه غطاء سرير ومفرش طاولة. قال إنه لن يعيش عيشة البرابرة، حتى في مناطق التلال الرملية. غضبت ماهيلي لما رأت المفرش الذي ظلت تغسله وتكويه وتعتني به عدة سنوات يؤخذ في الصناديق المسافرة. كانت كثيرا ما تغضب الآن، وذهبت وهي تتفوه ببضع كلمات لنفسها.
لم تحضر ماهيلي معها أي أغراض لما أتت كي تعيش مع آل ويلر سوى مرتبة محشوة بالريش وثلاثة ألحفة مرقعة ومبطنة بصوف من ظهور شياه فرجينيا، ومغسولة وممشطة يدويا. الألحفة صنعتها أمها العجوز وأعطتها لها مهرا. كل لحاف كان له تصميم ترقيع مختلف عن الآخر؛ الأول بنمط «الكوخ» الشهير، والثاني بنمط «ورقة نبات الغار»، والثالث بنمط «النجم المتوهج». اعتقدت ماهيلي أن اللحاف الأخير رائع جدا بحيث لا يجب استخدامه، وأخبرت السيدة ويلر أنها تحافظ عليه «كي تعطيه للسيد كلود عندما يتزوج».
كانت تنام على مرتبتها المحشوة بالريش في الشتاء، وفي الصيف تضعها في العلية. يمكن الوصول إلى العلية عن طريق سلم، نادرا جدا ما كانت تصعد عليه السيدة ويلر بسبب ضعف ظهرها. كانت ماهيلي ترتب الأشياء بطريقتها الخاصة في العلية، وكثيرا ما تصعد إلى هناك من أجل تهوية أغطية السرير المخزن فيها، أو للنظر إلى الصور الموجودة في أكوام المجلات القديمة. كان يمزح رالف ويطلق على العلية «مكتبة ماهيلي».
ذات يوم بينما كانت الأغراض تحزم إلى المزرعة الموجودة في الغرب، ذهبت السيدة ويلر إلى بداية السلم لتنادي على ماهيلي، ونجت من أن يصاب رأسها بسبب سقوط مرتبة كبيرة محشوة بالريش من باب العلية. وبعد لحظات، نزلت ماهيلي وهي تمسك بدرجات السلم بإحدى يديها، وتمسك بالألحفة الخاصة بها في اليد الأخرى.
قالت السيدة ويلر لاهثة: «عجبا يا ماهيلي. لم يحن الشتاء بعد، فلماذا تحضرين مرتبتك وألحفتك؟»
ردت: «أنا سأستلقي على مرتبتي، وإلا فلن يتبقى لي شيء لأنام عليه. لن أدع السيد رالف يحمل ألحفتي التي حاكتها أمي من أجلي.»
حاولت السيدة ويلر أن تتفاهم معها، ولكن المرأة العجوز حملت أغراضها بين ذراعيها ومشت بتعثر وهي تحملها في الصالة، وظلت تتمتم وتحرك رأسها مثل حصان في وقت انتشار الذباب.
في عصر ذلك اليوم، أحضر رالف برميلا وحزمة من القش إلى المطبخ، وطلب من ماهيلي إحضار بعض الفاكهة المحفوظة والمعلبة لأنه سيحزمها. أطاعته وذهبت إلى القبو، وخلع رالف معطفه، وبدأ في تبطين البرميل بالقش. استغرق بعض الوقت في فعل ذلك، ولكن لم تعد ماهيلي. ذهب إلى رأس سلم القبو وصفر لها ليستدعيها. «أنا آتية، يا سيد رالف، أنا آتية! لا تستعجلني، لا أريد أن أكسر شيئا.»
انتظر رالف بضع دقائق. ثم قال غاضبا: «ما الذي تفعلينه عندك يا ماهيلي؟ لو كنت أنا لأفرغت القبو بالكامل في ذلك الوقت. أظن أنني سأحضرها بنفسي.» «أنا آتية. سيغطى جسدك بالغبار إذا نزلت إلى هنا.» أتت إلى رأس السلم لاهثة وهي تحمل سلة كبيرة مليئة بالجرار، ويداها ووجهها ملطخان بالسواد.
زمجر رالف: «حسنا، لا بد أنه مترب! عليك تنظيف خزانة الفاكهة كل آونة يا ماهيلي. ينبغي أن تتعلمي من السيدة دوسن كيف تعتني بخزانتها. والآن، لنر.» فرز الجرار على الطاولة. «أرجعي مربى العنب. إن كان هناك طعام لا أحبه، فهو مربى العنب. أعلم أن لديك الكثير منها، ولكن لا يمكنك التخلص منها من خلالي. وعندما تصعدين، لا تنسي الخوخ المخلل. قلت لك، على وجه التحديد، الخوخ المخلل!» «ليس لدينا أي خوخ مخلل.» وقفت ماهيلي بالقرب من باب القبو ممسكة بطرف مئزرها إلى ذقنها، وارتسمت على وجهها نظرة عناد غريبة ومخيفة. «لا يوجد خوخ مخلل؟ يا له من هراء يا ماهيلي! رأيتك وأنت تحضرينه هنا، منذ بضعة أسابيع فقط.» «أعلم أنك رأيتني يا سيد رالف، ولكن لا يوجد أي منه الآن. لا حظ لدي مع الخوخ هذه السنة. كان يجب أن أهويه. ولكني أخطأت، واضطررت إلى رميه.»
انزعج رالف بشدة. «لم أسمع عن شيء كهذا من قبل يا ماهيلي! إهمالك يزيد كل سنة عن سابقتها. فكري في إهدارك لكل تلك الفاكهة والسكر! هل أمي على علم بذلك؟»
اكفهر وجه ماهيلي. وتمتمت: «أظن أنها تعرف. أنا لا أهدر سكر والدتك. ولم أهدر أي شيء قط.» كانت تزيد غرابة حديثها عن المعتاد عندما تغضب.
نزل رالف على سلم القبو وأضاء المصباح، وفتش خزانة الفاكهة. بات متأكدا من عدم وجود خوخ مخلل. لما عاد وبدأ يحزم فاكهته، وقفت ماهيلي تراقبه بعين ماكرة تشبه كثيرا نظرة ذئب براري مقيد بالسلاسل يعرضه صبي لزائريه ويقول إنه لن يهرب منه حتى لو سنحت له الفرصة.
زمجر رالف: «اذهبي إلى عملك. لا تقفي تراقبينني هكذا!»
في ذلك المساء، كان يجلس كلود على منصة طاحونة الهواء بالقرب من الحظيرة، بعد يوم عمل شاق في الحرث من أجل القمح الشتوي. كان يواسي نفسه بتدخين غليونه. وبغض النظر عن مقدار حب والدته له أو مقدار أسفها عليه، فإنها لم يكن بإمكانها قط أن تخبره أن بإمكانه التدخين في المنزل. كانت تلمع الأضواء من غرف الطابق العلوي في المنزل على التل، وتخرج أصوات الغناء الصاخبة من الفونوجراف من النوافذ. كان هناك شخص يسير بخطى حذرة أسفل الممر. ولما كانت الخطوات بطيئة وخفية عرف أن القادم ماهيلي؛ إذ كان مئزرها مرفوعا على رأسها. أتت إليه ولمسته على كتفه بطريقة تعني أنها ستبوح له بسر. «سيد كلود، حزم السيد رالف برميلا من مربى والدتك ومخللاتها كي يأخذها معه.» «لا بأس يا ماهيلي. السيد ويستد أرمل، ولا أظن أن مزرعته بها أي شيء من تلك الأطعمة.»
ترددت ومالت باتجاهه أكثر. «طلب مني الخوخ المخلل الذي أعددته لك، ولكني لم أعطه شيئا. أخفيته في موقدي القديم الذي وضعناه في القبو عندما أحضر السيد رالف موقدا جديدا. كذلك لم أعطه فاكهة والدتك المحفوظة الجديدة. أعطيته ما تبقى من منتجات العام الماضي، وهكذا أصبح لديك أنت ووالدتك الكثير.» ضحك كلود. «أوه، لا يهمني إن أخذ رالف كل الفاكهة الموجودة في المكان، يا ماهيلي!»
تراجعت قليلا وقالت مرتبكة: «كلا، أعلم أنك لا تهتم يا سيد كلود. أعلم أنك لا تهتم.»
لما لمس كلود الإحباط في صوتها، قال في نفسه: «ما كان لي أن أعاملها بذلك الأسلوب الفظ.» نهض وربت على ظهرها. «لا بأس يا ماهيلي. على أي حال، أشكرك على الاحتفاظ بالخوخ لي.»
أشارت إليه بإصبعها محذرة. «لا تخبر أحدا!»
وعدها، وراقبها وهي تعود أدراجها على الممر المتعرج أعلى التل.
14
انتقل رالف ووالده إلى المزرعة الجديدة في آخر أيام شهر أغسطس، وأرسل السيد ويلر خطابا يقول إنه في أواخر فصل الخريف سيرسل حمولة سيارة من العجول التي تتغذى على الحشائش إلى المنزل من أجل تسمينها في فصل الشتاء. بذلك، علم كلود أنه ستكون هناك حاجة إلى العلف. كان لديهم حقل بمساحة خمسين فدانا من الذرة غربي النهير؛ على مرمى البصر عندما ينظر المرء من النوافذ الغربية للمنزل. قرر كلود أن يزرع هذا الحقل بالقمح الشتوي، وفي بداية شهر سبتمبر بدأ يحصد الذرة المزروعة ويحزمها من أجل العلف. وبمجرد جمع الذرة، حرث الأرض وبذر القمح في وقت زراعة القمح في الحقول الأخرى.
كان هذا أول ابتكار من كلود، ولكنه لم يلق استحسانا. لما جاء بايليس ليقضي يوم الأحد مع والدته، سألها عما يظن كلود أنه يفعله على أي حال. إذا كان يريد تغيير المحصول في ذلك الحقل، فلماذا لا يزرع الشوفان في الربيع ثم يزرع القمح في الخريف التالي؟ كان يرى أن حصاد العلف وإعداد الأرض في ذلك الوقت لن يؤدي إلا إلى تعطيله عن عمله. وعندما أتى السيد ويلر إلى المنزل في زيارة قصيرة، أشار إلى تلك القطعة مازحا باسم «حقل قمح كلود».
شرع كلود فيما نوى فعله، ولكنه ظل قلقا وخائفا طوال شهر سبتمبر من الطقس. إن هطلت أمطار غزيرة فستجعله يتأخر في زراعة القمح، وبالتأكيد سيلقى انتقادا على ذلك. في الحقيقة لم يأبه أحد لتأخر موعد الزراعة ولا لتقدمه، ولكن كلود كان يظن أنهم يأبهون، وكان يستيقظ في بعض الأحيان مذعورا من تباطؤ تقدمه. جعل دان وواحد من أبناء أوجست يودر الأربعة يساعدونه، وظل يعمل ليل نهار. حرث الحقل الجديد وبذر البذور فيه بنفسه. ووضع فيه قدرا كبيرا من طاقة الشباب، ودفن قدرا كبيرا من السخط في أخاديده المظلمة. ويوما بعد يوم، كان يرمي بنفسه في أحضان الأرض ويزرعها بما يختمر في نفسه، ويسعد بالتعب الشديد في الليل لأنه يمنعه عن التفكير.
عاد رالف إلى المنزل كي يحضر زفاف ليونارد دوسن في الأول من أكتوبر. حضرت كل عائلة ويلر حفل الزفاف، حتى ماهيلي، وحضر جمع غفير من أهل البلدة وأهل المدينة.
بعدما غادر رالف، امتلك كلود زمام المكان مرة أخرى، وسار العمل كالمعتاد. الماشية كانت ترعى على ما يرام، ويخلو العمل من المعوقات المزعجة. استمر الطقس المعتدل، وفي كل صباح يستيقظ فيه كلود كان يرى يوما جديدا تتناثر فيه أشعة الشمس الذهبية وكأنها سجادة متلألئة. ولما كان يصعقه السؤال عما تطويه له الأيام على طرف سريره كان يسرع كي يرتدي ملابسه وينزل في الوقت المناسب؛ كي يحضر الخشب والفحم من أجل ماهيلي. غالبا ما كانا يصلان إلى المطبخ في وقت واحد، وتشير هي إليه بإصبعها قائلة: «لقد نزلت كي تساعدني، أيها الفتى الطيب!» على الأقل، كان يقدم لماهيلي بعض المساعدة. بإمكان والده أن يوظف أحد أبناء يودر كي يعتني بالمكان، ولكنها لن تدع أي أحد آخر يساعدها.
استمتعت السيدة ويلر، كما هو الحال بالنسبة إلى ماهيلي، بذلك الخريف. كانت تنام حتى وقت متأخر في الصباح، وتقرأ وتأخذ بعض الراحة فيما بعد الظهيرة. حاكت لنفسها بعض الملابس المنزلية الجديدة من قماش رمادي اختاره كلود. كانت تقول أحيانا: «يبدو الأمر وكأن عروسا ترعى المنزل من أجلك أنت يا كلود.»
سرعان ما ابتهج كلود لما رأى الخضرة تنمو في حقول القمح البنية الخاصة به؛ إذ رآها أول ما رآها في النقر والتجاويف الصغيرة، ثم بدت تتلألأ فوق الأجزاء البارزة والأجزاء المستوية وكأنها ابتسامة سريعة. شاهد الأنصال الخضراء وهي تنمو كل يوم لما كان يذهب مع دان إلى الحقل ومعهما العربات من أجل جمع الذرة. كلود أرسل دان كي يقشر الأكواز في القطعة الشمالية، وعمل هو في القطعة الجنوبية. كان دائما يحضر حمولة إضافية فوق ما يحضره دان، وكان هذا متوقعا. بحسب ظن كلود، وضح دان السبب في ذلك على نحو منطقي جدا في عصر أحد الأيام لما كانا يربطان حيوانات الجر في عربتيهما. «لا عجب في أنك تنقض على حقل الذرة وكأنك تنقض سجادة يا كلود؛ فهو في النهاية حقلك، أو تحت إمرتك على أي حال. ستحول تلك الحقول دائما بينك وبين المتاعب. ولكن الأجير لا يملك إلا صحته، وعليه أن يحافظ عليها. أظن أنه لم يتبق لي سوى قدر صغير من الصحة، ولن أضيعها في نقل حمولات ذرة تخص شخصا آخر.» «ما الأمر؟ لم ألمح إلى ضرورة أن تجد أكثر في نقل الذرة، أليس كذلك؟» «نعم أنت لم تفعل، ولكني أردت فقط أن تعلم أن لكل شيء سببا.» وحينها، ركب دان عربته وغادر. وعلى الأرجح ظل يتفكر فيما قاله بعض الوقت.
بعد ظهر ذلك اليوم، توقف كلود فجأة عن طرح الأكواز البيضاء داخل العربة التي بجانبه. كانت الساعة الخامسة تقريبا، وهي تعد أصفى ساعة في نهار أيام الخريف. وقف تائها وسط غابة من أوراق الذرة الخفيفة والجافة، التي يصدر منها صوت خشخشة، منزويا تماما عن العالم. ولما خلع قفازات التقشير مسح العرق من جبينه، وصعد إلى صندوق العربة واستلقى على الذرة ذات اللون العاجي. تقدمت الخيول بحذر خطوة أو خطوتين، وقضمت برضا كبير أكواز الذرة التي قطعتها من السيقان بأسنانها.
استلقى كلود ساكنا واضعا ذراعيه تحت رأسه، وأخذ ينظر إلى السماء الزرقاء اللامعة المتماسكة، ويراقب أسراب الغربان وهي تمر من فوق الحقول حيث تتغذى على الحبوب المتناثرة، ثم تعود إلى أعشاشها فوق الأشجار النامية بطول نهير لافلي كريك. كان يفكر فيما قاله دان وهما يرتبطان حيوانات الجر إلى عربتيهما. لا شك أن كلامه ينطوي على قدر كبير من الحقيقة. ولكن بالنسبة إليه، كثيرا ما كان يشعر أن السفر وكسب لقمة العيش بين الأغراب خير له من الكد في ظل تلك المسئولية الجزئية عن حقول ومحاصيل ليست ملكا له. كان يعلم أن سكان البلدة يطلقون على والده في بعض الأحيان اسم «خنزير أراض»، وهو نفسه بدأ يشعر أنه ليس من الصواب أن يمتلكوا هذه المساحة الكبيرة من الأراضي؛ سواء من أجل الزراعة أو الإيجار أو تركها مهملة حسبما يختارون. الغريب أنه على مر القرون والعصور، لم تتغير مسألة امتلاك الثروات إلى الأفضل. الثروة تستعبد أصحابها، وأصحابها يستعبدون من هم أفقر منهم.
نزل من العربة كي يكمل حمولتها تحت أشعة الشمس الذهبية. خيم صمت دافئ على حقل الذرة. كان يهب للحظات نسيم خفيف في بعض الأحيان، ويذر أوراق الذرة اليابسة والجافة، وهو نفسه كان يحدث صوت خشخشة وقرقعة عاليا وهو ينزع القشر من الأكواز.
كانت لا تزال الغربان الجائعة تحوم فوق الحقول قبل أن تعود إلى أعشاشها. عندما خرج إلى الطريق السريع، كانت الشمس تشرف على المغيب، وكان يمكنه أن يرى كل ما هو قريب وبعيد من مقعده فوق الحمولة. رأى من بعيد العربة التي كان يقودها دان، والتي كانت آتية من القطعة الشمالية؛ ويظهر من ورائها سقف منزل ليونارد دوسن الجديد وطاحونة الهواء الخاصة به؛ إذ تقف بلونها الأسود في يوم أوشك على الانتهاء. وكانت أمامه منحدرات المراعي والأشجار الصغيرة ذات الأغصان شبه العارية التي يراها متجمعة في ظل بنفسجي على طول النهير، ومنزل مزرعة ويلر على التل بنوافذه التي كلها متوهجة بفعل آخر أشعة حمراء ترسلها الشمس.
15
كان يخشى كلود من هدوء الشتاء الذي عادة ما يتطلع إليه المزارعون مبتهجين. تذرع بمباراة كرة القدم التي تقام في عيد الشكر كي يذهب إلى لينكن؛ ذهب وهو ينوي المكوث ثلاثة أيام، ولكنه مكث عشرة. في الليلة الأولى، عندما طرق الباب الزجاجي في غرفة المعيشة لمنزل آل إرليش وفاجأهم، ظن أنه لن يستطيع العودة إلى المزرعة مرة أخرى. ولما اقترب من المنزل في ذلك المساء الخريفي الصافي والبارد، وعبر المرج الممتلئ بالأوراق الجافة التي يصدر عنها صوت خشخشة، قال لنفسه إنه يجب ألا يأمل في أن يجد الأشياء على حالها. ولكنه وجدها على حالها. وجد الأولاد يتمددون ويدخنون حول المائدة المربعة التي عليها المصباح، والسيدة إرليش تجلس على البيانو تعزف واحدة من معزوفات مندلسون التي بعنوان «أغاني من دون كلمات». ولما طرق الباب، فتح له أوتو وصاح قائلا: «مفاجأة لك يا أمي! خمني من الطارق.»
يا له من ترحيب حار ذلك الذي استقبلته به! ويا لكثرة ما كان لديها لتقوله له! وبينما كان الجميع يتحدثون في وقت واحد، نزل هنري - الابن الأكبر - إلى الطابق السفلي مرتديا ملابس مناسبة لحفلة رقص خاص بالقرن الثامن عشر؛ حيث تتضمن سروالا من الستان وجوربا وسيفا. بدأ إخوته في الإشارة إلى مواطن عدم التناسق في زيه؛ إذ أخبروه أنه ربما لا يمكنه أن يطلق على نفسه مهاجرا فرنسيا حتى يلبس شعرا مستعارا باللون الأبيض. أخذ هنري كتاب سير من الرف كي يثبت لهم أنه في وقت قدوم المهاجرين الفرنسيين إلى فيلادلفيا، كانت موضة الشعر المستعار الأبيض في طريقها للاندثار.
في أثناء المناقشة، أخذت السيدة إرليش كلود جانبا، وهمست إليه بحماسة قائلة إن ابنة عمها المطربة فيلهلمينا أعلنت أخيرا عن انفصالها عن زوجها المريض الذي ظلت تدعمه سنوات عديدة، وأنها ستتزوج الآن من العازف المرافق لها؛ وهو رجل أصغر منها بكثير.
بعدما انطلق المهاجر الفرنسي إلى حفلته أتى محاضران من الجامعة، وقدمت السيدة إرليش كلود على أنه من «أصحاب الأراضي» الذي يدير مزرعة كبيرة في إحدى المقاطعات الغربية. غادر المحاضران مبكرا، ولكن كلود مكث. ما الذي كان يجعل الحياة تبدو هنا أمتع وأروع بكثير من أي مكان آخر؟ لا يوجد شيء رائع بشأن تلك الغرفة؛ هناك كتب كثيرة، ومصباح، وأثاث مريح لكنه مستعمل، وبضعة أناس ليست حياتهم مميزة بأي صورة من الصور؛ وعلى الرغم من ذلك، كان يشعر بأنه يوجد في جو دافئ ولطيف، جو مفعم بحماسة قوية، ويسمو بسبب الصداقات الحميمة. سره أن يرى الصور ذاتها على الحائط، وأن يجد قاطع الخشب السويسري على رف الموقد؛ إذ يقبع مقوسا تحت عبء حمولة حزم الأخشاب خاصته، وأن يمسك مرة أخرى بقطاعة الورق النحاسية الثقيلة التي في زمنها قطعت الكثير من الصفحات المثيرة للاهتمام. أخذها من غلاف كتاب أحمر موضوع هناك، كان أحد مجلدات تريفيليان التي تتحدث عن جاريبالدي، وقد أخبره يوليوس بضرورة الاطلاع عليه قبل أن يمر أسبوع آخر من عمره.
في اليوم التالي فيما بعد الظهيرة، أخذ كلود السيدة إرليش إلى مباراة كرة القدم، ورجع إلى المنزل مع العائلة من أجل العشاء. ظل يتلكأ في الرحيل يوما بعد الآخر، ولكن بعد مرور أول بضع أمسيات، بدأ الحزن يثقل قلبه بعض الشيء طوال الوقت. فأولاد إرليش كان لديهم العديد من الاهتمامات الجديدة التي لم يستطع التماشي معها؛ إنهم كانوا يتقدمون وهو لا يزال واقفا في محله. لم يكن ذكيا بالقدر الذي يجعله ينتبه لهذا. الشيء المؤلم كان هو الشعور بعدم الانتماء إلى هذا العالم؛ الشعور بالضياع في عالم آخر لا تسهم الأفكار فيه بقدر كبير. كان غريبا دخل وجلس هناك، ولكنه كان ينتمي إلى الريف الكبير المنعزل الذي يجد أناسه في العمل حتى يكلوا ويتعبوا مثل الخيول، ويناموا بسرعة في الليل دون أن يفكروا في شيء ليتحدثوا بشأنه. إذا صنعت له السيدة إرليش والمرأة المجرية التي تعمل لديها حساء العدس وفطائر البطاطس وطبق الفينر شنيتسل، فهذا يجعل الوجبات البسيطة في المزرعة تبدو أثقل.
لما أتت الجمعة التالية، ذهب كي يودع أصدقاءه ويوضح لهم أنه يجب أن يعود إلى المنزل في اليوم التالي. ولما غادر المنزل في تلك الليلة، نظر مرة أخرى إلى النوافذ الضاربة إلى الحمرة، وقال لنفسه إنه كان بالفعل وداعا، وليس موعدا باللقاء كما قالت السيدة إرليش بلطف. لم يزده المجيء إلى هذا المكان إلا سخطا من قدره، لقد توقفت رغبته في الانتماء لهذا النوع من الحياة. كان لا بد أن يستقر في عالم مناسب له، ويتمسك به بكل قوة، بغض النظر عن مدى بؤسه. في اليوم التالي، في أثناء رحلته في الريف في الشتاء البارد، شعر أنه يتعمق أكثر وأكثر داخل الواقع.
لم يرسل كلود خطابا يحدد فيه وقت عودته، ولكن كانت المدينة لا تخلو من بعض الجيران في يوم السبت. عاد مع واحد من أبناء يودر، ومشى بقية الطريق من منزلهما حتى منزله. أخبر والدته أنه سعيد بعودته. كان يشعر في بعض الأحيان بأنه غير مخلص تجاه أمه بسبب السعادة التي تغمره عندما يكون مع السيدة إرليش. لقد انزوت والدته في المزرعة وانعزلت عن العالم لسنوات عديدة؛ وحتى قبل ذلك لم تكن فيرمونت بحسب ظنه مكانا جيدا للتنشئة. لم تتوفر لها الفرصة - كما لم تتوفر له - لتجربة الأشياء التي تزيد من مرونة التفكير وحيوية المشاعر.
في صباح اليوم التالي الذي صادف يوم الأحد، كانت الثلوج تهطل بالخارج وحظوا بإفطار طويل ومبهج. قالت السيدة ويلر إنهم لن يذهبوا إلى الكنيسة اليوم؛ لأن كلود لا بد أنه متعب. ظل يعمل في المكان حتى الظهيرة، وقام بشئون الماشية، وأنجز الأعمال التي تركها دان في غيابه. بعد العشاء، جلس في المكتب وكتب خطابا طويلا لأصدقائه في لينكن. ومتى كان يرفع عينيه للحظات، كان يرى منحدرات المراعي والثلوج المتساقطة بخفة. كان يرى جمالا في انقياد البلدة وهي تستقبل الشتاء. وكان هذا يشعر المرء بالسعادة، والحزن أيضا. أغلق الخطاب واستلقى على الأريكة كي يقرأ الجريدة، ولكنه سرعان ما نام.
لما استيقظ، اكتشف أنه فات على ما بعد الظهيرة وقت طويل. كان المنبه الموجود على الرف يدق بصوت عال في الغرفة الساكنة، ويبعث موقد الفحم وهجا دافئا. بدت النباتات المزهرة في النافذة البارزة الجنوبية أينع وأنضر من المعتاد بسبب الضوء الأبيض الناعم الذي يأتي من الثلوج المتساقطة. كانت السيدة ويلر تقرأ بالقرب من النافذة الغربية، وتحيد بنظرها بعيدا عن كتابها بين الفينة والأخرى كي تحملق في السماء الملبدة بالغيوم والحقول الكئيبة. صنع النهير فجوة بنفسجية متعرجة عبر المراعي ومن بعده الأشجار في أجمة سوداء كانت يعلوها طبقة غريبة من الثلوج. استلقى كلود بعض الوقت من دون أن يتحدث وهو يشاهد مظهر أمه المنعكس في الزجاج، ويفكر في كيف سيكون تساقط الثلج الخفيف هذا الذي يتشبث بالأشياء جيدا بالنسبة إلى حقول القمح الخاصة به.
سأل من فوره: «ماذا تقرئين يا أمي؟»
التفتت برأسها إليه. «لا شيء جديد جدا. بدأت لتوي في قراءة قصيدة «الفردوس المفقود» مرة أخرى. لم أقرأها منذ مدة طويلة.» «هلا قرأتها بصوت عال؟ من مكانك. أحب أن أسمعها.»
كانت تتأنى السيدة ويلر في القراءة دوما بحيث تعطي لكل مقطع حقه. صوتها الذي كان بطبيعته ناعما وحزينا بعض الشيء كان يتناغم مع الأوزان الشعرية الطويلة وأسماء الشخصيات الشريرة المأخوذة من الكتاب المقدس، التي كانت كلها مألوفة لها وزاخرة بالمعاني. «قبو موحش مخيف، من كل الجهات،
وفرن عظيم يلتهب، ومع ذلك فإن اللهب
لا يضيء، بل ظلام واضح
لا يفيد إلا في اكتشاف مناظر الكرب.» [ترجمة حنا عبود]
اضطرب صوتها وكأنها كانت تحاول أن تفهم شيئا. أخذت الغرفة تظلم أكثر وأكثر وهي تتوغل أكثر وأكثر في الاستعراض المنمق للآلهة الوثنية الذي يزخر بالقصص والصور المهيبة لأسباب غير معلومة. اختفى النور في النهاية، وأغلقت السيدة ويلر الكتاب.
علق كلود وهو على الأريكة: «هذا رائع. ولكن لا يستطيع ميلتون الاستغناء عن التحدث عن الأشرار في أعماله، أليس كذلك؟»
نظرت إليه السيدة ويلر. وسألته بمكر: «أهذه مزحة؟» «أوه، كلا على الإطلاق! ما أدهشني فقط أن هذا الجزء مثير للاهتمام أكثر بكثير من الأجزاء التي تتحدث عن السعادة التامة في الجنة.»
قالت السيدة ويلر ببطء وكأن الشك دخلها: «ومع ذلك، أعتقد أنه لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك.»
ضحك ولدها ونهض، وأخذ يملس على شعره المجعد. «تبقى الحقيقة أنه كذلك يا أمي العزيزة. وإذا حذفنا كل مرتكبي الكبائر من الكتاب المقدس، فستحذف كل الشخصيات المثيرة للاهتمام، أليس كذلك؟»
تمتمت قائلة : «باستثناء المسيح.» «نعم باستثناء المسيح. ولكن أظن أن اليهود كانوا على حق لما اعتقدوا أنه من أخطر المجرمين.»
سألته والدته بنبرة فيها عتاب ودعابة: «هل تحاول توريطي؟»
مشى كلود إلى النافذة التي كانت تجلس عندها ونظر إلى الحقول التي يهطل عليها الثلج، والتي بدأ لونها يتحول إلى اللون الأزرق وتصبح موحشة مع زيادة الظلال. «أقصد فقط أنه حتى في الكتاب المقدس الناس غير المذنبين ليسوا كثيرين.»
ضحكت السيدة ويلر ضحكة خافتة برقة: «آه، فهمت! أنت تحاول أن تعود بي إلى قضية الإيمان والعمل. هذا هو الموضوع الذي كنت دائما ما تعترض عليه عندما كنت طفلا صغيرا. اسمعني يا كلود، لا أعلم الكثير عن تلك المسألة كما كنت حينذاك. كلما تقدمت في العمر، لا أفكر في أشياء أخرى أكثر وأتركها للرب. أعتقد أن الرب يريد أن ينقذ أي شيء نفيس في هذا العالم، وأنه أعلم مني بكيفية فعل ذلك.» نهضت ومسحت خدها في كم قميصه المصنوع من الفانيلا وتمتمت قائلة: «أعتقد أن الرب أحيانا ينزل في الأماكن التي لا نتوقع نزوله فيها، حتى في القلوب المتمردة والمتكبرة.»
تعانقا للحظات أمام النافذة الغربية المربعة ذات الزجاج الشاحب والنظيف، مثلما أحيانا تتلاقى طبيعتان في شخص واحد وتتعانقان في ساعة مقدرة.
16
عاد رالف ووالده إلى المنزل لقضاء الإجازات، وفي عيد الميلاد أتى بايليس من المدينة من أجل العشاء. وصل مبكرا، وبعد تحية والدته في المطبخ، صعد إلى غرفة الجلوس المتأنقة بتجهيزات الإجازة التي بدت له هذه المرة دافئة بالقدر الكافي؛ حيث إنه كان يشعر دائما بالبرد بسبب تباطؤ الدورة الدموية لديه. ظل يروح ويجيء والمفاتيح تصلصل في جيوبه، وكان معجبا بزهور الأقحوان الشتوية التي زرعتها والدته التي لا تزال يانعة. توقف عدة مرات أمام غرفة المكتب العتيقة الطراز، وأخذ ينظر من الباب الزجاجي إلى المجلدات الموجودة بالداخل. رؤية بعض هذه الكتب أيقظت فيه ذكريات بغيضة. عندما كان صبيا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، كانت الغيرة المريرة تتقد بداخله لما يسمع والدته تحث كلود على أن يقرأ عليها بصوت عال. لم يحب بايليس الكتب مطلقا. حتى من قبل أن يتعلم القراءة لما كانت والدته تحكي له القصص، كان يحاول من فوره أن يثبت لها إلى أي مدى قد تكون غير صحيحة. في وقت لاحق، اكتشف أن الحساب والجغرافيا كانا يستهويانه أكثر من رواية «روبنسون كروزو». وإن جلس ومعه كتاب، فإنه كان يريد أن يشعر أنه يتعلم شيئا. دائما ما كانت تتحدث والدته مع كلود عن شخصيات في الكتب والقصص لا يعرف عنها شيئا.
على الرغم من حب بايليس للمجيء إلى المنزل، فإنه كان يرى أنه عاش طفولة منعزلة. في مدرسة البلدة، لم يكن سعيدا؛ كان دائما ما يستطيع حل مسائل الاختبارات في الوقت الذي لا يستطيع الآخرون فيه فعل ذلك، وكان يحتفظ بأوراق اختبارات الحساب في جيب معطفه الصغير الداخلي حتى يسلمها بتواضع للمعلم، ولم يمنح الفرصة قط لأي أحد من الجيران كي يستفيد من ذكائه. ليونارد دوسن والفتيان الأقوياء الآخرون من نفس عمره بذلوا ما في وسعهم كي يحولوا حياته إلى جحيم. اعتادوا في الشتاء أن يرموه في ركام ثلجي ثم يذهبوا ويتركوه وحيدا. وفي الصيف، كانوا يرغمونه على أكل جراد حي خلف مبنى المدرسة، ويضعون ثعابين ثور كبيرة في وعاء العشاء الخاص به كي يفاجئوه. وحتى في الوقت الحالي، كان يحب أن يرى أي أحد من هؤلاء الفتية واقعا في مشكلات لا يمكن لأحد مهما بلغت قوته أن يخرجه منها.
السبب في ذلك أن بايليس كان سريعا في التعامل مع الأعداد، وصغير الحجم بالنسبة إلى مزارع؛ ولذا أرسله والده إلى المدينة كي يتعلم مجال تجهيزات المزارع. ومنذ اليوم الذي ذهب فيه إلى العمل، تمكن من العيش براتبه الصغير. كان يحتفظ في جيب صدريته بدفتر يومية صغير يسجل فيه كل النفقات - مثل المليونير الذي لم يمل الواعظون المعمدانيون قط من الحديث عنه - وقد كان إسهامه في صندوق التبرعات يبدو كبيرا في حسابه الأسبوعي.
كان صوت بايليس تتخلله نبرة حزينة بعض الشيء حتى عندما يستخدم أسلوبه التلميحي الماكر ويتلفظ بكلمات بغيضة؛ إن هذا تعبير عن إحساس عميق بالألم. كان يشعر دائما بأن الآخرين يسيئون فهمه ويقللون من قدره. وبعدما أصبح له لاحقا عمله الخاص، لم يطلب منه شباب فرانكفورت قط أن يشاركهم في مسراتهم. لم يطلب منه أحد الالتحاق بنادي التنس أو نادي لعبة الويست. كان يحسد كلود على بنيته القوية وحيويته المندفعة والمتهورة وكأنهما أعطيا لأخيه جورا، وكان الأجدر أن يعطيا له.
بينما كان بايليس ووالده يتحدثان معا قبل العشاء، دخل كلود وفتح باندفاع إحدى النوافذ، على الرغم من علمه أن أخاه يكره التعرض لتيارات الهواء. خاطبه بايليس من فوره من دون أن ينظر إليه: «علمت أن أصدقاءك، آل إرليش، اشتروا شركة جينكينسون في لينكن؛ على الأقل كتبوا كمبيالات.»
قطع كلود وعدا لأمه بألا يتعصب ذلك اليوم؛ لذا قال: «نعم، قرأت ذلك في الجريدة. أتمنى لهم النجاح.»
هز بايليس رأسه وعلى وجهه مظهر التعقل: «أشك في ذلك. علمت أنهم رهنوا منزلهم. تلك العجوز ستجد نفسها من دون مأوى يوما ما.» «لا أعتقد ذلك. طالما كان يريد الأولاد التشارك في عمل منذ مدة طويلة. يتمتع جميعهم بالذكاء والجد في العمل؛ فلماذا لا ينجحون في عملهم؟» أعجب كلود بنفسه لأنه تحدث بطريقة متأنية وواثقة.
أغمض بايليس عينيه نصف إغماضة. «أظن أنهم مغرمون بطيب الحياة. سيدفعون الفائدة التي عليهم وينفقون ما تبقى على إبهاج أصدقائهم. لم أر اسم ذلك الفتى في عقد التأسيس، يوليوس، أليس هذا هو اسمه؟» «يوليوس مسافر إلى الخارج من أجل الدراسة هذا الخريف. إنه يريد أن يصبح أستاذا بالجامعة.» «ماذا به؟ أيعاني من اعتلال في صحته؟»
في تلك اللحظة، دق جرس العشاء وأسرع رالف إلى الطابق السفلي من غرفته التي كان يرتدي بها ملابسه، ونزل الجميع إلى المطبخ كي ينظروا إلى الديك الرومي الذي سيأكلونه. مر العشاء على ما يرام. تحدث بايليس ووالده في السياسة، وحكى رالف قصصا عن الجيران في مقاطعة يوكا. سر بايليس لأن والدته تذكرت أنه يحب حشو المحار ، وأثنى على فطائر اللحم المفروم التي أعدتها. لما رآها تصب كوبا آخر من القهوة لنفسها ولكلود في نهاية العشاء، قال بنبرة لطيفة وحزينة: «أخشى أن يصيبك ضرر من احتساء كوبين من القهوة يا أمي.»
نظرت إليه والدته من فوق وعاء القهوة بابتسامة لطيفة تنم عن الشعور بالذنب. «لا أظن القهوة تضرني بأي نحو يا بايليس.» «إنها مضرة بالطبع؛ فهي من المواد المنبهة.» كانت توحي نبرته بأنه يقصد: أي شيء أسوأ منها! عندما ينعت المرء أي شيء بأنه «مادة منبهة»، فهو يهاجمه بلا ريب؛ إذ لا يوجد وصف أمقت من ذلك.
كان كلود في الصالة بالطابق العلوي يرتدي معطفه كي ينزل إلى الحظيرة ويدخن سيجاره، عندما خرج بايليس من غرفة الجلوس واعترضه بملاحظة مبهمة. «أعتقد أنه سيقام عرض موسيقي في هاستنجز ليلة السبت.»
قال كلود إنه سمع شيئا من هذا القبيل.
تصنع بايليس نبرة عدم مبالاة وكأنه يفكر في تلك الأشياء كل يوم: «كنت أفكر في الذهاب معا إلى هناك ونأخذ معنا جلاديس وإنيد. حالة الطرق جيدة للغاية.»
احتج كلود قائلا: «القيادة إلى المنزل ستكون صعبة، في ذلك الوقت المتأخر من الليل.» بالطبع قصد بايليس أن يقود كلود الجمع في سيارة السيد ويلر الكبيرة ذهابا وإيابا. لم يستخدم بايليس سيارته الكاديلاك اللامعة مطلقا على الطرق الوعرة وفي الرحلات الطويلة. «أظن أن أمي ستوفر لنا مكانا نبيت فيه، ولا حاجة إلى العودة بالفتاتين إلى منزلهما حتى صباح الأحد. سأحصل على التذاكر.» «الأفضل أن ترتب الأمر مع الفتاتين. بالطبع سأوصلك بالسيارة إذا أردت الذهاب.»
تملص منه كلود وخرج متمنيا أن يهتم بايليس بشأن أمر تودده بنفسه ولا يقحمه فيه. كان بايليس لا يستطيع التمييز بين النغمات المختلفة، ولا شك أنه كان لا يرغب في الذهاب إلى الحفل، وكان لا يعرف هل إنيد رويس ستهتم بالذهاب إليه أم لا. جلاديس فارمر كانت أفضل موسيقية في فرانكفورت، وعلى الأرجح كانت سترغب في الذهاب إلى الحفل.
كان كلود وجلاديس صديقين قديمين - منذ أيام المدرسة الثانوية - على الرغم من أنهما لم ير أحدهما الآخر كثيرا لما كان يذهب إلى الكلية. وفي هذا الخريف، طلب بايليس من كلود عدة مرات أن يذهب معه إلى مكان ما في يوم الأحد ثم كان يتوقف كي يأخذ جلاديس. لم يحب كلود ذلك. وعلى أي حال، اشمأز لما علم بنية بايليس في الزواج من جلاديس. كانت تعيش جلاديس ووالدتها في فقر مدقع؛ ولذلك كان بايليس على الأرجح سينجح في إتمام مشروع الزواج في النهاية، رغم أنه يبدو حتى الآن أنها لا تبدي ترحيبا كبيرا بذلك. كان يرى أن الزواج من بايليس لن يكون أمرا سهلا بالنسبة إلى أي امرأة، ولكن جلاديس كانت الفتاة الوحيدة في المدينة التي ما كان ينبغي له الزواج منها. إنها شديدة التبذير رغم فقرها الشديد. وعلى الرغم من أنها كانت تدرس في مدرسة فرانكفورت الثانوية مقابل ألف ومائتي دولار في العام، كانت تلبس ملابس أجمل من الفتيات الأخريات فيما عدا إنيد رويس التي كان والدها ثريا. كانت المناقشات والانتقادات توجه إلى قبعاتها وأحذيتها المصنوعة من الجلد المدبوغ الجديدة عاما بعد الآخر. قال الناس إنها إن تزوجت من بايليس ويلر، فسرعان ما ستصدم من الواقع المر. تمنى البعض لها التعرض لتلك الصدمة، في حين لم يتمن البعض الآخر ذلك. بالنسبة إلى كلود، توقف عن زيارة منزل السيدة فارمر المبهج منذ أن بدأ بايليس الذهاب إلى هناك. لقد أصيب بخيبة أمل في جلاديس. وعندما كان يستاء من شخص، نادرا ما كان يتوقف كي يفكر في شعوره. لقد كان يتحاشى الشخص والتفكير في الشخص، وكأنه مصدر إزعاج بالنسبة إليه.
17
نوى السيد ويلر أن يبقى في المنزل حتى الربيع، ولكن أرسل رالف خطابا يقول فيه إنه يواجه مشكلات مع رئيس العمال؛ ولذا اضطر والده إلى أن يعود إلى المزرعة في شهر فبراير. بعد مغادرته بأيام قلائل، هبت عاصفة جعلت يتحدث الناس عنها لمدة عام قادم.
بدأ الثلج يهطل قرب الظهيرة في يوم عيد الحب؛ إذ كان ثلجا ناعما وكثيفا ورطبا يتدفق على هيئة موجات، ويعلق بكل ما يقابله. في وقت لاحق من العصر، هبت الرياح وبدأت تيارات الهواء في اقتلاع كل سقيفة أو شجرة أو سياج أو حتى أجمة من الأعشاب الطويلة. ولما نظرت السيدة ويلر بقلق من خلف نوافذ غرفة الجلوس، لم تر غير موجات من الثلج الأبيض الناعم التي حجبت المنزل المرتفع عن بقية العالم.
وجد كلود ودان، اللذان كانا في الحظيرة يقومان ببعض التدابير لحماية الماشية من سوء الأحوال الجوية، الهواء كثيفا جدا لدرجة يصعب معها التنفس، وامتلأت آذانهما وفاهاهما وأنفاهما بالثلج، الذي التصق أيضا بوجهيهما. كان الثلج يذوب باستمرار على ملابسهما، ولكنه كان يغمرهما من أخمص قدميهما إلى رأسيهما بينما كانا يعملان؛ فلم ينفضاه من عليهما. لم يكن الهواء باردا، بل بلغ درجة أقل قليلا من التجمد. عندما دخلا من أجل العشاء، تدافعت تيارات الثلج على المنزل حتى غطت الإطارات السفلية لنوافذ المطبخ؛ وبينما كانا يفتحان الباب، سقط حائط هش من الثلج من خلفهما. هرعت ماهيلي ومعها المقشة والدلو كي تكنسه. «أهي عاصفة مروعة يا سيد كلود؟ أعتقد أن السيد إرنست المسكين لن يأتي الليلة، أليس كذلك؟ لا تشغل بالك يا عزيزي؛ سأنزح تلك المياه. أسرع وارتد ملابس جافة واستحم، وإلا ستصاب بنزلة برد. خزان السخان مليء بالمياه الساخنة من أجلك.» دائما ما كانت تبتهج ماهيلي بالأحوال الجوية الاستثنائية.
قابلت السيدة ويلر كلود أعلى السلم. سألت قلقة: «أثمة خطر من تعرض العجول الموجودة بطول النهير للتجمد؟» «لا، فكرت في ذلك. سقناها جميعا إلى الحظيرة مباشرة وأغلقنا البوابات. لا أعلم ما يجري عند النهير الآن. ملابسي كلها مبتلة. أظن أنني سأتبع نصيحة ماهيلي وأستحم إذا أمكن تأخير العشاء قليلا من أجلي.» «ضع ملابسك أمام باب الحمام وسأحاول أن أجففها لك.» «نعم، من فضلك. سأحتاج إليها غدا. لا أريد أن أتلف سروالي المصنوع من القماش المضلع. عليك كذلك، يا أمي، أن تطلبي من دان تغيير ملابسه. فملابسه مبتلة ومشبعة بالبخار بشدة، ولا تصلح للجلوس على الطاولة بها. أخبريه إن اضطر أحد إلى الخروج بعد العشاء، فسأخرج أنا.»
أسرعت السيدة ويلر في النزول على السلم. كانت تعلم أن دان يفضل الجلوس في ملابس مبتلة طوال المساء على أن يتكبد عناء تغيير ملابسه. حاول التسلل من خلفها إلى مسكنه خلف غرفة الغسيل، وبدا حزينا عندما سمع ما أرادته منه.
قال معترضا: «ليس لدي ملابس خروج أخرى غير التي أرتديها في يوم الأحد.» «حسنا، يقول كلود إنه سيخرج إن اضطر أحد إلى الخروج. أظن أن عليك تغيير ملابسك على الفور يا دان، وإلا ستنام من غير عشاء.» ضحكت بهدوء من الحزن الذي بدا على وجهه وهو ينسل بعيدا.
همست ماهيلي قائلة: «سيدة ويلر، هلا أنزل إلى القبو وأحضر لهما بعض الفراولة المحفوظة الجميلة؟ السيد كلود يحبها مع البسكويت الساخن. لم يعد يأكل العسل لأنه سئم منه.» «حسن جدا. سأحضر قهوة حلوة ومركزة؛ فتلك القهوة ستبهجه أكثر من أي شيء.»
نزل كلود وهو يشعر بأنه نظيف ودافئ وجائع. وبينما كان يفتح باب السلم، اشتم رائحة القهوة ولحم الخنزير المقلي؛ ولما فتحت ماهيلي الفرن، اندفعت منه الرائحة الدافئة للبسكويت البني مع الدخان. بددت هذه الروائح جميعها، بعض الشيء، حزن دان لما عاد في حذاء يوم الأحد الخاص به الذي كان يصدر صريرا، ومعطف طويل الذيل وواسع. لم يلزمه ارتداء المعطف، ولكنه ارتداه انتقاما.
في أثناء العشاء، أخبرتهما السيدة ويلر مرة أخرى كيف أنه لم تكن هناك طرق أو سياجات في غرب فرانكفورت في بداية زواجها. وحكت أنها، في إحدى ليالي الشتاء، جلست على سطح أول مخبأ لهما طوال الليل تقريبا، وهي تمسك مصباحا معلقا في عمود كي ترشد السيد ويلر إلى المنزل في عاصفة ثلجية مثل تلك.
بينما كانت ماهيلي تتحرك بالقرب من الموقد، راقبت الجالسين على الطاولة. وأحبت أن ترى الرجلين وهما يملآن بطنيهما بالطعام - على الرغم من أنها كانت لا تعد دان رجلا بأي حال من الأحوال - وركزت انتباهها كي تتأكد من أن السيدة ويلر لم تغفل عن الأكل؛ إذ إنها كانت معتادة على ذلك وقتما تتذكر الأشياء التي حدثت منذ وقت طويل. كانت ماهيلي في حالة مزاجية سعيدة؛ لأن توقعاتها بشأن الأحوال الجوية تحققت؛ فبالأمس فقط أخبرت السيدة ويلر أن الثلج سيهطل؛ لأنها رأت طيور الثلج. كانت تعتبر العشاء ذا أهمية غير عادية عندما ترى كلود يرتدي «بنطاله المخملي»، كما تطلق على سرواله البني المصنوع من القماش المضلع.
بعد العشاء، استلقى كلود على الأريكة في غرفة الجلوس، وجلست والدته تقرأ عليه بصوت عال من رواية «البيت الموحش»؛ حيث إنها من الروايات المفضلة لديها. كان جو البائس يقترب من نهايته لما انتصب كلود فجأة جالسا. «أمي، أعتقد أنني أشعر بالنعاس بشدة. سأخلد إلى النوم. هل تعتقدين أن الثلوج لا تزال تهطل بشدة؟»
نهض وذهب كي ينظر للخارج، ولكن النوافذ الغربية كانت مغطاة بشدة بالثلوج لدرجة أنه كان لا يرى ما خلفها. لم يستطع أن يرى شيئا للحظة حتى من النافذة الجنوبية، ولكن لا بد أن ماهيلي حملت مصباحها أمام نافذة المطبخ بالأسفل؛ إذ أضاء من فوره شعاعا أصفر عريضا في الهواء الخانق، وعبره كانت تسير بسرعة ملايين ندف الثلج مثل الجيوش في حركة بلا توقف، وأخذت تتجمع قدر إمكانها من دون أن تشكل كتلة صلبة. ضرب كلود عضادة النافذة المجمدة بقبضته، ورفع الإطار السفلي، وأخرج رأسه وحاول النظر إلى الخارج في الليل المدلهم. كان هناك نوع من الجلال في عاصفة بهذا الحجم؛ إذ تعطي المرء شعورا باللانهاية. بدا أن الجزيئات البيضاء التي لا حصر لها، والتي كانت تعبر أشعة ضوء المصباح لها هدف محدد؛ وهو التحرك السريع إلى نهاية محددة. نقاء خافت، مثل رائحة عطر تدغدغ أحاسيس الإنسان، كان ينبعث منها وهي تتجمع حول رأسه وكتفيه. ولما نظرت والدته من تحت ذراعه المرفوعة، حاولت بصعوبة النظر وسط تلك الحركة الحاشدة، وتمتمت بصوت هادئ ومرتعش قائلة: «أكثر فأكثر، أخذ يزيد تجمد سطح البحيرة والنهر؛ وأكثر فأكثر، أخذ سمك الثلج على كافة الأنحاء.»
18
كانت غرفة نوم كلود تواجه جهة الشرق. في صباح اليوم التالي، عندما نظر من نوافذه، لم ير إلا قمم أشجار الأرز في الساحة الأمامية. ارتدى ملابسه على عجل وجرى إلى النافذة الغربية في نهاية الصالة؛ لقد اختفى نهير لافلي كريك والوادي العميق الذي يتدفق فيه وكأنهما لم يكونا موجودين. تحولت المراعي الوعرة إلى واد منبسط، باستثناء الروابي والتلال التي أصبحت تشبه أكوام القش، حيث كان ينجرف الثلج فوق أحد الأعمدة أو أجمات الأشجار.
على سلم المطبخ، قابلته ماهيلي في حالة انفعال كبير. «ليرحمنا الرب يا سيد كلود، لا أستطيع فتح باب العواصف. الثلج يحيط بنا ويمنعنا من الخروج من المنزل.» بدت كأنها امرأة متشردة إذ كانت سترتها مرقعة برقع ذات ألوان كثيرة، وعلى رأسها وشاح خفيف أسود قديم، تتدلى منه خيوط على وجهها وكأنها خصلات شعر جامحة. كانت تحتفظ بهذا الزي للمناسبات المأساوية؛ كانت ترتديه عندما تتجمد أنابيب المياه وتنفجر، أو عندما تغمر عواصف الربيع المحاصيل وتغرق أفراخها.
كان باب العواصف ينفتح للخارج. دفعه كلود بكتفه وفتحه قليلا. ثم باستخدام مجرفة مدفأة أحضرتها ماهيلي، أزاح كمية كافية من الثلج تمكنه من دفع الباب وفتحه. أتى دان يتهادى لابسا جوربه عبر المطبخ حتى وصل إلى حذائه العالي الرقبة، الذي كان لا يزال يجف خلف الموقد. علق وهو يرمش بعينيه: «إنها حقا عاصفة شديدة يا كلود.» «نعم، أظن أننا لن نحاول الخروج إلا بعد الإفطار. سنضطر إلى شق طريقنا إلى الحظيرة، ولم يخطر ببالي أن أحضر المجارف ليلة أمس.» «مجارف الثلج في القبو. سأحضرها.» «ليس الآن يا ماهيلي. أحضري لنا الإفطار قبل القيام بأي شيء آخر.»
نزلت السيدة ويلر واضعة شالها الصغير حول كتفيها ومغلقة إياه بدبوس، وكتفاها محنيتان أكثر من المعتاد. قالت في خوف: «كلود، أشجار الأرز في الساحة الأمامية غطتها الثلوج بالكامل. هل تظن أن الماشية يمكن أن تدفن تحت الثلج؟»
ضحك. «كلا يا أمي. أعتقد أن الماشية كانت تتحرك في المكان طوال الليل.»
عندما بدأ الرجلان في إزاحة الثلج بمجاريف الثلج الخشبية، وقفت السيدة ويلر وماهيلي في المدخل تراقبهما. على مسافة قصيرة من المنزل، أصبح الممر الذي حفراه أشبه بنفق، وكانت الجدران البيضاء على الجانبين أعلى من رأسيهما. في بداية التل، لم يكن الثلج عميقا، وحققا تقدما أفضل. كان عليهما المجاهدة أكثر مع ركام ثلجي آخر كبير قبل أن يكون بإمكانهما الوصول إلى الحظيرة؛ ولما وصلا أدفآ أنفسهما بين الخيول والأبقار. وذهب دان إلى جوار بقرة دافئة وبدأ في حلبها.
كلود: «ليس بعد. أريد أن ألقي نظرة على الخنازير قبل أن نفعل أي شيء.»
بنيت حظيرة الخنازير في واد ضيق خلف الحظيرة. لما وصل كلود إلى حافة الوادي الضيق ووجده مكشوفا تقريبا، استطاع أن ينظر فيه. كان الوادي مليئا بالثلج الناعم إلا في المنتصف، حيث كانت توجد حفرة وعرة تشبه كومة كبيرة من أغطية السرير المتساقطة.
شهق دان. «يا إلهي! لقد سقط السقف يا كلود! ستختنق الخنازير.» «ستختنق إن لم نلحقها بسرعة. أسرع إلى المنزل وأخبر والدتي. ستقوم ماهيلي بالحلب هذا الصباح، وعد إلى هنا بأسرع ما يمكنك.»
كان السقف مصنوعا من القش المنبسط، وضغط الثلج عليه كان ثقيلا جدا. تساءل كلود في نفسه هل كان من الواجب عليه وضع قش جديد هذا الخريف أم لا، ولكن القش القديم لم تكن به فجوات، وبدا قويا للغاية.
لما عاد دان تبادلا الأدوار؛ كان أحدهما يتقدم ويرمي أكبر قدر ممكن من الثلج، والآخر يتعامل مع الثلج المتبقي. بعد ساعة أو أكثر من هذا العمل، اتكأ دان على مجرفته. «لن ننجح أبدا يا كلود. لا يستطيع رجلان جرف كل هذا الثلج حتى في أسبوع. أنا شبه منهك.»
صاح كلود بحدة: «حسنا، يمكنك العودة إلى المنزل والجلوس بجانب المدفأة.» خلع معطفه، وكان يعمل لابسا قميصه وسترته. كان العرق ينحدر من وجهه، وآلمه ظهره وذراعاه، وتقرحت يداه إذ لم يحافظ على جفافهما. كان يوجد في حظيرة الخنازير سبعة وثلاثون خنزيرا.
جلس دان في الحفرة. وقال مغتما: «ربما إن حصلت على بعض الماء أستطع إكمال عملي.»
استطاعا الدخول إلى الحظيرة بعد الظهر، وارتفعت سحابة من البخار، وسمعا خنخنة الخنازير. وجدا الخنازير متكومة بعضها على بعض في أحد أطراف الحظيرة؛ ومن ثم سحبا الخنازير الموجودة بالأعلى وهي تصرخ. اختنق اثنا عشر خنزيرا كانت في قاع الكومة. كانت أجسامها مبتلة وسوداء في الثلج؛ وعلى الرغم من دفئها وخروج البخار منها، فإنها بلا شك كانت ميتة.
لبست السيدة ويلر حذاء زوجها المطاطي العالي الرقبة ومعطفا قديما، ثم نزلت مع ماهيلي كي ترى تلك الكارثة.
صاحت ماهيلي في الرجلين: «يجب عليكما البدء فورا في ذبحها وتقطيع لحمها اليوم.» كانت تقف على حافة الوادي الضيق لابسة سترتها المرقعة وغطاء رأسها ذا الخيوط المنسلة. كلود، الذي كان في الحفرة، مسح وجهه الذي يتصبب عرقا في كم سترته. وصاح غاضبا: «أذبحها؟ لن أذبحها حتى وإن لم أر اللحم مرة أخرى.»
ردت ماهيلي متوسلة: «لن تترك كل لحم الخنازير الطيب هذا يذهب هباء، أليس كذلك يا سيد كلود؟ إنها غير مصابة بمرض أو ما شابه. ما عليك سوى أن تبدأ من فورك في ذبحها، وإلا لن يكون لحمها صحيا.» «لن يكون صحيا بالنسبة إلي على أي حال. لا أعلم ما سأفعل بها، ولكني واثق تمام الثقة بأنني لن أذبحها.»
حذرتها السيدة ويلر قائلة: «لا تزعجيه يا ماهيلي. إنه متعب، وعليه أن يهيئ مكانا صالحا من أجل الخنازير الحية.» «أعلم أنه كذلك يا سيدتي، ولكني أستطيع ذبح أي من تلك الخنازير بنفسي. فقد ذبحت خنزيرا صغيرا لدي عندما كنت في فيرجينيا. على أي حال، أستطيع حفظ لحم الأفخاذ والضلوع. لن يكون لدينا لحم من ضلوع الخنازير لمدة طويلة.»
كان كلود يشعر ببؤس شديد بسبب ألم ظهره واغتمامه من فقدان الخنازير. صاح: «أمي، إن لم تأخذي ماهيلي إلى المنزل فسيجن جنوني!»
في مساء ذلك اليوم، سألته والدته عن القيمة المالية لتلك الخنازير الاثني عشر. بدا متحيرا قليلا. «أوه، لا أعلم بالضبط؛ ربما ثلاثمائة دولار.» «هل تساوي هذا المبلغ حقا؟ لا أعلم كيف كان بإمكاننا منع تلك المصيبة، هل تعلم أنت؟» بدت الحيرة على وجهها.
خلد كلود إلى النوم بعد العشاء مباشرة، ولكن لم يكد يمدد جسده المتألم تحت الغطاء حتى بدأ يستيقظ. شعر بالخزي من فقدان الخنازير لأنها تركت في عهدته؛ ولكن لم يبد أنه كان يأبه لخسارة المال؛ وهو الأمر الذي حزنت عليه حتى والدته. تساءل في نفسه عما إذا كان طوال هذا الشتاء لم ينم لديه ازدراء طفوليا تجاه القيم المالية.
لما كان رالف في المنزل وقت عيد الميلاد، كان يرتدي خاتما ذهبيا ثقيلا في خنصره، وكانت في فصه ماسة بحجم البازلاء، محاطة بنقوش لامعة. أخبر كلود أنه ربحه في لعبة بوكر. لم تخل يدا رالف قط من شحم السيارة - لقد كانتا من النوع المتورد المكتنز الذي لا يمكن الحفاظ على نظافته. تذكر كلود صورته وهو يحلب في الحظيرة على ضوء الفانوس، وجوهرته ترمي بشعاع براق، وأصابعه تشبه حلمات البقرة إلى حد كبير. ظهرت تلك الصورة أمامه الآن باعتبارها رمزا على النجاح في مجال المزارع.
كان يستيقظ المزارع ويأخذ إلى السوق الأشياء ذات القيمة العالية؛ يأخذ القمح والذرة اللذين بجودة يمكن أن تضاهي نظيرهما على مستوى العالم، وأخذ أفضل الخنازير والماشية. في طريق العودة، كان يشتري بعض الأغراض المصنعة ذات الجودة الرديئة؛ قطع أثاث براقة مكسرة، سجاجيد وستائر بهت لونها، ملابس تجعل الوسيم الذي يرتديها مثل المهرج. وكان ينفق معظم أمواله على الآلات - وهذه أيضا تحطمت. لم تكن تصمد آلة الدرس البخارية مدة طويلة، ويعيش أحد الأحصنة مدة تجاوزت العمر الافتراضي لثلاث سيارات.
أحس كلود لما كان صغيرا، وكان جميع الجيران فقراء، أنهم ومنازلهم ومزارعهم حظوا بشخصية فريدة أكثر. كان المزارعون حينها يستغرقون وقتا أطول في زراعة بساتين أشجار الحور القطني البديعة في مزارعهم، وفي عمل سياجات بزراعة أشجار برتقال أو ساج بطول حدود حقولهم. قطعت كل هذه الأشجار الآن واقتلعت من أماكنها. لم يكن أحد يعلم السبب؛ تسببوا في انخفاض خصوبة الأرض، تسببوا في الركامات الثلجية، لم تعد توجد لدى أحد أي من هذه الأشجار. تولد نوع من قسوة القلب من رحم الرخاء؛ إذ يريد كل امرئ أن يدمر الأشياء القديمة التي اعتاد أن يفخر بها. البساتين التي رعيت وحوفظ عليها طيلة عشرين سنة باتت متروكة الآن كي تموت من الإهمال. بات الذهاب إلى المدينة بالسيارة لشراء الفاكهة أسهل من زراعتها.
تغير الناس أنفسهم. إنه يتذكر وقت أن كان جميع المزارعين في هذه البلدة يكنون الود بعضهم تجاه بعض، أما الآن فلا تنتهي المنازعات القضائية فيما بينهم. أبناؤهم إما يتصفون بالبخل والجشع أو الإسراف والكسل، ولا ينفكون عن إثارة المشاكل. من الواضح أن إنفاق المال يحتاج إلى فطنة أكبر من كسبه.
عندما تأمل كلود هذا الاستنتاج، فكر في آل إرليش. بإمكان يوليوس أن يسافر إلى الخارج ويدرس كي يحصل على درجة الدكتوراه، ويعيش على دخل أقل مما ينفقه رالف في العام. لن يكون أبدا لرالف مهنة أو تجارة، ولن يقوم أبدا بشيء يحتاج إليه العالم.
لم يجد حاله أفضل من حال أخيه. كان يبلغ واحدا وعشرين عاما ولا يمتلك مهارات ولا تدريبا، ولا قدرة على الوجود وسط الناس الذين يحب أن يكون بينهم. إنه فتى مزارع أخرق وغبي، وحتى بدا أن السيدة إرليش كانت تعتقد أن المزرعة أفضل مكان بالنسبة إليه. ربما كان هذا صحيحا؛ ورغم ذلك لم يجد تلك الحياة تستحق عناء الاستيقاظ كل صباح. إنه لا يستطيع رؤية فائدة العمل من أجل المال ما دام المال لا يحقق له ما يريد. كانت تقول السيدة إرليش إن المال يجلب الأمن. كان يظن أحيانا أن هذا الأمن هو سبب تعاسة الجميع؛ فالأمان التام لا يؤدي إلا إلى قتل أفضل الصفات لدى الناس وإظهار أسوأ ما فيهم.
إرنست أيضا كان يقول: «إنها الحياة الأفضل على وجه الأرض يا كلود.»
لكن إن ذهبت إلى السرير مهزوما كل ليلة وخشيت الاستيقاظ في الصباح، فمن الواضح أنها ليست الحياة المثلى بالنسبة إليك. بالنسبة إلى شخص في عمره، عدم الخوف من فوات ثلاث وجبات في اليوم والنوم لمدة كافية لا يقل عن الاطمئنان إلى الحظوة بمدفن لائق. الأمان، الأمن ؛ إذا اتبع المرء هذا المنطق، فالذين لم يولدوا بعد والذين لن يولدوا مطلقا يحظون بأكبر أمان؛ إذ لا يمكن أن يحدث لهم شيء.
بدا أن كلود كان يعلم - كما كان يعلم الجميع - أن هناك شيئا خطأ فيه. لم يستطع إخفاء شعوره بالسخط. كان يخشى السيد ويلر أن يكون من أصحاب الرؤى الحالمة الذين يتسببون في متاعب غير ضرورية لأنفسهم ولغيرهم. كانت تظن السيدة ويلر أن مشكلة ابنها تكمن في عدم قربه من الرب حتى الآن. كان بايليس مقتنعا أن أخاه متمرد أخلاقي، وأنه خلف تحفظه وحذره كان يخفي أخطر الآراء. الجيران كانوا يحبون كلود، ولكنهم كانوا يسخرون منه، ويقولون إن ثراء والده أتى في صالحه. كان يدرك كلود أنه بدلا من أن يستفيد من طاقته في تحقيق شيء، فإنه يبددها في مقاومة ظروف لا تتغير، وفي محاولات لا تجدي نفعا لقمع طبيعته. عندما كان يظن أنه استطاع التحكم في نفسه في النهاية، فلحظة كفيلة بأن تبدد جهود أيام كاملة؛ كان يتحول في لمح البصر من عمود خشبي إلى فتى مفعم بالحيوية. كان ينهض على قدميه، أو يتقلب بسرعة على السرير، أو يتوقف عن المشي؛ لأن الاعتقاد القديم يتقد في عقله، ويشعل الأمل والألم فيه؛ إنه الاعتقاد بوجود شيء جميل في الحياة، لو يستطيع فقط العثور عليه.
19
بعد العاصفة الشديدة، حدثت تقلبات في الأحوال الجوية. حدث ذوبان جزئي أنذر بحدوث طوفان، ثم تجمد الثلج مرة أخرى. تلألأت البلدة بكاملها بطبقة من الثلج، وتجول الناس على أرضية من الثلج المتجمد، كانت في مستوى أعلى بكثير من مستوى الحياة العادية. أخرج كلود مركبة الجليد الزوجية القديمة الخاصة بالسيد ويلر من بين كومة من الأشياء غير المتجانسة التي ظلت قابعة فوقها لسنوات، وأحضر الأجراس الصدئة الخاصة بها إلى المنزل كي تلمعها ماهيلي باستخدام غبار الطوب. نظرا إلى أن معظم المزارعين أصبح لديهم سيارات الآن، فقد تركوا مركبات الجليد الخاصة بهم حتى تحطمت. ولكن آل ويلر كانوا دائما ما يحافظون على أشيائهم.
أخبر كلود والدته أنه ينوي أخذ إنيد رويس في جولة بمركبة الجليد. إنيد كانت ابنة تاجر الحبوب الذي يدعى جايسون رويس، الذي يعد من أوائل مستوطني المنطقة، والذي ظل عدة سنوات يدير طاحونة الحبوب الوحيدة في مقاطعة فرانكفورت. إنها وكلود كانا رفيقين قديمين؛ كان يقوم بزيارة رسمية إلى منزلها الذي كان يسمى بالطاحونة في كل صيف أثناء إجازته، وكثيرا ما كان يذهب لزيارة السيد رويس في مكتبه في المدينة.
بعد العشاء مباشرة، ربط كلود الحصانين الأسودين الصغيرين القويين - بومبي وساتان - في مركبة الجليد. في ذلك اليوم، ظهر القمر قبل أن تغيب الشمس بوقت طويل، وبقي في السماء شاحبا معظم وقت ما بعد الظهيرة، وبات الآن يغمر الأرض المغطاة بالثلج بنوره الفضي. لقد كانت إحدى ليالي الشتاء المنيرة التي يحس فيها الفتى أن العالم لا يسعه على الرغم من كبره؛ أنه لا يوجد تحت قبة السماء الزرقاء المتلألئة أحد سعيد ومرهف الحس مثله، وأن كل هذه العظمة مخلوقة من أجله. دوت أجراس مركبة الجليد بموسيقى مبهجة، وكأنها سعدت بالعمل مرة أخرى بعدما ظلت صدئة ومختنقة بالغبار عدة فصول من الشتاء.
إن الطريق إلى الطاحونة الذي يمكن الوصول إليه من الطريق السريع ويمتد إلى النهر كانت له ذكريات سعيدة مع كلود. لما كان فتى صغيرا، كان يتوسل إلى والده كي يأخذه معه في كل مرة يذهب فيها إلى الطاحونة. كان يحب الطاحونة وصاحبها وابنة صاحبها الصغيرة. لكنه لم يحب منزل صاحب الطاحونة مطلقا، وكان يخاف من والدة إنيد. حتى الآن، بينما كان يربط فرسيه في الحاجز الطويل بجوار غرفة المحركات، قرر ألا يسمح لأحد بأن يحمله على الدخول إلى غرفة الاستقبال الرسمية، تلك المليئة بالأثاث الحديث والغالي؛ إذ في تلك الغرفة كانت تتخلى عنه دائما شجاعته، ولا يستطيع التفكير في أي شيء يتحدث فيه. وإذا تحرك، كان يصدر من حذائه صرير وسط الصمت، وكانت السيدة رويس تجلس وتطرف بعينيها الصغيرتين الحادتين تجاهه؛ وكلما طالت مدة جلوسه، زادت صعوبة خروجه.
أتت إنيد بنفسها إلى الباب.
صاحت متعجبة: «عجبا، إنه كلود! ألن تدخل؟» «كلا، أريد أن تخرجي معي في جولة. أخرجت مركبة الجليد القديمة. هيا، الطقس جميل هذه الليلة!» «أظن أنني سمعت الأجراس. ألن تدخل وترى والدتي ريثما أتجهز؟»
قال كلود إنه يجب عليه البقاء مع الفرسين، وعاد مهرولا إلى الحاجز. لم تتأخر عليه إنيد؛ إذ لم تكن من هذا النوع من الأشخاص. أتت بسرعة عبر الممر وعبرت البوابة الأمامية لابسة معطف قيادة عليه شعار ولاية مين الذي كانت تلبسه عندما تقود سيارتها الكوبيه في الطقس البارد.
لما اندفع الفرسان إلى الأمام، وبدأت الأجراس تجلجل، سأل كلود: «والآن، أي طريق سنسلكه؟» «أي طريق. يا لها من ليلة جميلة! وأنا أحب أجراسك يا كلود. لم أسمع أجراس مركبة جليد منذ الوقت الذي اعتدت فيه أن تأخذني أنا وجلاديس من المدرسة إلى المنزل في الجو العاصف. ما رأيك أن نمر عليها ونأخذها معنا الليلة؟ لديها، كم تعلم، أكثر من فراء الآن.» وهنا، ضحكت إنيد. «كل النساء العجائز متحيرات بشدة بشأنها؛ إنهن لا يعرفن هل أعطاها أخوك لها في عيد الميلاد أم لا. إن كن متأكدات من أنها اشترتها بنفسها، فأعتقد أنهن سيعقدن اجتماعا عاما.»
ضرب كلود الحصانين الصغيرين المتحمسين بالسوط. «ألا تسأمين من الطريقة التي يتحدثون بها على جلاديس دوما؟» «سأفعل إذا كانت تبالي هي. ولكني أعجب من هدوئها! لا بد أن هناك شيئا يتحدثون بشأنه، وبالطبع تتراكم الضرائب المتأخرة على السيدة فارمر المسكينة. بالتأكيد أشك في أن بايليس هو الذي اشتراها لها.»
لم يعد كلود متحمسا للمرور على جلاديس، وأخذها معهما كما كان منذ بضع لحظات. لقد كانا يقتربان من المدينة الآن، وكانت النوافذ المنيرة تشع بنور خافت عبر بياض الثلج المنعكس باللون الأزرق. حتى في فرانكفورت المتقدمة، كانت مصابيح الشوارع تطفأ في ليلة منيرة كتلك الليلة. كانت السيدة فارمر وابنتها تعيشان في كوخ أبيض صغير في الجزء الجنوبي من المدينة، حيث لا يعيش سوى أصحاب الدخل المتواضع. لما اقتربا أمام السياج، قالت إنيد: «يجب أن نتوقف لنرى والدة جلاديس ولو حتى لدقيقة. إنها تحب الصحبة كثيرا.» ربط كلود فرسيه في شجرة وصعدا إلى المدخل الضيق والمنحدر الذي تحيط به نباتات متسلقة مغطاة بالثلج المتجمد.
قابلتهما السيدة فارمر؛ إنها امرأة ضخمة متوردة الوجه في الخمسين من عمرها، ولها صوت جميل مثل أهل ولاية كنتاكي. أمسكت بذراع إنيد بود واصطحبتها للداخل، وتبعهما كلود إلى غرفة الجلوس الطويلة ذات السقف المنخفض وذات الأرضية غير المستوية التي بها مصباحان، واحد في كل طرف، وبها بضع قطع أثاث متهالك من خشب الماهوجني. هناك، بجانب مدفأة الفحم الصلب، كان يجلس بايليس ويلر. لم ينهض عندما دخلا، ولكنه قال: «مرحبا يا رفاق»، بصوت يتخلله بعض الإحراج. على طاولة صغيرة، وبجانب سلة أدوات الخياطة الخاصة بالسيدة فارمر، كان يوجد صندوق الحلوى الذي أخرجه من جيب معطفه قبل قليل، والذي كان لا يزال مربوطا بشريط ذهبي. كان يوجد مصباح طويل بجانب البيانو الذي من الواضح أن جلاديس كانت تتمرن عليه. تساءل كلود في نفسه هل بايليس يزعم أنه مهتم بالموسيقى حقا! في تلك اللحظة، قالت السيدة فارمر إن جلاديس في المطبخ تبحث عن نظارة والدتها التي نسيت أين وضعتها لما كانت تكتب وصفة طهي خاصة بسوفليه الجبن.
سألتها إنيد: «أما زلت تحصلين على وصفات طهي جديدة يا سيدة فارمر؟ أظن أن بإمكانك طهي كل الأكلات في العالم.» «أوه، هذا ليس صحيحا تماما!» ضحكت السيدة فارمر بتواضع، وأظهرت أنها تحب المجاملات. وقالت للشخص المتصلب عند الباب: «تفضل بالجلوس يا كلود. ستأتي ابنتي خلال لحظات.»
في تلك اللحظة، ظهرت جلاديس فارمر.
قالت وهي ترحب بالموجودين: «عجبا، لم أعلم أن لديك رفقة يا أمي.»
في ظن كلود، كان كلامها يعني أن بايليس لم يكن رفيقا. لم يكد ينظر إلى جلاديس وهو يصافح يدها التي مدتها إليه.
أتى أحد أجداد جلاديس من مدينة أنتويرب، وكانت جلاديس لديها الهيئة الرزينة والشفتان الحمراوان الممتلئتان والعينان البنيتان واليدان البيضاوان التي بها نقر تظهر غالبا في الصور الفلمنكية للفتيات. يعتقد البعض أنها بدينة قليلا ، وناضجة وواثقة جدا من نفسها، بحيث لا يمكن أن توصف بأنها جميلة، على الرغم من أنهم يعجبون ببشرتها الجميلة المشربة بالحمرة التي يشبه لونها لون زهرة التوليب. لم يبد قط أن جلاديس على دراية بأن مظهرها وفقرها وبذخها موضع جدال دائم، بل إنها كانت تذهب إلى المدرسة وتعود منها كل يوم وكأنها شخص له مكانة لا تهتز. تعلمها للموسيقى منحها ثقلا في فرانكفورت.
شرحت إنيد الغرض من زيارتهما. «أخرج كلود مركبة الجليد القديمة الخاصة به وأتينا كي نأخذك معنا في جولة. أظن أن بايليس سيأتي معنا، أليس كذلك؟»
قال بايليس إنه يظن ذلك، على الرغم من أن كلود كان يعلم أنه لا يكره شيئا أكثر من أن يخرج في البرد. هرولت جلاديس إلى الطابق العلوي كي تلبس ملابس ثقيلة، ورافقتها إنيد، وتركتا السيدة فارمر كي تجري محادثة ودية مع ضيفيها غير المتوافقين.
قالت متعاطفة: «أخبرني بايليس لتوه كيف فقدت الخنازير في العاصفة يا كلود. يا له من حدث مؤسف!»
قال كلود في نفسه إن بايليس لن يتكتم على تلك الحادثة على الإطلاق!
كانت السيدة فارمر تتمتع بصوت منخفض وهادئ مثل ابنتها، وهو مختلف عن صوت أهل الغرب العالي والعصبي؛ ولذا قالت بأسلوبها المؤدب: «أظن أنه لم تكن هناك أي طريقة لإنقاذها. لذا، أرجو ألا تتضايق بشأن تلك الحادثة.»
رد كلود بجرأة: «لا، أنا لا أزعج نفسي بأي شيء مات مثل تلك الخنازير. فما الفائدة من ذلك؟»
تأرجحت السيدة فارمر في كرسيها قليلا، وتمتمت قائلة: «صحيح. تقع تلك الأمور أحيانا، وما ينبغي لنا أن ننزعج بشأنها بشدة. إنها ليست مهمة مثل إصابة إنسان بسوء، أليس كذلك؟»
اهتز كلود في كرسيه، وحاول أن يرد على كلامها الطيب، ويتكيف مع الراحة البسيطة التي توفرها غرفة الاستقبال الطويلة خاصتها، التي كان من الواضح أنها تحاول جاهدة أن تكون جذابة لأصدقائها. لم توجد أربع أرجل ثابتة في أي من الكراسي المنجدة أو الطاولات الصغيرة القابلة للطي التي أحضرتها من الجنوب، والأطر الذهبية الثقيلة كانت نصف مكسورة في صورة والدها القاضي الزيتية. لكنها لم تكن تهتم بمسألة الفقر - كدأب أهل الجنوب بعد الحرب الأهلية - ولا تشغل بالها كثيرا بالضرائب المتأخرة كما يفعل جيرانها. حاول كلود أن يكون ودودا في الحديث معها، ولكن شتته صوت الضحك المكبوت الذي كان يأتي من الطابق العلوي. على الأرجح كانت جلاديس وإنيد تتمازحان بشأن وجود بايليس هناك. يا لهما من فتاتين وقحتين!
عندما كانت مركبة الجليد تنطلق مسرعة وأجراسها تجلجل في شوارع القرية ذهابا وإيابا، أتى الناس إلى النوافذ الأمامية لمنازلهم لإلقاء نظرة عليها. عندما غادروا المدينة، اقترح بايليس أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من منزل تريفور. بدأت الفتاتان تتحدثان عن الشابين اللذين كانا من نيو إنجلاند - تريفور وبرويستر - اللذين كانا يعيشان هناك لما كانت فرانكفورت لا تزال مستوطنة حدودية صغيرة ووعرة. كان الجميع يتحدثون عنهما الآن؛ إذ منذ بضعة أيام وصل خبر أن أحد الشريكين، وهو أموس برويستر، سقط ميتا في مكتب المحاماة الخاص به الكائن في هارتفورد. مر ثلاثون عاما منذ أن حاول هو وصديقه بروس تريفور أن يصبحا من أكبر مربي الماشية بمقاطعة فرانكفورت، وبنيا المنزل فوق التل الدائري الموجود شرقي المدينة، وأنفقا عليه مبلغا كبيرا بسعادة كبيرة. كان والد كلود يقول دائما إن المبلغ الذي يبددانه على الشراب ضئيل مقارنة بخسائرهما بسبب مساعيهما المحمودة في مجال الأعمال. قال السيد ويلر إن البلدة لم تبق قط على حالها بعدما غادرها هذان الشابان. سره أن يخبرهم عن الوقت حينما دخل تريفور وبرويستر في مجال تربية الأغنام. استوردا كبشا للتكاثر من اسكتلندا بتكلفة كبيرة؛ ولما وصل لم يصبرا وأرادا الاستفادة منه؛ ومن ثم أطلقاه مع النعاج بمجرد أن خرج من قفصه. وكانت النتيجة أن ولد كل الحملان في الفصل الخطأ؛ إذ ولدت في بداية شهر مارس - في عاصفة ثلجية شديدة - وماتت كل الأمهات من البرد. امتطى تريفور المغوار حصانه وطاف بجميع أرجاء المقاطعة، بين كل المستوطنات الصغيرة؛ كي يشتري زجاجات وحلمات إرضاع من أجل إطعام الحملان التي ماتت أمهاتها .
استؤجرت الأرض الفيضية الخصبة القريبة من منزل تريفور من قبل مزارع كان يزرعها من أجل بيع محصولها منذ سنوات حتى الآن، أما عن المنزل المريح الملحق به مبنى فرعي للعب البلياردو - وهو شيء لم يكن مألوفا في ذلك الجزء من الريف حينذاك - فقد ظل مغلقا ونوافذه مغطاة بألواح خشبية. كان يقع المنزل أعلى تل صغير مستدير، وكان يوجد خلفه بستان جميل من أشجار الحور القطني. ولما اتجه كلود نحوه في تلك الليلة، بدا التل بأشجاره الطويلة المستقيمة وكأنه قبعة كبيرة مصنوعة من الفراء موضوعة على الثلج.
علقت إنيد: «لماذا لم يشتر أحد هذا المنزل منذ مدة طويلة ويصلحه؟ لا يوجد مكان في تلك الأنحاء يمكن أن يقارن به. يبدو أنه المكان الذي يجب أن يعيش فيه أكابر المدينة.»
قال بايليس بنبرة متحفظة: «سرني أنه أعجبك يا إنيد. طالما كنت أضمر إعجابا لهذا المكان. لكن لم يرغب هذان الشخصان في بيعه مطلقا. ولكن هذا الأمر انتهى الآن. فقد اشتريته بالأمس. والعقد في طريقه إلى هارتفورد من أجل التوقيع.»
التفتت إنيد إليه وهي في مقعدها. «يا إلهي، يا بايليس، هل أنت جاد؟ لقد اشتريت منزل تريفور على الفور وكأنه عقار عادي! هل ستنهي إجراءات تملكه وتعيش فيه يوما ما؟» «لا أدري هل سأعيش فيه أم لا. إنه بعيد جدا بحيث لا يمكن أن أذهب منه إلى مكان عملي سيرا على الأقدام، والطريق المار عبر هذه الأرض يغمره الطين بشدة في الربيع بحيث يصعب أن تسير عليه السيارة.» «ولكنه ليس بعيدا، تبلغ المسافة أقل من ميل. لو امتلكت هذا المكان، فبالتأكيد لن أدع أحدا آخر يعيش فيه. حتى إن كاري تتذكره. وكثيرا ما تسأل في خطاباتها هل اشترى أحد منزل تريفور حتى الآن أم لا.»
كاري رويس - أخت إنيد الكبرى - في بعثة تبشيرية بالصين.
اعترف بايليس قائلا: «حسنا، أنا لم أشتره من أجل الاستثمار. دفعت قيمته بالكامل.»
التفتت إنيد إلى جلاديس؛ إذ بدا واضحا أنها لم تكن تنصت إليهما. «أنت الشخص الذي يستطيع التخطيط لبناء قصر على تل تريفور يا جلاديس. لا يخلو عقلك من مثل هذه الأفكار المبتكرة عن المنازل.»
قالت جلاديس بهدوء: «نعم، فمن لا يملكون المنازل يبدو في الغالب أن لديهم أفكارا مبتكرة عن البناء. ولكني أحب منزل تريفور على وضعه الحالي. وأحزن عندما أفكر في أن أحدهما قد مات. يقول الناس إنهما أمضيا أوقاتا طيبة في هذا المكان.»
نخر بايليس. «أسميها أوقاتا طيبة إن أحببت. لما أتيت لأول مرة إلى المدينة، كان الأطفال يسعون لسرقة زجاجات الويسكي من القبو. وبالطبع إذا قررت العيش في هذا المنزل، فسأهدم ذلك الفخ القديم وأشيد شيئا حديثا.» كثيرا ما كان يتحدث بتلك النبرة الفظة مع جلاديس أمام الناس.
حاولت إنيد أن تشرك السائق في الحديث. «يبدو أن هناك اختلافا في الآراء هنا يا كلود.»
قالت جلاديس غير آبهة: «أوه، إنه ملك بايليس، أو سيصبح كذلك قريبا. سيبني ما يريد. كنت أعرف دائما أن أحدا سيأخذ هذا المكان مني يوما ما؛ ولذا فأنا مستعدة.»
تمتم بايليس باندهاش: «يأخذه منك؟» «نعم. ما دام لم يشتره أحد ويغير ملامحه، فهو ملك لي ولأي أحد آخر.»
قالت إنيد مازحة: «كلود، أصبح لكل واحد من أخويك منزل. فأين سيكون منزلك؟»
رد ساخرا: «لا أعرف إن كنت سأمتلك واحدا يوما ما أم لا. أظن أنني سأرتحل حول العالم قليلا قبل أن أحدد ما سأفعله.»
قالت جلاديس بنبرة تنم عن ضجر مفاجئ: «خذني معك يا كلود!» من تلك التمتمة الحزينة، شكت إنيد أن بايليس أمسك بيد جلاديس تحت غطاء جلد الجاموس الذي كانا يضعانه على أرجلهما.
خيمت الكآبة على رحلة التجول بمركبة الجليد. حتى إنيد التي لا تتمتع بحساسية كبيرة تجاه العواطف المكبوتة، رأت أن هناك كبحا غير مريح للعواطف. هبت ريح شديدة. اقترح بايليس مرتين أن يعودوا، ولكن أخاه رد عليه قائلا: «سنعود قريبا جدا»، وتابع طريقه. قصد أن يحصل بايليس على ما يكفي من الأمر. وإلى أن همست إليه إنيد موبخة: «أعتقد حقا أنه ينبغي أن نعود؛ بدأت برودة الجو تقرسنا»، أدرك أنه حول رحلة التجول بمركبة الجليد إلى عقاب! لم ترتكب إنيد بالتأكيد فعلا تعاقب عليه؛ فقد فعلت ما بوسعها، وحاولت أن تغطي على أسلوبه السيئ. تخبط في اعتذاره إليها حينما ساعدها في الخروج من مركبة الجليد عند الطاحونة. وفي طريق عودته الطويل إلى المنزل، راودته أفكار مريرة عن الصحبة.
كان غاضبا بشدة من جلاديس لدرجة أنه لم يودعها. اغتاظ من كل كلمة قالتها في تلك الجولة. إن كانت تنوي الزواج من بايليس، فلا بد أن تنفض عنها هذا التظاهر بالحرية والاستقلال. وإن كانت لا تنوي الزواج منه، فلماذا تقبل المجاملات منه، وتتركه يعتاد على الذهاب إلى منزلها، ويضع علبة الحلوى الخاصة به على الطاولة، مثلما يفعل كل أهل فرانكفورت عندما يحاولون التودد لشخص ما؟ بالتأكيد لم تستطع أن تقنع نفسها بأنها تحب مجتمعه!
لما كانا زميلين في مدرسة فرانكفورت الثانوية، كانت جلاديس بمنزلة مرآة لمظهر كلود الجمالي. لم تجر العادة أن يتحلى أي فتى بالنظافة الشديدة والاهتمام البالغ بملبسهم وأسلوبهم. ولكن إذا اختار فتاة لا تشوبها شائبة في هذه النواحي، وكان يحضر دروس اللغة اللاتينية والأنشطة المعملية معها، فكل عوامل الجذب الشخصية فيها تحسب له. بدا أن جلاديس كانت تقدر الشرف الذي منحه لها كلود، وما كانت هي السبب بالكامل في أن تلبس تلك الفساتين الجميلة المكوية المخيطة من الموسلين عندما كانا يذهبان في رحلات استكشافية عن النباتات.
في طريق العودة من هذه الجولة التعيسة بمركبة الجليد، قال كلود لنفسه إنه فيما يتعلق بجلاديس يستطيع أن يعتقد أنه تعرض «للخداع» طوال الوقت. لقد صدق مشاعرها الراقية؛ صدقها ضمنيا. لكنه بات الآن يعلم أنها ليست لديها مشاعر راقية يمكن أن تخفيها إن كان هناك ما يمكن أن تجنيه من ذلك. وحتى بينما كان يقول في نفسه هذه الأشياء مرارا وتكرارا، ظلت فكرته القديمة الكامنة في أعماق عقله عن جلاديس راسخة لا تتغير. ولكن ذلك ما زاد مشاعره إلا تألما. لقد بلغ جرحه مبلغا عميقا؛ ولسبب ما، يحب الشاب أن يشعر أنه تعرض للخيانة عندما يجرحه أحد.
الكتاب الثاني
إنيد
1
في عصر أحد أيام ذلك الربيع، كان كلود يجلس على مجموعة درجات السلم الطويلة المصنوعة من الجرانيت التي تؤدي إلى مبنى المجلس التشريعي في دنفر. كان يلقي نظرة على بقايا ساكني الجروف الموجودة في هذا المبنى؛ وعندما خرج تحت أشعة الشمس، اخترقت الرائحة الخافتة للحشائش الحديثة الجز أنفه وأقنعته بالبقاء. تلك كانت المرة الأولى التي يجز فيها عاملو البستان الحشائش في تلك الأرض. كانت جميع المروج على التل لامعة بزهور النرجس البري والزنابق. هب ريح خفيف ودافئ فوق الحشائش وجفف قطرات المياه. هطلت أمطار في وقت العصر، وكانت لا تزال السماء زرقاء وتلوح بالأمطار التي تحملها السحب السريعة الحركة.
غاب كلود عن المنزل منذ ما يقرب من شهر. أرسله والده كي يزور رالف والمزرعة الجديدة، وانطلق من هناك إلى مدينتي كولورادو سبرينجز وترينيداد. استمتع بالسفر؛ ولما عاد الآن إلى دنفر شعر بالوحدة التي عادة ما تغمر أبناء الريف عندما يكونون في المدينة؛ الشعور بأنهم لا علاقة لهم بأي شيء يدور حولهم، بأنهم غير مهمين لأي شخص. تجول في أنحاء كولورادو سبرينجز وهو يأمل لو كان يعرف بعض هؤلاء الناس الذين كانوا يخرجون من المنازل ويدخلون إليها؛ لو كان بإمكانه التحدث إلى بعض هؤلاء الفتيات الجميلات اللاتي يراهن يقدن سياراتهن ويجبن الشوارع؛ إذ كان يتمنى لو يبادلهن بعض الكلمات فقط. وبينما كان يتمشى في التلال في صباح أحد الأيام، مرت بجواره فتاة ثم أبطأت سيارتها، وسألته إن كان بإمكانها أن توصله إلى أي مكان. كان كلود سيعتقد أنها ليست أبدا من نوع الفتيات الذي يمكن أن تتوقف لتقله معها، ولكنها فعلت ذلك وتحدثت معه بود طوال طريق العودة إلى المدينة. استغرقت الرحلة عشرين دقيقة أو نحو ذلك، ولكن كان هذا أفضل ما حدث له في تلك الرحلة. عندما سألته عن المكان الذي سينزل فيه، قال إنه أنتلرز، وتوردت وجنتاه بشدة لدرجة أن الفتاة لا بد أنها عرفت من فورها أنه لم يكن يقيم هناك.
تساءل في عصر هذا اليوم عن عدد الشباب المحبطين الذين جلسوا هنا على أعتاب مبنى المجلس التشريعي، وراقبوا الشمس وهي تغرب خلف الجبال. دائما ما كان الجميع يقولون إنه لشيء جميل أن تكون في مرحلة الشباب، ولكنه كان شيئا مؤلما أيضا. لم يعتقد أن الأشخاص الأكبر سنا مروا قط بمثل هذا البؤس الذي مر به. في ذلك المكان وتحت أشعة الشمس الذهبية، كانت كتل الجبال تنقسم إلى أربع سلاسل جبلية منفصلة؛ وكلما غاصت الشمس، علت قمم الجبال في الأفق، الواحدة تلو الأخرى. كان مشهدا بهيا لم يزد الألم في صدره إلا حدة. سأل نفسه متوسلا الحصول على إجابة عن المشكلة التي يعاني منها. لا بد له من الإجابة على هذا قبل أن يعود إلى المنزل.
كان تمثال كيت كارسون وهو يمتطي صهوة حصانه الموجود في وسط الميدان يشير تجاه الغرب، ولكن اندثر تماما ذلك المعنى عن الغرب. كانت لا تزال هناك أمريكا الجنوبية؛ على الأرجح كان يستطيع أن يعثر على شيء أسفل برزخ بنما. هنا، كانت السماء أشبه بغطاء يغلق على الأرض؛ ربما كان بإمكان والدته رؤية قديسين وشهداء من ورائه.
كان يعتقد أنه سيتجاوز كل هذا في الوقت المناسب. حتى والده كان مضطربا في شبابه ورحل إلى مكان جديد. لقد كانت عاصفة هدأت أخيرا، ولكن يا للأسف أنه لا يمكن فعل شيء حيالها! إنها إهدار للطاقة؛ حيث إنها أحد أنواع الطاقة، نهض على قدميه ووقف عابسا أمام ضوء الشفق، وغاص بعيدا وسط أفكاره المتصارعة لدرجة أنه لم ينتبه إلى غريب صعد إليه من الدرجات السفلية ووقف كي ينظر إليه.
أخذ الغريب يتفحص كلود باهتمام. رأى شابا يقف حاسر الرأس على مجموعة درجات السلم الطويلة، قابضا يديه كأنه موقوف للقبض عليه، وشعره الأصفر بلون الرمال، ووجهه الضارب إلى السمرة، وهيئته المتوترة ذات لون نحاسي تحت أشعة الشمس المائلة. لو كان بإمكان كلود أن يعلم كيف بدا لذلك الغريب، لصعق.
2
في صباح اليوم التالي، ترجل كلود من القطار في فرانكفورت، وتناول إفطاره في المحطة قبل أن تستيقظ المدينة. لم تكن أسرته تتوقع وصوله؛ ولذا قرر أن يمشي إلى المنزل ويتوقف عند الطاحونة كي يرى إنيد رويس. ففي النهاية، الأصدقاء القدامى هم الأفضل.
غادر المدينة من الطريق المنخفض المتعرج بطول النهير. كان لأشجار الصفصاف جميعها أوراق صفراء جديدة، وكانت براعم الحور القطني اللزجة على وشك أن تتفتح. كانت الطيور تغرد في كل مكان، وكان يرى - بين الفينة والأخرى - جناح طائر كردينال رائع عبر أغصان أشجار الصفصاف المتناثرة.
لا تخلو حقول القمح المغبرة والصفراء من مسحة لون أخضر؛ كانت هناك ملايين السنابل التي تشبه الأصابع الصغيرة التي تعلو وتلوح بخفة في ضوء الشمس. وناحية الشمال والجنوب، كان بإمكان كلود رؤية آلات زراعة الذرة وهي تتحرك في خطوط مستقيمة عبر الأفدنة ذات التربة السمراء المحروثة على نحو ناعم جدا، لدرجة أن تذروها الرياح على هيئة سحب من الغبار على جانب الطريق. عندما هبت زوبعة، اجتاحت رياح صغيرة لطيفة الحقول المفتوحة، وتشكلت دوامات من التربة الناعمة التي دارت في الهواء وسقطت ثانية فجأة. بدا كأن كل عمود سياج عنده طائر قنبر يغرد لكل من هو صامت؛ كان يغرد لمساحة الأرض الكبيرة المحروثة، والخيول الثقيلة في المباني المصطفة على طول الطريق، والرجال الذين يوجهون الخيول.
على جانبي الطريق، كانت تطل زهور الهندباء البرية بوجوهها الصافية اليانعة من تحت الحشائش الذابلة وحزم عشب البلوستم الجاف. إذا تصادف وخطى كلود فوق إحداها، فإن رائحتها الحادة كانت تجعله يفكر في ماهيلي التي ربما كانت خارج المنزل هذا الصباح تحفر في المرج بسكين التقطيع المكسورة الخاصة بها؛ لتضع أوراق الهندباء في مئزرها. كانت دائما ما تذهب من أجل الحصول على هذه الأوراق بشيء من السرية كل يوم في الصباح الباكر؛ إذ تتسلل بطول جانبي الطريق وتنحني قريبا من الأرض كأنها تخشى أن يكشفها أحد ويصرفها بعيدا، أو كأن زهور الهندباء من الحيوانات البرية التي يجب اصطيادها وهي نائمة.
كان كلود يفكر وهو في طريقه كيف كان يحب أن يأتي مع والده إلى الطاحونة. لم يكن يعي شيئا عن عملية الطحن حينذاك؛ كذلك كان منزل الطاحونة وزوجة صاحبه غامضين له، حتى إنيد كانت غامضة قليلا، إلى أن لعب معها في يوم ما بين نباتات التيفا تحت أشعة الشمس الساطعة. اعتادا اللعب في صناديق القمح المدروس، ومشاهدة الدقيق وهو يخرج من القادوس، وتغطية أنفسهما بالغبار الأبيض.
أحب ما في الأمر كان الذهاب إلى مكان الساقية المعلقة وهي تقطر في كهفها المظلم؛ إذ يدخل بصيص متعرج من أشعة الشمس من بين الشقوق ليتراقص فوق الوحل الأخضر ونباتات البلسم المرقطة التي تنمو في الصخور الطينية. الطاحونة كانت مكان التباينات الحادة؛ الشمس الساطعة والظلال المظلمة، الصوت المجلجل والهدوء الشديد لصوت قطرات المياه. تذكر مدى اندهاشه في أحد الأيام عندما رأى السيد رويس لابسا قفازا ونظارة وقد أخذ ينظف أحجار الرحى، واكتشف كم هي أشياء غير مؤذية. أخذ يضرب عليها صاحب الطاحونة بمطرقة حادة حتى تطاير الشرر منها، وكانت لا تزال في يد كلود بقعة زرقاء؛ حيث دخلت رقاقة من الحجر الصوان تحت الجلد عندما اقترب أكثر من اللازم.
لا بد أن استمرار جايسون رويس في تشغيل الطاحونة يرجع إلى حبه لها؛ إذ إنها لم تعد تدر مالا كثيرا الآن. ولكن الطاحونة أول عمل له، وهو لم يعثر على أشياء كثيرة تستحق اهتمامه بها وحبه لها في حياته. في بعض الأحيان، كان يمكن أن يصادفه المرء بملابس عامل الطاحونة المغبرة بالدقيق؛ لأنه أعطى العامل إجازة. ومنذ وقت طويل، لم يعد يعتمد على ارتفاع منسوب المياه وانخفاضه في نهير لافلي كريك من أجل توليد الطاقة؛ لأنه ركب محركا يعمل بالبنزين. أصبح السد القديم الآن «مثل سنة مسوسة»، كما يسميه أحد العمال، ونمت عليه الطحالب وأجمة من أغصان الصفصاف.
لم تسر قط الشئون العائلية للسيد رويس على نحو جيد مثل عمله. لم يرزق بولد، ولم ينجح إلا في تنشئة فتاتين فقط من بين خمس فتيات. يقول الناس إن منزل الطاحونة رطب وغير صحي . ولم يستطع السيد رويس الإبقاء على العمال في الطاحونة مدة طويلة حتى بنى كوخا ووظف رجلا متزوجا كي يتولى شئونها. إنهم كانوا يشتكون من كآبة المنزل وعدم الحصول على ما يكفي من الطعام. وفي كل صيف، كانت السيدة رويس تذهب إلى مصحة خاصة بنظام الأكل النباتي في ميشيجان، حيث تعلمت العيش على المكسرات والحبوب المحمصة. لا شك أنها كانت تعد طعاما لعائلتها، ولكن لم يحدث أن قدمت وجبة في النهار يمكن أن يتطلع إليها المرء مبتهجا أو يتناولها مسرورا. ولذا، اعتاد السيد رويس أن يتناول العشاء في الفندق في المدينة. ومع ذلك، تميزت زوجته ببعض الإنجازات الرائعة في الطهي. كانت تعد خبزا لا غبار عليه. وعندما كان يقترب موعد عشاء في الكنيسة، فدائما ما كانت تدعى من أجل تحضير صلصة المايونيز الرائعة أو كعكة أنجل فود الخاصة بها؛ لا شك في أنها أخف كعكة إسفنجية بين أي مجموعات من الكعك.
لما كانت السيدة رويس لا تكف عن التفكير بصحتها، فهذا جعلها تبدو كأنها تصارع حزنا خفيا أو يفترسها ندم يهلكها. وولد ذلك لديها نوعا من الانعزال. لقد كانت تعيش بطريقة مختلفة عن الآخرين، وتلك الحقيقة جعلتها متشككة ومتحفظة. كانت لا تشعر أن أحدا يفهمهما ويحوطها بالتعاطف إلا عندما تكون في المصحة تحت رعاية أطبائها المحبوبين.
انتقل تشككها إلى بنتيها، وصبغ مشاعرهن تجاه الحياة بالعديد من الطرق البسيطة. نشأت هاتان الفتاتان وهما يشعران بأنهما مختلفتان؛ ولذا لم تكونا صداقات حميمة. جلاديس فارمر كانت هي الفتاة الوحيدة في فرانكفورت التي تكثر الذهاب إلى منزل الطاحونة. ولم يفاجأ أحد من ذهاب كارولين رويس - الابنة الكبرى - إلى الصين في مهمة تبشيرية، ولا من عدم اعتراض أمها على سفرها. على أي حال، كان الناس يقولون إن نساء عائلة رويس يتمتعن بالغرابة؛ ولما ذهبت كاري أملوا أن تنشأ إنيد وتصبح أقرب إلى أبناء قريتها في تربيتهم. لقد كانت تلبس ملابس أنيقة، وتأتي كثيرا إلى المدينة بسيارتها، وكانت مستعدة دوما لإنجاز أعمال من أجل الكنيسة أو المكتبة العامة.
إضافة إلى ذلك، كان أهل فرانكفورت يعتقدون أن إنيد بالغة الجمال، وهي صفة تشجع على الاندماج في المجتمع. كانت نحيفة ولها رأس صغير وجميل، وبشرة شاحبة وناعمة، وعينان غائمتان كبيرتان سوداوان برموش كثيفة. الخط الطويل الممتد من شحمة أذنها إلى طرف ذقنها أضفى على وجهها ضربا من الجمود، ولكن النساء العجائز - وهن أفضل النقاد في تلك المسائل - يعتبرن أن هذا المظهر كان ينم عن حزم وكرامة. كانت حركتها سريعة ورشيقة، كأنها تمسح الأشياء بفرشاة بدلا من أن تلمسها؛ بحيث يوحي مظهرها بأنها تحلق بجسدها النحيف وتنزلق بعيدا عن الأشياء المحيطة بها. عندما كانت تقدم مدرسة الأحد مشاهد تمثيلية صامتة أو متحركة، كانت تختار إنيد من أجل تجسيد شخصية نيديا - فتاة بومبي الكفيفة - والشهيدة في لوحة «المسيح أو ديانا». شحوب بشرتها والميل الخانع لجبهتها وعيناها السوداوان الثابتتان، كل ذلك كان يجعل من يراها يظن أنها «من المسيحيين الأوائل».
في صباح ذلك اليوم الذي كان أحد أيام شهر مايو، عندما كان كلود ويلر يسرع الخطى باتجاه الطاحونة، كانت إنيد في الساحة واقفة بجانب تعريشة كروم مقامة بالقرب من السياج، إذ خرجت من تحت ظلال الأشجار الكثيفة. كانت تعزق الأرض التي حرثت بالأمس وتعمل أخاديد لإسقاط البذور فيها. عند منعطف الطريق بالقرب من شجر الصفصاف القديم المتشابك، رأى كلود فستانها الوردي المعالج بالنشا، وقلنسوتها الشمسية البيضاء الصغيرة. فتقدم مسرعا.
نادى وهو يتقدم إلى السياج: «مرحبا، هل تزرعين؟»
إنيد التي كانت محنية في الزراعة في تلك اللحظة استقامت بسرعة، ولكن من دون أن تجفل. «عجبا، كلود! ظننت أنك كنت في مكان ما في الغرب. هذه مفاجأة!» نفضت الغبار عن يديها وصافحته بأصابعها البيضاء اللينة. ذراعاها، العاريتان من أسفل الكوع، كانتا رفيعتين، وبدتا باردتين كأنها ارتدت ملابس الصيف قبل أوانها. «عدت لتوي هذا الصباح. أنا متوجه إلى المنزل. ماذا تزرعين؟» «زهور بازلاء عطرية.» «دائما ما تزرعين أجود أنواع هذه الزهور في القرية. عندما أرى مجموعة منها في الكنيسة أو في أي مكان، أتعرف عليها دوما.»
اعترفت قائلة: «نعم، أحقق نجاحا كبيرا في زراعة زهور البازلاء العطرية. الأرض خصبة هنا، وتتعرض لقدر كبير من أشعة الشمس.» «ليست زهور البازلاء العطرية فحسب. لا أحد لديه زهور الليلك أو الزهور المتسلقة هذه، وأظن أنك الوحيدة في مقاطعة فرانكفورت التي لديها كرمة ويستاريا.» «زرعت أمي تلك الزهور منذ مدة طويلة، عندما قدمت إلى هنا أول مرة. إنها تحب كرمة الويستاريا كثيرا. أخشى أن تذبل منا في أحد فصول الشتاء القارس هذه.»
تحدث بإعجاب: «أوه، سيكون هذا وصمة عار! اعتني بها جيدا. يجب عليك تخصيص قدر كبير من الوقت للاعتناء بهذه الأشياء على أي حال.»
اتكأت إنيد على السياج، وأزاحت قلنسوتها الصغيرة إلى الخلف. «أظنني أهتم بالزهور أكثر من اهتمامي بالناس. كثيرا ما أحسدك يا كلود؛ لديك العديد من الاهتمامات.»
فوجئ كلود. «أنا؟ يا إلهي، ليس لدي العديد من الاهتمامات! لقد بلغت مني التعاسة مبلغا عظيما. لم أهتم بالذهاب إلى الكلية حتى كان علي التوقف عن الذهاب، ثم شعرت بالأسف لأنني لم أستطع العودة. أظن أن الحزن بشأن ذلك أتعبني طوال الشتاء.»
نظرت إليه باندهاش هادئ. «لا أعرف السبب وراء تعاستك؛ فأنت لك مطلق الحرية.» «حسنا، ألا تتمتعين بالحرية أنت أيضا؟» «لست حرة كي أفعل ما يحلو لي. الشيء الوحيد الذي أريده حقا هو السفر إلى الصين ومساعدة كاري في عملها. تظن أمي أني لا أتمتع بالقوة الكافية. ولكن كاري لم تكن قوية هنا مطلقا. إنها أفضل في الصين، وأظن أنه قد أكون كذلك هناك.»
شعر كلود بالقلق. لم ير إنيد منذ جولة مركبة الجليد؛ إذ كانت حينها أكثر مرحا من المعتاد. وبدا الآن أنها أصبحت فاترة الهمة. «يجب أن تتخلصي من تلك الأفكار يا إنيد. ما ينبغي لك أن تهيمي على وجهك بمفردك هكذا. فهذا يحولك إلى إنسان غريب الأطوار. ألا يوجد الكثير من أعمال التبشير التي يمكن المشاركة فيها هنا؟»
تنهدت. «هذا ما يقوله الجميع. ولكن لدينا جميعا هنا فرصة لمعرفة الحق، فقط لو استطعنا استغلالها. لكن تلك الفرصة غير متاحة لهم. لا أتحمل التفكير في كل هؤلاء الملايين الذين يعيشون ويموتون في الظلام.»
نظر كلود إلى المنزل الكئيب الكائن خلف أشجار الأرز، ثم نظر إلى الحقول اللامعة الناعمة التربة. شعر كأن له يدا في حزن إنيد. لم يكن نعم الجار لها في العام الماضي. «الناس هنا أيضا يمكن أن يعيشوا في الظلام، إلا إذا حاربوه. انظري إلي. أخبرتك أنني ظللت مكتئبا طوال فصل الشتاء. نشعر جميعا بوجود ود كبير فيما بيننا، ولكننا نتعثر في خطانا ولا نجتمع معا أبدا. أنا وأنت صديقان قديمان، ولكننا نادرا ما يرى أحدنا الآخر. تقول أمي إنك ظللت تعدينها مدة سنتين بأن تجهزي نفسك وتزوريها. لماذا لم تأتي؟ كانت ستسعد بزيارتك.» «سأفعل إذن. ما دامت والدتك أحبت ذلك.» توقفت للحظة، وأخذت تبرم خيوط قلنسوتها وهي شاردة الذهن، ثم انتزعتها من رأسها بحركة سريعة ونظرت إليه في الضوء الساطع مباشرة. «كلود، لم تصبح حقا مفكرا حرا، أليس كذلك؟»
ضحك بملء فيه. «عجبا، ما الذي جعلك تظنين ذلك؟» «يعرف الجميع أن إرنست هافل كذلك ... ويقول الناس إنك وإياه تقرآن ذلك النوع من الكتب معا.» «هل لذلك علاقة بصداقتنا؟» «نعم، له علاقة. تضاءل قدر الثقة الذي أشعر به تجاهك. قلقت من ذلك قلقا كبيرا.»
قال بسرعة: «حسنا، كفي عن هذا القلق. أحد الأسباب أنني لا أستحقه.»
هزت رأسها بلوم وقالت: «أوه، نعم، أعلم ذلك! لو أن للقلق أي منفعة ...»
أمسك كلود بدعامتي السياج اللتين توجدان بينهما بكلتا يديه. «سيكون له منفعة! ألم أخبرك أنه يوجد الكثير من أعمال التبشير التي يمكن المشاركة فيها هنا؟ أهذا هو السبب الذي جعلك متحفظة تجاهي في السنوات القليلة الماضية؛ لأنك تعتقدين أنني ملحد؟»
تمتمت: «تعلم أنني لم أحب قط إرنست هافل.»
لما غادر كلود الطاحونة متوجها إلى المنزل، شعر أنه عثر على شيء قد يساعده في فصل الصيف. يا لها من فرصة رائعة أن يعرج على إنيد ويتحدثا بمفردهما من دون أن يقاطعهما أحد؛ من دون أن يرى وجه والدتها، الذي تضع عليه دائما المساحيق، ينظر إليه من خلف ستارة منسدلة! كانت السيدة رويس تبدو دائما كبيرة في السن، حتى منذ وقت طويل عندما كانت تأتي إلى الكنيسة مع بنتيها الصغيرتين؛ لقد كانت امرأة نحيلة تلبس حذاء صغيرا بكعب عال وقبعة كبيرة بريش مائل لأسفل، وكان فستانها الأسود مرصعا بالخرز الطويل والكهرمان الأسود الذي يعطي لمعانا ويحدث صوتا؛ مما يجعلها تبدو صلبة من الخارج مثل الحشرة.
كان عليه أن يساعد إنيد على الخروج والاختلاط أكثر بالآخرين. لقد كانت تقضي وقتا طويلا مع أمها، ومع أفكارها الخاصة. الزهور والبعثات الخارجية؛ حديقتها ومملكة الصين العظيمة، كان هناك شيء غير عادي ومثير في اهتماماتها. وشيء رائع للغاية أيضا. يجب أن تكون المرأة متدينة؛ الإيمان كان العطر الطبيعي لعقلها. وكلما زاد عدم معقولية ما تؤمن به، زادت حلاوة الإيمان. لقد كان يعتبر قصة قصيدة «الفردوس المفقود» أسطورة مثل ملحمة «الأوديسة»، ولكن عندما تقرؤها والدته عليه بصوت عال، لم يكن يعتبرها جميلة فحسب، بل حقيقية أيضا. المرأة التي ليس لها أفكار مقدسة عن الأشياء الغامضة البعيدة ستصبح مملة وعادية مثل الرجل.
3
في الأسابيع القليلة التالية، كثرت زيارات كلود بالسيارة إلى منزل الطاحونة في الأمسيات الجميلة كي يصطحب معه إنيد إلى فرانكفورت لمشاهدة عرض سينمائي أو الذهاب إلى مدينة مجاورة. الميزة في هذا الشكل من الرفقة أنه كان لا يضع ضغطا كبيرا على قدرات المرء في الكلام. يمكن أن تظل إنيد صامتة على نحو مثير للإعجاب، ولا تتحرج أبدا من الصمت أو الكلام. لقد كانت هادئة وواثقة من نفسها طوال الوقت، وكان هذا أحد أسباب مهارتها في قيادة السيارات؛ لقد كانت أفضل كثيرا من كلود في الحقيقة.
لما تقابلا بعد الكنيسة في أحد أيام الأحد، أخبرت كلود أنها تريد الذهاب إلى هاستنجز للتسوق، ورتبا بحيث يأخذها يوم الثلاثاء في سيارة والده الكبيرة. كانت تلك المدينة تبعد مسافة سبعين ميلا تقريبا جهة الشمال الشرقي، ومن فرانكفورت، كانت هذه الرحلة غير مريحة في حالة استخدام القطار .
في صباح يوم الثلاثاء، وصل كلود إلى منزل الطاحونة قبيل سطوع الشمس فوق الحقول الرطبة. وجد إنيد تنتظره في الرواق الأمامي لابسة معطفا ثقيلا قصيرا فوق رداء ربيعي. ركضت إلى البوابة وانسلت وجلست على المقعد بجانبه. «صباح الخير يا كلود. لم يستيقظ أحد. سيكون يوما رائعا، أليس كذلك؟» «بلى. إن الطقس أدفأ قليلا بالنسبة إلى هذا الوقت من العام. لن تحتاجي إلى هذا المعطف مدة طويلة.»
وجدا الطرق فارغة في الساعة الأولى. جميع الحقول كانت رمادية من الندى، وكانت تنزل أشعة الشمس المبكرة فوق كل شيء بسطوع شفاف لنار أضرمت لتوها. وبينما كانت السيارة تقطع الأميال من دون ضوضاء، كان عمق السماء وزرقتها يزيدان، وتتفتح الأزهار على جانبي الطريق وسط الحشائش التي يعلوها الندى. والآن، أصبح هناك أناس وخيول على كل تل. وبعد مدة وجيزة، بدآ يمران بأطفال في طريقهم إلى المدرسة، توقفوا ولوحوا بصناديق طعامهم اللامعة تجاه المسافرين. وصلا إلى هاستنجز بحلول الساعة العاشرة.
بينما كانت إنيد تتسوق، اشترى كلود حذاء أبيض وسروالا من القطن المتين. شعر أنه مهتم بملابس الصيف أكثر من المعتاد. تقابلا في الفندق من أجل الغداء؛ إذ كانا جائعين بشدة، وارتضيا بما أنجزاه في الصباح. لما جلس كلود في صالة الطعام وإنيد في المقعد المقابل، جال في خاطره أنهما كانا لا يشبهان بأي حال من الأحوال فتى وفتاة أتيا من القرية إلى المدينة، بل شخصين محنكين يتجولان بسيارتهما.
بينما كانا في انتظار طبق التحلية، سألته: «هل ستأتي في زيارة معي بعد العشاء؟» «هل إلى أحد أعرفه؟» «بالتأكيد. القس ويلدون موجود في المدينة. انتهت زياراته وأخشى أن يسافر، ولكنه سيمكث بضعة أيام مع السيدة جليسون. أحضرت معي بعض خطابات كاري كي يقرأها.»
امتعض وجه كلود. وقال بحزم: «لن يسر لرؤيتي. لم نكن على وفاق البتة في المدرسة. لعلمك، إنه معلم تقليدي غير بارع.»
نظرت إنيد إليه نظرة متفحصة. «فاجأني سماع ذلك؛ إنه متحدث جيد. ومن الأفضل أن تأتي معي. لا يصح أن توجد تلك الجفوة مع أساتذتك القدامى.»
بعد مرور ساعة، استقبل القس آرثر ويلدون الشابين في غرفة الاستقبال ذات الإضاءة الخافتة في منزل السيدة جليسون، حيث كان يتصرف كأنه يتقاسم ملكية المنزل مع السيدة. بعد محادثة ودية استمرت بضع لحظات بين صاحبة المنزل والزائرين، استأذنت منهما لأن لديها اجتماعا تابعا للمنظمة التعليمية النسوية الخيرية. نهض الجميع لما همت بالرحيل، واقترب السيد ويلدون من إنيد وأخذها من يدها، ووقف ينظر إليها وهو يخفض رأسه وعلى شفتيه ابتسامة غامضة. «إنها لسعادة غير متوقعة أن أراك مرة أخرى يا آنسة إنيد. وأنت أيضا يا كلود»، والتفت قليلا إلى كلود. «هل أتيتما معا من فرانكفورت في هذا اليوم الجميل؟» بدا أن نبرة صوته كانت تقول: «كم هذا رائع بالنسبة إليك!»
كان يوجه معظم كلامه إلى إنيد، وتحاشى - كما هي عادته دائما - النظر إلى كلود إلا عندما يوجه الحديث إليه مباشرة. «هل تزرع هذا العام يا كلود؟ أظن أن هذا يسر والدك أيما سرور. وهل صحة السيدة ويلر على ما يرام؟»
قطعا لا يحمل السيد ويلدون أي ضغينة تجاه كلود، ولكنه لا يبرح يلفظ اسمه وكأنه يقول «كلد»، وهذا يغضب كلود. كانت إنيد تنطق اسمه بتلك الطريقة أيضا، ولكنه إما أنه لم يلاحظ ذلك منها وإما أنه لا يمانع ذلك منها. غاص في أريكة عميقة لونها داكن، وجلس واضعا قبعة القيادة على ركبته، وسحب القس ويلدون كرسيا باتجاه النافذة الوحيدة المفتوحة في الغرفة الخافتة الضوء، وبدأ يقرأ خطابات كاري رويس. ومن دون أن يطلب منه أحد، قرأها بصوت عال، وكان يتوقف من وقت لآخر كي يدلي بتعليقاته. لاحظ كلود بخيبة أمل أن إنيد تستسيغ كل تعليقاته المملة تماما كما تفعل والدته. لم ينظر إلى ويلدون كل هذه المدة من قبل. سقط الضوء كله على رأس الشاب الذي له شكل الكمثرى، وعلى شعره الخفيف المموج. ما الذي يمكن أن يعجب سيدتين رزينتين مثل والدته وإنيد رويس في رجل صوته يشبه صوت القطط ويرتدي ربطة عنق بيضاء؟ استقرت عينا إنيد السوداوان عليه بتعبير ينم عن احترام عميق. لقد كانت تنظر إليه وتتحدث إليه بإحساس أكثر مما كانت تظهر تجاه كلود.
قالت بجدية: «كما تعلم أيها القس ويلدون، ليس من طبيعتي الاختلاط كثيرا بالناس. وأرى أنه يصعب علي أن أولي الاهتمام اللازم للعمل الكنسي وأنا داخل البلاد. يبدو لي كأنني دائما ما أبقي نفسي على استعداد للعمل في المجال الخارجي؛ أعني بعدم الدخول في علاقات شخصية. إن ذهبت جلاديس فارمر إلى الصين، فالجميع سيفتقدونها. لا يمكن لأحد أن يحل محلها في المدرسة الثانوية. كانت تنعم شخصيتها بجاذبية تجذب الناس إليها. ولكني دائما ما أفكر في فعل ما تفعله كاري. أعلم أن لي فائدة هناك.»
كان كلود يعلم أنه لم يكن سهلا على إنيد أن تقول هذا. بدا الاضطراب على وجهها، واقترب حاجباها الداكنان أحدهما من الآخر، وكونا زاوية حادة وهي تحاول إخبار القس الشاب بما يدور في عقلها تحديدا. استمع منتبها ومبتسما كعادته، وأخذ يرتب صفحات الخطابات المطوية ويتمتم: «نعم، أفهم. حقا آنسة إنيد؟»
عندما ألحت عليه في طلب النصيحة، قال إنه ليس من السهل على الدوام معرفة المجال الذي يمكن أن يكون فيه الإنسان مفيدا؛ ربما منحها هذا الكبح للمشاعر انضباطا روحيا كانت بحاجة إليه على وجه الخصوص. كان يحرص على عدم توريط نفسه في أي شيء، وعدم إبداء نصيحة غير مشروطة سوى الصلاة. «أعتقد أن كل الأمور تتكشف أمامنا في الصلاة يا آنسة إنيد.»
شبكت إنيد يديها؛ الحيرة جعلت ملامحها تبدو أكثر حدة. «ولكن في وقت الصلاة يصبح هذا النداء في أقوى حالاته. يخيل لي أن إصبعا يوجهني إلى هناك. أحيانا، عندما أطلب الهداية في الأشياء الصغيرة، لا تأتيني الهداية ولا أشعر إلا بأن عملي يقع في مكان بعيد، وأنني ربما سأمنح القوة من أجل القيام به. وإلى أن أسلك ذلك الطريق، يحجب المسيح نفسه عني.»
أجابها السيد ويلدون بنبرة توحي بالخلاص، وكأن شيئا غامضا تجلى أمامه. «إن كان الحال ما تقولين يا آنسة إنيد، فأعتقد أنه لا داعي للقلق. إذا كان النداء يأتي إليك في الصلاة، وهذه رغبة مخلصك، فلا ريب عندنا بأن الطريق وسبل الوصول إليه ستنجلي. يحضرني في هذه اللحظة ما قاله أحد الأنبياء: «هنذا قد جعلت أمامك بابا مفتوحا ولا يستطيع أحد أن يغلقه.» يمكن القول إن هذه البشارة كانت موجهة في الأساس إلى إنيد رويس! أعتقد أن الرب يحبنا أن نرى بعض كلماته وكأنها أنزلت فينا.» تلفظ بذلك التعليق الأخير مازحا، وكأنه دعابة خاصة بجمعية المسعى المسيحي. قام وأعاد الخطابات إلى إنيد. من الواضح أن الحوار انتهى.
بينما كانت إنيد تلبس قفازها، أخبرته أن الحديث معه أفادها كثيرا، وأنه يبدو لها دائما أنها تجد ما ترنو إليه عنده. تساءل كلود يا ترى ماذا تقصد. فهو لم ير من ويلدون سوى التقهقر أمام أسئلتها المتلهفة. على الرغم من كونه «ملحدا»، فإن بإمكانه منحها دعما أقوى.
كانت تقف سيارة كلود تحت أشجار القيقب أمام منزل السيدة جليسون. وقبل الدخول إلى السيارة، نبه إنيد إلى وجود كتلة من الركام الرعدي جهة الغرب. «يبدو لي أنها عاصفة. ربما من الأفضل أن نمكث في الفندق الليلة.» «أوه، كلا! لا أريد ذلك. أنا غير مستعدة لهذا.»
ذكرها أنه لن يستحيل شراء ما قد تحتاج إليه لقضاء تلك الليلة.
قالت بلا تردد: «لا أحب المكوث في مكان غريب من دون أشيائي الخاصة.» «أخشى أننا ذاهبان إلى قلب العاصفة. قد نواجه عاصفة شديدة جدا، ولكن القول قولك في النهاية.» ظل مترددا ويده على الباب.
قالت بعزم هادئ: «أعتقد أن الأفضل أن نحاول.» لم يعلم كلود حتى الآن أن إنيد دائما ما تعارض الظروف غير المتوقعة، ولا ترضى أن تتغير خططها بسبب أشخاص أو ظروف.
قاد السيارة بأقصى سرعة ممكنة لمدة ساعة وهو يراقب السحب بتوجس. كان النجد بين الأفقين يلمع في ضوء الشمس، وبدت السماء نفسها صافية جدا، ولا يعكرها إلا كتلة أبخرة أرجوانية تلوح جهة الغرب، ذات حافات مشرقة مثل رصاص مقطوع حديثا. وبعدما قطع قرابة خمسين ميلا، زادت برودة الهواء فجأة، وفي غضون عشر دقائق تكدر صفو السماء تماما. قفز من السيارة وبدأ في رفع العجلات بالمرفاع. وكلما كانت إحدى العجلات ترتفع عن الأرض، كانت إنيد تضبط السلسلة عليها. أخبرها أنه لم يركب السلاسل بهذه السرعة من قبل. غطى الأغلفة في المقعد الخلفي بمشمع، وتقدم بالسيارة لمواجهة العاصفة.
هطل عليهما المطر بغزارة كالأمواج التي بدت كأنها كانت تخرج من الأرض وتنزل من السحب في آن واحد. قطعا خمسة أميال أخرى وهما يتخبطان في البرك وينزلقان فوق طرق غارقة في المياه. وفجأة قفزت السيارة الثقيلة، والسلاسل وكل شيء، فوق مطب ارتفاعه قدمان، واندفعت فوق الأرض مسافة اثنتي عشرة ياردة قبل أن توقفها الفرامل، ثم استدارت بمقدار نصف دائرة ووقفت ساكنة. جلست إنيد هادئة وساكنة.
التقط كلود نفسا طويلا. «لو حدث هذا فوق بربخ، لوقعنا في المياه والسيارة فوقنا. ببساطة لا أستطيع التحكم في السيارة. الأرض كلها رخوة، ولا يوجد ما يثبتها. نحن على مقربة من منزل تومي رايس. الأفضل أن نذهب إليه ونطلب منه أن يستضيفنا الليلة.»
اعترضت إنيد: «ولكن سيكون هذا أسوأ من الفندق. إنهم ليسوا شديدي النظافة، ويوجد بالمنزل أطفال كثر.»
تمتم: «الزحام خير من الموت. من الآن فصاعدا، لن تكون المسألة أكثر من مسألة حظ. ربما نضطر إلى التوقف في أي مكان.» «لا يفصلنا عن منزلك سوى نحو عشرة أميال. يمكنني المكوث مع والدتك الليلة.» «هذه مخاطرة كبيرة يا إنيد. وأنا لا أحب تحمل المسئولية. وسيلومني والدك على قيامي بهذا.» «أعلم أنك متوتر بسببي.» تحدثت إنيد بقدر كبير من المنطق. «هل تمانع في أن أقود السيارة لبعض المسافة؟ لم يبق أمامنا سوى ثلاثة تلال وعرة، وأعتقد أنه يمكنني تجاوزها؛ فكثيرا ما فعلت ذلك.»
نزل كلود وتركها تجلس مكانه، ولكن بعدما أمسكت عجلة القيادة وضع يده على ذراعها. توسل إليها قائلا: «لا تفعلي أي شيء مجنون.»
ابتسمت إنيد وهزت رأسها. كانت ودودة ولكنها غير مرنة.
طوى ذراعيه. وقال: «تقدمي.»
انزعج من عنادها، ولكنه لم يجد بدا من الإعجاب ببراعتها في التعامل مع السيارة. في نهاية أحد أسوأ التلال، كان هناك بربخ أسمنتي جديد مغطى بطين سائب حيث لم تجد السلاسل شيئا كي تمسك فيه. انزلقت السيارة إلى جانب البربخ وتوقفت فوق حافته. ولما كانا يمشيان بتعثر فوق الجانب الآخر من التل، قالت إنيد: «من حسن الحظ أن محرك بدء التشغيل خاصتك يعمل جيدا؛ لولا هو لقلبتنا جرة صغيرة.»
وصلا إلى مزرعة ويلر قبيل الظلام تماما، وأتت السيدة ويلر مهرولة كي تقابلهما وعلى رأسها معطف مطاطي.
صاحت وهي تحضن إنيد: «يا لكما من طفلين بائسين مبتلين! كيف وصلتما إلى المنزل؟ وددت لو بقيتما في هاستنجز.»
رد عليها كلود: «إنيد هي من أتت بنا إلى المنزل. إنها فتاة متهورة بشدة، ولا بد أن يجعلها أحد تفيق، ولكنها سائقة ماهرة.»
ضحكت إنيد وهي تبعد إحدى خصلات شعرها المبتلة عن جبهتها. «كنت على حق بالطبع؛ اقتضى العقل أن نعرج على بيت رايس، ولكني لم أرد ذلك فحسب.»
في وقت متأخر من المساء، سعد كلود أنهما لم يعرجا عليه. سره أن يكون في المنزل، وأن يرى إنيد على مائدة العشاء تجلس عن يمين والده وتلبس رداء من ملابس أمه المنزلية الرمادية الجديدة. كانا سيقضيان وقتا كئيبا في منزل رايس؛ إذ لا توجد أسرة للنوم إلا التي كان ينام عليها أطفال رايس. لم يسبق أن نامت إنيد في غرفة الضيوف الخاصة بأمه، وسره أن يعلم مدى الراحة التي ستحظى بها فيها.
في ساعة مبكرة، أخذت السيدة ويلر شمعة كي تأخذ ضيفتها إلى سريرها، ومرت إنيد بالقرب من كرسي كلود وهي تغادر الغرفة. سألته كي تغيظه: «هل سامحتني؟» «ما الذي جعلك عنيدة هكذا؟ هل تريدين ترويعي؟ أم هل تريدين أن تظهري لي براعتك في القيادة؟» «لا شيء من ذلك. أردت العودة إلى المنزل. تصبح على خير.»
استراح كلود على كرسيه، وظلل عينيه بيديه. كانت تشعر في ذلك الحين بأنها في بيتها. لم تخف من نكات والده، ولم تنزعج من ابتسامة ماهيلي التي تنم عن معرفتها بشيء ما. شعورها بالراحة بين عائلته منحه سعادة عارمة. أخذ كتابا ولكنه لم يقرأه. كان الكتاب مفتوحا على ركبته حين عادت أمه بعد نصف الساعة. «امش بهدوء عندما تصعد إلى الطابق العلوي يا كلود. إنها متعبة لدرجة أنها ربما غرقت في النوم الآن.»
خلع حذاءه وصعد السلم بأقصى درجات الحذر.
4
في صباح أحد أيام الصيف، كان إرنست هافل يحرث حقل الذرة الحديث البراق واللامع، ويصفر لحن أغنية ألمانية قديمة ترتبط بصورة اتقدت في ذاكرته بنحو أو بآخر. إنها كانت صورة أول مرة يتذكر أنه حرث فيها.
رأى نصف دائرة من التلال الخضراء، والثلج لا يزال عالقا في شقوق أعلى قممها، وخلف التلال كان يرتفع جدار من الجبال الشاهقة، المغطاة بغابات صنوبر داكنة اللون. في المروج عند سفح تلك التلال، كان يوجد نهير متعرج على ضفافه شجر صفصاف مقلمة في حقولها الغضة التي يكسوها اللونان الأخضر المصفر والبني. لما كان صغيرا، اعتاد اللعب بجانب النهير وهو يراقب أباه وأمه وهما يحرثان بمساعدة ثورين عظيمين كانا مربوطين بحبال من رأسيهما وقرنيهما الطويلين. كانت أمه تمشي حافية القدمين بجانب الثورين وتقودهما، وأبوه يمشي خلفهما كي يوجه المحراث. كان أبوه ينظر دائما إلى أسفل. كان وجه أمه بنيا ومتشققا مثل الحقول، وكانت عيناها ذات لون أزرق فاتح، بلون السماء في بداية الربيع. كان يغدو الاثنان ويجيئان هكذا طوال الصباح من دون التحدث، إلا إلى الثورين. إرنست هو آخر نسل عائلة طويلة؛ وعندما كان يلعب بجانب النهير، اعتاد أن يتساءل عن السبب في أن والديه كانا يبدوان عجوزين بشدة.
وصل ليونارد دوسن بسيارته إلى السياج، وصاح على إرنست كي يوقظه من أحلام اليقظة خاصته. أمر حيوانيه بالوقوف وركض إلى حافة الحقل.
صاح ليونارد: «مرحبا يا إرنست. هل علمت أن كلود ويلر جرح أول من أمس؟» «أصحيح ما تقول؟! لا بد أن الجرح ليس كبيرا، وإلا لأخبروني.» «أوه، أظن أنه ليس كبيرا، ولكن السلك جرح وجهه بشدة. إنه أغرب شيء رأيته. كان بالخارج مع بغليه ومحراث ثقيل، يحرث الأرض في ذلك الممر العميق الواقع بين بيتهم وبيتي. مرت شاحنة نقل وقود، وربما أحدثت ضوضاء أعلى من المعتاد. ولكن هذين البغلين كانا يعرفان تلك الشاحنات، وما فعلاه كان مجرد نوع من المشاكسة. بدأ الشب والتحرك لأعلى ولأسفل بعنف داخل هذا الممر العميق. كنت أفحص الذرة خاصتي في الحقل، وناديت على سائق الشاحنة كي يتوقف، ولكنه لم يسمعني. قفز كلود للإمساك برأسي هذين الحيوانين وأمسكهما من شكيمة كل منهما، لكنه حينها تشابك في حبالهما. رفعه هذان البغلان الملعونان وبدآ يركضان. ركضا في الأخدود الضحل وعلى الضفة وعبر الحقول، وشفرة هذا المحراث الكبير كانت ترتفع في الهواء مقدار ثلاث أو أربع أقدام مع كل قفزة. كنت متأكدا من أنها ستجرح أحد البغلين أو ستخترق جسد كلود. لو لم يحكم مسكه لشكيمتي البغلين، لنالت منه تلك الشفرة. ظلا يجريان به مسافة طويلة وهو يتأرجح في الهواء، وفي النهاية رمياه على سياج به أسلاك شائكة؛ مما تسبب في قطع في وجهه ورقبته.» «يا إلهي! هل أصيب بقطع غائر؟» «كلا، ليس قطعا غائرا، ولكني رأيته صباح أمس يحرث الذرة ووجهه مغطى تماما بلصق طبي. أعلم أن ما قام به فعل أحمق؛ يسوء جرح السلك إذا كنت غاضبا بشدة وتركت لتقع في الغبار. ولكنك لا تستطيع أن تقول لأي من آل ويلر شيئا. يقولون إن وجهه تورم ويؤلمه ألما فظيعا، وسافر إلى المدينة كي يستشير طبيبا. الأفضل أن تذهب إليه الليلة وترى هل بإمكانك أن تجعله ينتبه إلى حاله.»
انطلق ليونارد بالسيارة، وعاد إرنست إلى عمله. قال في نفسه: «غريب ذلك الفتى. إنه كبير وقوي ومتعلم، ويمتلك كل تلك الأرض الرائعة، ولكن يبدو أنه عاثر الحظ.» كان يعتقد إرنست أحيانا أن صديقه سيئ الحظ. عندما تخطر هذه الفكرة على باله، كان يتنهد ويطردها من عقله. يعتقد إرنست أنه لا حيلة في ذلك؛ فإنه شيء لا يفسره عقل.
بعد ظهيرة اليوم التالي، أخذت إنيد رويس سيارتها الكوبيه وذهبت إلى مزرعة ويلر. السيدة ويلر رأت إنيد وهي تترجل من سيارتها؛ ولذا نزلت من التل كي تقابلها وهي مقطوعة النفس وحزينة. «أوه، يا إنيد! هل سمعت عن الحادثة التي تعرض لها كلود؟ إنه لا يعتني بنفسه، وأصيب بالحمرة الآن. إنه يعاني ألما حادا، يا له من فتى بائس!»
أمسكت إنيد ذراعها وبدآ يصعدان التل باتجاه المنزل. «هل لي أن أرى كلود يا سيدة ويلر؟ أريد أن أعطيه تلك الزهور.»
ترددت السيدة ويلر. «لا أعلم هل سيسمح لك بالدخول أم لا يا عزيزتي. لقد صادفت صعوبة شديدة في إقناعه بأن يرى إرنست بضع دقائق ليلة البارحة. يبدو أن معنوياته منخفضة، وإنه حساس من الطريقة التي ضمد بها جراحه. سأذهب إلى غرفته وأسأله.» «كلا، اسمحي لي فقط أن أصعد معك من فضلك. إذا صعدت معك، فلن يكون لديه الوقت كي يغضب من زيارتي. لن أمكث إن لم يرغب في زيارتي، ولكني أريد أن أراه.»
انزعجت والدته من هذا الاقتراح، ولكن إنيد تجاهلت تململها. صعدتا إلى الطابق الثالث، وطرقت إنيد الباب بنفسها. «هذه أنا يا كلود. هل تسمح لي بالدخول للحظات؟»
أجاب صوت مكتوم متذمر. «كلا. يقولون إن هذا المرض معد يا إنيد. وعلى أي حال، لا أحب أن تريني بتلك الهيئة.»
لم تنتظر، وفتحت الباب. وجدت الستائر الداكنة منسدلة، وتنبعث رائحة قوية كريهة من الغرفة. كان كلود يستلقي على السرير ورأسه ووجهه يغطيهما القطن الطبي، ولا يظهر سوى عينيه وطرف أنفه. تسرب المرهم البني الذي دهنت به ملامحه إلى أطراف الشاش، وجعل ضماداته تبدو غير مرتبة. لاحظت إنيد هذه التفاصيل من نظرة واحدة. «هل النور يؤذي عينيك؟ اسمح لي أن أفتح إحدى هذه الستائر للحظات؛ لأني أريدك أن ترى هذه الزهور. أحضرت لك أول زهور أينعت من زهور البازلاء العطرية.»
نظر كلود وهو يطرف بعينيه إلى باقة الزهور ذي الألوان البراقة التي كانت تحملها أمامه. رفعتها أمام وجهه وسألته إن كان يستطيع شمها من خلف تلك الضمادات. في لحظة، اندثر شعوره بالإحراج. أحضرت والدته زهرية زجاجية، ووضعت إنيد الزهور على الطاولة الصغيرة التي بجانبه. «والآن، هل تريدني أن أظلم الغرفة مرة أخرى؟» «ليس الآن. اجلسي قليلا وتحدثي معي. لا أستطيع التحدث كثيرا لأن وجهي متيبس.» «اعتقدت أنه ينبغي أن يكون كذلك! قابلت ليونارد دوسن البارحة على الطريق، وأخبرني كيف نزلت إلى العمل في الحقل بعد التعرض للجرح. أريد أن أوبخك كثيرا على ذلك يا كلود.» «افعلي إذن. فقد يجعلني ذلك أشعر بتحسن.» أمسك يدها وجعلها بجانبه للحظات. «هل زهور البازلاء العطرية هذه هي تلك التي كنت تزرعينها في اليوم الذي عدت فيه من الغرب؟» «نعم. ألم تنم جيدا لدرجة أن تينع مبكرا هكذا؟»
تنهد قائلا: «أقل من شهرين. هذا غريب.» «غريب؟ ماذا تقصد؟» «أوه، حفنة من البذور يمكن أن تصنع شيئا جميلا كهذا في غضون بضعة أسابيع، ويستغرق الأمر من الإنسان وقتا طويلا كي ينجز أي شيء، وفي النهاية يكون غير ذي بال.»
ردت عليه موبخة: «هذه ليست نظرة صحيحة تجاه الأمور.»
جلست إنيد على نحو مهذب ومستقيم عند طرف سريره. فستانها المزهر المصنوع من قماش الأورجاندي كان يشبه كثيرا باقة الزهور التي أحضرتها، وكان لقبعتها المرنة المصنوعة من القش أنشوطة أرجوانية كبيرة. بدأت تحكي له عن نوبات الحمرة العديدة التي أصابت والدها. استمع إليها لكن بذهن شارد. لم يصدق قط أن إنيد - بمفاهيمها الصارمة عن اللياقة - ستأتي إلى غرفته وتجلس معه هكذا. لاحظ أن اندهاش والدته لا يقل عن اندهاشه. ظلت أمه تحوم حول الضيفة بضع لحظات؛ ولما رأت أن إنيد لا تشعر بأي إحراج، نزلت إلى الطابق السفلي كي تباشر عملها. تمنى كلود لو لم تتحدث إنيد البتة، وأن تجلس في الغرفة وتدعه ينظر إليها. هدأت آلامه بفضل أشعة الشمس التي أدخلتها إلى الغرفة ووجودها الهادئ والطيب الرائحة. وفجأة أدرك أنها كانت تسأله عن شيء. «ماذا يا إنيد؟ الدواء الذي يعطونني إياه يجعلني أبدو ثقيل الفهم. لا أستوعب الأشياء بسرعة.» «كنت أسأل هل تلعب الشطرنج.» «لست ماهرا فيه.» «يقول أبي إنني أتمتع بقدر معقول من المهارة في لعبه. عندما تتحسن، يجب أن تسمح لي بإحضار قطع الشطرنج العاجية خاصتي التي أرسلتها لي كاري من الصين. إنها منحوتة على نحو جميل. والآن، حان الوقت كي أغادر.»
نهضت وربتت على يده، وأخبرته ألا يكون أحمق فيما يتعلق برؤية الناس. «لم أكن أعلم أنك معتد بنفسك إلى هذه الدرجة. أنت معرض للجروح والضمادات مثلك مثل أي شخص. هل أسدل الستارة الداكنة مرة أخرى؟» «نعم، من فضلك. لن يكون هناك شيء أنظر إليه الآن.» «عجبا لأمرك يا كلود، توشك أن تكون رجلا مولعا بالنساء!»
جفل قليلا من شيء في الطريقة التي قالت بها إنيد هذا. شعر أن الحرارة تزداد في وجهه الملتهب. وحتى بعدما نزلت إلى الطابق السفلي، ظل يتمنى لو لم تتفوه بتلك الكلمات.
أتت والدته كي تعطيه الدواء. وقفت بجانبه حتى ابتلعه. قالت وهي تأخذ الكوب: «إنيد رويس فتاة رقيقة حقا ...» لم يعبر ارتفاع نبرة صوتها في نهاية كلامها عن اقتناع، بل عن حيرة.
كانت إنيد تأتي كل يوم بعد الظهيرة، وتطلع كلود إلى زياراتها بتلهف شديد؛ إنها الشيء المبهج الوحيد الذي حدث له وجعله ينسى الشعور بالخزي بسبب وجهه الملطخ والمشوه. كان يتقزز من نفسه؛ فعندما كان يلمس الكدمات الموجودة على جبهته وتحت شعره، كان يشعر بعدم النظافة والقذارة. عندما كانت تشتد عليه الحمى في الليل، ويبدأ الألم يحتد في رأسه ورقبته، كان يدخل في نوبة اهتياج شديدة. كان يصارع الألم وكأن كلبي بولدوج يتشاجران بعضهما مع بعض. جال بعقله بين أساطير التعذيب الكئيبة؛ كل شيء قرأه يوما عن محاكم التفتيش والمخلعة والعجلة.
عندما كانت إنيد تدخل غرفته هادئة وعذبة بملابسها الصيفية الجميلة، كان عقله ينتفض لمقابلتها. لم يستطع الحديث كثيرا، ولكنه كان يرقد ناظرا إليها ومتنفسا برضا عذب. بعد مدة شعر بتحسن كبير يعينه على الجلوس نصف عار على كرسي مريح ويلعب الشطرنج معها.
في عصر أحد الأيام، كانا يجلسان بالقرب من النافذة الغربية في غرفة الجلوس ولوح الشطرنج بينهما، واعترف لها كلود مرغما أنه هزم مرة أخرى.
تمتم وهو يمسح قطرات العرق عن جبينه: «لا بد أنك مللت من اللعب معي.» أصبح وجهه الآن خاليا من أي جروح، وكان شديد البياض لدرجة أن حتى النمش الذي كان يوجد به اختفى، وكانت يده واهنة وضعيفة مثل أي رجل مريض.
طمأنته إنيد: «ستزيد مهارتك في اللعب عندما تتعافى أكثر وتستطيع أن تركز في اللعب.» تحيرت من أمر كلود لأنه سريع البديهة في بعض الأشياء، ولكنه ليس كذلك على الإطلاق في الشطرنج، وكان واضحا أنه لن تتحسن مهارته في لعبه أبدا.
اعتدل في كرسيه وتنهد: «نعم، حنكتي تخونني. انظري إلى حقل القمح خاصتي هناك على مرمى البصر. أليس جميلا؟ ولكني الآن لن أستطيع حصده. أتساءل أحيانا هل سأنهي أي شيء بدأته.»
أعادت إنيد قطع الشطرنج إلى صندوقها. «لقد تحسنت صحتك الآن، ويجب أن تتوقف عن الشعور بالحزن. يقول أبي إن كل من يصاب بمرضك يصاب دائما بالاكتئاب.»
هز كلود رأسه ببطء وهو يسندها على ظهر الكرسي. «كلا، ليس الأمر كما تقولين. إن امتلاك وقت طويل جدا للتفكير هو ما يجعلني أشعر بالحزن. كما ترين يا إنيد، لم أنجز أي شيء يجعلني أشعر بأي قدر من الرضا حتى الآن. يجب أن أكون جيدا في شيء ما. عندما أستلقي ساكنا وأفكر، أتساءل هل أحداث حياتي وقعت لي أم لأحد آخر. لا يبدو لي أن لها علاقة كبيرة بي. أنا لم أبدأ بعد أي شيء ناجح في حياتي.» «لكنك لم تبلغ الثانية والعشرين بعد. لديك متسع كبير من الوقت كي تبدأ. أهذا ما تفكر فيه طوال الوقت؟!» أشارت إليه بإصبعها. «أفكر في شيئين طوال الوقت. هذا واحد منهما.» دخلت السيدة ويلر ومعها كوب اللبن الذي يحتسيه كلود الساعة الرابعة؛ إنه أول يوم ينزل فيه إلى الطابق السفلي.
لما كانا صغيرين ويلعبان بالقرب من سد الطاحونة، رأى كلود المستقبل كأنه ضباب شفاف يفعل فيه دائما هو وإنيد أشياء معا. بعد ذلك أتى الوقت الذي أراد أن يفعل فيه كل شيء مع إرنست وقت أن كانت الفتيات مصدر قلق وإزعاج، وأخرج كل ذلك من رأسه وهو يعلم أنه يوما ما لا بد أن يفكر فيه مرة أخرى.
بات يقول لنفسه الآن إنه ما غاب عن باله قط أن إنيد ستعود، وها هي قد فعلت في عصر ذلك اليوم عندما دخلت إلى غرفته ذات الرائحة الكريهة، وجعلت أشعة الشمس تدخل إليها. ما كانت لتفعل هذا مع أحد غيره. إنها ليست من الفتيات اللاتي يخرجن بلا مبالاة عن الأعراف التي تعرف أنها جازمة. كان يتذكرها لما كانت تسير بخطوات منتظمة إلى المنصة من أجل أنشطة يوم الطفل مع غيرها من الفتيات الصغريات في فصل الأطفال الصغار؛ وهي تلبس فستانها الأبيض الخشن، وشعرها مهندم بشدة، ويخلو جوربها من أي تجعيدة، وتجعل رفيقاتها الصغريات يحافظن على النظام من خلال الجدية البادية على وجهها والميالة للإذعان، التي بدت كأنها تقول: «يا لها من شيء رائع أن نفعل هذا، وأن نفعله على نحو صحيح!»
كان السيد سميث العجوز هو القس في ذلك الوقت - وهو رجل طيب كثيرا ما تزعجه زوجته السريعة الغضب المزاجية - واعتاد أن تستقر عيناه على إنيد رويس الصغيرة؛ إذ كان يرى فيها مثالا ل «الأنوثة المسيحية الفاضلة والجميلة»، على حد تعبيره. كلود الذي كان في فصل الأولاد الذي يوجد عبر الممر، اعتاد مضايقتها ومحاولة تشتيت انتباهها، ولكنه كان يحترم جديتها.
لما كانا يلعبان معا، كانت تتسم بالعقلانية ولا تتذمر إذا تعرضت للأذى، ولم تتقدم البتة بطلب لإعفائها لكونها فتاة من أي نشاط صعب. كانت هادئة، حتى في اليوم الذي وقعت فيه في ماء سد الطاحونة وأخرجها هو منها؛ فبمجرد أن استعادت أنفاسها ولفظت المياه الطينية، مسحت وجهها بتنورة فستانها الداخلية الصغيرة المبتلة، وجلست ترتعش وتقول مرارا وتكرارا: «أوه يا كلود، كلود!» الآن، بات يعتبر حوادث كتلك مهمة وموحية.
عندما بدأ كلود يسترجع قواه، عادت إليه بقوة بالغة. شعر أن الدم بدأ يتدفق بقوة في عروقه بينما كان جسده لا يزال ضعيفا؛ ولذا صدمه اندفاع الحيوية هذا. غردت الرغبة في العيش مرة أخرى داخل شرايينه، بينما كان جسده غير مستقر بعد. اجتاحته موجات الشباب وتركته منهكا. لما كانت إنيد معه، لم تكن هذه المشاعر قط بتلك القوة؛ ربما وجودها الفعلي أعاد إليه توازنه، تقريبا. تلك الحقيقة لم تربكه؛ إنه يعزوها إلى شيء جميل في طبيعة الفتاة؛ صفة بالغة الجمال والرقة لدرجة أنه لا يجد اسما لها.
في الأيام الأولى من تعافيه، لم يفعل شيئا سوى الاستمتاع بحركة الحياة التي بدأت تدب في أوصاله. أصبح التنفس متعة جسدية رقيقة. وفي الليالي التي كانت طويلة جدا بحيث طال سهره فيها، كان يبتهج بتخيل نفسه مستلقيا على سحابة تسبح على مهل في السماء. في أعماق هذا الاسترخاء، كان يبدأ التفكير في إنيد مثل ألم عذب وحارق، وكان كلود ينجرف بعد ذلك في عمق الظلام خلف مشاعر لا يستطيع ردعها أو التحكم بها. ما دام قادرا على الحرث أو جمع القش أو العمل بجد في حقل القمح، فإنه سيد؛ ولكنه الآن فاجأته نفسه. كان هناك توافق بينه وبين إنيد، وقد جاءت من أجله، وما كان ليدعها تتركه مطلقا. لا ينبغي أبدا أن تعرف كم يشتاق إليها. لن تدرك بسرعة ولو قدرا ضئيلا مما كان يكنه تجاهها؛ إنه كان يعلم ذلك. وسيستغرق هذا وقتا طويلا. ولكن سيصبر عليها صبرا جميلا، ويغدق عليها حنانا فياضا. المفترض أن يتألم هو، لا هي. حتى في أحلامه، لم يوقظها البتة، ولكنه أحبها وهي ساكنة وغير واعية مثل التمثال. كان سيغدق عليها الحب حتى تلين وتتغير من دون أن تعلم السبب.
أحيانا، عندما كانت تجلس إنيد بجانبه من دون ريبة في شعوره تجاهها، تتسلل حمرة سريعة إلى وجهه، ويشعر بالذنب تجاهها، ويصبح وديعا ومتواضعا كما لو أنه يجب أن يستجدي عفوها على فعل اقترفه. كثيرا ما كان يسعد عندما تذهب وتتركه بمفرده حتى يفكر فيها. حضورها وهبه العقلانية، ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون ممتنا. عندما يكون معها، يظن أنها ستكون الشخص الذي ستصحح من مسلكه في هذا العالم وتجعله يتكيف مع الحياة. لقد تسبب في إزعاج والدته وإحباط والده، لكن زواجه سيكون أول شيء طبيعي ونابع من الإحساس بالواجب ومتوقع يقوم به. إنه سيكون بداية رجاء الخير والشعور بالرضا؛ إنه سيعيد إليه روحه، كما يقول المزمور الذي كثيرا ما كانت تكرره أمه. لا يكاد يشك في استعداد إنيد للاستماع إليه. وعلى الأرجح اعتبر أصدقاؤها تفانيها تجاهه في مرضه بمنزلة رغبة من جانبها في الخطبة إليه.
5
كانت رحلة كلود الأولى إلى فرانكفورت هدفها قص شعره. وبعد مغادرة صالون الحلاقة، ذهب إلى مكتب جايسون رويس؛ ويفوح منه عطر، مستخلص من أوراق شجرة الميريقة وشراب الرم، وضعه له الحلاق. بعدما أغلق السيد رويس خزنته، التفت وسلم على الشاب. «مرحبا كلود، سررت برؤيتك هنا مرة أخرى! لا يمكن أن يؤثر المرض كثيرا في مزارع شاب قوي مثلك. الأمر يختلف مع كبار السن. كنت سأذهب الآن لألقي نظرة على البرسيم الحجازي المزروع جنوب النهر. تعال معي.»
خرجا إلى السيارة المكشوفة التي تقف بجوار الرصيف؛ ولما كانا يتجولان بالسيارة بين حقول الحبوب اليانعة، كسر كلود حاجز الصمت. «أظن أنك تعرف سبب مجيئي إليك يا سيد رويس، أليس كذلك؟»
هز الرجل العجوز رأسه. كان مشغول البال وعابسا منذ انطلاقهما.
أردف كلود بنبرة يتخللها الخجل: «حسنا، لا أظن أنك ستفاجأ لو قلت إن قلبي منشغل بإنيد. لم أقل لها شيئا حتى الآن، ولكن إذا لم تمانع، فسأحاول إقناعها بالزواج بي.»
رد السيد رويس: «الزواج هو آخر شيء نتحدث فيه يا كلود.» جلس مسترخيا في مقعده يشاهد الطريق أمامه وذهنه شارد بشدة، ويبدو أكثر عبوسا وشيبا من المعتاد. ثم أردف فجأة: «تعلم أن إنيد نباتية.»
ابتسم كلود. «لا أظن أمرا كهذا يمكن أن يحدث فرقا بالنسبة إلي يا سيد رويس.»
أومأ الآخر قليلا. «أعلم. في عمرك هذا، تظن أنه لا يحدث فرقا. ولكن تلك الأمور تحدث فرقا بالفعل.» أطبقت شفتاه على السيجار الذي دخن نصفه ولم يفتحهما بعض الوقت.
قال أخيرا: «إنيد فتاة طيبة. على وجه التحديد، عقلها يفوق عقل الفتيات الأخريات. لو كان للسيدة رويس ابنة أخرى في المنزل، لأخذت إنيد للعمل معي في مكتبي. إنها تتمتع بعقل راجح. أعتقد أنها ستدير عملا تجاريا أفضل من إدارتها لمنزل.» لما تلفظ السيد رويس بتلك الكلمات، قلل العبوس الذي كان باديا على وجهه، وأخرج السيجار من فمه ونظر إليه ووضعه مرة أخرى بين أسنانه من دون أن يشعله مرة أخرى.
كان كلود يراقبه مندهشا. وصاح قائلا: «لا غبار على إنيد يا سيد رويس. لم آت كي أسألك عنها. أتيت كي أسألك إن كنت تقبلني زوجا لها. أعلم - كما تعلم أنت - أن إنيد بإمكانها فعل أشياء أفضل من الزواج بي. أنا بالتأكيد لم أحرز نجاحا بارزا حتى في حياتي.»
قال السيد رويس: «ها نحن قد وصلنا. سأترك السيارة تحت شجرة الدردار هذه، ونذهب إلى الطرف الشمالي من الحقل ونلقي نظرة.»
مرا من تحت السياج السلكي وانطلقا على الأرض الوعرة مرورا بحقل به أزهار أرجوانية. اندفعت جماعات من الفراشات الصفراء أمامهما. مشيا بخطوات قافزة مخترقين القشرة النباتية التي حمصتها الشمس وصولا للتربة الناعمة تحتها. أشعل السيد رويس سيجارا جديدا، وبينما كان يرمي عود الثقاب جعل يده تسقط على كتف الشاب. «لم أبرح أحسد والدك. أعجبتني منذ أن كنت صبيا صغيرا، واعتدت أن أسمح لك بالدخول لترى الساقية. وعندما توقفت عن استخدام طاقة المياه وركبت المحرك، قلت لنفسي: «لا يوجد سوى شخص واحد سيأسف على إيقاف استخدام الساقية القديمة، وهو كلود ويلر.»»
قال كلود وهما يمشيان بخطى ثقيلة: «أرجو ألا تعتبرني صغيرا على الزواج.»
اعترض السيد رويس بشدة قائلا: «لا، الأصح والأصوب أن يتزوج الشاب. لا أعترض على الزواج. ولكنك قد تجد بعض المعارضة بسبب رغبة إنيد في العمل في مجال التبشير. لا أعلم شعورها إزاء هذا الأمر الآن. ولا أسأل كذلك. سيسرني أن تخرج هذه الأفكار من رأسها. إنها لا تناسب المرأة على الإطلاق.» «أريد أن أساعدها كي تخرجها من رأسها. وإذا لم تمانع، فأرجو أن أتمكن من إقناع إنيد بالزواج بي هذا الخريف.»
أدار السيد جايسون رويس رأسه نحو رفيقه بسرعة، وتفحص طلعته الساذجة والمفعمة بالأمل للحظة، ثم حاد ببصره عنه عابسا.
كان يميل حقل البرسيم الحجازي لأعلى في أحد الجوانب، وكان يقبع مثل منديل لامع مطرز باللونين الأخضر والأرجواني وملقى على جانب التل. في الزاوية العلوية، كانت تنمو شجرة حور قطني صغيرة ورفيعة بأوراق خفيفة ومتحركة مثل أسراب الفراشات الصغيرة التي تحوم فوق البرسيم. عمد السيد رويس إلى هذه الشجرة، وخلع معطفه الأسود، وطواه ثم جلس عليه تحت ظل الشجرة الخافت. ظهرت على قميصه بقع كبيرة من البلل، وكان العرق يتدحرج بقطرات واضحة بطول التجاعيد في رقبته السمراء. جلس مشبكا يديه فوق ركبتيه وقدميه فوق التربة الناعمة، وأخذ يجول ببصره عبر الحقل. وجد نفسه غير قادر على الإطلاق على أن يأتي على ذكر الخبرة الواسعة التي تمنى أن ينقلها إلى كلود. لقد أطبقت على صدره كأنها هم، وكانت الرغبة في البوح بها تتصارع هناك. ولكن لم تكن لديه كلمات ليقولها، وما من طريقة يمكن أن توصل ما يريد قوله. ولم تكن لديه أي حجة ليعرضها. ما أراد أن يفعله هو أن يعرض الحياة كما وجدها وكأنها صورة لرفيقه الشاب؛ أراد أن يحذره من بعض الإحباطات التي تكسر القلب، ولكن من دون أن يقدم أي تفسير. كان يعرف أنه لا سبيل إلى مراده ذاك. فمحاولة عجوز نقل تجربته إلى شاب تشبه محاولة حديث الأموات مع الأحياء. الطريقة الوحيدة كي يعرف كلود سره هي أن يعيش الحياة. أخذت أسنانه الصفراء القوية تطبق أكثر وأكثر على السيجار الذي انطفأ مثل سابقه. لم ينظر إلى كلود، ولكن بينما كان يشاهد الريح وهو يسير عبر الطرق الناعمة المزهرة في الحقل، رأى وجه الفتى أمامه مباشرة وعليه تعبير الاعتزاز المتحفظ الممزوج بالرغبة في الإرضاء، ورأى في كتفيه تصلبا طفيفا ينم عن نوع من الولاء الراسخ. جلس كلود على الأرض بجانبه متعبا بعض الشيء بعد المشي في الشمس، وحزينا قليلا على الرغم من أنه لم يكن يعلم السبب.
بعد مدة طويلة، فك السيد رويس تشابك يديه العريضتين ذواتي الأصابع المكتنزة، وأخرج السيجار المبلل من فمه للحظة. وقال بابتهاج مقصود: «حسنا يا كلود، ستجمعنا علاقة صداقة أكبر مما هو مفترض في العلاقة بين الأب وصهره. ستكتشف أن كل معتقداتك تقريبا عن الحياة - وخاصة عن الزواج - خاطئة. لا أعلم السبب الذي يدفع الناس إلى العيش في هذا النوع من العالم، ولكنهم يفعلون ذلك.»
6
بعد لقاء كلود بالسيد رويس، قاد كلود سيارته مباشرة إلى منزل الطاحونة. ولما وصل إلى الطريق الظليل، رأى في إحباط وميض رداءين أبيضين بدلا من رداء واحد وهما يمشيان في حديقة الزهور المشمسة. كانت الزائرة هي جلاديس فارمر. لقد كان هذا هو وقت إجازتها. ذهبت إلى الطاحونة في انتعاش الصباح كي تقضي اليوم مع إنيد. بدأتا الآن في جمع أعواد الجرجير، وتوقفتا في الحديقة لشم أزهار رقيب الشمس. في ذلك العصر الحار، أطلقت الزخات الأرجوانية عبقا علق في حوض الزهور ولامس وجنتيهما كأنفاس دافئة. نظرت الفتاتان في وقت واحد ولمحتا كلود. لوحتا إليه وهرعتا إلى البوابة كي تهنئاه على التعافي. أخذ منهما دلويهما الصغيرين المصنوعين من الصفيح، وتبعهما حول رأس السد القديم وصولا إلى واد رملي ضيق يمتد بطول تيار مائي صاف يصب في نهير لافلي كريك أعلى الطاحونة مباشرة. أتوا إلى التل ذي التربة الحصباء حيث ينبع الجدول من عين حفرت من تحت الجذور المكشوفة لشجرتي دردار. أينعت ونضرت أعواد الجرجير في كل مكان حول العين وفي القاع الرملي للتيار الضحل.
كانت جلاديس لديها اهتمام شديد بالأماكن. نظرت حولها برضا. وقالت: «من بين كل الأماكن التي اعتدنا اللعب فيها يا إنيد، كان هذا هو مكاني المفضل.»
قال كلود مقترحا: «أيتها الفتاتان، اجلسا هناك عند جذور شجرتي الدردار. فأينما وضعتما أقدامكما في هذا الحصى الناعم، تتجمع المياه. إنكما بهذا ستتلفان حذاءيكما الأبيضين. سأحضر أنا لكما الجرجير.»
نادت عليه جلاديس وهما تجلسان: «إذن فاملأ دلوي بأكبر قدر ممكن. أتساءل لماذا تنمو نباتات الخنجر الإسباني بهذه الكثافة على هذا التل يا إنيد؟ كانت هذه النباتات هرمة وجافة عندما كنا صغيرتين. لقد أحببتها هنا.»
أسندت ظهرها على جانب التل الحار المتلألئ. كانت تتسلل أشعة الشمس الحمراء من بين قمتي شجرتي الدردار، ويلمع كل الحصى وأجزاء المرو في الصخور على نحو باهر. وفي قاع الجدول كان للمياه، حين يتخللها الضوء، بريق مثل الذهب المطفي. كانت ترمي أشعة الشمس بقعا على شعر كلود الأشقر وكتفيه المحنيتين وهو يتحرك فوق البقاع الخضراء، وبدا سرواله الذي كان من القطن المتين أكثر بياضا مما كان عليه. كانت جلاديس فقيرة جدا بحيث لا تستطيع السفر، ولكن ساعدها الحظ كثيرا بسفرها إلى مناطق كثيرة على بعد بضعة أميال من فرانكفورت، وساعدها أيضا خيالها الخصب على الاستمتاع بالحياة. أسرت إلى إنيد أنها تريد بالفعل الذهاب إلى كولورادو؛ فقد كانت تخجل من أنها لم تر جبلا من قبل في حياتها.
بعد قليل، صعد كلود إلى الضفة ومعه دلوان لامعان يتقاطر منهما الماء. «والآن، هل يمكنني الجلوس معكما بضع دقائق؟»
تحركت إنيد كي تفسح له مكانا بجانبها، ولاحظت أن وجهه الرفيع يغرقه قدر كبير من العرق. كان منديل جيبه مبتلا ولصقت به الرمال؛ ومن ثم أعطته منديلها الخاص وكأنه ملك له. «عجبا يا كلود، تبدو متعبا للغاية! هل أجهدت نفسك في العمل؟ أين كنت قبل أن تأتي إلى هنا؟» «كنت مع والدك في أرضه نلقي نظرة على حقل البرسيم الحجازي خاصته.» «وأظن أنه مشى معك بطول الحقل تحت أشعة الشمس الحارة؟»
ضحك كلود. «نعم.» «حسنا، سألومه على ذلك الليلة. ابق هنا واسترح. سأرجع جلاديس إلى منزلها بالسيارة.»
اعترضت جلاديس، ولكنهم في النهاية اتفقوا على أن يصحبها كلاهما إلى المنزل في سيارة كلود. لكنهم بقوا لبعض الوقت؛ إذ أخذوا يستمعون إلى بقبقة ماء العين العذبة واللطيفة؛ إنه صوت هادئ وغير مزعج، يتمتم في الليل والنهار، ولا يبرح يقول الحقيقة إلى من لا يستطيع فهمها.
عندما ذهبوا إلى المنزل، توقفت إنيد وقتا طويلا كي تقطف باقة من أزهار رقيب الشمس للسيدة فارمر، على الرغم من زوال عبقها الفواح مع زوال الشمس. تركا جلاديس ومعها الزهور وأعواد الجرجير عند بوابة الكوخ الأبيض، والذي أصبح الآن نصف ظاهر بسبب نباتات تكوما راديكانس المبهجة.
أدار كلود سيارته وعاد مع إنيد على الطريق في ضوء الشفق الخافت. «أحب كثيرا أن أرى جلاديس، ولكن أصابتني خيبة أمل شديدة للحظات لما رأيتها معك بعد ظهر اليوم. كنت قد تحدثت للتو مع والدك وأردت أن أحضر لكي أراك مباشرة. هل تعتقدين أنه يمكنك أن تتزوجيني يا إنيد؟»
تحدثت بنبرة حزينة: «لا أظن أن هذا القرار هو الأصوب يا كلود.»
أمسك يدها الساكنة. «ولم لا؟» «عقلي منشغل بخطط أخرى. الزواج حلم معظم الفتيات، لكنه ليس حلما لجميعهن.»
خلعت إنيد قبعتها. في ضوء المساء الخافت، تفحص كلود وجهها الشاحب تحت شعرها البني. كان هناك شيء جميل وفاتن في الوضعية التي اتخذها رأسها، شيء يجمع بين الرغبة في الانقياد والحزم الشديد. «أنا أيضا حلمت بتلك الأحلام البعيدة يا إنيد، ولكني لم أعد الآن أفكر في أي شيء سواك. وإن كنت تهتمين بي ولو بقدر ضئيل بحيث أبدأ في مسعاي هذا، فأنا على استعداد للمخاطرة فيما تبقى.» تنهدت. وقالت: «تعلم أني أهتم بك. ولم أخف ذلك البتة. ولكننا سعيدان بوضعنا الحالي، ألا تتفق معي؟» «نعم، لست كذلك. يجب أن تكون لي حياتي الخاصة، وإلا سأجن. وإن لم تتزوجي بي، فسأسافر إلى أمريكا الجنوبية ... ولن أعود حتى أهرم وتهرمي أنت كذلك.»
نظرت إليه إنيد وابتسما.
كان منزل الطاحونة مظلما، ولا تضيء سوى نافذة واحدة في الطابق العلوي. ترجل كلود من السيارة وأنزل إنيد برفق إلى الأرض. تركته يقبل فمها البارد الناعم، ورموشها الطويلة. في الغسق الباهت المغبر الذي لا تضيئه سوى بضعة نجوم بيضاء، ومع البرد المتطاير في الهواء من النهير، بدت لكلود كأنها شبح صغير يرتعش خرج من نباتات الأسل التي أقيم عندها سد الطاحونة القديم. قبض حزن كبير على صدر الفتى. لم يعتقد أن الأمور ستسير بهذا النحو. عاد بالسيارة إلى المنزل وهو يشعر بالضعف والانكسار. ألا يوجد شيء في العالم يوضح له سبب مشاعره، وهل سيصبح كل منعطف في حياته نقطة إحباط له؟ لماذا الحياة قاسية إلى تلك الدرجة الغامضة؟ لما نظر إلى الريف حوله، ظن أن الحزن يخيم عليه، ولا يمكنك تغيير هذا مثلما لا يمكنك تغيير القصة المرسومة على وجه إنسان غير سعيد. تمنى من الرب أن لو مرض مرة أخرى؛ الدنيا دار شقاء لمن يعيش فيها.
إنسان واحد في تلك الليلة شعر بالأسى من أجل كلود. جلست جلاديس فارمر بجانب نافذة غرفة نومها مدة طويلة، وأخذت تراقب النجوم وتفكر فيما رأته واضحا وضح النهار بعد ظهر ذلك اليوم. لقد أحبت إنيد منذ أن كانتا طفلتين صغيرتين، وكانت تعلم كل ما يمكن معرفته عنها. كان سيصبح كلود أشبه بإنسان ميت يتجول بين شوارع فرانكفورت؛ ستفنى روح كلود، أما جسده فسيعيش - إذ سيغدو ويروح ويأكل وينام - مدة خمسين عاما. لقد درست جلاديس لأطفال العديد من مثل هؤلاء الموتى. لقد خرجت بفلسفة غامضة مليئة بقناعات قوية وشخصيات مشوشة. اعتقدت أن كل الأشياء التي قد تجعل الدنيا جميلة - الحب والطيبة، الترفيه والفن - محبوسة في سجن، وأن مفاتيح هذا السجن بأيدي الناجحين من أمثال بايليس ويلر. أما الكرماء - الذين يمكنهم إتاحة تلك الأشياء من أجل أن يسعد الناس - فضعفاء بعض الشيء، ولا يمكنهم كسر الحواجز. حتى حياتها الصغيرة تغير شكلها إلى شكل مشوه بسبب هيمنة أناس من أمثال بايليس عليها. على سبيل المثال، لم تجرؤ أن تذهب إلى أوماها ذلك الربيع لحضور العروض الثلاثة التي تقيمها شركة شيكاجو أوبرا. هذا البذخ كان سيثير روحا تأديبية داخل كل أصدقائها، وفي القائمين على مجلس إدارة المدرسة أيضا؛ إذ على الأرجح كانوا سيقررون حرمانها من الزيادة الطفيفة في الراتب التي كانت تركن إليها في العام التالي.
كان عليها أن تعترف بوجود أناس - حتى في فرانكفورت - لديهم خيال ودوافع سامية، ولكنهم جميعا غير أكفاء وفاشلون. من أمثال هؤلاء الآنسة ليفينجستون، الخادمة العجوز العاطفية والسريعة الانفعال التي لا تستطيع قول الحقيقة؛ والسيد سميث العجوز، المحامي الذي ليس لديه زبائن، ويقرأ أعمال شكسبير ودرايدن طوال اليوم في مكتبه المترب؛ وبوبي جونز، عامل الصيدلية المخنث الذي يكتب الشعر الحر وسيناريوهات «الأفلام»، ويقوم على آلة المشروبات الغازية.
كان كلود أملها الوحيد. منذ أن تخرجا من المدرسة الثانوية وطيلة السنوات الأربع التي درست فيها، كانت تتطلع إلى رؤيته وقد سطع نجمه وأثبت نفسه. أرادت أن تراه أنجح من بايليس، «وأن يبقى كما هو دون تغيير». كانت ستقدم أي تضحيات من أجل تسهيل الأمور عليه. وإذا فشل فتى قوي ميسور الحال وجريء جدا مثل كلود، فقط بسبب بعض العصبية في طبيعته، فإن الحياة إذن لا تستحق الحزن الذي تتسبب فيه لقلب رقيق مثل قلبها.
في النهاية، رمت جلاديس نفسها على السرير. إذا تزوج من إنيد، فستكون هذه هي النهاية. سيصبح قويا وحزينا مثل السيد رويس؛ آلة كبيرة زنبركاتها الداخلية مكسورة.
7
تعافى كلود بالقدر الكافي، وأصبح بإمكانه الذهاب إلى الحقول قبل أن تنتهي عملية الحصاد. أتى منتصف شهر يوليو ولم ينته المزارعون من حصاد الحبوب. كان محصول القمح والشوفان كبيرا جدا لدرجة أن الماكينات لم تكف لدرسه في المدة المعتادة. اضطر الرجال إلى أن ينتظروا أدوارهم، وتركوا المحاصيل متكومة وكأنها مصدومة إلى أن تأتي ماكينة الدرس السوداء إلى الحقول. لو هطلت الأمطار لحدثت كارثة، ولكن ذلك العام كان من «الأعوام الجيدة» التي يحكي عنها المزارعون عندما تسير كل الأمور على ما يرام. في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى الأمطار، كانت تهطل الأمطار بغزارة، وكانت الأيام حينئذ شديدة الجفاف والحرارة.
كانت تشرق الشمس كل صباح مطلقة حرارة عالية، وسرعان ما تجفف الندى وتبدأ في إحداث إثارة كبيرة لجميع الكائنات الحية. في مواسم الحصاد الكبيرة مثل هذا الموسم، كانت الحرارة والضوء الكثيف والعمل المهم الدائر تجمع بين قلوب الناس، وتبث فيهم روح الود. كان الجيران يساعد بعضهم بعضا للتعامل مع الحجم المضني للمحصول المهم للغذاء؛ إذ ينزل النساء والأطفال وكبار السن بحماسة إلى الحقول ، ويفعلون ما يستطيعون لحصد الحبوب وتخزينها. حتى الخيول كان لها دور متنوع واجتماعي أكثر من المعتاد؛ إذ كانت تنتقل من مزرعة إلى أخرى كي تساعد خيول الجيران في سحب العربات وماكينات الحصاد الحازمة وماكينات الحصد الرافعة. كانت تلامس أنوف مهور الأصدقاء القدامى، وتأكل الطعام من أيدي معلفين غرباء؛ وتشرب، أو ترفض أن تشرب، من أحواض مياه غريبة. كذلك أدخلت في الخدمة الآن الخيول العاجزة القابعة في الحظيرة، ولا تخرج؛ مثل الفرسة مولي ذات الساق العرجة التي تتبع آل ويلر، وفرس ليونارد دوسن المسمى بيلي المصاب بربو الخيول، الذي يمكن أن يسمع سعاله على بعد ربع ميل. إنه لمذهل أيضا أن تتمكن هذه الحيوانات المريضة مع مواكبة الأفراس والخيول المخصية الشابة القوية؛ لقد كانت تحني رءوسها طواعية وتسحب الأشياء وكأنها يروق لها احتكاك الطوق في رقابها.
كانت الشمس أشبه بزائر عظيم يحفز طاقة الحيوانات جميعها ثم يأخذ حقه منها. وعندما تخلع الشمس عنها عباءتها وتقف متنحية على حافة الحقول في المساء، تخلف وراءها عالما مليئا بالتعب والإرهاق. كانت الخيول والرجال والنساء تصبح أكثر نحولا؛ إذ يغرقون طوال اليوم في عرقهم. وبعد العشاء، كانوا ينامون في أي مكان حتى يبزغ شفق الفجر الأحمر من الشرق مرة أخرى وكأنه نفخ في الأبواق، وتبدأ الأعصاب والعضلات تنتفض مع حرارة الشمس.
لم يقرأ كلود الجرائد عدة أسابيع بسبب ضيق الوقت؛ كانت مكومة في أنحاء متفرقة من المنزل، غير مفتوحة؛ إذ كان نات ويلر في الحقل الآن يعمل كأنه واحد من العمالقة. كان يهرع كلود إلى الطاحونة تقريبا في مساء كل يوم كي يرى إنيد لبضع دقائق؛ لم يكن ينزل من سيارته، وكانت تجلس هي على المرقى الدرجي القديم المتبقي من أيام ركوب الخيل بينما تتحدث معه. قالت صراحة إنها لا تحب الرجال الخارجين لتوهم من حقل الحصاد، ولم يلمها كلود على ذلك. كان لا يحب نفسه كثيرا بعدما يبدأ عرق جسمه يجف على ملابسه. ولكنه كان لا يستطيع أن يرى أحدا إلا في الساعة أو الساعتين بين العشاء والنوم. إنه كان ينام مثل أبطال العصور القديمة؛ كان يغرق في السرير كأنه نال أمنيته من الدنيا، ويستشعر للحظة مباركة حلاوة النوم قبل أن يغلبه. في الصباح، كان يخيل إليه أنه يسمع رنين المنبه لوقت طويل جدا قبل أن ينهض من المكان العميق الذي غرق فيه. كان يمر بكل ضروب المغامرات غير المترابطة في المدة بين أول رنين للمنبه واللحظة التي يفيق فيها من سباته بالقدر الكافي ليحرك يده كي يوقفه. على سبيل المثال، كان يحلم أن المساء قد حل وذهب كي يرى إنيد كعادته. ولما كانت آتية في الممر من المنزل، اكتشف أنه لم يكن يرتدي أي ملابس على جسده! بعد مدة وبمرونة مذهلة، كان يقفز من فوق السياج ذي الأوتاد، وينزل في أجمة من نباتات الخروع، ويقف في الغسق ويحاول أن يغطي جسده بأوراقها - مثلما فعل آدم في الجنة - ويتحدث إلى إنيد عن أي أمور عادية وأسنانه يصطك بعضها ببعض خشية أن تفضح أمره في أي لحظة.
دائما ما كانت السيدة ويلر وماهيلي تخسران وزنا في أوقات درس الحبوب، مثل الخيول تماما؛ في هذا العام كان يمتلك نات ويلر ستمائة فدان من القمح الشتوي، ويبلغ محصول الفدان الواحد نحو ثلاثين بوشلا. إن حصد مثل هذا المحصول أمر صعب على النساء والرجال على حد سواء. أتت سوزي زوجة ليونارد دوسن كي تساعد السيدة ويلر، ولكنها كانت تنتظر مولودا في الخريف، وكان الحر شديدا عليها. بعد ذلك، أتت إحدى بنات يودر، ولكن الفتاة الألمانية المنظمة شتتتها طرق ماهيلي الغريبة، حتى قالت السيدة ويلر إن الأسهل لها أن تنجز الأعمال بنفسها بدلا من أن تظل تشرح للفتاة الجوانب النفسية لماهيلي. يوما بعد يوم، كان يجلس عشرة رجال شديدي الجوع على المائدة الطويلة في المطبخ. كانت تخبز السيدة ويلر الفطائر والكعك وأرغفة الخبز بأسرع ما يمكن أن يسعفها الفرن، ويظل الفرن مشتعلا من الصباح حتى المساء مثل حجرة الاشتعال في القاطرة. كانت تظل ماهيلي تدق عنق الدجاج حتى يتورم رسغها، «مثل أفعى نافخة» على حد قولها.
بحلول نهاية شهر يوليو، هدأت عاصفة الإثارة. عادت أجزاء طاولة الطعام المتحركة الإضافية إلى أماكنها، وسكنت خيول ويلر في حظائرها مرة أخرى، وانتهى عهد الرعب في حظيرة الدجاج.
في إحدى الأمسيات، نزل السيد ويلر إلى العشاء وتحت ذراعه حفنة من الجرائد. «كلود، أرى أن الخوف من الحرب في أوروبا قد ضرب السوق في مقتل. حدثت قفزة في سعر القمح. إنهم يدفعون ثمانية وثمانين سنتا مقابلا له في شيكاجو. علينا بيع بضع مئات من البوشلات قبل أن ينخفض السعر مرة أخرى. الأفضل أن نبدأ في نقلها بالعربة غدا. يمكننا أنا وأنت القيام برحلتين في اليوم إلى فيكونت؛ وذلك بالتبديل بين الخيول ... ليس على الخيول صعود أي تلال؛ ومن ثم لن تواجه أي مشقة.»
جلست السيدة ويلر وهي تصب القهوة ممسكة بإبريق القهوة معلقا في الهواء، ونسيت أنه في يدها. تمتمت بنبرة عادية: «إذا كانت هذه المخاوف ليست إلا فرقعة جرائد كما نعتقد، فلا أرى سببا في تأثر السوق بها. لا بد أن أصحاب البنوك الكبيرة في نيويورك وبوسطن لديهم طرقهم في التفرقة بين الشائعات والحقائق.»
قال زوجها بنفاد صبر: «أعطيني بعض القهوة من فضلك. لست مضطرا إلى توضيح حال السوق؛ ما يهمني هو انتهاز الفرص المتاحة فيه.» «ولكن ما لم يوجد سبب لذلك، فلماذا نأخذ محصولنا من القمح إلى فيكونت؟ هل تفترض أن تجار الحبوب يصنعون مخططا ويخفونه وراء شائعة الحرب؟ هل خبراء المال والصحافة خدعوا العامة بهذا النحو من قبل؟» «لا أعلم أي شيء عن ذلك يا إيفانجلين، ولا أظن ذلك. اتصلت هاتفيا بصومعة الغلال في فيكونت منذ ساعة، وقالوا إنهم سيدفعون لي سبعين سنتا، والسعر قابل للتغيير مع التسعير الصباحي.» غمز بعينه وقال: «كلود، الأفضل ألا تذهب إلى الطاحونة اليوم. نم مبكرا. إذا خرجنا إلى الطريق بحلول السادسة صباحا، فسنصل إلى المدينة قبل أن يشتد حر النهار.» «حسنا يا سيدي. أريد أن أطلع على الجرائد بعد العشاء. لم أقرأ شيئا غير العناوين منذ الوقت الذي قبل موسم درس الحبوب. أثير قلق إرنست لما علم بمقتل ذلك الدوق الكبير، وقال إن النمساويين سيثيرون المتاعب. ولكن لم أعتقد قط أن هذا الأمر سيؤدي إلى أي شيء.»
بينما كان والده يحاول الوصول إلى إحدى قطع البسكويت الساخن، قال: «على أي حال، لقد تسبب هذا في وصول سعر البوشل إلى سبعين سنتا.»
قالت السيدة ويلر بتفكر: «إذا كانت تلك الأحداث قد وقعت، فأخشى ما أخشاه أن يكون هناك المزيد منها في الطريق.» التقطت الفرشاة الورقية الخاصة بطرد الذباب، وجلست تلوح بها بنحو غير منتظم وكأنها تحاول التخلص من سرب من الأفكار المربكة.
اقترح السيد ويلر قائلا: «اتصل بإرنست واسأله عما تقوله الجرائد البوهيمية عن الأمر.»
ذهب كلود إلى الهاتف، ولكن لم يرد عليه أحد من آل هافل. ربما ذهبوا إلى حفلة رقص في بلدة بوهيميا. صعد إلى الطابق العلوي وجلس أمام كرسي ذي ذراعين مليء بالجرائد؛ لم يستطع الخروج بأي رأي عقلاني من البرقيات الملطخة المكتوبة بخط كبير في الصفحة الأولى من جريدة أوماها وورلد هيرالد. الجيش الألماني كان يدخل لوكسمبورج؛ إنه لا يعرف أين تقع لوكسمبورج، وهل هي مدينة أم دولة؛ ربما كانت لديه فكرة مبهمة ترى أنها عبارة عن قصر! صعدت أمه إلى «مكتبة ماهيلي» - العلية - من أجل أن تبحث عن خريطة لأوروبا؛ وهي شيء لا يحتاج إليه المزارعون في نبراسكا كثيرا. ولكن في تلك الليلة باتت النساء في العديد من منازل البراري، سواء الأمريكيات منهن أو ذوات الأصول الأجنبية، يبحثن عن خريطة.
كان كلود يشعر بالنعاس بشدة لدرجة أنه لم يتنظر عودة والدته. مشى بتعثر في الطابق العلوي، وخلع ملابسه في الظلام. اتقدت حرارة الجو في الليل، وامتلأت السماء بالسحب الرعدية، ولاح في الأفق الغربي بالكامل رعد منبسط متواصل. دخل البعوض إلى غرفته في النهار؛ وبعد أن رمى نفسه على السرير بدأ يحوم فوقه بأصواته العالية والمزعجة. تقلب من جانب إلى آخر، وحاول أن يسد أذنيه بالوسادة. امتزج الصوت المزعج، في دماغه الناعس ، بالخط الكبير في الصفحة الأولى من الجريدة؛ بدت تلك الحروف الكبيرة كأنها تطير حول رأسه، وتصدر صوت أزيز ناعم وعال وممل.
8
في وقت متأخر من مساء يوم السادس من أغسطس، كان كلود يتأرجح بعربته الفارغة على طول الطريق المعبد في الأرض المنبسطة ما بين فيكونت ووادي لافلي كريك. قطع رحلتين إلى المدينة في ذلك اليوم. وعلى الرغم من أنه استخدم فريق الخيول الأقوى لديه في رحلة العصر الحارة، فإن الخيول أرهقت لدرجة أنه لا يمكن حثها على السير بسرعة أكبر. تلألأت بقع العرق على رقابها، وعلق على جانبيها الغبار الأبيض الذي يرتفع مع كل خطوة. تدلت رءوسها لأسفل، وبدأت تأخذ أنفاسا عميقة وبطيئة. ارتفعت سخونة خشب مقعد العربة المطلية باللون الأخضر لدرجة أنه لا يتحمل لمسها. جلس كلود على أحد طرفي المقعد، وأبقى رأسه مكشوفا لالتقاط نسمة الهواء التي تجفف رقبته وذقنه في بعض الأحيان، وتنقذه من عناء إخراج المنديل. امتدت جذامات القمح على الجانبين أميالا وأميالا. وقفت أكوام القش بلونها الأصفر منعزلة تحت الشمس، وألقت بظلالها الطويلة. نظر كلود بترقب بطول سياجات أشجار السنط التي تنبئ عن مسار الطريق. وعده إرنست هافل أن يقابله في مكان ما على الطريق المؤدي إلى المنزل. لم ير إرنست منذ أسبوع؛ ومنذ ذلك الحين حدثت عجائب.
في النهاية، تعرف على حيوانات جر عربة عائلة هافل في الطريق، فتوقف وانتظر إرنست بجانب سياج شائك، وأخذ يتأمل ما حوله بتمعن. أوشكت الشمس على الغروب حينئذ. لقد تدلت فوق جذامات الحبوب، التي كانت كلها بيضاء وزهرية اللون بفعل الحرارة، مثل صورة شمس منعكسة في مياه عكرة. ظهر لتوه البدر في الشرق وتوهج سطحه الفضي الرقيق باللون الزهري حتى بدا تماما كأنه شمس في وقت الغروب. لولا أن لكل جرم منهما مكانه في هذا الملكوت، لما استطاع كلود أن يحدد أي منهما الشمس وأيهما القمر. كل منهما كان يسبح في اتجاه مختلف من العالم، وبدا كدرعين ساطعين ينظر أحدهما إلى الآخر كأنهما تقابلا، أيضا، على موعد بينهما .
ترجل كلود وإرنست من عربتيهما في وقت واحد، وتصافحا كأنهما لم ير أحدهما الآخر منذ مدة طويلة. «حسنا، ما رأيك فيما يحدث يا إرنست؟»
هز الشاب رأسه حذرا، ولكنه لم يرد. ربت على خيوله، وفك الأطواق من رقابها.
تابع كلود بنفاد صبر: «انتظرت في المدينة ريثما تصدر جريدة هاستنجز. أعلنت إنجلترا الحرب ليلة أمس.»
قال إرنست: «دخل الألمان مدينة لييج. أعرف مكانها. أبحرت من أنتويرب لما انتقلت إلى هنا.» «نعم، أعلم ذلك. هل يستطيع أن يفعل البلجيكيون شيئا؟» «أبدا.» اتكأ إرنست على عجلة العربة، وأخرج غليونه من جيبه ببطء وملأه. «لا أحد يستطيع فعل شيء. سيذهب الجيش الألماني إلى أي مكان يريده.» «إذا كان الوضع بهذا السوء، فلماذا يقاوم البلجيكيون؟» «لا أعلم. هذا أمر جيد، ولكن لن يسفر عن شيء في النهاية. دعني أخبرك شيئا عن الجيش الألماني يا كلود.»
ظل إرنست يروح ويجيء بجانب سياج أشجار السنط وهو يتحدث عن هذا الجيش العظيم؛ الإعداد، التنظيم، التركيز، الموارد الهائلة، الرجال الذين لا ينتهون. غابت الشمس وهو يتحدث، وعندها ظهر القمر وتجلى وتصاعد متباطئا في السماء الشاحبة. كانت الحقول لا تزال تلمع بسبب الانعكاس اللطيف المتبقي من ضوء النهار، وبدأ الليل يلوح في الأفق؛ لم تظلم السماء، ولكنها بدت كأنها تبشر بقدوم الليل.
أنهى إرنست كلامه قائلا: «لو كنت في موطني لوجدتني بين صفوف الجيش النمساوي في تلك اللحظة. أظن أن كل أولاد عمومتي وأبناء إخوتي يقاتلون الروس أو البلجيكيين الآن. ماذا ستفعل لو طلب منك الهجوم على بلد مسالم كهذا، في منتصف موسم الحصاد، والبدء في تدميره؟» «ما كنت لأفعل ذلك بالطبع. سأتمرد وأترك الخدمة.» «إذن، ستتعرض عائلتك للاضطهاد. وعندها سيخضع إخوتك، وربما أبوك، للضباط النمساويين ويعاملون معاملة العبيد.» «ما كنت لأزعج نفسي بذلك. سأترك أقاربي الذكور يقررون لأنفسهم كيف يحبون أن يعاملوا.»
هز إرنست كتفيه. «أنتم أيها الأمريكيون تتباهون بأنفسكم مثل الأطفال الصغيرة؛ تقولون ستفعلون ولا تفعلون! أقول لك لا دخل بإرادة أحد إزاء هذا الأمر. إنه حصاد لكل ما زرع. لم أظن أن هذا الأمر سيحدث في حياتي، ولكني كنت أعلم أنه سيحدث.»
مشى الفتيان بتثاقل بعض الوقت وهما ينظران إلى السطوع الناعم للسماء. خلت السماء تماما من السحب، وتحول الضوء الخفيف في الحقول إلى نور القمر المنير الصافي من دون أن يستشعر أحد ذلك. وسرعان ما بدأت العربتان في التحرك بطول الطريق الأبيض، وجلس كل سائق على مقعده الذي لا ظهر له، وهو منكفئ إلى الأمام وتائه بين الأفكار. ولما وصلا إلى المنعطف حيث ينعطف إرنست جهة الجنوب، تمنى كل منهما للآخر ليلة سعيدة من دون أن يرفعا صوتهما. تابعت خيول كلود السير وكأنها تسير وهي نائمة. حتى إنها لم تنخر من سحابة الغبار الخفيضة التي كانت تثيرها باستمرار خطواتها المتثاقلة؛ التي كان صوتها هو الصوت الوحيد في هدوء الليل الفسيح.
تساءل كلود لماذا لم يكن إرنست صبورا معه. لم يستطع التظاهر بالشعور بما كان يشعر به إرنست. لم تكن لديه أي قناعة يمكن على أساسها أن يشكل آراءه أو يلون مشاعره عما يجري في أوروبا؛ يمكنه أن يصل إليها بمرور الوقت. دائما ما كان يقال له إن الألمان يتمتعون بالفضائل التي يعجب الأمريكيون بها بشدة؛ وقبل شهر كان سيقول إن لديهم المثل كافة التي تستحق أن يحارب من أجلها أي فتى أمريكي محترم. كان يتنافى غزو بلجيكا مع الشخصية الألمانية التي لمسها في أصدقائه وجيرانه. كان لا يزال يرجو أن يكون ما حدث ناتجا عن خطأ فادح، وأن يعتذر هذا الشعب الرائع ويصحح مساره مع العالم.
جاء السيد ويلر إلى أسفل التل من دون قبعة ومن دون معطف عندما وصل كلود إلى ساحة الحظيرة. «أظن أنك متعب. سأريح الخيول. هل لديك أي أخبار؟» «أعلنت إنجلترا الحرب.»
وقف السيد ويلر متصلبا للحظة وحك رأسه. «أظن أنك لست بحاجة إلى الاستيقاظ مبكرا غدا. إذا كان خبر الحرب مؤكدا فسيرتفع سعر القمح أكثر. كنت أظن أنها شائعة حتى الآن. خذ الجرائد إلى أمك.»
9
ذهبت إنيد ووالدتها إلى مصحة ميشيجان حيث كانتا تقضيان جزءا من الصيف كل عام، ولن تعودا حتى شهر أكتوبر. أولى كلود ووالدته كل اهتمامهما إلى الأخبار عن الحرب. يوما بعد آخر وفي أول أسبوعين من شهر أغسطس، تسللت الأخبار المحيرة من المدن الصغيرة إلى البلدات الريفية.
بحلول منتصف الشهر، انتشر خبر سقوط الحصون في لييج؛ إذ تعرضت للقصف مدة تسعة أيام، ولكنها دكت في النهاية في بضع ساعات بمدافع الحصار التي كانت في الخط الخلفي؛ من الواضح أن تلك المدافع بإمكانها تدمير أي تحصينات مهما كانت المواد أو الطريقة التي بنيت بها. حتى بالنسبة إلى المسالمين الذين يزرعون القمح، هددتهم مدافع الحصار التي تمركزت أمام لييج؛ إنها لم تهدد أمنهم أو بضائعهم، بل هددت طريقة التفكير المريحة التي دأبوا عليها. لقد أدخلت القوة الكبرى من القوة البشرية التي بعد ذلك، وعلى نحو متكرر، جعلت هذه الحرب تتسبب في كوارث تشبه الكوارث الطبيعية التي لا يمكن توقعها، مثل موجات المد والجزر أو الزلازل أو ثورات البراكين.
في اليوم الثالث والعشرين من الشهر نفسه، وردت أنباء عن سقوط حصون مدينة نامور؛ وهذا إنذار آخر بأن قوة تدمير غير مسبوقة قد أطلقت في العالم. بعد بضعة أيام، أوضح خبر دك المؤسسة التعليمية العريقة والهادئة في مدينة لوفان أن تلك القوة موجهة نحو غايات غريبة. وحينئذ، أيضا، عجت الجرائد بأخبار عن قتل السكان المدنيين. إن شيئا جديدا، وبالتأكيد شريرا، كان يحوم بين البشر. لا أحد كان يعرف له اسما. بدا أنه لا توجد أي كلمة معروفة تصف السلوك البشري تستطيع أن تصف هذا الشيء. المحاولات التي أجمعت على اسم «أتيلا» كانت كلها اجتهادات فردية مبالغا فيها جدا، وتنم بشدة عن العاطفة البشرية القديمة والمعتادة.
في عصر أحد أيام الأسبوع الأول من شهر سبتمبر، كانت السيدة ويلر في المطبخ تحضر مخلل الخيار عندما سمعت سيارة كلود عائدة من فرانكفورت. دخل بسرعة وأغلق الباب الشبكي خلفه بقوة، ورمى حزمة بريدية على الطاولة. «ما رأيك يا أمي؟ نقلت فرنسا مقر الحكومة إلى بوردو ! من الواضح أنهم لن يتمكنوا من الحفاظ على باريس.»
مسحت السيدة ويلر وجهها المتعرق الشاحب بطرف مئزرها، وجلست على أقرب كرسي. «هل تعني أن باريس لم تعد عاصمة فرنسا؟ هل يعقل هذا؟» «هذا ما تبدو عليه الأمور. على الرغم من أن الجرائد تقول إن هذا ليس سوى إجراء احترازي.»
نهضت. «دعنا نلق نظرة على الخريطة. لا أتذكر أين تقع بوردو بالتحديد. ماهيلي، لا تتركي الخل حتى يحترق، اتفقنا؟»
تبعها كلود إلى غرفة الجلوس التي كانت تعلق فيها خريطة جديدة على الحائط فوق الأريكة الطويلة التي لا ظهر لها، وهي بتنجيد يشبه السجاد. اتكأت على ظهر كرسي هزاز مصنوع من خشب الصفصاف، وبدأت في تحريك يدها فوق سطح الخريطة اللامع ذي الألوان الزاهية، وتمتمت قائلة: «نعم، بوردو توجد هناك في أقصى الجنوب، وتوجد باريس في ذلك المكان.»
كلود كان خلفها، ونظر من فوق كتفيها. «هل تظنين أنهم سيسلمون المدينة إلى الألمان كأنها هدية عيد الميلاد؟ لا بد أنهم سيحرقونها أولا، كما فعل الروس في موسكو. يمكنهم فعل ما هو أفضل من ذلك الآن؛ يمكنهم تدميرها بالديناميت!» «لا تقل هذا الكلام.» ارتمت السيدة ويلر على الكرسي العميق المصنوع من خشب الصفصاف، وأدركت أنها مرهقة جدا، الآن وقد تركت الفرن وحرارة المطبخ. وبدأت بوهن في تحريك مروحة من سعف النخيل أمام وجهها. «يقال إنها مدينة جميلة. ربما لن يدمرها الألمان مثلما فعلوا في بروكسل. لا بد أنهم سئموا التدمير الآن. أحضر الموسوعة وانظر ماذا تقول. لقد تركت نظارتي في الطابق السفلي.»
أحضر كلود مجلدا من المكتبة وجلس على الأريكة. وقال: «باريس، عاصمة فرنسا التي تعد جزءا من إقليم السين ... هل أتخطى الجزء التاريخي؟» «لا. اقرأ القسم كله.»
تنحنح وبدأ القراءة مرة أخرى: «لما ظهرت باريس في التاريخ للمرة الأولى، لم يكن هناك ما يوحي بالدور المهم الذي ستلعبه في أوروبا وفي العالم ...»
تأرجحت السيدة ويلر على كرسيها، وروحت على نفسها بالمروحة، ونسيت أمر المطبخ والخيار كأنهما لم يكونا موجودين. كانت تريح جسدها المتعب ، وانشغل عقلها - الذي لم يتعرض للتعب مطلقا - بما ذكر عن المعتقدات الدينية المبكرة للملوك الميروفنجيين. دائما ما كانت عيناها على نحو لطيف لا تغفل عندما تستقران على الرقبة المسفوعة والكتفين العريضتين لولدها ذي الشعر الأحمر.
استمر كلود في القراءة أسرع وأسرع حتى توقف لاهثا. «أمي، توجد صفحات عن الملوك! سنقرأ هذا في وقت لاحق. أريد أن أعرف ماذا بعد كل هذا، وهل سيوجد مزيد من الأمور التاريخية أم لا.» مرر إصبعه على الأعمدة صعودا وهبوطا. «ها هو، يبدو أن هذا العمود يتحدث عما نريد.
الدفاعات: يرى تقرير ألماني حديث عن أعظم الحصون في العالم أن باريس تمتلك ثلاث حلقات مميزة من الدفاعات ...» ثم توقف هنا. «والآن، ماذا تظنين؟ تقرير ألماني، وهذا كتاب إنجليزي! العالم ببساطة أخطأ بشأن الألمان منذ البداية. تبدو المسألة كأننا دعونا أحد الجيران إلى هنا وأريناه الماشية والحظائر، وأنه ظل طوال الوقت يخطط كيف سيأتي في الليل ويهجم علينا ونحن نائمون.»
مررت السيدة ويلر يدها على جبينها. «لكننا كان لدينا العديد من الجيران الألمان، ولم يوجد قط من بينهم من لم يكن طيبا أو متعاونا.» «أعلم ذلك. كل شيء أخبرتني به السيدة إرليش عن ألمانيا جعلني أرغب في السفر إلى هناك. والناس الذين يغنون كل تلك الأغاني الجميلة عن النساء والأطفال ذهبوا إلى قرى بلجيكية و...»
حركت والدته يديها للأمام وكأنها تصد الكلمات التي كانت ستخرج من فمه: «لا تفعل يا كلود. اقرأ عن دفاعات باريس؛ هذا ما يجب أن نفكر فيه الآن. أعتقد أن هناك حصنا لم يذكره الألمان في تقريرهم، وأنه سيظل صامدا. نعلم أن فرنسا مدينة تعج بالرذائل، ولكن لا بد أن فيها العديد ممن يخافون الرب، ولقد حماها الرب طيلة هذه السنوات. لقد رأيت في الجريدة كيف أن الكنائس تكون ممتلئة طوال اليوم بالنساء المصليات.» مالت للأمام ومنحته ابتسامة لطيفة. «ألا تصدق أن هذه الصلوات ستفيد بشيء يا ولدي؟»
راوغها كلود كما يفعل دائما عندما تتطرق والدته إلى مواضيع معينة. «حسنا، ترين أيضا أني لا أستطيع أن أنسى أن الألمان أيضا يصلون للرب. وأعتقد أنهم أتقى بطبيعتهم من الفرنسيين.» لما أخذ الكتاب بدأ القراءة منه مرة أخرى، فقال: «في الأرض المنخفضة مرة أخرى، في أضيق جزء من المنعطف الكبير لنهر مارن ...»
أصبح كلود ووالدته على دراية باسم هذا النهر وبأهميته الاستراتيجية، قبل أن يبدأ في الظهور في العناوين الرئيسية في الجرائد بعد أيام قليلة.
بدأ حرث الخريف كالمعتاد. قرر السيد ويلر أن يخصص ستمائة فدان لزراعة القمح مرة أخرى. مهما حدث في الجانب الآخر من العالم، فسيحتاجون إلى الخبز. كان يأخذ فريقا ثالثا من الحيوانات ويذهب كل صباح إلى الحقل كي يساعد دان وكلود. قال الجيران إنه لا أحد استطاع أن يجبر نات ويلر على العمل بانتظام في الحقل سوى القيصر.
لأن الرجال جميعهم كانوا في الحقل، أصبحت السيدة ويلر تذهب كل صباح إلى صندوق البريد عند مفترق الطرق، على بعد ربع ميل، كي تحضر جرائد مدينتي أوماها وكانساس سيتي الخاصة باليوم السابق التي تركتها شركة الشحن. ولما كانت في حالة شغف، فقد كانت تفتح الجرائد وتبدأ في قراءتها وهي عائدة إلى المنزل؛ وإذ كانت لا تسير بخطى واثقة، فقد كانت تترنح بين أزهار دوار الشمس ونباتات المغد. وفي صباح أحد الأيام، جلست على ضفة عشب أحمر بجوار الطريق، وأخذت تقرأ كل أخبار الحرب قبل أن تهتاج من قفز الجراد فوق تنورتها وخروج حيوانات الجوفر من جحورها ونظرها إليها بطرف أعينها. في ظهر ذلك اليوم، لما رأت كلود يقود حيواناته إلى خزان المياه، هرعت إليه من دون أن تتوقف كي تلتقط قلنسوتها، ووصلت إلى طاحونة الهواء وهي تلهث. «لم يعد الفرنسيون يتراجعون يا كلود. إنهم صامدون عند نهر مارن. تدور حرب طاحنة هناك. تقول الجرائد إنها يمكن أن تقرر مصير الحرب. إنها على مقربة شديدة من باريس لدرجة أن بعض أفراد الجيش خرجوا في عربات أجرة.» جلس كلود باعتدال. «إذن، إنها ستقرر مصير باريس على أي حال، أليس كذلك؟ كم عدد الفرق المشاركة ؟» «لا أعرف. التقارير متضاربة للغاية. ولكن لا يوجد هناك سوى عدد قليل من الإنجليز، والفرنسيون يشاركون بأعداد لا تحصى. وصل أبوك قبلك، وهو معه الجرائد في الطابق العلوي.» «لقد صدرت منذ أربع وعشرين ساعة. سأذهب إلى فيكونت الليلة بعد إنهاء العمل، وأحصل على جريدة هاستنجز.»
عندما عاد من المدينة في المساء، وجد أباه وأمه في انتظاره. وقف لحظة في غرفة الجلوس. وقال: «لا توجد أخبار كثيرة باستثناء أن المعركة مستمرة وتشارك فيها فرنسا فعليا بكامل قوتها العسكرية. عدد الألمان يفوقهم بنسبة خمسة إلى ثلاثة، ولا أحد يعلم عدد المشاركين من سلاح المدفعية. يقول الجنرال جوفر إن فرنسا لن تتراجع مرة أخرى.» لم يجلس، وصعد إلى غرفته مباشرة.
أطفأت السيدة ويلر المصباح وخلعت ملابسها، واستلقت على السرير ولكنها لم تنم. بعد مدة طويلة، سمعها كلود وهي تغلق نافذة بلطف وابتسم لنفسه في الظلام. كان يعلم أن والدته تعتقد دائما أن باريس شر مدن الأرض، وأن سكانها من الكاثوليك الماجنين المحبين لشرب الخمر والمسئولين عن مذبحة يوم القديس برثولماوس، وعن دعم الملحد الساخر فولتير. طيلة الأسبوعين الماضيين، منذ أن بدأ الفرنسيون يتقهقرون في لورين، تسلى بملاحظة اهتمامها المتزايد بباريس.
لما كان مستيقظا في الظلام، فكر فيما يجري ووجد الأمر غريبا؛ انتقل مقر الحكومة إلى بوردو منذ أربعة أيام، وبدا فجأة كأن باريس عاصمة العالم وليست عاصمة فرنسا وحدها! كان يعلم أنه ليس الفتى المزارع الوحيد الذي كان يتمنى أن يكون بجانب نهر مارن في تلك الليلة. حقيقة أن النهر كان له اسم يمكن نطقه، بحرف «ر» حلقي في وسطه يعد بمنزلة حجر أساس فيه، كان يعطي لخيال المرء بعض الشيء فكرة أكبر عن الوضع. استلقى كلود ساكنا والأفكار تدور في رأسه، وشعر أنه حتى هو يستطيع أن يتجاوز مسألة «دماثة الأخلاق» الفرنسية - التي تفوق الرصاص الألماني رعبا - ويتسلل إلى صفوف هذا الجيش الذي لا يحصى عدده من دون أن يلاحظه أحد. لن تكون لأخلاق المرء أهمية عند نهر مارن تلك الليلة، ليلة الثامن من سبتمبر عام 1914. أسعد شيء على وجه البسيطة بالنسبة إليه كان أن يكون ذرة في ذلك الجدار الذي من لحم ودم، الذي كان ينهض ويخر ثم ينهض مرة أخرى أمام المدينة التي كانت تعني الكثير على مر كل القرون، ولكنها لم تكن مهمة هكذا قبل ذلك. أصبح لاسمها صفاء فكرة مجردة. في القارات الكبيرة الهادئة، وفي القرى الريفية غير الساحلية، وفي الجزر الصغيرة المتناثرة في الماء، ظل الناس مدة أربعة أيام يتابعون هذا الاسم كأنه أحد المذنبات أو النجوم الساقطة التي يذهبون ليلا لمراقبتها.
10
في عصر يوم أحد، ذهب كلود إلى منزل الطاحونة لأن إنيد ووالدتها رجعتا من ميشيجان في اليوم السابق. كانت السيدة ويلر تقرأ وهي تجلس مسندة ظهرها على كرسي هزاز، وكان السيد ويلر يرتدي قميصا وياقته الرسمية مفكوكة، ويجلس على مكتبه المصنوع من خشب الجوز، ويسلي نفسه بأعمدة من الأرقام. فجأة نهض وتثاءب ومدد ذراعيه فوق رأسه. «يقول كلود إنه يريد البدء في البناء على الفور، في القطعة التي بجانب أرض الغابة التابعة لي. كنت أفكر في تكلفة الخشب. مواد البناء رخيصة الآن؛ لذا أعتقد أن الأفضل أن أتركه يبدأ من فوره.»
رفعت زوجته عينيها من الصفحة التي كانت تقرأ فيها بذهن شارد. «أظن ذلك.»
كان يجلس زوجها على كرسي منفرج الساقين، ويسند بذراعيه على ظهر الكرسي وهو ينظر إليها. «على أي حال، ما رأيك في هذا الزواج؟ لم أعرف رأيك.» «إنيد فتاة مسيحية طيبة ...» استهلت السيدة ويلر كلامها بنبرة حاسمة، ولكن جملتها علقت في الهواء كأنها سؤال.
تحرك بنفاد صبر. «نعم، أعرف. ولكن ما الذي يعجب فتى قوي البنية مثل كلود في فتاة كتلك؟ عجبا يا إيفانجلين، إنها ستصبح نسخة طبق الأصل من أمها العجوز!»
من الواضح أن تلك الهواجس لم تكن جديدة على السيدة ويلر؛ فقد مدت يدها كي توقفه وهمست في انفعال جاد: «لا تقل شيئا! لا تتفوه بكلمة!» «أوه، لن أتدخل! أنا لا أتدخل أبدا. على أي حال، أفضل أن أتخذها زوجة ابن على أن أتخذها زوجة. كلود أحمق أكثر مما ظننته.» أخذ قبعته ونزل إلى الحظيرة، ولكن زوجته لم تسترد هدوءها بسهولة. تركت الكرسي حيث أملت أن تجلس عليه مرتاحة، وأخذت منفضة ريش وبدأت تتحرك مشتتة الذهن في أرجاء الغرفة، تنظف سطح الأثاث. عندما كانت تسمع أخبارا سيئة عن الحرب أو تشعر بالقلق على كلود، كانت تشرع في تنظيف المنزل أو فحص وإصلاح الخزانات، ممتنة إلى قدرتها على وضع بعض الأشياء الصغيرة في نصابها الصحيح في هذا العالم المضطرب.
بمجرد الانتهاء من زراعة محاصيل الخريف، أحضر كلود عمال حفر الآبار من المدينة كي يحفروا بئرا جديدا له، وبدأ الحفر لإنشاء قبو منزله وهم لا يزالون في العمل. كان يبني منزله على الأرض المستوية بجانب أرض الغابة المملوكة لوالده؛ لأنه في صغره كان يعتقد أن أيكة الأشجار هذه أجمل بقعة في العالم. كانت مساحة هذه الأرض تبلغ نحو ثلاثين فدانا، وتضم أشجار دردار وقيقب وحور قطني، وكان حولها سياج كثيف من أشجار التوت في جانبها الجنوبي. لقد أهملت الأشجار في السنوات الأخيرة، ولكن إذا عاش في ذلك المكان، فسيتمكن من تقليمها والعناية بها في مدة قصيرة جدا.
أصبح في كل صباح الآن يذهب بسيارته الفورد ويعمل في القبو الخاص به. سمع أنه كلما زاد عمق القبو كان ذلك أفضل، ونوى أن يكون هذا القبو عميقا بما يكفي. وفي أحد الأيام، توقف ليونارد دوسن كي يرى التقدم الذي كان يحرزه. وقف على حافة الحفرة، ونادى الفتى الذي كان يتصبب عرقا بالأسفل. «يا إلهي، يا كلود، ما الذي تريده من قبو بهذا العمق؟ عندما ترغب زوجتك فجأة في السفر إلى الصين، يمكنك فتح باب قلاب وإلقاؤها عبره!»
ألقى كلود بمعوله وصعد السلم راكضا. قال غاضبا: «لن يطرأ على بال إنيد مثل تلك الأفكار.» «حسنا، لا داعي إلى الغضب. سعيد لسماع ذلك. أسفت على سفر الفتاة الأخرى. بدا لي دوما أن إنيد تريد السفر إلى الصين، ولكني لم أرها منذ وقت طويل ... لم أرها من قبل أن تذهب إلى ميشيجان مع السيدة العجوز.»
بعدما ذهب ليونارد عاد كلود إلى عمله، ولكن كان لا يزال مزاجه سيئا. لم يكن سعيدا البتة في قرارة نفسه بشأن إنيد. عندما كان يذهب إلى الطاحونة، فعادة ما كان يسعى السيد رويس - وليس إنيد - إلى عدم رحيله بسرعة، وكان يتبعه إلى الممر المؤدي إلى البوابة، ويبدو عليه أنه آسف على رؤيته ذاهبا. كان يرى أن إنيد مهتمة بما كان يفعله. إنها كانت لا تتحدث ولا تفكر في شيء سوى المنزل الجديد، وأغلب اقتراحاتها كانت جيدة. وكثيرا ما تمنى أن تطلب شيئا غير معقول ومغالى فيه. لكن لم تكن لديها أي نزعات أنانية، وحتى أصرت على أن تصبح غرفة النوم المريحة الموجودة في الطابق العلوي التي اهتم بتخطيطها بشدة غرفة للضيوف.
لما بدأ يظهر شكل المنزل، كانت تأتي إليه إنيد كثيرا بسيارتها كي ترى التقدم الذي يحدث فيه، وكي تري كلود نماذج من ورق الحائط والستائر أو تصميما للأرائك المجاورة للنوافذ اقتصته من مجلة. لا يمكن أن يكون هناك ريب في اهتمامها بكل جزء من التفاصيل. الشيء المحبط هو أن اهتمامها بالمنزل بدا أكثر من اهتمامها به. ورغم أن هذه الشهور كانت فرصة لهما لقضاء الوقت معا كما يحلو لهما، فإنها لم تتعامل معها إلا باعتبارها مدة لبناء منزل.
قال كلود لنفسه إن كل شيء سيصبح على ما يرام عندما يتزوجان. كان يؤمن بقوة التغيير الخاصة بالزواج، كما تؤمن والدته بالآثار الإعجازية للإيمان. الزواج يختزل كل النساء إلى قاسم مشترك؛ إذ يغير الفتاة الباردة المغرورة إلى فتاة رقيقة الفؤاد ومعطاءة. إنه لشيء جيد للغاية ألا تدري إنيد الآن شيئا عن كل ما ستتحول إليه حياتها بعد الزواج. قال في نفسه إنه ما كان يريد للأمر أن يسير على نحو مختلف.
لكنه كان يشعر بالوحدة على الرغم من ذلك. لقد أخذ يغدق على المنزل الصغير الاعتناء والاهتمام النابعين من الحب اللذين كان يبدو أن إنيد لم تكن تحتاج إليهما. كان يقف على رأس النجارين يحثهم على أقصى درجات الدقة في تشطيب الخزانات والدواليب، وعلى وضع الأرفف في أماكنها الملائمة، والربط الدقيق للعتبات والإطارات. كثيرا ما كان يبقى هناك حتى وقت متأخر في الليل بعدما يذهب العمال بأصوات أحذيتهم المزعجة إلى منازلهم من أجل العشاء. حينها، كان يجلس على رافدة أو على هيكل الشرفة العلوية ويغرق تماما في التفكير؛ تحسبا لأشياء تبدو بعيدة كما كانت في أي وقت مضى. كان يستأنس بأستار الليل وضوء النجوم الهادئ. وفي ليلة، دخل طائر وظل يرفرف منزعجا بين الغرف، وهو يصرخ من الخوف قبل أن يخرج ويطير في الغسق من إحدى النوافذ العلوية ويجد طريقه إلى الحرية.
لما أصبح النجارون مستعدين لوضع السلم، اتصل كلود بإنيد وطلب منها أن تأتي وتخبرهم عن الارتفاع الذي تريده لدرجات السلم. دائما ما كانت تضطر أمه إلى صعود سلم شديد الانحدار. توقفت إنيد بسيارتها أمام مدرسة فرانكفورت الثانوية في الساعة الرابعة، وأقنعت جلاديس فارمر أن تأتي معها.
لما وصلتا، وجدتا كلود يعمل على السياج الشبكي للشرفة الخلفية. ضحكت إنيد قائلة: «كلود يشبه النبي يونس. إنه يريد زراعة معترشات يقطين هنا؛ حتى تتسلق السياج الشبكي وتكون ظلا. أفكر في نباتات معترشة أخرى قد تعطي شكلا جماليا أكثر.»
وضع كلود مطرقته أرضا وقال بلطف: «هل سبق لك أن رأيت معترشة يقطين عندما يكون لديها شيء تستطيع التسلق عليه يا إنيد؟ أنت لن تتخيلي جمالها؛ أوراق خضراء كبيرة، ويقطين وأزهار الصفراء تتدلى حولها في كل مكان في الوقت نفسه. امرأة ألمانية عجوز تقف على كشك طعام في إحدى المحطات الموجودة على الطريق المؤدي إلى لينكن لديها معترشات مثلها تتسلق على الشرفة الخلفية، وأردت أن أزرع بعضها منذ أن رأيتها أول مرة.»
ابتسمت إنيد ابتسامة لطيفة. «على أي حال، أظن أنك ستدعني أزرع الياسمين البري في الشرفة الأمامية، أليس كذلك؟ أوشك العمال أن يغادروا، والأفضل أن ننظر في أمر درجات السلم.»
بعدما ذهب العمال، أخذ كلود الفتاتين إلى الطابق العلوي عبر السلم الخشبي. دخلوا من مدخل صغير إلى غرفة كبيرة تمتد عبر الردهتين الأمامية والخلفية. يطلق عليها النجارون «صالة البلياردو». كانت توجد نافذتان طويلتان تشبهان الباب تفتحان على سقف الشرفة، وتوجد نافذتان ناتئتان في السقف المنحدر؛ واحدة تطل شمالا على أرض الغابة المملوكة للسيد ويلر، والأخرى تطل جنوبا على نهير لافلي كريك. على الفور، شعرت جلاديس ببهجة فريدة بشأن هذه الغرفة، رغم أنها من دون أثاث وغير مكسوة بالجص. صاحت: «يا لها من غرفة جميلة!»
رد عليها كلود بحماسة. وقال: «ألا تعتقدين ذلك؟ كما ترين، إنها فكرتي أن نخصص الطابق الثاني لنا بدلا من تقسيمه إلى أقسام صغيرة كما يفعل الناس عادة. يمكننا الصعود إلى هنا وننسى أمر المزرعة والمطبخ وكل مشكلاتنا. صنعت خزانة كبيرة لكل منا، ورتبت كل شيء. وبعد كل هذا، تريد إنيد أن تخصص هذه الغرفة من أجل الوعاظ!»
ضحكت إنيد. «ليس من أجل الوعاظ فقط يا كلود. بل من أجل جلاديس لما تأتي لزيارتنا؛ فأنت ترى أنها أحبت تلك الغرفة، وكذلك من أجل والدتك عندما تأتي وتقضي معنا أسبوعا. لا أظن أنه ينبغي أن نأخذ أفضل غرفة لنا.»
جادل كلود غاضبا: «ولم لا؟ أنا أبني هذا المنزل بالكامل لنا. تعالي إلى سقف الشرفة يا جلاديس. أليس هذا جيدا في الليالي الحارة؟ أريد أن أضع سياجا وأحولها إلى شرفة؛ ومن ثم يمكننا وضع كراسي وأرجوحة شبكية.»
جلست جلاديس على عتبة النافذة المنخفضة. «إنيد، ستكونين حمقاء إن خصصت هذه الغرفة للضيوف. لا أحد يمكنه الاستمتاع بها مثلك. يمكنك رؤية البلدة بأكملها من هنا.»
ابتسمت إنيد، ولكن لم تبدي أي علامة على تراجعها عن قرارها. «لننتظر ونر غروب الشمس. كن حريصا يا كلود. يقلقني أن أراك مستلقيا هنا.»
كان ممددا على حافة السطح وإحدى ساقيه معلقة ورأسه متوسدة ذراعه. خيم الشفق الأحمر على الحقول المنبسطة، وأومضت طواحين الرياح البعيدة باللون الأبيض، وظهرت في السماء فوقهم سحب زهرية صغيرة.
تمتم كلود قائلا: «إذا حولت هذا المكان إلى شرفة، فسترمي قمة السطح عليه بظلها دائما فيما بعد الظهيرة، وستصبح النجوم فوق الرءوس مباشرة بالليل. وسيصبح مكانا جميلا للنوم في وقت الحصاد.»
قالت إنيد بسرعة: «أوه، يمكنك الإتيان إلى هنا دائما للنوم في الليالي الحارة.» «لن يكون الشعور واحدا في كلتا الحالتين.»
جلسوا يشاهدون ضوء النهار يزول من السماء، واقتربت إنيد وجلاديس بعضهما من بعض عندما بدأت برودة ليل الخريف تتسلل إليهما. كان الأصدقاء الثلاثة يفكرون في الشيء نفسه؛ ولكن لو بفعل سحر ما بدأ كل منهم يفكر بصوت عال، لغيمت الدهشة والمرارة عليهم جميعا. أفكار إنيد كانت هي الأنقى بينهم. المناقشة حول غرفة الضيوف ذكرتها بالقس ويلدون. في سبتمبر، لما كانت في طريقها إلى ميشيجان مع والدتها، توقفت يوما في لينكن كي تستشير آرثر ويلدون هل ينبغي أن تتزوج من رجل وصفته له بأنه «رجل غير مخلص للكنيسة». تعامل السيد ويلدون الشاب مع الموضوع بحذر، ولكن لما علم أن الرجل المنشود هو كلود ويلر، طغى عليه التحيز أكثر من المعتاد. رأى أن زواجها من كلود قد يكون الطريقة الوحيدة لإصلاحه؛ ومن ثم لم يتردد في أن يقول لها إن أعظم خدمة يمكن أن تقدمها الفتيات المخلصات للكنيسة هي أن يجذبن الشباب الواعد إليها. كانت إنيد شبه متيقنة من أن السيد ويلدون سيوافق على موضوعها من قبل أن تستشيره، ولكن توافق رأيه مع رأيها دائما ما كان يرضي غرورها. أخبرته أنها عندما تمتلك منزلا خاصا بها، فإنها تنتظر منه أن يقضي جزءا من إجازته الصيفية فيه، ورد عليها بخجل معربا عن استعداده للقيام بذلك.
تاهت جلاديس أيضا بين أفكارها؛ إذ كانت تجلس بسكينة جعلتها تبدو متراخية جدا، وكانت تسند رأسها على إطار النافذة الفارغ في مواجهة الشمس التي كانت تغرب. أضفى الضوء الزهري على عينيها البنيتين وميضا مثل لون النحاس القديم، وبدت فيهما نظرة حزينة وكأنها كانت تتحدى شيئا ما في عقلها. عندما تصادف ونظر كلود إليها، خطر بباله كم هو صعب أن تصبح شخصا استثنائيا في المجتمع، وأن تصبح أجدر وأذكى من البقية. وبالنسبة إلى فتاة، فلا بد أن الأمر أصعب بكثير. نهض فجأة وكسر حاجز الصمت الطويل. «نسيت يا إنيد، عندي سر لأخبرك به. في مكان ما بأرض الغابة المملوكة لنا، عثرت منذ مدة وجيزة على سرب من طيور السمان. لا بد أنها الوحيدة المتبقية في كل هذه الأنحاء، ولا أظنها خرجت من هذه الأرض. لم تجتز حشائش الكلأ هناك منذ سنوات ... لم تجتز مذ ذهبت إلى المدرسة أول مرة، وربما تعيش هي على بذور الحشائش. بالطبع ينمو التوت في الصيف.»
تعجبت إنيد هل الطيور تعلم هذا القدر عن العالم لدرجة أن تختبئ بين أشجار هذا المكان. كان كلود متأكدا مما قاله. «لا أحد يذهب بالقرب من هناك سوى أبي؛ إنه يتوقف هناك أحيانا. ربما رأى الطيور ولكنه لم يتفوه بكلمة عنها. ربما فعلت مثله تماما.» أخبرهما أنه نثر بعض حبات الذرة في الحشائش حتى لا تسعى تلك الطيور للتحليق فوق حقل الذرة الخاص بليونارد دوسن. «إن رآها ليونارد، فمن المحتمل أن يصطادها.»
اقترحت إنيد: «لماذا لا تطلب منه ألا يفعل هذا؟»
ضحك كلود. «هذا من شأنه أن يكون طلبا صعبا. عندما ترتفع جماعة من السمان من حقل ذرة، فإنها تكون مشهدا مغريا للغاية إذا كان الرجل يحب الصيد. سنأخذك في نزهة عندما تأتين الصيف المقبل يا جلاديس. توجد بعض الأماكن الجميلة في هذا المكان.»
نهضت جلاديس. «يا إلهي، لقد حل الليل! إن المكان جميل هنا، ولكن يجب أن توصليني إلى المنزل يا إنيد.»
وجدوا المكان مظلما في الداخل. كلود ساعد إنيد في النزول على السلم الخشبي وأوصلها إلى سيارتها، ثم عاد من أجل جلاديس. كانت تجلس على الأرض عند قمة السلم الخشبي. مد إليها يده وساعدها على النهوض.
قال ممتنا: «إذن أنت تحبين منزلي الصغير.» «نعم. أوه، نعم!» كان صوتها يفيض بالمشاعر، لكنها لم تجهد نفسها وتتحدث بأكثر من ذلك. نزل كلود أمامها كي يحميها من الانزلاق. ظلت وراءه وهو يقودها عبر المداخل المربكة، وساعدها في تخطي أكوام الألواح المتناثرة على الأرض. عند حافة مدخل القبو المفتوح، توقفت وانحنت على ذراعه متعبة للحظة. لم تتكلم، لكنه فهم أن منزله الجديد جعلها حزينة، وأنها وصلت هي أيضا إلى المكان الذي يجب أن تخرج فيه عن المسار القديم. تمنى أن يهمس لها ويتوسل إليها ألا تتزوج من أخيه. تباطأ وتردد وهو يتحسس طريقه في الظلام. إنها تعاني نفس النوع اللعين من الحساسية الشعورية؛ كانت ستتوقع الكثير من الحياة وتصاب بخيبة الأمل. لم يرغب في أن يخرج بها إلى الليل البارد من دون كلمة توسل. تمنى أن لو طال طريقهما، وعبرا العديد من الغرف والممرات. ربما لو كان هذا ممكنا، لوجدت القوة الكامنة بداخله ما كانت تسعى إليه، حتى في هذه المدة القصيرة تحركت بداخله وجعلته يشعر بها، وأطلقت نداء محيرا. فوجئ كلود من نفسه كثيرا.
11
قررت إنيد أن تتزوج في الأسبوع الأول من يونيو. وفي وقت مبكر من شهر مايو، بدأ عمال الجص والطلاء العمل بجد في المنزل الجديد. بدأت الجدران تلمع، وكان كلود يبقى في المنزل طوال اليوم من أجل تزييت الأرضيات المصنوعة من خشب الصنوبر وتلميعها، وتغطية الجدران بالألواح الخشبية. كره أن يطأ أي أحد على تلك الأرضيات. زرع معترشات اليقطين حول الشرفة الخلفية، وزرع شجيرات الياسمين البري والليلك، وأنشأ حديقة مطبخ. خطط مع إنيد أن يذهبا إلى دنفر وكولورادو سبرينجز لقضاء رحلة شهر العسل، ولكن سيكون رالف في المنزل حينئذ، وقد وعد بالمجيء وسقي الزهور والشجيرات إذا كان الطقس جافا.
كثيرا ما تحضر إنيد أعمال الحياكة والتطريز الخاصة بها وتجلس من أجل العمل في الشرفة الأمامية، بينما كان كلود يصقل المشغولات الخشبية داخل المنزل، أو يحفر ويزرع خارجه. كانت تلك المرحلة هي الفضلى في مدة خطبته. بدا له أنه لم يقض قط أياما أسعد من تلك الأيام في حياته. وحينما كانت لا تأتي إنيد، كان يظل ينظر إلى الطريق ويترقب مجيئها، ويتنقل من شيء إلى آخر دون أن يتقدم في العمل. كان يشعر بأنه مفعم بالطاقة ما دامت جالسة هناك في الشرفة والدانتيل والشرائط وقماش الموسلين في حجرها. وعندما كان يمر عليها دخولا أو خروجا ويتوقف بالقرب منها للحظة، كانت تبدو عليها السعادة عندما تجعله يبقى بجوارها. كانت تحب أن يبدي إعجابه بأعمال التطريز التي تنفذها، ولم تتردد في أن تريه أعمال الغرز الريشية والتطريز التي كانت تنفذها في ملابسها الداخلية الجديدة. كان يعلم من النظرات التي كان يتبادلها عمال الطلاء أن هذا يعد سلوكا جريئا جدا من فتاة شارفت على أن تصبح عروسا. وهو نفسه اعتقد أنه سلوك جميل جدا على الرغم من أنه ما كان ليتوقعه قط من إنيد. قلبه كان يخفق بقوة لما كان يدرك مدى ثقتها الشديدة به ومدى قلة خوفها منه! كانت تتركه يقف في الشرفة فوق رأسها وينظر إلى أصابعها السريعة، أو يجلس على الأرض عند قدميها ويحملق في قماش الموسلين المعلق عند ركبتها، إلى أن جعله أدبه يعود إلى عمله كي لا يثير مشاعر عمال الطلاء.
في عصر أحد الأيام الدافئة والعاصفة، أوقع نفسه على الأرض بجانبها وسألها: «متى ستذهبين معي إلى أرض الغابة الخاصة بنا؟» كانت إنيد تجلس على أرضية الشرفة وتسند ظهرها إلى عمود، وقدمها على إحدى بقع الرجلة الدائرية التي تنمو في الأرض الصلبة. «وجدت سرب السمان مرة أخرى. إنه يعيش في الحشائش الطويلة بالقرب من حفرة تحتفظ بالمياه معظم أيام السنة. سأزرع بضعة صفوف من البازلاء هناك؛ حتى يصبح لديها أرض فيها غذاء عند موطنها. أعتقد أن حقل الذرة الخاص بليونارد خطر كبير عليها. لا أعلم هل أخبره عن ذلك السر أم لا.» «أظن أنك أخبرت إرنست هافل، أليس كذلك؟»
رد كلود محاولا التغاضي عن الحدة الطفيفة التي بدت في صوتها: «أوه، بلى! أنا أثق فيه ثقة كبيرة. ذلك المكان جنة للطيور. الأشجار مليئة بالأعشاش. يمكنك الوقوف هناك في الصباح وسماع أفراخ عصافير أبي الحناء وهي تصيح فرحا بالإفطار. تعالي غدا في الصباح الباكر وسأصحبك إلى هناك، هل توافقين؟ ولكن البسي حذاء ثقيلا؛ لأن التربة رطبة في الحشائش الطويلة.»
بينما كانا يتحدثان، هبت زوبعة مفاجئة حول أحد جوانب المنزل، وأطاحت بالكومة الصغيرة من القمصان النسائية الداخلية المطوية التي من الدانتيل، ونثرتها في الفناء الترابي. جرى كلود خلفها وفي يده حقيبة أعمال الإبرة المزهرة الخاصة بإنيد التي كان يضع فيها كل قطعة كان يمسك بها وهو يهرع وسط الحشائش الضارة. لما عاد وجد إنيد أغلقت علبة الإبر الخاصة بها، وكانت تلبس قبعتها. قالت مبتسمة: «شكرا لك. هل وجدت كل شيء؟» «أعتقد ذلك.» هرع إلى السيارة كي يخفي وجهه المذنب. توجد قطعة واحدة من الدانتيل لم يضعها في الحقيبة، ولكنه أخفاها في جيبه.
في الصباح التالي، أتت إنيد مبكرا كي تسمع الطيور الموجودة في أرض الغابة المملوكة لآل ويلر.
12
في الليلة التي قبل حفل الزفاف، نام كلود مبكرا. ظل يتنقل بالسيارة مع رالف طوال اليوم من أجل الاستعدادات النهائية، وكان منهكا. غط في النوم من فوره تقريبا. لم يكن سهلا على السيدتين الموجودتين في المنزل تجاهل الحدث الكبير الذي سيقع في اليوم التالي. بعد غسل أطباق العشاء، صعدت ماهيلي إلى العلية كي تأتي باللحاف الذي طالما احتفظت به كي تهديه إلى كلود في زفافه. أخرجته من الصندوق وبسطته، وعدت النجوم المرسومة في نمطه - إذ كان العد من الإنجازات التي تفرح بها - قبل أن تطويه. كان سينقل إلى منزل الطاحونة مع الهدايا الأخرى غدا. ذهبت السيدة ويلر إلى السرير عدة مرات في تلك الليلة. ظلت تفكر في الأشياء التي ينبغي الاعتناء بها؛ فمثلا قامت وذهبت كي تتأكد من وضع ملابس كلود الداخلية الثقيلة في صندوقه؛ خشية أن يصيبه البرد في الجبال؛ وتسللت إلى الطابق السفلي كي تتأكد من أن الدجاجات الست المشوية من أجل العشاء في حفل الزفاف مغطاة جيدا وبعيدة عن القطط. وبينما كانت تتنقل بين تلك المهام، لم تبرح الصلاة لسانها. لم تصلي كثيرا وبحرارة بتلك الطريقة منذ معركة نهر مارن.
في الصباح الباكر، حمل رالف السيارة الكبيرة بالهدايا وسلال الطعام، وهرع إلى منزل آل رويس. كانت هناك بالفعل سيارتان في ساحة الطاحونة؛ لقد أحضرتا مجموعة من الفتيات اللاتي أتين ومعهن كل زهور شهر يونيو الموجودة في فرانكفورت من أجل تزيين المنزل استعدادا لحفل الزفاف. لما قرع رالف بوق سيارته، خرجت ستة منهن للترحيب به، ووبخنه لأنه لم يحضر أخاه معه. بدأ رالف العمل من فوره. حمل السلم الخشبي إلى أي مكان يقال له أن يحمله إليه، وأخذ يدق المسامير ويقص الغضينات الشائكة للورود المتعرشة حول الأعمدة فيما بين الصالتين الأمامية والخلفية، ويجهز القوس الذي سيقام تحته الحفل.
لم تتمكن جلاديس فارمر من ترك عملها في المدرسة الثانوية كي تساعد صاحبتها في هذا العمل، ولكن في الساعة الحادية عشرة وصلت إلى منزل العروس سيارة محملة بزهور الفاوانيا البيضاء والزهرية التي قطفتها من فناء منزلها الأمامي، والتي أحضرت أيضا صندوقا من زهور المشاتل التي طلبتها من هاستنجز كي تهديها إلى إنيد. أعجبت الفتيات بزهور المشاتل، ولكن قلن إن جلاديس مسرفة كعادتها؛ لو اقتصرت على الزهور التي قطفتها من فناء منزلها لكفت. السيارة قادها فتى هزيل رث الملابس يعمل في مرآب المدينة، وكان يدعى «إيرف الصامت»؛ لأنه لا أحد قط يفهم كلمة منه. لم يكن لديه صوت على الإطلاق؛ لم يكن يصدر منه غير صرير رقيق صغير من أعلى حلقه، مثل الهمس اللاهث الذي يتفوه به الوسيط الروحاني أثناء عمله. لما وصل إلى الباب الأمامي وذراعاه ممتلئتان بزهور الفاوانيا، تمكن من أن يتحدث بصوت فيه أزيز: «هذه الزهور مرسلة من الآنسة فارمر. وتوجد باقات أخرى في السيارة.»
ذهبت الفتيات معه إلى سيارته، وأخرج صندوقا مربع الشكل مربوطا بأشرطة بيضاء وأجراس فضية صغيرة يحتوي على باقة الزهور الخاصة بالعرس.
رالف سأل الفتى الرفيع: «كيف حصلت على هذا الصندوق؟ كان علي الذهاب إلى المدينة كي أحضره.»
ابتلع المرسال ريقه. «أخبرتني الآنسة فارمر أن أحضر أي زهور في المتجر كانت سترسل إلى هنا.»
دفع رالف يده في جيب سرواله. «هذا لطف منها. كم المقابل؟ سأدفعه لك قبل أن أنسى.»
تسللت حمرة إلى وجه الفتي الشاحب؛ إنه وجه رقيق تحت شعر غير مهندم، وتكسوه تعاسة تعتصر ملامحه. كانت عيناه دائما نصف مغمضتين، وكأنه لا يريد أن يرى ولا أن يرى من قبل العالم من حوله. كان يمشي مثل شخص في حلم. همس قائلا: «الآنسة فارمر دفعت لي الحساب.»
صاحت فتاة: «رائع، إنها تفكر في كل شيء! لقد كنت أحد تلاميذ جلاديس في المدرسة، أليس كذلك يا إيرف؟» «بلى يا سيدتي.» دخل إلى السيارة من دون أن يفتح الباب، وانسل مثل ثعبان الماء إلى المقود وانطلق بالسيارة.
الفتيات تبعن رالف على ممر الحصى باتجاه المنزل. همست فتاة إلى الأخريات قائلة: «هل تظنون أن جلاديس ستأتي الليلة مع بايليس جلاديس؟ أنا عن نفسي طالما اعتقدت أنها تكن في داخلها مشاعر حب شديدة تجاه كلود.»
فتاة أخرى غيرت الموضوع. وقالت: «لا أستطيع تصديق سماعي لإيرف وهو يتحدث بهذا القدر. لا بد أن جلاديس لها تأثير كبير عليه.»
قالت الفتاة التي سألت الفتى الصامت: «كانت دائما تعطف عليه في المدرسة. قالت إنه كان جيدا في دروسه، ولكنه كان يخاف كثيرا من عدم تمكنه قط من القراءة بصوت عال. كانت تجعله يكتب الإجابات على مكتبه.»
مكث رالف حتى الغداء، وأخذ يلهو مع الفتيات إلى أن اتصلت به والدته هاتفيا وطلبت منه أن يعود. «علي الآن أن أذهب إلى المنزل وأعتني بأخي، وإلا سيحضر الليلة بقميص مخطط.»
نادته الفتيات: «أبلغه سلامنا وأخبره ألا يتأخر.»
عندما انطلق رالف بسيارته باتجاه المزرعة، قابل دان الذي كان يأخذ صندوق أغراض كلود إلى المدينة. أبطأ السيارة. وصاح: «هل من أخبار؟»
ابتسم دان. «لا، تركته في خير حال كما هو متوقع.»
السيدة ويلر قابلت رالف على السلم. «إنه في غرفته بالطابق العلوي. إنه يشكو من أن حذاءه الجديد ضيق بشدة. أظن أن ذلك بسبب التوتر. على الأرجح سيتركك تحلق له؛ أنا متأكدة من أنه سيجرح نفسه. وأرجو ألا يكون الحلاق قد قصر شعره أكثر من اللازم يا رالف. أكره تلك الموضة الجديدة التي يقص فيها الرجل تماما الشعر الموجود خلف الأذنين . مؤخرة عنقه أقبح جزء فيه.» تحدثت بنبرة استياء جعلت رالف يضحك. «عجبا يا أمي، أعتقد أن كل الرجال متشابهون في نظرك! على أي حال، كلود ليس جميلا.» «متى تريد الاستحمام؟ سأضطر إلى تدبر ذلك حتى لا يطلب الجميع الماء الساخن في الوقت نفسه.» استدارت إلى السيد ويلر الذي كان يكتب شيكا في المكتب. «يا أبي، هلا استحممت الآن وأخرجت اسمك من القائمة؟»
صاح السيد ويلر: «أستحم؟ لا أريد أن أستحم! أنا لن أتزوج الليلة. أظن أنه لسنا مضطرين إلى جعل كل من في البيت يستحم من أجل إنيد.»
ضحك رالف ضحكة مكبوتة، وأسرع إلى الطابق العلوي. وجد كلود جالسا على السرير يلبس إحدى فردتي حذائه. كومة من الجوارب كانت مبعثرة على السجادة. وكانت هناك حقيبة كبيرة مفتوحة على كرسي وحقيبة صغيرة سوداء على كرسي آخر.
سأل رالف: «هل أنت متأكد من أن الحذاء ضيق جدا؟» «نحو أربعة مقاسات.» «لماذا لم تشتر حذاء على مقاسك؟» «اشتريت. ذاك المحتال في هاستنجز خدعني وأعطاني حذاء آخر وأنا غافل. حسن إذن»، وانتزع فردة الحذاء التي أمسك بها أخوه كي يتفحصها. «لا يهم، ما دمت أستطيع الوقوف به. الأفضل أن تذهب وتتصل هاتفيا بالمحطة، وتسأل هل سيصل القطار في الوقت المحدد أم لا.» «لن يكون لديهم علم الآن. باق على وصوله سبع ساعات.» «إذن، اتصل بهم في وقت لاحق. ولكن عليك أن تعرف بطريقة ما. لا أريد أن أقف في تلك المحطة وأنتظر القطار.»
صفر رالف. من الواضح أن الشاب سيكون من الصعب التعامل معه. اقترح عليه أن يستحم كي يهدئ نفسه. كلا، لقد أخذ كلود حمامه. هل أغلق حقيبته الكبيرة إذن؟ «كيف لي بحق الجحيم أن أغلقها وأنا لا أعرف ما سألبسه؟» «ستلبس قميصا وجوربا. سأضع بعضا من تلك الأغراض بدلا منك.» أخذ رالف حفنة من الجوارب وانحنى كي يفرزها. كان في مقدمة العديد منها بقع حمراء. بدأ يضحك. «أعلم لماذا يؤلمك الحذاء، لقد جرحت قدمك!»
نهض كلود وكأن دبورا لسعه. صاح: «هلا خرجت من هنا وتركتني وحدي؟»
اختفى رالف. وأخبر والدته أنه سيرتدي في خلال لحظات؛ لأنهم قد يضطرون إلى استخدام القوة مع كلود في اللحظات الأخيرة. كان حفل الزفاف سينعقد في الثامنة، وينبغي متابعة العشاء، وينبغي أن يغادر كلود وإنيد فرانكفورت في قطار الساعة 10:25 السريع المتجه إلى دنفر. في الساعة السادسة عندما طرق رالف الباب على أخيه، وجده قد حلق ذقنه وصفف شعره وارتدى ملابسه، ولم يتبق سوى المعطف. لم يكن قميصه المطوي مجعدا، وكانت ربطة عنقه مربوطة بطريقة منمقة. وعلى الرغم من الألم الذي كان يخفيه حذاؤه الجلدي، فإنه كان ناعما ولامعا وبراقا ومدببا بشدة.
سأل رالف مندهشا: «هل حزمت أغراضك في الحقيبة؟» «تقريبا. أرجو أن تتفقد كل الأغراض وتجعلها تبدو بنحو أنيق أكثر، إن استطعت. لا أحب أن ترى الفتاة ما بداخل تلك الحقيبة وهي على هذا الوضع. أين سأضع سجائري؟ أينما تكون، ستغير رائحة كل شيء يوضع معها. يبدو أن كل ملابسي تفوح منها رائحة الطهي أو النشا أو شيء من هذا القبيل.» وأنهى كلامه بمرارة قائلا: «لا أعلم ماذا تفعل ماهيلي بها.»
بدا الغضب على وجه رالف. «يا له من جحود! ظلت ماهيلي تكوي قمصانك القديمة اللعينة لمدة أسبوع!» «نعم، نعم، أعلم. لا تزعجني. نسيت أن أضع أي مناديل في صندوقي؛ ولذا عليك أن تضع المجموعة كاملة في مكان ما.»
ظهر السيد ويلر عند المدخل لابسا سرواله الأسود المخصص للمناسبات، المرفوع لأعلى بحمالات فوق قميص أبيض، وتنبعث رائحة فواحة مستخلصة من أوراق شجرة الميريقة وشراب الرم من شعره المتدلي. كان يمسك ورقة مطوية رفيعة بلطف بين أصابعه السميكة. «أين دفتر فواتيرك يا ولدي؟»
تحسس كلود سرواله، وأخرج شيئا مربعا من الجلد من الجيب. أخذه والده ووضع قصاصة الورق بداخله مع النقود. قال: «قد ترغب في شراء بعض الأشياء لزوجتك. هل تحتفظ بتذاكر القطار هنا؟ ها هو الإيصال الخاص بصندوق أمتعتك الذي أحضره دان. لا تنس أني وضعته مع التذاكر وكتبت عليه الحروف الأولى من اسمك بحيث تميزه عن ذلك الخاص بإنيد.» «نعم يا سيدي. شكرا لك يا سيدي.»
سبق أن سحب كلود كل الأموال التي سيحتاج إليها من البنك. هذا الشيك البنكي الإضافي كان إعرابا من جانب السيد ويلر عن اعتذاره عن بعض الملاحظات الساخرة التي تلفظ بها منذ عدة أيام لما عرف أن كلود حجز مقصورة نوم في قطار دنفر السريع. كان كلود قد أجاب عن تلك الملاحظات باقتضاب قائلا بأن إنيد ووالدتها دائما ما تذهبان إلى ميشيجان في مقصورة نوم، وأنه لن يطلب منها أن تتخلى عن مستوى السفر المريح الذي اعتادته.
في الساعة السابعة، انطلقت عائلة ويلر في السيارتين اللتين كانتا تقفان منتظرتين بجوار طاحونة الهواء. قاد السيد ويلر السيارة الكاديلاك الكبيرة، وأخذ رالف ماهيلي ودان في السيارة الفورد. عندما وصلوا إلى منزل الطاحونة، وجدوا الساحة الخارجية مليئة فعلا بالسيارات، والشرفة وصالتي الاستقبال مكتظة بالناس الذين يتحدثون ويتمشون.
صعد كلود إلى الطابق العلوي مباشرة. بدأ رالف في إجلاس الضيوف، ورتب الكراسي القابلة للطي بحيث تترك ممرا من أسفل السلم إلى قوس الزهور الذي أنشأه في الصباح. كان القس يقف تحت الضوء وفي يده الكتاب المقدس خاصته الذي أخذ يبحث فيه عن الإصحاح المراد. كانت إنيد تفضل أن يأتي السيد ويلدون من لينكن كي يعقد زواجها، ولكن هذا من شأنه أن يجرح السيد سنوبيري جرحا بليغا. ففي النهاية، إنه الكاهن الراعي لها على الرغم من أنه لم يكن مفوها ومقنعا مثل آرثر ويلدون. كانت حصيلته اللغوية الإنجليزية أقل من غيره، حتى إن تلك الحصيلة لم يكتسبها بسهولة. لما كان على منبره، كان يحاول ويجاهد أن يتلفظ بتلك الكلمات حتى تتساقط حبات العرق من جبينه وتقع على لحيته البنية الخشنة والملبدة. لكنه كان يؤمن بما يقوله، واللغة في نظره إنجاز ضئيل لدرجة أنه لم يكن يميل إلى قول أكثر مما كان يؤمن به. كان فتى يقرع الطبول في الحرب الأهلية - لكن مع الجانب الخاسر - وكان رجلا بسيطا وشجاعا.
كان على رالف أن يكون المرشد والإشبين في آن واحد. لم تتمكن جلاديس فارمر من أن تصبح ضمن وصيفات العروس؛ لأنها كانت ستعزف موسيقى حفل الزفاف. في الساعة الثامنة، نزل كلود وإنيد معا يتقدمهما رالف ويتبعهما أربع فتيات يلبسن فساتين بيضاء مثل العروس. أخذ العريس والعروس مكانهما تحت القوس أمام الكاهن. بدأ الكاهن بإصحاح من سفر التكوين عن خلق الإنسان وعن ضلع آدم، وأخذ يقرأ بصعوبة، وكأنه لم يكن يعلم تمام العلم السبب الذي دفعه إلى اختيار هذا المقطع، وكان يبحث عن شيء ولم يجده. ظلت نظارته الأنفية تسقط وتقع على الكتاب المفتوح. وفي تلك المدة الطويلة من التلعثم، وقفت إنيد هادئة ناظرة إليه باحترام، وتبدو جميلة جدا في غطاء وجهها القصير. كان كلود شاحب الوجه جدا لدرجة أنه بدا غير طبيعي؛ إذ لم يره أحد بهذا النحو من قبل. ووسط الملابس السوداء جدا والشعر الناعم الأصفر، بدا وجهه شاحبا وصارما، وتكلم بصوت غليظ في ردوده. كانت تقف ماهيلي في نهاية الغرفة، لابسة قبعة سوداء عليها عنقود عنب ثعلب أخضر؛ وذلك حتى لا يفوتها شيء. وقفت تراقب السيد سنوبيري كأنها ترجو أن ترى علامة مرئية عن المعجزة التي كان يقوم بها. دائما ما كانت تتساءل عن الذي يفعله القس كي يحول أسوأ شيء في العالم إلى أفضل شيء في العالم.
عندما انتهت مراسم الزواج، صعدت إنيد إلى الطابق العلوي كي ترتدي الفستان الذي ستسافر فيه، وبدأ رالف وجلاديس في إجلاس الضيوف من أجل العشاء. بعد عشرين دقيقة، نزلت إنيد وأخذت مكانها بجانب كلود على رأس الطاولة الطويلة. قام الرفاق وشربوا كأسا من شراب البنش بعصير العنب في نخب العروسين. ولكن ريثما جلس الضيوف، أخذ السيد رويس السيد ويلر إلى قبو تخزين الفاكهة، حيث احتسى الصديقان القديمان كأس ويسكي كنتاكي معتقا وتصافحا. وعندما عادا إلى الطاولة، وبدا أنهما في عمر أصغر مما بدا عليهما وقت انسحابهما من المكان، اشتم الكاهن رائحة الويسكي، وشعر بأنه جرى تجاهله. نظر بتعاسة إلى كأسه الحمراء وتذكر عرس قانا. حاول أن يطبق تعاليم الكتاب المقدس بحذافيرها في حياته؛ وعلى الرغم من أنه لم يكن بإمكانه أن يفعل ذلك علنا في تلك الأيام، فإنه لم يعلم مطلقا السبب الذي جعله يشعر بأنه أفضل من المسيح فيما يتعلق بشرب الخمر.
حافظ رالف على هدوئه ولم ينس شيئا؛ حيث إنه كان المسئول عن تنفيذ مراسم الاحتفال. وعندما حان وقت البدء، ربت على كتف كلود وقاطع والده وهو يسرد إحدى أفضل قصصه. بخلاف العادة، كان على الزوجين الذهاب إلى المحطة بمفردهما؛ ولذا تركا مكانهما على رأس الطاولة بعد إيماءة وابتسامة للضيوف. أسرع رالف بهما إلى السيارة الخفيفة التي كان قد وضع فيها بالفعل حقيبة السفر الصغيرة المكدسة بالأغراض الخاصة بإنيد. فقط السيدة رويس النحيلة الضعيفة هي من تسللت من المطبخ كي تودعهما.
في ذلك المساء، جاء بعض الفتيان السيئين من المدينة ونثروا الطريق بالقرب من الطاحونة بعشرات الزجاجات المكسورة، وبعدها اختبئوا بين شجيرات التوت البري في انتظار الحصول على بعض المرح. أول سيارة جاءت كانت هي سيارة رالف، وعلى الرغم من وميض الزجاج المكسور أمام أضواء السيارة، لم يكن هناك وقت للتوقف؛ كان يوجد خندق مائي على كل من جانبي الطريق، واضطر أن يسير مباشرة دون توقف، ويذهب إلى فرانكفورت بإطارات فارغة من الهواء. أطلق القطار السريع صافرته ورالف يدخل إلى المحطة. أخذ مع كلود حقائب السفر الصغيرة الأربعة ووضعها في المقصورة. ترك الفتيان إنيد مع الحقائب في المقصورة وذهبا إلى المنصة الخلفية لعربة مشاهدة المعالم للتحدث حتى اللحظة الأخيرة. عد رالف على أصابعه الأشياء التي وعد كلود أن ينتبه إليها. شكره كلود من أعماقه. شعر أنه ما كان ليتزوج قط لولا رالف. لم يكونا قط صديقين حميمين كما كان الحال خلال الأسبوعين الماضيين.
بدأت العجلات تتحرك. قبض رالف على يد كلود وجرى إلى مقدمة العربة ونزل. لما تجاوزه كلود، وقف يلوح بمنديله؛ كان شكله مضحكا تحت أضواء المحطة بملابسه السوداء، وقبعته الصلبة التي من القش، وساقيه القصيرتين المتباعدتين، والمرح الذي يكسوه من رأسه إلى قدمه.
انطلق القطار في هدوء عبر ليل الصيف بطول وادي النهر المحاط بالأشجار. وقف كلود بمفرده في المنصة الخلفية يدخن سيجارا بعصبية. لما مروا على اللسان العميق حيث يتدفق لافلي كريك إلى النهر، رأى أضواء منزل الطاحونة وامضة للحظة من بعيد. كان لا يزال هواء الليل ساكنا؛ إذ كان مثقلا برائحة نبات إكليل الملك الذي كان ينبت عاليا على طول المسارات، ورائحة أشجار العنب البري المبللة بالندى. أتى مفتش التذاكر كي يسأل عن التذاكر، وقال بابتسامة حكيمة إنه كان يبحث عنه لأنه لم يرد أن يزعج السيدة.
بعدما ذهب الرجل نظر كلود في ساعته، ورمى عقب سيجاره، وعاد عبر عربات النوم. ذهب الركاب إلى النوم؛ دائما ما تضاء المصابيح الرأسية بإضاءة خافتة بعدما يغادر القطار فرانكفورت. شق طريقه عبر الممرات ذات الستائر الخضراء المتمايلة، ونقر على باب مقصورته. فتح الباب قليلا، ووقفت إنيد لابسة ملابس نوم حريرية بيضاء مليئة بالكشكشة، ورابطة شعرها في ضفيرتين ناعمتين تنسدلان فوق كتفيها.
قالت بصوت منخفض: «كلود، هل تمانع في أن تنام في مكان آخر في العربة الليلة؟ يقول عامل القطار إن المقصورات ليست مشغولة كلها. لا أشعر أنني بخير. أظن أن صلصة سلطة الدجاج كانت لا بد دسمة جدا.»
أجاب من دون تفكير. «نعم، بالتأكيد. هل آتي لك بشيء؟» «كلا، شكرا لك. النوم سيريحني أكثر من أي شيء آخر. تصبح على خير.»
أغلقت الباب، وسمع صوت انزلاق القفل. وقف ينظر إلى ألواح الخشب المصقول اللامع للحظة، ثم استدار بلا تردد، وعاد بطول الممر المتمايل قليلا ذي الستائر الخضراء. في عربة مشاهدة المعالم، تمدد على كرسيين من الخيزران وأشعل سيجارا آخر. وفي الساعة الثانية عشرة، دخل عامل القطار. «هذه العربة تغلق في وقت الليل، يا صاح. هل أنت السيد الذي من المقصورة رقم أربعة عشرة؟ هل تريد سريرا سفليا؟» «كلا، شكرا لك. هل توجد عربة للتدخين؟» «تفتح هذه العربات في وقت النهار، ولا يحتمل أن تكون نظيفة في هذا الوقت من الليل.» «حسن إذن. هل هي في الأمام؟» أعطاه كلود بذهن شارد قطعة نقود معدنية، وأخذه عامل القطار إلى عربة قذرة جدا، أرضيتها منثور عليها الجرائد وأعقاب السجائر، وجلد الكراسي يكسوه الغبار. كانت العربة يستلقي فيها عدد قليل من الرجال اليائسين الذين قد خلعوا أحذيتهم، وتتدلى حمالات سراويلهم على ظهورهم. منظرهم ذكر كلود بأن قدمه اليسرى تؤلمه بشدة، وأن حذاءه لا بد أنه كان يجرح قدميه منذ مدة. خلع حذاءه ورمى قدميه، ذواتي الجورب الحريري، على المقعد المقابل.
في هذه الرحلة الطويلة المليئة بالغبار وغير المريحة، اختلج صدر كلود بعدة مشاعر، ولكن الشعور الطاغي كان هو الحنين إلى المنزل. جرحه كان من النوع الذي يدفعه إلى نوع من الحنين المؤلم إلى الأشياء القديمة المعتادة المؤكدة مثل شروق الشمس. تمنى لو يتبدد السهل العشبي الذي كانت تتلألأ فوقه النجوم، ويتحول إلى تعرجات لافلي كريك التي يوجد معها منزل والده على التل المظلم والصامت في ليالي الصيف! عندما كان يغلق عينيه، كان بإمكانه أن يرى الضوء في نافذة والدته، وتحته وهج مصباح ماهيلي حيث تجلس خافضة رأسها وهي تصلح قمصانه القديمة. قال لنفسه الحب البشري شيء رائع، ويصبح أروع عندما لا ينتظر المحب تحقيق مكسب شخصي.
لما أشرق الصبح، تلاشت عاصفة الغضب والإحباط والشعور بالخزي التي كانت تغلي في صدره لما جلس لأول مرة في عربة مشاهدة المعالم. بقي شيء واحد؛ نبرة صوت زوجته غير المبالية وغير المكترثة على نحو غريب لما أبعدته من المقصورة. كانت عبارة عن النبرة الرتيبة التي يدلي بها الناس تعليقات عادية عن الأشياء العادية.
أشرق نور الصباح ببهائه الفضي على نباتات المريمية الصيفية. تحول لون السماء إلى اللون الوردي والرمال إلى اللون الذهبي. حمل نسيم الفجر رائحة نباتات المريمية النفاذة، وأدخلها من النوافذ؛ تلك الرائحة التي تكون منعشة على نحو خاص في الصباح الباكر، وتبشر دائما بيوم جديد من الحرية والمساحات الكبيرة والبدايات الجديدة والأيام الأفضل.
كان من المفترض أن يصل القطار إلى دنفر في الساعة الثامنة. في تمام السابعة والنصف، طرق كلود الباب على إنيد ، ولكن هذه المرة بقوة. كانت حينها قد ارتدت ملابسها واستقبلته بوجه منتعش ومبتسم، وهي تمسك قبعتها في يدها.
سأل: «هل تحسنت؟» «أوه، نعم! إنني بخير حال هذا الصباح. أخرجت لك كل أغراضك، هناك على هذا المقعد.»
نظر إلى أغراضه. «شكرا لك. ولكن أخشى أنني لا أملك الوقت لتغيير ملابسي.» «أوه، حقا؟ أنا آسفة لأنني نسيت أن أعطيك حقيبتك ليلة أمس. ولكن يجب أن تغير ربطة عنقك على الأقل. يبدو عليك بشدة أنك متزوج لتوك.»
لوى شفته على نحو لا يكاد يكون مرئيا، وسأل: «حقا؟»
كان كل شيء يحتاج إليه مرتبا بعناية على المقعد الفاخر؛ القميص، والياقة، وربطة العنق، والفرشات، وحتى المنديل. أصبحت المناديل الموجودة في جيوبه سوداء من مسح الرماد الذي ظل يتناثر عليه طوال الليل؛ ومن ثم رماها وأخذ المنديل الجديد. وجد بقعة رطبة فيه، وعندما بسطه تعرف على رائحة عطر كانت تستخدمه إنيد كثيرا. ولسبب ما، تلاشى انزعاجه بعد هذا الاهتمام. شعر باختناق الدموع في عينيه، ولكي يخفي ذلك، انحنى على الحوض المعدني وبدأ يغسل وجهه. وقفت إنيد خلفه تضبط قبعتها في المرآة. «يا لفظاعة رائحة الدخان التي تفوح منك يا كلود. أرجو أنك لم تدخن قبل الإفطار؟» «كلا. ظللت في عربة التدخين مدة. أظن أن ملابسي تشبعت برائحة الدخان.» «أنت مغطى بالتراب والرماد أيضا!» أخذت فرشاة الملابس من الرف، وبدأت تنظف ملابسه بها.
أمسك كلود يدها. وقال بحدة: «أرجوك لا تفعلي! يمكن لعامل القطار أن يفعل ذلك لي.»
راقبته إنيد خفية وهو يغلق حقيبته ويحزمها. كثيرا ما سمعت أن الرجال يغضبون قبل الإفطار.
سأل قبل أن يغلق حقيبتها: «هل أنت متأكدة من أنك لم تنسي شيئا؟» «نعم. لم يسبق أن نسيت شيئا في القطار، هل سبق لك ذلك؟»
رد بحذر: «أحيانا»، ولم ينظر إليها وهو يفتح المزلاج.
الكتاب الثالث
شروق الشمس في البراري
1
نوى كلود أن يستمر في الزراعة مع والده؛ وبعد عودته من رحلة الزواج، انغمس في العمل من فوره. كان المحصول وفيرا تقريبا مثل الصيف السابق، وكان ينهمك في العمل ستة أيام في الأسبوع.
في عصر أحد أيام شهر أغسطس، رجع إلى المنزل مع فريق الخيل الخاص به، ثم سقاه وأطعمه على مهل، ودخل بعد ذلك المنزل من الباب الخلفي. كان يعلم أن إنيد ليست في المنزل. لقد ذهبت إلى فرانكفورت من أجل اجتماع لجمعية حظر الحانات. كثف حزب حظر الكحوليات نشاطه في نبراسكا ذلك الصيف، وكان واثقا من أنه سيجري التصويت لصالح منع الكحوليات في الولاية في العام التالي، وهو ما نجح في تحقيقه باقتدار.
كان مطبخ إنيد الذي كانت تغمره شمس العصر يلمع بالدهان الجديد، ومشمع الأرضية الذي لا بقع فيه، وأواني الطهي ذات اللونين الأزرق والأبيض. في غرفة الطعام وضع مفرش المائدة، وكانت المائدة معدة بعناية لفرد واحد. فتح كلود صندوق الثلج الذي نظم له فيه عشاؤه، الذي كان عبارة عن طبق من السلمون المعلب، ومعه صلصة بيضاء، وبيض مسلوق مقشر موضوع وسط بعض أوراق الخس، ووعاء من الطماطم الناضجة، وقطعة من بودينج الأرز البارد، وقشدة وزبدة. وضع هذه المأكولات على المائدة وقطع بعض الخبز؛ وبعدما غسل وجهه ويديه بلا عناية، جلس ليتناول الطعام بقميص العمل. أسند الجريدة على إبريق مياه زجاجي أحمر، وقرأ أخبار الحرب وهو يتناول عشاءه. تضايق لما سمع خطى ثقيلة تقترب من المنزل. أدخل ليونارد دوسن رأسه من باب المطبخ، ونهض كلود مسرعا وأخذ قبعته، ولكن دخل ليونارد من دون دعوة وجلس. كان قميصه البني مبللا في موضع التقاء حمالتيه بكتفيه؛ ووجهه، الذي كان تحت قبعة من القش لم يخلعها، لم يكن حليقا، وكان الغبار يكسوه.
صاح: «اذهب وأكمل عشاءك. الزواج بامرأة لديها سيارة لا يختلف مطلقا عن عدم الزواج. عجبا لحب التسكع لديهن! لاقيت لوما شديدا لأنني أحرص على ألا تتعلم سوزي القيادة مطلقا. اسمعني يا كلود، متى في اعتقادك ستسمحون لي باستخدام آلة الدرس؟ سيبدأ قمحي في الإنبات في الحزم في وقت قريب للغاية. هل تعتقد أن والدك على استعداد للعمل في يوم الأحد - إذا ساعدتكم - بحيث يسمح بإقراضي الآلة في اليوم السابق؟» «أظن أنه غير مستعد لذلك. لن تحب أمي ذلك. لم نفعل هذا من قبل حتى في أيام ذروة العمل.» «حسنا، أظن أنني سأزور والدتك وأتحدث معها. إذا ما عرفت حال حزم القمح لدي، فربما أستطيع إقناعها أن الأمر أشبه بوقوع ثور جارك في حفرة يوم السبت.» «هذه فكرة جيدة. إنها تفكر دائما بعقلانية.»
نهض ليونارد. «ما الأخبار؟» «نسف الألمان سفينة ركاب إنجليزية، تسمى «ذي أربيك»، كانت في طريقها إلى هنا.»
رد ليونارد: «حسن إذن. ربما سيمكث الأمريكيون في منازلهم الآن ويفكرون في شئونهم الخاصة. لا يهمني كيف سيدمر كل منهما الآخر هناك ولو بمقدار ضئيل! أتمنى أن يختفي الطرفان من الخريطة.» «كان أجدادك من الإنجليز، أليس كذلك؟» «كان هذا منذ مدة طويلة. نعم، كانت جدتي ترتدي قبعة وتمتلك شعرا قصيرا أبيض اللون، وأخبرت سوزي أن لا مشكلة لدي إذا تبين أن الطفلة ورثت بشرة جدتي. فبشرتها أنعم بشرة رأيتها في حياتي.»
لما خرجا من الباب الخلفي، ركضت مجموعة من الدجاج الأبيض ذي العرف الأحمر صاخبة باتجاههما. إنها الساعة التي كان يوضع الغذاء للدجاج فيها عادة. وقف ليونارد لينظر إليها بإعجاب. «لديك مجموعة جيدة من الدجاج. دائما ما أحب دجاج الليجهورن الأبيض. أين ذهبت الديكة؟» «لدينا ديك واحد فقط. إنه محبوس في الحظيرة. تقبع الدجاجات الحاضنة فوق بيضها. ستجرب إنيد تربية الأفراخ في الشتاء.» «ديك واحد فقط؟ وهل لي أن أسأل ما الذي تفعله تلك الدجاجات؟»
ضحك كلود. «إنها تضع البيض بالطريقة نفسها، بل على نحو أفضل. إن البيض الملقح يفسد في الجو الدافئ.»
بدا أن تلك المعلومة أغضبت ليونارد. فانفجر غاضبا: «لم أسمع عن هذا الهراء اللعين من قبل. أنا أربي الدجاج بالطريقة الطبيعية، وإلا فلن أربي الدجاج مطلقا.» وقفز إلى سيارته خشية أن يتفوه بالمزيد.
لما وصل إلى المنزل، وجد زوجته تضع العشاء، وكانت الطفلة الرضيعة تجلس بالقرب منها في عربة الأطفال الخاصة بها، وتلعب بخشخيشة. رفع ليونارد - بقذارته وعرقه - الرضيعة النظيفة ، وبدأ يقبلها ويشتمها ويفرك ذقنه الملتصقة به بقايا الزرع في ثنايا رقبتها الناعمة. كانت الطفلة الصغيرة مهتاجة من الفرح.
نادت سوزي وهي عند الموقد: «اذهب واغتسل من أجل العشاء يا لين.» وضع الطفلة في عربتها، وبدأ يغتسل في حوض القصدير، ويتحدث وهو مغمض العينين. «سوزي، أنا في مزاج سيئ للغاية. لا أستطيع تحمل زوجة كلود اللعينة تلك!»
كانت تخرج عيدان ذرة مشوية من وعاء حديدي كبير، ونظرت لأعلى من وسط البخار. «عجبا، هل رأيتها؟ استمعت خلسة إلى مكالمة هاتفية لها صباح اليوم، وسمعتها تخبر بايليس أنها ستبقى في المدينة حتى وقت متأخر.» رد: «أوه، نعم! لقد ذهبت هي بالفعل إلى المدينة، وها هو هناك يتناول عشاء باردا بمفرده. تلك المرأة متعصبة. إنها لا تكتفي بتحريم الأشياء على البشر، بل بدأت تمارس ذلك على الدجاج الآن.» لما وضع الكراسي ودحرج عربة الطفلة بالقرب من الطاولة، شرح لزوجته طريقة إنيد في تربية الدجاج. قالت إنها حقا لا ترى بأسا في ذلك. «الآن اصدقيني القول يا سوزي، هل علمت من قبل أن الدجاج يمكن أن يستمر في وضع البيض من دون ديك؟» «كلا، لم أسمع عن شيء كهذا، ولكني نشأت بالطريقة التقليدية. تمتلك إنيد كتبا عن تربية الدواجن وكتبا عن البستنة، وما شابه من الأشياء. لا ريب أنها تحصل على أفكار جيدة منها. ولكن على أي حال، كن حريصا. إنها أقرب الجيران لنا، ولا أريد مشكلات معها.» «سأبتعد عن طريقها إذن. إذا حاولت تنفيذ أي أعمال تبشيرية بين دجاجاتي، فسأخبرها ببعض الحقائق المنزلية التي لا يستطيع زوجها إخبارها بها. في رأيي، إنها جعلت ذلك الفتى يخضع لآرائها.»
اعترفت سوزي، وهي تملأ طبق زوجها ثانية: «والآن يا لين، أنت تعلم أنها لن تزعج دجاجاتك. لذا، فالزم الصمت. ولكن يبدو أن كلود قد بدأ يتجنب الناس نوعا ما. تقول السيدة جو هافل إن إرنست لم يعد يذهب إلى كلود. يبدو أن إنيد ذهبت إلى هناك، وأرادت من إرنست أن يلصق على جدار إصطبله بعض ملصقات لدعم حظر الكحوليات التي تتحدث عن وجود خمسة عشر مليون معاقر للخمر في المنطقة؛ وذلك حتى يكون قدوة للبوهيميين. قالت السيدة هافل إن إرنست لم يكن ليفعل هذا، وأخبر إنيد أنه سيصوت من أجل بقاء الحانات؛ ولذا غضبت منه غضبا شديدا. أحزن بشدة عندما أتذكر الوقت الذي كانا فيه صديقين حميمين. اعتدت أن أراهما معا.» تحدثت سوزي بلطف شديد جعل زوجها يرمقها بنظرة سريعة تنم عن عاطفة خجلة. «هل تظنين أن كلود سرته زيارة ذلك القس لهما قبل مرور شهرين على زواجهما؟ هل سره جلوسه في الشرفة الأمامية بربطة عنقه البيضاء كل يوم بينما كان كلود بالخارج يحصد القمح؟»
كانت سوزي معتادة على النظر إلى الجانب المشرق من الأشياء؛ ومن ثم قالت: «حسنا، على أي حال، أظن أن كلود توفر لديه طعام أكثر لما كان يمكث القس ويلدون في المنزل. لن يطعم القساوسة بناء على حساب السعرات الحرارية، أو أيا كان ما تسميه إنيد. تحتفظ زوجة كلود بمطبخ رائع، ولكن يمكنني فعل ذلك أيضا، إذا لم أطبخ كثيرا مثلها.»
رمقها ليونارد بنظرة ذات معنى. «لا أظن أنك ستعيشين مع رجل يمكنه أن يعيش على الأطعمة المعلبة.» «نعم، لا أعتقد أن هذا سيحدث لي.» دفعت العربة تجاهه. «خذها، أيها الأب. إنها تريد اللعب معك.»
وضع ليونارد الطفلة على كتفه وحملها كي يريها الخنازير. ظلت سوزي تضحك مع نفسها، بينما كانت ترفع الأطباق عن الطاولة وتغسلها؛ لقد سرها بشدة ما قاله لها زوجها.
في وقت متأخر من ذلك المساء لما ذهب ليونارد إلى الحظيرة كي يطمئن أن كل شيء على ما يرام قبل الخلود إلى النوم، لمح شيئا أسود يمشي بطول الطريق السريع تحت ضوء القمر، بضوء أحمر يومض في الخلف. نادى على سوزي كي تأتي إلى الباب. «انظري، إنها على الطريق؛ ها هي عائدة للمنزل كي تخبر كلود بنجاح الاجتماع. ألن تكون هذه طريقة لطيفة لدخول زوجة مثلها؟» «ليونارد، ما دام كلود يعجبه ذلك ...»
اعتدل ليونارد الضخم في وقفته وقال: «يعجبه ؟ ما الذي يمكنه أن يفعله هذا الفتى البائس؟ إنه مغلوب على أمره!»
2
بعدما تركه ليونارد، رفع كلود بقايا العشاء، وسقى معترشة اليقطين قبل أن يذهب إلى الحلب. لم تكن معترشة يقطين على الإطلاق، ولكن قرع صيفي من النوع الملتوي الرقبة، المليء بالثآليل، البرتقالي اللون، وقد أصبح ممتلئا الآن بالقرع الناضج المعلق من خلال السيقان القوية بين الأوراق الخضراء الخشنة ونباتات المحلاق الشائكة. شاهد كلود نموها السريع وتفتح براعمها الصفراء، وشعر بالامتنان لشيء حقق بإخلاص الهدف المرجو منه. كان يكن الشعور نفسه لبقرته الصغيرة الجيرزي التي كانت تعود إلى المنزل كل يوم ممتلئة الضروع، وتعطيه حليبها عن طيب خاطر، وتبقي ذيلها بعيدا عن وجهه؛ وهذا الفعل لا يخرج إلا من بقرة سهلة الانقياد.
انتهى من الحلب، وجلس في الشرفة الأمامية، وأشعل سيجارا. بينما كان يدخن، لم يفكر في شيء إلا في الجو الهادئ ذي البرودة اللطيفة، ومدى حلاوة الجلوس ساكنا. كان القمر يسبح فوق حقول القمح العارية، كبيرا وساحرا مثل زهرة كبيرة. بعد مدة وجيزة، أخذ بعض مناشف الاستحمام، وعبر الفناء إلى طاحونة الهواء، وخلع ملابسه وقفز في حوض المياه القصديري المخصص للخيول. كانت المياه دافئة بفضل أشعة الشمس التي تتخللها طوال وقت ما بعد الظهيرة، ولم تكن أبرد كثيرا من جسمه. تمدد في الحوض، ووضع رأسه على الحافة المعدنية، واستلقى على ظهره، وأخذ ينظر لأعلى إلى القمر. كان لون السماء أزرق داكنا مثل المياه الزرقاء العميقة الدافئة، وبدا القمر كأنه يرقد فيها مثل زنبقة الماء التي تطفو للأمام بفعل تيار غير مرئي. كان المرء يتوقع أن يرى بتلاتها الكبيرة مفتوحة.
لسبب أو لآخر، بدأ كلود يفكر في الأزمان والبلدان السحيقة التي تألق في سماها. لم يعتقد قط أن الشمس قادمة من أراض بعيدة، أو أنها شاركت في حياة الإنسان في عصور أخرى. ففي نظره، كانت الشمس تدور حول حقول القمح. ولكن القمر بطريقة ما أتى من الماضي السحيق ودفعه إلى التفكير في مصر والفراعنة، وفي بابل والحدائق المعلقة. يبدو أنها أطلت، على وجه الخصوص، فوق حماقات البشر وخيباتهم؛ على مساكن العبيد في العصور القديمة ونوافذ السجون والقلاع التي يعذب فيها الأسرى.
داخل الأحياء أيضا، كان هناك أسرى يعذبون. نعم، بداخل الناس الذين تظلهم الشمس في مشيهم وعملهم، كان هناك أسرى يعيشون في الظلام ولا يرون قط من الولادة حتى الممات. كان القمر يطل بضوئه داخل هذه السجون، ويزحف السجناء إلى النوافذ، وينظرون بالخارج بعيونهم التي يملؤها الحزن إلى الكرة البيضاء التي لا تخفي أي أسرار وتفهم كل شيء. على الأرجح حتى فيمن يشبهون السيدة رويس وأخاه بايليس، كان يوجد بداخلهم شيء من هذا القبيل، ولكن تلك كانت فكرة مخيفة. طرد الفكرة بحركة سريعة من يده في الماء؛ وهو ما عكر صفوها، وجعلها تلمع وتتراقص باللونين الأسود والذهبي كأنها كائن حي فوق صدره. كانت الروح المسجونة في أمه ظاهرة للناس أكثر من ذاتها الجسدية. كثيرا ما كان يشعر بهذا عندما كان يجلس معها في مثل هذا الليلة من ليالي الصيف. ماهيلي أيضا كانت تمتلك واحدة، على الرغم من أن جدران سجنها كانت أشد، وكذلك جلاديس فارمر. أوه، نعم، كم من الضروري أن تتحدث جلاديس عن ذلك إلى كاتم أسرارها؟! يحتاج أصحاب الهمم العالية إلى هذا الوصال؛ هؤلاء الذين تبلغ أمانيهم من الجمال مبلغا لا ترتقي إليه أي تجارب في العالم. حتى أبناء القمر هؤلاء - بتطلعاتهم غير المحققة وأحلامهم العبثية - كانوا أرقى من أطفال الشمس. هذا المفهوم غمر قلب الفتى كأنه بزوغ قمر ثان للقمر، وتدفق في أوصاله قويا وغامضا، بينما كان يرقد ساكنا تماما خشية أن يفقده.
في النهاية، وصل الجسم المكعب الأسود الذي لفت انتباه ليونارد دوسن الغاضب، الذي كان يمشي ببطء على طول الطريق السريع. انتزع كلود ملابسه ومناشفه ومن دون أن ينتظر استخدام أي منها، جرى بجسده الأبيض وسط الفناء الأبيض الخالي. لما دخل المنزل وجد روب الحمام الخاص به، وصعد إلى الشرفة العلوية، وجلس على الأرجوحة الشبكية. وسرعان ما سمع اسمه ينادى عليه كأن المنادي يلفظه «كلد ». صعدت زوجته السلم وبحثت عنه. كان يجلس ساكنا وعيناه مغمضتان. ابتعدت عنه. ولما ساد السكون مرة أخرى، أطل إلى القرية الساكنة والقمر في السماء ذات اللون النيلي الغامق. كان لا يزال إلهامه يتملكه؛ مما جعل جسده بالكامل حساسا مثل القوس المشدود الوتر. في الصباح نسي أو خجل من الأفكار التي راودته في الليلة السابقة، وبدت حقيقية ونابعة من داخله بشدة. وفي الغالب تصالح مع فكرة أن الأفضل عدم التفكير في تلك الأشياء، وبالفعل تجنب التفكير فيها قدر المستطاع.
3
بعد انتهاء العمل الشاق في الحصاد، فغالبا ما كانت تقنع السيدة ويلر زوجها بأن يأخذها إلى منزل كلود الجديد عندما كان يخرج بعربته. وتسعد لأن إنيد لا تظلم صالتها مثلما كانت تفعل السيدة رويس. كانت الأبواب والنوافذ مفتوحة دائما، والمعترشات وزهور البتونيا الطويلة في أصص النافذة يداعبها النسيم، والغرف تملؤها أشعة الشمس، ومرتبة ترتيبا مثاليا. كانت إنيد ترتدي فساتين بيضاء في عملها وحذاء أبيض وجوربا أبيض. وتتدبر شئون المنزل بسهولة وبطريقة منهجية. في صباح يوم الإثنين، يشغل كلود الغسالة قبل أن يذهب إلى العمل، وبحلول التاسعة تكون الملابس منشورة على الحبل. كانت إنيد تحب الكي، ولم يسبق أن ارتدى كلود في حياته هذا الكم من القمصان النظيفة أو لبسها بهذا القدر من الرضا. أخبرته أنه ليس بحاجة إلى التوفير في قمصان العمل؛ فكي ستة قمصان مثل كي ثلاثة.
على الرغم من أن إنيد قطعت ما يزيد على ألفي ميل بالسيارة في غضون بضعة أشهر دعما لقضية حظر الكحوليات، فإنه لا يمكن لأحد اتهامها بالإهمال في بيتها. أما إهمالها لزوجها فهذا يعتمد على تصور المرء لما يستحقه. لما كانت السيدة ويلر ترى حسن إدارة منزلهما الصغير، وتلاحظ الجمال والجاذبية اللذين كانت تبدو عليهما إنيد عندما يزورهما أحد، كانت تتساءل عن سبب عدم شعور كلود بالسعادة. وكلود نفسه كان يتساءل عن سبب شعوره بهذا. قال لنفسه إن أحبطه زواجه في بعض الأمور، فينبغي أن يكون رجلا، وأن يستفيد من الجانب الجيد فيه. إن لم تكن زوجته تحبه، فالسبب أنه يرى الحب بطريقة وهي تراه بطريقة أخرى مختلفة تماما. كانت تفخر به، ويسرها دخوله عليها بعدما يأتي من العمل، كما كانت تحرص بشدة على راحته. تمقت إنيد بشدة فكرة احتضان الرجال؛ إذ ترى أنها شيء ابتليت به النساء مثل ألم الولادة؛ على الأرجح بسبب خطيئة حواء.
هذا النفور تعدى الجانب الجسدي؛ لقد كرهت الحماسة من أي نوع، حتى الحماسة الدينية. كانت تحب كلود قبل الزواج أكثر مما كانت تحبه الآن، ولكنها كانت ترجو إصلاح ذلك. ربما ستعود إلى حبه مرة أخرى بالدرجة نفسها في وقت ما. حتى القس ويلدون ألمح لها بضرورة التعامل بلطف مع الفتى؛ من أجل أن يهنآ بحياة سعيدة. وكانت تظن أنها كانت تفعل ذلك. لم تستطع فهم حالات الصمت الكئيب التي كانت تتملكه، والملاحظات الساخرة والحادة التي كان يقولها أحيانا، وانزعاجه الواضح إذا ذهبت إلى أرض الغابة المملوكة لوالده لتنضم إليه، ويكون هو مستلقيا هناك ساكنا بين الحشائش الطويلة بعد ظهيرة يوم الأحد.
اعتاد كلود أن يستلقي هناك ويشاهد السحب ويقول لنفسه: «هذه نهاية كل شيء بالنسبة إلي.» لا بد أن هناك آخرين غيره تعرضوا للإحباط، وكان يتساءل إلى أي مدى تحملوا ذلك في حياتهم. كان كلود فتى حسن التصرف لأنه مثالي؛ كان يتطلع إلى أن يكون سعيدا بشدة في الحب، وإلى أن يستحق تلك السعادة. لم يتصور قط أن يكون الأمر غير ذلك.
في بعض الأحيان الآن، عندما كان يخرج إلى الحقول في صباح أحد أيام الصيف المشرقة، كان يبدو له أن الطبيعة لا تبتسم له ساخرة فحسب، بل إنها كانت تضحك عليه بملء فيها. لقد جرح في كبريائه، بل حتى في مثله العليا وفي مفهومه الغامض لمعنى الجمال. كان بإمكان إنيد أن تحول حياته إلى جحيم من دون حتى أن تعرف. في تلك الأوقات، كان يكره نفسه لأنه يتقبل معاملتها الطيبة معه التي يبدو أنها مكرهة عليها. كان يرى أن هناك شيئا خطأ فيه.
كانت لا تزال هيئة إنيد جذابة بالنسبة إليه. كان يتساءل لماذا لا تتوافق مشاعرها مع جمالها الطبيعي وخفة حركتها، مع الوضعيات الجسدية الناعمة شبه المتلهفة التي يجدها عليها أحيانا عندما يفاجئها. عندما كان يدخل عائدا من العمل ويجدها جالسة في الشرفة، مسندة ظهرها إلى عمود، ومشبكة يديها حول ركبتيها، وخافضة رأسها قليلا؛ يكاد لا يصدق جفاف التعامل الذي يصادفه من جانبها طوال الوقت. هل كان بداخله شيء ينفرها منه؟ هل الأمر خطؤه في النهاية؟
لاحظ أن إنيد مندمجة مع والده أكثر من أي شخص آخر. كان السيد ويلر يأتي لزيارتها على نحو شبه يومي، حتى إنه كان يأخذها معه في جولة بعربته. كان بايليس يأتي من المدينة كي يقضي المساء في منزل كلود في بعض الأحيان. كان يحب عشاء إنيد النباتي؛ ولما كانت تعمل معه في حملة حظر الكحوليات، كانت تنعقد دائما بينهما مناقشات عمل. كان يرى بايليس أن الكحوليات لها أضرار اجتماعية إلى جانب أضرارها الصحية، وكان يكرهها بسبب المتعة التي تعطيها أكثر من أضرارها الصحية. كان كلود يرفض باستمرار المشاركة في الأنشطة التي تعقدها جمعية حظر الحانات، أو توزيع ما يسميه بايليس وإنيد «مطبوعاتنا».
في البلدان الريفية، لا يطلق مصطلح «المطبوعات» إلا على أنواع معينة من المواد المطبوعة، مثل مطبوعات «حظر الكحوليات»، ومطبوعات الصحة الجنسية، ومطبوعات علاج الحوافر والفم، في وقت تفشي وباء بين الماشية. لم ينزعج كلود من هذا الاستخدام المحدد للمصطلح، ولكن انزعجت والدته منه نظرا إلى أنها كانت معلمة تقليدية.
لم تفهم إنيد سبب عدم مبالاة زوجها بشأن قضية ملحة كالتي تدافع عنها، ولم يسعها إلا أن تنسب رد فعله إلى تأثير إرنست هافل عليه. في بعض الأحيان، طلبت من كلود أن يذهب معها إلى أحد اجتماعات الجمعية. لما كان يعقد الاجتماع في يوم الأحد، كان يتعذر بتعبه والرغبة في قراءة الجرائد. أما إذا عقد في أحد أيام العمل، فكان يتعذر بالعمل في الحظيرة أو أرض الغابة المملوكة لوالده. لقد أزال بالفعل بعض الغصون الميتة، وقطع شجرة ذبلت بسبب البرق . في غير هذه الحالات، ما كان ليسمح لأحد بقطع أشجار من هذه الأرض؛ إذ كان سيستميت في الدفاع عنها.
لقد كان يتخذ من هذه الأرض ملجأ له. في البقاع العشبية المفتوحة والمحاطة بأجمات من أشجار الدردار الآخذة في الاصفرار، كان يشعر بأنه غير متزوج وحر؛ كان له هناك مطلق الحرية في التدخين كيفما يشاء، وفي القراءة والحلم. لو اطلعت زوجته على بعض أحلامه لتجمد الدم في عروقها رعبا، ولو اطلعت أمه على بعضها لذاب قلبها شفقة عليه. أفضل ما كان يستطيع أن يفعله كلود هو أن ينام هناك تحت الشمس الحارة، وينظر إلى سماء الخريف الزرقاء الصافية، ويسمع حفيف الأوراق الجافة وهي تتساقط، وصوت السناجب الجريئة وهي تقفز من غصن إلى آخر، ويطلق العنان لخياله. كان يقول لنفسه إن أفكاره تخصه. إنه لم يعد صبيا. كان ينطلق إلى هذا المكان كي يقابل شابا يتمتع بخبرة ويثير الاهتمام أكثر منه، ولم يلزم نفسه بأي تنازلات.
4
من نافذتها في الطابق العلوي، كان بإمكان السيدة ويلر أن ترى كلود وهو يغدو ويروح في الحقل الغربي وهو يبذر بذور القمح. كانت تشعر بالاشتياق إليه. لم يكن يأتي إلى المنزل كثيرا. بدأت تتساءل إن كان من هؤلاء الذين لا تفارقهم التعاسة، ولكن أيا كانت ماهية إحباطاته، فإنه كان يحبسها بين جنبات صدره. لا بد للمرء أن يتعلم من دروس الحياة. وعلى الرغم من ذلك، كانت تحزن قليلا عندما تراه هادئا وغير مبال بشدة وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره.
بعد مشاهدته لبضع لحظات من النافذة، ذهبت إلى الهاتف واتصلت بمنزل كلود، وسألت إنيد إن كانت لا تمانع في أن يتناول كلود الغداء معها أم لا. وأردفت: «أشعر بالوحدة أنا وماهيلي مع السفر المتكرر للسيد ويلر.» «ولم لا يا أمي، بالطبع لا أمانع.» كانت إنيد تتحدث بابتهاج كما كانت تفعل دائما. «هل لديك من ترسلينه إليه كي يخبره بهذا؟» «أعتقد أنني سأذهب إليه بنفسي يا إنيد. إن الحقل ليس بعيدا إذا أخذت وقتي في السير إليه.»
غادرت السيدة ويلر المنزل قبيل الظهر، وتوقفت عند النهير كي تستريح قبل أن تصعد التل الطويل. عند حافة الحقل، جلست قبالة ضفة مغطاة بالحشائش، وانتظرت حتى وصول الخيول وهي تسير بتثاقل باتجاه خطوط الأرض الطويلة. رآها كلود وأوقف الخيول.
صاح: «هل من خطب يا أمي؟» «أوه كلا! سآخذك كي تتناول الغداء معي، هذا كل ما في الأمر. لقد اتصلت بإنيد وتحدثت معها بشأن هذا الأمر.» فك رباط الخيول، ونزل مع والدته من التل ومشيا خلف الخيول. وعلى الرغم من أنهما لم يكونا بمفردهما على هذا النحو منذ مدة طويلة، شعرت أنه من الأفضل عدم التحدث في مسائل شخصية. «ذكرني أن أعطيك مقالا يتحدث عن إعدام تلك الممرضة الإنجليزية.»
أجاب بفتور: «إيديث كافل؟ قرأت عن الموضوع. لا شيء يثير الدهشة فيه. ما داموا أغرقوا سفينة لوسيتاينيا، فلن يعجزهم إطلاق الرصاص على ممرضة إنجليزية.»
تمتمت والدته: «يساورني شعور أن هذه القضية مختلفة. إنها تشبه شنق جون براون. أتعجب من قدرتهم على إيجاد جنود لتنفيذ الحكم.» «أوه، أعتقد أن لديهم العديد من هؤلاء الجنود!»
نظرت إليه السيدة ويلر. «لا أعلم إلى متى يمكن أن نظل خارج الحرب، هل تعلم أنت؟ أظن أن جيشنا، حتى لو جرى إرساله، لن يكون له دور كبير في الحرب. يقولون لنا إننا يمكن أن نكون مفيدين أكثر بعملنا في الزراعة والصناعة مما لو شاركنا في الحرب. أرجو فقط ألا يكون هذا حديث حملات انتخابية. أنا لا أثق في الديمقراطيين.»
ضحك كلود. «عجبا، يا أمي، أظن أنه لا توجد مسائل حزبية في ذلك.»
هزت رأسها. «لم أجد حتى الآن أمرا عاما لا ينطوي على مسائل حزبية. حسنا، لا يسعنا إلا أن نقوم بواجبنا حسب ما يملى علينا ونثق في أن الرب سيجزينا خيرا. سينتهي عملك في الخريف بهذا الحقل، أليس كذلك؟» «بلى. سيتوفر لدي الوقت لإنجاز بعض الأعمال في المكان بعدها. سأبني مكانا جيدا لتخزين الثلج، وأكدس منه الذي سأحتاج إليه لهذا الشتاء.» «هل كنت تفكر في السفر إلى لينكن لبعض الوقت؟» «لا أظن ذلك.»
تنهدت السيدة ويلر. كشفت نبرته أنه أدار ظهره لمصادر بهجته القديمة وأصدقائه القدامى. «هل حجزت أنت وإنيد تذاكر لحضور البرنامج التدريبي الذي يعقد في فرانكفورت؟»
أجاب وقد نفد صبره قليلا: «أظن ذلك يا أمي. قلت لها إنها يمكنها حضوره عندما تكون في المدينة يوما ما.»
قالت والدته بمثابرة: «بالطبع، بعض البرامج ليست بالجودة المرجوة، ولكن ينبغي دعمها، وتحقيق أقصى استفادة مما يتاح لنا.»
كان يعلم - وكذلك والدته - أنه ليس جيدا جدا في هذا الأمر. توقفت خيوله عند خزان المياه. «لا تنتظرني. سألحق بك في غضون دقيقة.» ابتسم لما رأى ملامح الانزعاج على وجهها. «لا عليك يا أمي، يمكنني دائما اكتشافك عندما تحاولين الإيقاع بي. على أحدنا أن يكون ذكيا للغاية كي يخدع الآخر.»
نظرت إليه وعلى وجهها تلك الابتسامة التي تكاد تختفي معها عيناها. «أظن أنني كنت ذكية هذه المرة!»
قالت في نفسها، بينما كانت تسرع وتصعد التل، إنه لأمر رائع أن تكون معه ثانية، وأن تجذب انتباهه حتى.
لما كان كلود يغتسل من أجل العشاء، دخلت إليه ماهيلي وفي يدها صفحة من جريدة بها رسوم كاريكاتورية توضح وحشية الألمان. بالنسبة إليها، كانت تلك الرسوم كلها صورا فوتوغرافية؛ حيث إنها كانت لا تعرف طريقة أخرى لصنع الصور غير ذلك.
سألت: «سيد كلود، كيف لهؤلاء الألمان أن يصبحوا بهذه الصورة البشعة؟ عائلة يودر والألمان الذين يعيشون هنا ليسوا بذلك القبح.»
تلطف معها كلود وهو يخمد حماستها. «ربما القبيحون هم من يقاتلون، والقابعون في بيوتهم لطيفون، مثل جيراننا.»
تمتمت بلطف: «إذن لماذا لا يدعون جنودهم يبقون في بلدهم، ولا يحطمون ممتلكات الآخرين، ويتسببون في خروجهم من منازلهم؟ يقولون إن هناك أطفالا ولدوا وسط الثلوج الشتاء الماضي، ولا تمتلك أمهاتهم نارا للتدفئة ولا أي شيء آخر. في الحقيقة يا سيد كلود، لم يكن الأمر كذلك في حربنا؛ إذ لم يمس الجنود النساء والأطفال. لقد امتلأ منزلنا أكثر من مرة بجنود من الشمال، ولم يحدث قط أن حطموا أيا من أواني أمي الخزفية.» «سنتحدث عن ذلك مرة أخرى في وقت آخر يا ماهيلي. يجب أن أتناول الغداء وأعود إلى العمل. إن لم نزرع القمح في موعده، فكما تعلمين لن يجد هؤلاء الذين في الحرب شيئا يأكلونه.»
الجرائد ذات الصور كانت تعني الكثير لماهيلي؛ لأنها كانت تتذكر الحرب الأهلية بصعوبة. عندما كانت تنكب على صور المعسكرات وساحات القتال والقرى المدمرة، كانت توقظ فيها بعض الذكريات؛ سرايا المشاة التابعة لجيش «الاتحاد» المغبرة التي اعتادت أن تقف كي تشرب من الينبوع الجبلي البارد الخاص بوالدتها. كانت تراهم وهم يخلعون أحذيتهم ويغسلون أقدامهم الدامية في تيار الماء. والدتها أعطت قميصا نظيفا لجندي عانى بشدة من القمل، ولم تنس قط منظر ظهره؛ إذ كان لحمه «أشبه بلحم البقر في الأماكن التي كان قد هرش فيها.» خمسة من إخوانها كانوا بين صفوف الجيش الكونفدرالي. عندما أصيب أحدهم في معركة بول ران الثانية، اقترضت والدتها عربة وخيولا، وقطعت مسافة ثلاثة أيام إلى المستشفى الميداني، وأحضرت الفتى إلى المنزل في الجبل. كان بإمكان ماهيلي أن تتذكر كيف أن أخواتها الكبريات تبادلن الأدوار ليل نهار لصب الماء البارد من الينبوع على ساقه التي أصابتها الغرغرينا. لم يتبق أطباء في الجوار؛ ولما لم يستطع أحد بتر ساق أخيها، مات ميتة مؤلمة. كانت ماهيلي الشخص الوحيد في منزل ويلر التي رأت حربا بأم عينيها، وكانت تشعر أن تلك الحقيقة تمنحها أفضلية كبيرة.
5
مر على زواج كلود عام ونصف العام. في صباح أحد أيام ديسمبر، تلقى رسالة هاتفية من حماه يطلب منه القدوم إلى فرانكفورت من فوره. وجد السيد رويس قابعا في كرسي مكتبه يدخن كالمعتاد، وأمامه العديد من الخطابات المرسلة من دول أجنبية على المكتب. لما كان يخرجها من مظاريفها ويفرز الأوراق، لاحظ كلود مدى ارتعاش يديه.
أحد الخطابات، الذي كان مرسلا من رئيس الفريق الطبي في المدرسة التبشيرية التي تدرس فيها كارولين رويس، كان يعلم السيد رويس بأن ابنته مريضة مرضا شديدا، وأنها ترقد الآن في المستشفى التبشيري. كان سيتعين إرسالها إلى جزء آخر من البلاد مناسب أكثر لصحتها من أجل الراحة والعلاج، وما كانت لتستعيد صحتها بحيث تستطيع الرجوع إلى مهام عملها قبل عام أو أكثر. وإذا استطاع أحد من أفراد عائلتها أن يأتي كي يعتني بها، فسيزيل عن عاتق المسئولين في المدرسة حملا ثقيلا. وورد خطاب آخر من أحد المعلمين وخطاب ثالث غير مترابط من كارولين نفسها. وبعدما انتهى كلود من قراءة الخطابات، دفع السيد رويس علبة السيجار نحوه، وبدأ يتحدث بيأس عن بعثات التبشير.
قال شاكيا: «يمكنني الذهاب إليها، ولكن ما الفائدة من ذلك؟ أنا لست متعاطفا مع أفكارها، ولن أكسب سوى إزعاجها. أنت تعرف أنها عقدت النية على عدم الرجوع إلى الوطن. أعارض فكرة محاولة أحد أن يفرض طريقة تفكيره أو دينه على غيره. لست من ذلك النوع من البشر.» وجلس ينظر إلى سيجاره. وبعد فترة صمت طويلة، انفجر فجأة قائلا: «سمعت أذناي كلمة الصين كثيرا. يبدو أنه مكان بعيد يمكن الذهاب إليه للبحث عن المتاعب، أليس كذلك؟ ليس للمرء تحكم كبير في حياته يا كلود. إذا لم يتعذب بالفقر أو المرض، فإنه يتعذب بسبب بلد على الخريطة. كانت الأمور ستسير على ما يرام لولا سفرها إلى الصين ولولا بعض الأمور الأخرى ... لو كان على كاري التدريس من أجل التكفل بملابسها والمساعدة في سداد ديوني مثل بنات هاريسون العجوز، لكان ذلك سببا كافيا لمكوثها في الوطن. ولكن لا بد دائما أن يحدث شيء. لا أعلم هل أري إنيد هذه الخطابات أم لا.» «أوه، يجب أن تعرف بشأن هذه الخطابات يا سيد رويس. وإذا رأت ضرورة في الذهاب إلى كاري، فلا يصح أن أتدخل في الأمر.»
هز السيد رويس رأسه. «لا أعلم. لا أرى أنه من العدل أن تتسبب الصين في تكدير صفو حياتك أنت أيضا.»
لما وصل كلود إلى المنزل، قال وهو يسلم إنيد الخطابات: «انزعج والدك انزعاجا كبيرا بسبب هذا الأمر. لم ألاحظ عليه علامات التقدم في العمر كما لاحظتها اليوم .»
أخذت إنيد تطالع محتواها وهي تجلس على مكتبها الصغير المرتب، بينما تظاهر كلود بقراءة الجريدة.
لما انتهت قالت: «من الواضح أنني الشخص الذي يجب عليه الذهاب إلى هناك.» «هل تعتقدين أن على أحد أن يسافر إلى هناك؟ لا أرى ذلك ضروريا.»
ردت إنيد بحماسة: «عدم ذهاب أي منا سيبدو أمرا غريبا جدا.» «كيف سيبدو كذلك؟» «عجبا، سيبدو الأمر لزملائها كأن عائلتها ليس عندهم قلب.» «أوه، هل هذا كل ما في الأمر؟!» ابتسم كلود ابتسامة ماكرة، ورفع الجريدة مرة أخرى. «لا أعرف كيف سيرى الناس هنا سفرك وتركك لزوجك.» «يا لوضاعة ما تقول يا كلود!» نهضت بحدة ثم ترددت وتحيرت. «يعرفني الناس هنا جيدا. يبدو لي أنك قلق بشأن ما ستقوله والدتك.» ولما لم يرفع نظره عن الجريدة، دخلت هي إلى المطبخ.
جلس كلود ساكنا يستمع إلى حركات إنيد السريعة وهي تشغل الموقد لتحضر العشاء. بدأ الظلام يتسلل إلى الغرفة. في الخارج، تلاشت الحدود الفاصلة بين الحقول، وأصبحت كحقل واحد مع حلول المساء. كانت الأشجار الصغيرة في الفناء تنحني وتتمايل بشدة بسبب ريح شمالية قاسية. عادة ما كان يعتقد زهوا أن الشتاء يختفي على أعتاب منزله؛ إذ كان يخلو المنزل من الأركان الباردة والصالات المعرضة للهواء. لقد كان هذا هو عامهما الثاني في هذا المكان. عندما كان يقود سيارته إلى منزل أبيه، كانت فكرة بعده عن منزله لبعض الوقت تثير إحساسا بالبهجة بداخله، ولكنه كان لا يريد تركه الآن. كان هناك شيء يلين بداخله. كان يتساءل هل من فرصة للمحاولة مرة أخرى وتحسين الأوضاع بينهما أم لا. كانت إنيد تغني في المطبخ بصوت خفيض ووحيد بعض الشيء. نهض وذهب لالتقاط معطف ودلو الحلب. لما مر على زوجته بجوار النافذة، توقف ولف ذراعه حولها على نحو غريب.
نظرت إليه. «هذا جيد. لقد بدأت تستحسن الأمر، أليس كذلك؟ كنت أعتقد أن هذا سيحدث. يا إلهي، يا له من معطف كريه الرائحة يا كلود! يجب أن آتي لك بمعطف آخر.»
كان كلود يعرف تلك النبرة. وإنيد لا تشك في صواب قراراتها البتة. لما تأخذ قرارها، فلا شيء يجعلها تحيد عنه. مشى في الممر المؤدي إلى الحظيرة ويداه في جيبي سرواله، ودلوه البراق معلق على ذراعه. المحاولة مرة أخرى، فيم تعاد المحاولة؟ هل يمكن أن يتخلصا من الرتابة، البخل العاطفي، الكذب ...؟ حياته كانت تخنقه، ولم يمتلك الجرأة للفكاك منها. فلتذهب! فلتذهب حين تشاء! ... يا لبشاعة العالم الذي نعيش فيه! أم إنه كان بشعا بالنسبة إليه فقط؟ كل ما كانت تلمسه يده يفسد ... دائما ما كان يحدث ذلك.
لما جلسا على مائدة العشاء في الصالة الخلفية بعد ساعة، بدت إنيد مهمومة كأن قرارها هذه المرة كلفها شيئا ما. استهلت كلامها بابتهاج: «أعتقد أنك قد تقضي شتاء مريحا في منزل والدتك. لن يكون لديك الكثير لتهتم به كما تفعل هنا. لا ينبغي أن نقلق بشأن الأشياء هنا. سآخذ الأواني الفضية إلى أمي، ويمكننا ترك كل شيء في مكانه هنا. هل توجد مساحة لسيارتي في مأرب والدك؟ قد تستفيد منها.»
أجاب وهو يجاهد كي لا يظهر اهتمامه: «أوه كلا! لن أحتاج إليها. سأركنها في منزل الطاحونة.»
بدت جميع الأشياء المألوفة من حولهم تحت ضوء المصباح أكثر سكونا وجدية من المعتاد، وكأنها كانت تحبس أنفاسها.
أردفت إنيد بنبرة هادئة: «أعتقد أن الأفضل أن تأخذ الدجاج إلى منزل والدتك. ولكني لا أحب أن يختلط بدجاج البليمث روك الذي عندها؛ لا يوجد في دجاجي أي ريش أسود الآن. احرص على أن تطلب من والدتك أن تستخدم كل البيض، وألا تدع دجاجي يرقد على البيض في الربيع.»
رفع كلود نظره عن طبقه. «في الربيع؟» «بالطبع يا كلود. لا أظن أنني سأعود قبل الشتاء القادم، إن كان بإمكاني تقديم أي مساعدة لكاري المسكينة. ربما أحاول أن أعود من أجل موسم الحصاد، إن كان هذا سيناسبك أكثر.» نهضت كي تحضر الحلوى.
تمتم وهو ينظر إليها وهي آخذة في الاختفاء من أمامه: «أوه، لا تتعجلي الرجوع من أجل إرضائي!»
عادت إنيد وفي يدها البودينج الساخن وعدة قهوة العشاء. قالت: «أتانا هذا الظرف فجأة، ويجب أن نضع خططنا المتعلقة به من فورنا. أعتقد أن والدتك ستسعد أن تربي روز من أجلنا؛ إنها بقرة رائعة. وعندئذ يمكنك الحصول على كل القشدة التي تريدها.»
أخذ الفنجان الصغير الذي له حافة ذهبية الذي أعطته إياه. وقال بأسلوب فظ: «إذا كنت ستمكثين هناك حتى الخريف القادم، فسأبيع روز.» «ولكن لماذا؟ قد تستغرق وقتا طويلا حتى تعثر على بقرة أخرى مثلها.» «سأبيعها على أي حال. بالطبع الخيول ملك لأبي؛ فهو دفع ثمنها. إذا كنت ستخلين المكان، فقد يرغب في استئجاره. يمكن أن تجدي مستأجرا هنا عندما تعودين من الصين.» ابتلع كلود قهوته ووضع الفنجان جانبا، ودخل إلى الصالة الأمامية وأشعل سيجارا. ظل يروح ويجيء وعيناه لم تنزل عن زوجته التي كانت تجلس ساكنة على الطاولة في دائرة الضوء التي يبثها المصباح المعلق. أظهر رأسها الذي كان يميل إلى الأمام قليلا الجزء المنمق من شعرها البني. عندما كانت تقع في حيرة، لا يبرح وجهها أن يصبح أرفع وذقنها أطول.
قال كلود من الغرفة الأخرى: «إن لم تعودي تهتمين بالمكان، فلا تتوقعي مني أن أحضر إلى هنا وأعتني به. طوال الوقت الذي كنت تقضينه في حملاتك الخاصة بحظر الكحوليات، كنت أؤدي دور مدبر المنزل هنا.»
ضاقت عينا إنيد، ولكن لم تتورد وجنتاها. لم يسبق أن رأى كلود حمرة تعلو وجه زوجته الشاحب الناعم. «لا تكن كالأطفال. أنت تعلم أنني أهتم بهذا المكان لأنه بيتنا. ولكن لا يمكن لأي اهتمام أن يكون صحيحا إذا منعني من أداء الواجب. أنت بصحة جيدة، ويمكنك الذهاب إلى منزل والدتك. كاري مريضة وتعيش بين أناس غرباء.»
بدأت تجمع الأطباق. انتفض كلود من فوره إلى النور ووقف أمامها. «المسألة ليست متعلقة بسفرك فحسب. أنت تعلمين ما هي مشكلتي مع الأمر. مشكلتي هي رغبتك في السفر. أنت تسعدين بفرصة الوجود وسط هؤلاء الوعاظ، بزيفهم وكلامهم الناعم.»
رفعت إنيد الصينية. «إن كنت أسعد بذلك، فلأنك لا ترغب في أن نطبق المثل المسيحية في حياتنا. بداخلك شيء لا يتوقف طوال الوقت عن التمرد. ظهرت على الساحة العديد من المسائل المهمة منذ زواجنا، وأنت لم تبال بها أو سخرت منها جميعا. تريد أن تتبع حياة أنانية تماما.»
خرجت من الغرفة بحزم، وأغلقت الباب خلفها. لما عادت بعد فترة، لم تجد كلود فيها. لم تر قبعته ولا معطفه على المشجب؛ لا بد أنه خرج بهدوء من الباب الأمامي. جلست إنيد حتى الساعة الحادية عشرة ثم دخلت كي تنام.
ولما خرجت من غرفة نومها في الصباح، وجدت كلود نائما على الأريكة بملابسه وعليه معطفه. تملكتها لحظة من الرعب وانحنت عليه، ولكنها لم تشم أي رائحة خمر. بدأت تحضر الإفطار وأخذت تتحرك بهدوء.
بمجرد أن عقدت إنيد النية على السفر إلى أختها، لم تضيع وقتا. حجزت في باخرة وأرسلت برقية للمدرسة التبشيرية. غادرت فرانكفورت في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد. أوصلها كلود ورالف إلى دنفر حتى ركبت قطارا سريعا عابرا للقارات. لما عاد كلود إلى بلدته، انتقل إلى منزل والدته، وباع بقرته ودجاجه إلى ليونارد دوسن. لم يغادر المزرعة إلا نادرا كي يزور السيد رويس، وأصبح يتجنب رؤية جيرانه. شعر أنهم كانوا يتناقشون في أموره الشخصية، وبالطبع هم كانوا يفعلون ذلك. كانوا يقولون إن آل رويس وآل ويلر لا يستطيعون التصرف مثل الآخرين، ولم تكن ثمة فائدة من محاولتهم القيام بذلك. إذا بنى كلود أفضل منزل في المنطقة، فمن الطبيعي ألا يعيش فيه. وإن تزوج فليس من المستغرب أن تسافر زوجته إلى الصين!
في أحد الأيام التي ظل الثلج يهطل فيها، ولم يكن يوجد أحد في الجوار؛ أخذ كلود السيارة الكبيرة، وانطلق إلى منزله لقفله من أجل الشتاء ولإحضار الخضروات والفاكهة المعلبة المتبقية في القبو. وضعت إنيد أفضل بياضاتها في صندوقها الذي من خشب الأرز، ورتبت خزانات المطبخ والأوعية الخزفية على نحو دقيق قبل أن تنطلق في سفرها. بدأ في تغطية الكراسي المنجدة والمراتب بالملاءات، ولف السجاد، وأحكم غلق النوافذ. بينما كان يعمل على إنهاء هذه المهمة، تزايد خدر يديه وإرهاقهما، وأصبح قلبه مثل قطعة من الثلج. كل هذه الأشياء التي اختارها بعناية، والتي كان يفخر بها بشدة أصبحت الآن لا تعني له شيئا، وكأنها مجموعة من المعروضات المكدسة في محل لبيع الأشياء المستعملة.
كم أصبحت هذه الأشياء كئيبة وقبيحة في حد ذاتها بعد أن اختفى الشعور الذي كان يجعلها تبدو غالية! حطام حياة الإنسان كان أقل قيمة وأكثر قبحا من الأشياء الميتة والمتحللة في الطبيعة. إنه مثل القمامة ... الخردة ... لم يستطع عقله أن يتصور أي شيء يفضح أو يدين هكذا كل الأعمال المحزنة والغريبة والمتكررة باستمرار، التي تستمر بها الحياة يوما بعد يوم. إنها أعمال ليس لها معنى ... لما نظر إلى الخارج ورأى المشهد المظلم في ظل هطول الثلج الناعم، لم يستطع منع نفسه من الاعتقاد من أنه سيكون من الأفضل كثيرا إن استطاع أن ينام الناس مثلما تنام الحقول؛ بأن يلتحفوا بالثلج ويستيقظوا وقد التأمت جروحهم ونسيت خيباتهم. تساءل في نفسه كيف سيمكنه قضاء السنوات القادمة ما لم يستطع التخلص من الشعور الذي يمرض روحه.
في النهاية، أغلق الباب ووضع المفتاح في جيبه، وانطلق إلى أرض الغابة كي يدخن سيجارا ويودع المكان. هناك، ظل يتمشى بجدية لأكثر من ساعة تحت الأشجار الملتوية ذات أعشاش الطيور الفارغة بين تشعبات الجذوع. وفي كل مرة كان يصل فيها إلى فجوة في السياج، كان بإمكانه رؤية المنزل الصغير وقد استسلم بخنوع شديد للشعور بالوحدة. لم يعتقد أنه سيعيش في ذاك المنزل مرة أخرى. على أي حال، ما كان سيضيع المال الذي أنفقه أبوه على المكان؛ سيكون بإمكانه دائما تأجير المكان لمستأجر ميسور الحال؛ لأنه كان سيحصل على منزل مريح. العديد من الفتيان في البلدة كانوا يخططون للزواج في غضون عام. لم يكن هناك خوف على مستقبل المنزل. وماذا عنه؟ توقف عن المشي؛ تركت قدماه أثرا غير محدد الهدف والملامح فوق الثلوج. انزعج لما رأى آثار أقدامه. ماذا كان هذا؛ ما خطبه؟ لماذا - على الأقل - لم يستطع التوقف عن التأثر بالأشياء وعن الأمل؟ ما الذي كان يمكن أن يأمله الآن؟
سمع صوتا ينم عن بؤس؛ ولما نظر خلفه رأى قطة الحظيرة التي تركت لتلتقط قوتها بنفسها. كانت واقفة داخل السياج، ينفض فراؤها الشديد السواد ندف الثلج وقد رفعت إحدى قدميها، وأخذت تموء على نحو بائس. ذهب كلود إليها وحملها. «ماذا حدث يا بلاكي؟ هل قلت الفئران في الحظيرة؟ ستقول ماهيلي إنك شؤم. ربما هي على صواب، ولكن أنت ليس بيدك شيء، أليس كذلك؟» انسلت إلى جيب معطفه. ولاحقا، بينما كان يدخل إلى سيارته، حاول إخراجها من جيبه ووضعها في سلة، ولكنها تشبثت بمأواها في جيبه، وغرست مخالبها في البطانة. ضحك. وقال: «حسنا، إن كنت نذير شؤم، فأظن أنك ستمكثين معي دوما!»
نظرت إليه بعينيها الصفراوين المتحيرتين ولم تمؤ حتى.
6
خشيت السيدة ويلر ألا يشعر كلود بالراحة في بيته القديم بعدما أصبح له منزله الخاص. وضعت أفضل كرسي هزاز ومصباح قراءة في غرفة نومه. غالبا ما كان يقضي كل المساء في غرفته واضعا يديه فوق عينيه ويتظاهر بالقراءة. عندما كان يمكث في الطابق السفلي بعد العشاء، كانت والدته وماهيلي تشعران بالامتنان. بالإضافة إلى جمع صور الحرب، أصبحت ماهيلي الآن تبحث بين المجلات القديمة في العلية عن صور عن الصين. علمت في التقويم الكبير المعلق في المطبخ على اليوم الذي كانت ستصل فيه إنيد إلى هونج كونج.
عندما كانت تقف عند الحوض لغسيل أطباق العشاء، كانت تقول: «سيد كلود، إنه لوضح النهار الآن في المكان الذي توجد فيه السيدة إنيد، أليس كذلك؟ لأن الأرض كروية، وبسبب وجود الشمس فهي مشرقة هناك عند شعوب البشرة الصفراء.»
من وقت لآخر، عندما كانت تتشارك السيدة ويلر العمل مع ماهيلي، فإنها كانت تخبر ماهيلي عما تعرفه عن عادات الصينيين. لم تنشغل المرأة العجوز بأمرين غير شخصيين في وقت واحد من قبل، وكانت تعرف بصعوبة ما ينبغي فعله في تلك الحالة. كانت تتمتم لكلود ولنفسها في الوقت نفسه قائلة: «لا توجد حرب في المكان الذي توجد فيه السيدة إنيد، أليس كذلك؟ ولن تضطر إلى ارتداء ملابسهم لأنها امرأة بيضاء. ولن تدعهم يئدون بناتهم ولا يرتكبون هذه الأفعال الشنيعة التي دأبوا عليها، كذلك لن تدعهم يصلون لأصنامهم لأنها لا تنفعهم ولا تضرهم. أنا أحترم السيدة إنيد لأنها تعمل الأعمال الصالحة طوال الوقت.»
ولكن خلف هذه المونولوجات الدبلوماسية، كان لدى ماهيلي أفكارها الخاصة، وقد صدمت بشدة بسبب سفر إنيد. خشيت أن يقول الناس إن زوجة كلود قد «هربت وتركته»، وفي جبال فيرجينيا التي تشكلت فيها معاييرها الاجتماعية، يصبح الزوج أو الزوجة اللذان تفرقا هكذا محط سخرية كبيرة. وفي إحدى المرات أوقفت السيدة ويلر في ركن مظلم من القبو، وهمست إليها قائلة: «زوجة السيد كلود لن تمكث هناك مثل أختها، أليس كذلك؟»
إذا صادف أن وجد أحد أبناء آل يودر أو سوزي دوسن في بيت ويلر من أجل تناول العشاء، لا تبرح ماهيلي تذكر اسم إنيد بصوت عال. «زوجة السيد كلود تقطع البطاطس وهي نيئة في المقلاة وتقليها. إنها لا تغليها أولا مثلما أفعل. أعلم أنها طباخة ماهرة، أعلم أنها كذلك.» كانت تشعر أن ذكر اسم الزوجة الغائبة بالخير يلطف الأجواء.
أصبح إرنست هافل يزور كلود الآن، ولكن ليس كثيرا. شعر كلاهما أنه لا يليق تجديد الصداقة الحميمة القديمة. كان لا يزال إرنست يشعر بالحزن لعدم قدرته على تناول الجعة التي كان يحبها، وكأن إنيد انتزعت الإبريق من شفتيه بالإجراء الذي أسهمت في إقراره. كان يعتقد - مثل ليونارد - أن كلود خسر بزواجه، ولكنه بدلا من أن يشعر بالأسف تجاهه أراد أن يراه قد اقتنع بذلك ويلقى عاقبة قراره. لما تزوج كلود إنيد نشز عن المبادئ الليبرالية؛ ومن ثم كان عليه أن يدفع ثمن ردته. لما أتى إرنست لأول مرة كي يقضي إحدى الأمسيات في منزل آل ويلر بعد عودة كلود للعيش فيه، أخذ على عاتقه توضيح مسوغات اعتراضه على مسألة حظر الكحوليات. هز كلود كتفيه تعبيرا عن اللامبالاة. «هلا أنهينا النقاش؟ بطريقة أو بأخرى، إنها مسألة لا تهمني.»
شعر إرنست بالإهانة، ولم يكرر الزيارة لمدة شهر تقريبا؛ في الحقيقة لم يكررها حتى إعلان ألمانيا أنها ستكمل حرب الغواصات من دون قيد أو شرط؛ وهو ما دفع الجميع إلى النظر بريبة إلى جاره.
دخل إلى مطبخ آل ويلر في الليلة التي تلت وصول تلك الأخبار إلى البلدة الريفية، ووجد كلود وأمه جالسين على المائدة يقرأ كل منهما للآخر من الجرائد بصوت عال أوقاتا قصيرة. لم يكد إرنست يجلس حتى رن جرس الهاتف. رد كلود على المكالمة.
لما وضع السماعة، قال: «إنه عامل الإبراق في فرانكفورت. أبلغني رسالة من أبي أرسلها من مدينة راي يقول فيها: «سأعود إلى المنزل بعد غد. اقرءوا الصحف.» ما الذي يعنيه بذلك؟ ماذا يظن أننا نفعل؟» «يعني أنه يظن أن وضعنا بالغ الخطورة. لا يتوقع منه إرسال برقية إلا في الشدائد.» نهضت السيدة ويلر ومشت إلى الهاتف بذهن شارد، وكأن بإمكانه أن يفصح أكثر عن حالة زوجها المزاجية. «ولكن يا لها من رسالة غريبة! إنها موجهة لك أيضا يا أمي، وليس لي فحسب.» «يعلم شعوري إزاء ذلك. بعض أهل والدك كانوا من معتادي ركوب البحر من بورتسمث. إنه يعلم ما يعنيه إخبار سفننا بالأماكن التي يمكنها أو التي لا يمكنها الذهاب إليها عبر المحيط. لا يمكن أن توجه واشنطن هذه الإهانة لنا. التفكير بتلك الطريقة في هذا الوقت - من بين كل الأوقات - يستدعي أن تئول إدارة البلاد إلى الديمقراطيين!»
ضحك كلود. «اجلسي يا أمي. انتظري يوما أو يومين. امنحيهم وقتا.»
قال إرنست بكآبة: «ستنتهي الحرب قبل أن تستطيع واشنطن فعل شيء يا سيدة ويلر، ستموت إنجلترا من الجوع وستسحق فرنسا وتسوى بالأرض. سينزل كل الجيش الألماني على الجبهة الغربية الآن. ما الذي يمكن أن يفعله هذا البلد؟ في رأيك، كم يستغرق تكوين جيش؟»
توقفت السيدة ويلر للحظات عن مشيها المضطرب، وتلاقت عيناها بنظرته الكئيبة. «لا أعلم شيئا يا إرنست، ولكني أومن بالكتاب المقدس. أومن أننا سنتغير في طرفة عين!»
نظر إرنست إلى الأرض. كان يحترم الإيمان . وعلى حد قوله، لا بد من احترام الإيمان أو احتقاره؛ لأنه لا يوجد شيء ثالث يمكن فعله.
جلس كلود متكئا بمرفقيه على المائدة. «نعود دوما إلى الموضوع ذاته يا أمي. حتى لو كان بإمكان جيش بدائي أن يفعل أي شيء، فكيف يمكننا الوصول إلى هناك؟ ها هو أحد المسئولين من القوات البحرية يقول إن الألمان يطلقون الغواصات بمعدل ثلاث غواصات في اليوم. من المحتمل ألا ينطلقوا إلى هنا إلى أن يصبح لديهم غواصات كافية للسيطرة على المحيط.» «لا أدعي القول إننا يمكننا تحقيق شيء يا بني. ولكن يجب أن نتخذ موقفا محددا، ولو من الناحية الأخلاقية. ما فتئوا يخبروننا طوال الوقت أنه يمكننا مساعدة قوات الحلفاء خارج ميادين القتال أكثر من داخلها؛ لأنه يمكننا إرسال الذخائر والمؤن. إذا وافقنا على سحب تلك المساعدة، فماذا سيكون موقفنا؟ إننا بمساعدة ألمانيا نبدو طوال الوقت كأننا نهتم بمصلحتنا الخاصة! إن كان البديل الوحيد أمامنا هو الغرق في عمق البحر، فالأفضل أن نكون هناك!» «أمي، اجلسي من فضلك! لا يمكننا حل المسألة الليلة. لم أرك منزعجة بشدة إلى هذه الدرجة من قبل.» «أبوك منزعج بشدة هو الآخر، وإلا لما أرسل قط تلك البرقية.» أخذت السيدة ويلر سلة أدوات الخياطة الخاصة بها على مضض، وتبادل الفتيان أطراف الحديث بروح الصداقة القديمة الهادئة.
لما غادر إرنست، مشى كلود معه مسافة بعيدة حتى وصل إلى منزل آل يودر، ثم عاد عبر الحقول التي يغطيها ركام الثلوج تحت التألق البارد لنجوم الشتاء. لما كان ينظر إلى تلك النجوم، كان يشعر أكثر من أي وقت مضى أن لا بد أن يكون لها علاقة بمصير الأمم، وبالأشياء غير المفهومة التي كانت تحدث في العالم. في هذا الكون المنظم، لا بد من وجود عقل يمكنه حل لغز هذا الكوكب غير السعيد، ويعلم ما كان يتشكل في الخسوف المظلم الذي كان يحدث في تلك الساعة. كان هناك سؤال معلق في الهواء؛ فوق كل هذه الأرض الهادئة من حوله ومن فوقه، ومن فوق أمه حتى. إنه كان يخاف على بلده، كما كان في تلك الليلة التي كان فيها على درج مبنى المجلس التشريعي في دنفر، في الوقت الذي كان لا يتوقع فيه اندلاع هذه الحرب التي كانت مخفية في رحم الزمان.
لم ينتظر كلود وأمه مدة طويلة. بعد ثلاثة أيام، علما أن سفير ألمانيا طرد واستدعي السفير الأمريكي من برلين. في نظر كبار السن، مثل هذه الأحداث كانت مسائل محل تفكير ونقاش، ولكن كان يراها الفتية أمثال كلود مسائل حياة وموت؛ أي مصيرية.
7
في صباح يوم عاصف، أخذ كلود العربة الكبيرة إلى المدينة لإحضار حمولة أخشاب. بدأ الجليد يذوب على الطرق، وتلطخت القرية باللون الأسود، وبدا منظرها متسخا. كانت تقبع قشور الثلج الرمادية هنا وهناك على الطين الأسود، مثقبة مثل قرص العسل، وتبرز من خلالها سيقان الأعشاب الرطبة. لما كانت العربة تجلجل على الأرض المرتفعة التي توجد فوق فرانكفورت تماما، لاحظ كلود علما جديدا لامعا يرفرف فوق قبة المدرسة. لم يسبق أن رأى العلم من قبل، وكان يعني سوى يوم الرابع من يوليو، أو تجمهرا سياسيا. رأى العلم اليوم كأنه يراه للمرة الأولى؛ لا تجمعات، لا ضوضاء، لا خطباء؛ بقعة ذات ألوان مضطربة ترفرف في سماء مارس الماطرة.
حاد عن طريقه من أجل أن يمر بالمدرسة الثانوية، وأوقف الخيول، وانتظر عدة دقائق حتى دق جرس الظهيرة. كان الأولاد والبنات الكبار يخرجون أولا ومعهم حشد من معاطف المطر والشماسي. بعد قليل، رأى جلاديس فارمر - لابسة قبعة ومعطف مطر مصنوعين من المشمع، وكان المعطف أصفر اللون - وأشار إليها. أتت إلى العربة.
قال وهو ينظر تجاه القبة: «أحب تلك الزينة.» «إنه علم من الحرير اشتراه الأولاد الذين في السنة النهائية من أموال المعونة الرياضية التي يحصلون عليها. نصحتهم ألا يرفعوه في هذا المطر، ولكن أخبرني رائد الفصل أنهم اشتروا ذلك العلم من أجل العواصف.» «اركبي وسآخذك إلى المنزل.»
أمسكت بيده الممدودة، ووضعت قدمها على محور العجلة، وصعدت وتسلقت حتى وصلت للمقعد الذي بجانبه. صاح كلود في الخيول كي تمشي. «إذن، يشعر الأولاد في المدرسة الثانوية كأنهم في حرب هذه الأيام، أليس كذلك؟» «بشدة. ما رأيك؟» «أعتقد أن الفرصة ستتاح أمامهم للتعبير عن مشاعرهم.» «هل تظن ذلك يا كلود؟ يبدو لي أن هذا غير حقيقي إلى حد بعيد.» «لا أرى شيئا آخر يبدو حقيقيا جدا أيضا. أنا ذاهب لأخذ حمولة أخشاب، ولكن لا أتوقع بتاتا أن أدق مسمارا فيها. هذه الأشياء لا تهم الآن. لا يوجد سوى شيء واحد علينا إنجازه، ولا يهم سوى شيء واحد؛ إننا جميعا نعلم ما هو.» «تشعر أنه يقترب كل يوم أكثر من ذي قبل؟» «كل يوم.»
لم ترد جلاديس بشيء. لم تفعل سوى أن نظرت إليه بجدية بعينيها البنيتين الهادئتين الجياشتين بالعاطفة. توقفا أمام المنزل المنخفض التي كانت نوافذه ممتلئة بالزهور. أمسكت بيده وقفزت على الأرض، وظلت ممسكة بها للحظات حتى ودعته. عاد كلود بالعربة إلى مخزن الأخشاب. في مكان مثل فرانكفورت، فتى زوجته في الصين ويذهب لرؤية جلاديس ما كان ليستطيع النجاة من القيل والقال.
8
في شهر مارس البارد، كان السيد ويلر يذهب إلى المدينة في عربته كل يوم تقريبا. لأول مرة في حياته، كان يشعر بقلق خفي. لم يكن راضيا عن الفرد الوحيد في عائلته الذي لم يسبب له من قبل أدنى مشكلة، ألا وهو ابنه بايليس.
كان بايليس من دعاة السلام، وما برح يخبر الناس أن لو بقيت الولايات المتحدة خارج الحرب، وجمعت ما كان يهدره الأوروبيون، فسرعان ما ستستحوذ فعليا على ثروة العالم. عبارات بايليس كان يتخللها شيء من المنطق زعزع افتراض نات ويلر الراسخ أن علينا قبول كل وجهات النظر. لما حارب بايليس الكحوليات والسجائر، اكتفى ويلر بالضحك. إن كون ابنه من أنصار حظر الكحوليات لهو مزحة يمكن أن تثير إعجابه. ولكن موقف بايليس في الأزمة الحالية أزعجه. ويوما بعد يوم، بدأ يجلس في مقر عمل ابنه يقاطع مناقشاته بقصص مضحكة. لم يذهب بايليس إلى المنزل مطلقا في ذلك الشهر. قال لوالده: «لن أذهب؛ فأمي عنيفة جدا. الأفضل ألا أذهب.»
كان كلود ووالدته يطلعان على الجرائد في المساء، ولكنهما كانا لا يتناقشان كثيرا فيما كانا يقرآنه لدرجة أن تساءلت ماهيلي قلقة هل كان لا يزال القتال قائما أم لا. عندما تكون ماهيلي وكلود معا بمفردهما بضع لحظات، فإنها كانت تخرج صور ملاحق يوم الأحد الخاصة بالبلدان المنكوبة وتسأله عما سيكون مصير عائلة ما مصورة وسط أنقاض منزلها، أو امرأة عجوز كانت تجلس على قارعة الطريق ومعها متاعها. «إلى أين ستذهب، على أي حال؟ انظر يا سيد كلود، إنها تحمل معها إناء الطهي الحديدي المثقوب القديم الخاص بها طوال الطريق!»
أربكتها صور الجنود الذين يرتدون الأقنعة الواقية من الغازات السامة، لم تكن الغازات موجودة في أيام الحرب الأهلية؛ ومن ثم توصلت إلى قناعة مفادها أن تلك الأقنعة كان يرتديها الطهاة في الجيش لحماية أعينهم وقت تقطيع البصل! قالت: «عليهم تقطيع كمية كبيرة من البصل؛ وهذا سيتعب أعينهم إن لم يرتدوا شيئا يقيها.»
في صباح الثامن من أبريل، نزل كلود إلى الطابق السفلي مبكرا، وبدأ في تنظيف حذائه العالي الرقبة الذي علق فيه طين جاف. وجد ماهيلي جالسة القرفصاء بجانب موقدها تنفخ وتنفث فيه. كانت النار دائما بطيئة الاشتعال في الطقس البارد. أخذ كلود سكينا قديمة وفرشاة، ووضع قدمه على كرسي بجانب النافذة الغربية، وبدأ في كشط الطين من إحدى فردتي حذائه. قال لماهيلي صباح الخير، دون أن يضيف أي شيء آخر. لم يأخذ قسطا كافيا من النوم وبدا شاحبا.
تذمرت ماهيلي قائلة: «سيد كلود، هذا الموقد ليست نيرانه جيدة مثل الفرن القديم الذي أخذه السيد رالف مني. لا أستطيع طهي أي شيء به. ربما ستنظفه لي يوم الأحد القادم.» «سأنظفه لك اليوم، إذا أردت. لن أكون هنا الأحد القادم. أنا مسافر.»
شيء في نبرة صوته جعل ماهيلي تنهض، وعيناها ترمشان بسبب الدخان، وترمقه بنظرات حادة. سألت بقلق: «هل ستسافر إلى حيث تعيش السيدة إنيد؟» «كلا، يا ماهيلي.» وضع فرشاة الأحذية جانبا، ووقف وإحدى قدميه على الكرسي ومرفقه على ركبته، وأخذ ينظر من النافذة كأنه نسي نفسه. «لا، لن أسافر إلى الصين. سأسافر للانضمام إلى الحرب ضد الألمان.»
كان لا يزال يحدق للخارج في الحقول الرطبة. وقبل أن يكون بإمكانه أن يوقفها، وقبل أن يعلم ما كانت تنوي فعله؛ أمسكت يده التي لا تستحق التقبيل وقبلتها.
انتحبت قائلة: «كنت أعلم أنك ستنضم إلى الحرب. كنت أعرف دائما أنك ستفعل هذا، يا فتاي اللطيف! ماهيلي العجوز كانت تعلم بذلك!»
بدا على كل ملامح وجهها الناظر لأعلى إليه الانفعال الشديد؛ فمها وحاجباها وحتى التجاعيد على جبهتها من الأسفل بدا عليها الانفعال والتشنج. شعر كلود بضيق في حلقه وهو ينظر إلى ذلك الوجه بحنان؛ خلف العينين الشاحبتين وتحت جبهتها الصغيرة حيث لا يوجد مجال لأفكار عديدة، كانت هناك فكرة تجاهدها وتعذبها. وهي الفكرة نفسها التي كانت تعذبه.
تمتم وهو يربت على ظهرها ويذهب بعيدا: «ستكونين بخير يا ماهيلي. فلتسرعي الآن في إعداد الإفطار.»
همست: «هل أخبرت والدتك عن الأمر؟» «كلا، ليس الآن. ولكنها أيضا ستكون بخير.» أخذ قبعته ونزل إلى الحظيرة كي يعتني بالخيول.
لما عاد كلود وجد العائلة مجتمعة على مائدة الإفطار. تسلل إلى كرسيه وشاهد والدته وهي تحتسي أول كوب من القهوة. ثم خاطب والده. «أبي، لا أرى فائدة من انتظار التجنيد. إن لم يكن لك حاجة إلي، فأود أن أنضم إلى أحد معسكرات التدريب في أي مكان. أعتقد أنني قد أحظى بفرصة تكليفي بمهمة قتالية.» «ربما.» صب السيد ويلر قدرا كبيرا من شراب القيقب على فطائره. «ما رأيك في الأمر، يا إيفانجلين؟»
وضعت السيدة ويلر السكين والشوكة بهدوء. رمقت زوجها بنظرة يشوبها انزعاج غريب، بينما لم تسكن أصابعها عن الحركة باضطراب فوق مفرش المائدة.
أردف كلود مسرعا: «أعتقد أنني قد أسافر إلى أوماها غدا، وأعرف أين تقع معسكرات التدريب، وأتحدث مع المسئولين في مراكز التجنيد التطوعي.» ثم أضاف بصوت منخفض: «بالطبع قد لا يريدونني. أنا ليس لدي أدنى فكرة عن المتطلبات الخاصة بهذا الأمر.» «ولا أنا أيضا أعرف الكثير عن ذلك.» لف السيد ويلر الفطيرة العلوية ورفعها إلى فمه. بعد لحظات من المضغ، قال: «هل عزمت على السفر غدا؟» «أود ذلك. لن يشغلني أمر الأمتعة؛ لا أريد سوى بعض القمصان والملابس الداخلية في حقيبتي. إن كانت الحكومة بحاجة إلي فستعطيني ملابس.»
دفع السيد ويلر طبقه للخلف. «حسنا، يستحسن أن تخرج معي الآن كي نلقي نظرة على القمح. لا أعلم، ولكن الأفضل أن نحرث القطعة الجنوبية هذه ونزرعها ذرة. لا أعتقد أنها ستجني محصولا أفضل من ذلك.»
لما خرج كلود ووالده من الباب، نهض دان بحماسة أكبر من المعتاد، وخرج وراءهم. لم يرد أن يترك وحده مع السيدة ويلر. ظلت قابعة في نهاية مائدة الإفطار التي كانت عليها أطباق الحلوى. لم تذرف عيناها الدموع. انسدلت غمامة على عينيها. انحنى ظهرها بشدة كأن حملا ثقيلا كان جاثما فوقه. رفعت ماهيلي الأطباق بهدوء.
في الحقول الطينية، أنهى كلود حديثه مع والده. قال إنه يريد الذهاب دون أن يودع أحدا. وقال متوردا: «تعلم أني عادة ما أسير في طريق ولا أكمله حتى النهاية. لا أريد الحديث عن هذا الأمر حتى أتأكد من الالتحاق به. ربما أرفض لسبب أو لآخر.»
ابتسم السيد ويلر. «لا أظن ذلك. وعلى أي حال، سأطلب من دان أن يبقي فمه مغلقا. هلا ذهبت إلى منزل ليونارد دوسن وأحضرت مفتاح الربط الذي اقترضه؟ أوشك الوقت على الظهيرة، وعلى الأرجح ستجده في المنزل.» كلود وجد ليونارد الضخم يسقي خيوله عند طاحونة الهواء. لما سأله ليونارد عن رأيه في خطاب الرئيس، قال من فوره إنه ذاهب إلى أوماها من أجل التجنيد. مد ليونارد يده وسحب الذراع التي كانت تتحكم في العجلة شبه الثابتة. «يستحسن أن تنتظر بضعة أسابيع وسأذهب معك. سأحاول الانضمام إلى قوات البحرية. إنهم يعجبونني كثيرا.»
وقف كلود على حافة الخزان، وكاد أن يسقط إلى الخلف. «عجبا، من أجل ماذا؟»
رمقه ليونارد بنظرة فاحصة. «يا إلهي، كلود، لست الشخص الوحيد هنا الذي يتخذ القرارات المهمة في عائلته! هل تسأل عن السبب؟ حسنا، سأخبرك»، ورفع ثلاث أصابع حمراء كبيرة مهددا: «بلجيكا، لوسيتينيا، إيديث كافل. هذه القذارة تزعجني. سأزرع الذرة وسيعتني والدي بسوزي حتى عودتي.»
التقط كلود نفسا طويلا. «حسنا يا ليونارد، لقد خدعتني. أنا صدقت كل ذاك الهراء الذي أخبرتني إياه بشأن عدم الاهتمام بمصير أي من القوتين المتنازعتين.»
اعترض ليونارد: «وأنا لا أهتم ولو بمقدار ذرة! ولكن لكل شيء حدا. كنت مستعدا للذهاب منذ حادثة السفينة لوسيتينيا. لم يعد هذا المكان يمنحني أي قدر من الإحساس بالرضا. وتشعر سوزي بالشيء نفسه.»
نظر كلود إلى جاره الضخم. «حسنا، أنا ذاهب غدا يا ليونارد. لا تخبر أهلي بهذا، ولكن إن لم أستطع التجنيد في الجيش، فسأتقدم إلى البحرية. فهم لا يرفضون أبدا أي رجل صحيح وقوي. لن أعود إلى هنا.» مد يده وأخذها ليونارد بقوة. «حظ سعيد يا كلود. ربما نلتقي في أراض أجنبية. ولن تكون هذه مزحة! أرسل تحياتي إلى إنيد عندما تراسلها. دائما ما كنت أعتقد أنها فتاة جيدة، على الرغم من أني لا أوافقها في مسألة حظر الكحوليات.» عبر كلود الحقول شارد الذهن، ومن دون أن ينظر إلى أين يذهب. وتحولت قدرته على الرؤية إلى داخله الذي كان يرى فيه مشاهد وأحداثا خيالية بالكامل حتى الآن.
9
في يوم مشرق من أيام يونيو، ركن السيد ويلر سيارته في صف السيارات الواقف أمام مبنى المحكمة الجديد المبني من الطوب المضغوط في فرانكفورت. كان يقبع مبنى المحكمة في ميدان مفتوح، ويحيط به بستان من أشجار الحور القطني. اجتز المرج منذ مدة وجيزة، وكانت الزهور يانعة في أحواضها. عندما دخل السيد ويلر إلى قاعة المحكمة بالطابق العلوي، وجدها ممتلئة بالفعل حتى نصفها بالمزارعين وأهل المدينة الذين كانوا يتحدثون بنبرة منخفضة، بينما كان يسمع طنين ذباب الصيف داخل النوافذ المفتوحة وخارجها. القاضي، الذي كانت إحدى يديه مبتورة، وشعر رأسه وسالفاه بيضا، كان يجلس على مكتبه يكتب بيده اليسرى. كان من أوائل المستوطنين في مقاطعة فرانكفورت، ولكن لما ينظر المرء إلى معطفه ذي الذيل المشقوق وسلوكياته الدمثة، قد يعتقد أنه أتى من كنتاكي البارحة وليس منذ ثلاثين عاما. في ذلك الصباح، كان عليه أن ينظر في اتهام بعدم الولاء ضد اثنين من المزارعين الألمان. أحد المتهمين كان هو أوجست يودر - أقرب جار إلى عائلة ويلر - والآخر هو ترويلس أوبرليس - وهو ثري ألماني يعيش في الجزء الشمالي من المقاطعة.
كان يمتلك أوبرليس مزرعة جميلة، ويعيش في بيت أبيض كبير مقام على التل، يتضمن بستانا جميلا وصفوفا من خلايا النحل وحظائر ومخازن حبوب وعنابر دواجن. كان يربي الديوك الرومية والحمام البهلوان، وكان عدد كبير من الإوز والبط يسبح في برك الماشية الخاصة به. اعتاد أن يفتخر بأن لديه ستة أولاد «مثل الإمبراطور الألماني». كان يفتخر جيرانه بمنزله، وكانوا يرونه للغرباء. كانوا يذكرون كيف أن أوبرليس أتى إلى مقاطعة فرانكفورت فقيرا وجمع ثروته بالكد والذكاء. لقد عبر المحيط مرتين كي يزور وطنه الأصلي؛ ولما كان يعود إلى منزله في البراري فإنه يحضر هدايا للجميع؛ للمحامي ومدير البنك الخاصين به، والتجار الذين يتعامل معهم في فرانكفورت وفيكونت. كل واحد من جيرانه كان يحتفظ في صالونه بقطعة منسوجة أو منحوتة خشبية أو لعبة ميكانيكية رائعة أحضرها له أوبرليس من ألمانيا. كان أوبرليس يكبر يودر في العمر، وكانت لحيته القصيرة بيضاء ومجعدة مثل شعر رأسه، وعلى الرغم من قصر قامته، فإن وجهه الأحمر المنتفخ وعينيه الشديدتي الزرقة وبعض التبختر البادي على هيئته أعطته هالة من الأهمية. كان يحب التباهي، وكان سريع الغضب، ولكن حتى اندلاع الحرب في أوروبا، لم يدخل أحد قط في مشكلة معه. ولكن بعد اندلاعها، كان دائم الانتقاد والشكوى؛ كان يرى أن كل شيء كان أفضل في بلده الأم.
أتى السيد ويلر إلى المدينة وهو على استعداد لتقديم يد المساعدة إلى يودر إن احتاج إليها. إنهما كانا يعملان في حقولهما المتاخم بعضها لبعض طيلة ثلاثين سنة حتى الآن. فوجئ عندما وقع جاره في مشكلة. لم يكن متكبرا مثل أوبرليس، ولكنه كان رجلا ضخما وهادئا بوجه جاد وملامح كبيرة، وفم متحفظ لا يفتح إلا نادرا. بدا وجهه كأنه قطع من حجر رملي أحمر؛ إذ بدت عليه علامات الانزعاج والضيق الشديدين. جلس ويلر وأوبرليس على كرسيين خشبيين خارج حدود مكتب القاضي.
الآن، توقف القاضي عن الكتابة، وقال إنه سينظر في التهم الموجهة إلى ترويلس أوبرليس. أدلى العديد من الجيران بشهادتهم بالتناوب؛ كانت شكاويهم متضاربة وشبه مضحكة. قال أحد الشهود إن أوبرليس قال إن الولايات المتحدة ستهزم، وإن هذا سيكون شيئا جيدا؛ فرغم أن أمريكا بلد عظيم فإنها يديرها حمقى، وأفضل ما يمكن أن يحدث لها هو أن تحكمها ألمانيا. وأضاف أن أوبرليس منذ أن كون ثروته في هذا البلد ...
هنا قاطعه القاضي. «أرجو أن تكتفي بالعبارات التي أدلى بها المدعى عليه في حضورك، والتي تعتبرها دليلا على عدم ولائه.» لما كان الشاهد يدلي بشهادته، خلع القاضي نظارته ووضعها على المكتب، وبدأ يلمع عدستيها بمنديل حريري ثم جربهما، ثم مسحهما مرة أخرى كأنه كان يريد أن يرى بوضوح.
شاهد ثان سمع أوبرليس وهو يقول إنه يتمنى أن تغرق الغواصات الألمانية بعض سفن نقل الجنود؛ إذ هذا من شأنه أن يخيف الأمريكان، ويعلمهم البقاء في منازلهم والاهتمام بشئونهم الخاصة. شكا شاهد ثالث أن الرجل العجوز في عصر أيام الأحد كان يجلس في الشرفة الأمامية الخاصة به ويعزف أغنية «حراس نهر الراين» على ترومبون منزلق الأمر الذي كان يتسبب في انزعاج كبير لجيرانه. هنا، ضرب نات ويلر ركبته وانطلق في قهقهة عالية، وسرى ضحك مكتوم في قاعة المحكمة. بدت وجنتا المدعى عليه المنتفختان الحمراوان كأن الخالق خلقهما بهذا الشكل كي تنفخ في هذه الآلة ذات الصوت المدوي.
لما سئل المتهم العجوز هل لديه ما يقوله بشأن هذه الاتهامات، نهض ورفع كتفيه ورمق قاعة المحكمة بنظرة تحد. وأعلن بصوت عال: «يمكنكم الاستيلاء على أملاكي وسجني، ولكني لن أقول شيئا، ولن أرجع عن شيء قلته.»
نظر القاضي إلى محبرته مبتسما. «أنت لا تفهم طبيعة تلك المناسبة يا سيد أوبرليس. لم يطلب منك التراجع عما قلته. كل المطلوب منك أن تتوقف عن التصريحات التي تعبر عن عدم الولاء؛ وهذا من أجل حمايتك وراحتك تماما، مثل أنه من أجل مراعاة مشاعر جيرانك. سأنظر الآن الاتهامات الموجهة إلى السيد يودر.»
صرح شاهد أنه سمع السيد يودر يتمنى الهلاك للولايات المتحدة بعد أن أصبحت تمشي في ذيل إنجلترا. لما قال الشاهد ليودر إن رصاصة في صدر القيصر من شأنها أن تنهي الحرب، رد يودر أن الأقربين أولى بالمعروف، وتمنى أن لو يطلق أحد رصاصة على صدر الرئيس الأمريكي.
لما نودي على يودر، نهض ووقف مثل الصخرة أمام القاضي. «ليس لدي أقوال. الاتهامات صحيحة. ظننت أن هذا بلد يمكن للمرء فيه أن يعبر عن رأيه.» «نعم، بإمكان المرء أن يعبر عن رأيه، ولكن حتى هنا لا بد أن يتحمل العواقب. اجلس من فضلك.» أسند القاضي ظهره إلى كرسيه، وبدأ كلامه بهدوء وهو ينظر إلى المتهمين الماثلين أمامه: «السيد أوبرليس والسيد يودر، يعلم كلاكما، وكذلك يعلم أصدقاؤكما وجيرانكما، لماذا تمثلان أمامي. لم تراعيا عنصر الملاءمة الذي يجب مراعاته في كل مناحي الحياة تقريبا؛ فالعديد من القوانين المدنية قائمة عليه. غركما شعور ما - نبيل في حد ذاته - وحملكما على الإدلاء بتصريحات مبالغ فيها، أنا واثق أن لا أحد منكما قصدها بمعناها الحرفي. لا يستطيع أحد أن يطلب منكما أن تتوقفا عن حب البلد الذي ولدتما فيه، ولكن بما أنكما تنعمان في خيرات هذا البلد، فلا يصح أن تشوها سمعة حكومته لتمجيد حكومة بلد آخر. اعترف كلاكما بأنه تلفظ بعبارات أرى أنها دليل على عدم الولاء. سأفرض على كل منكما غرامة قيمتها ثلاثمائة دولار، وهي غرامة خفيفة للغاية في مثل تلك الظروف. وإذا تكرر الأمر مرة أخرى وتوجب علي أن أوقع عقوبة، فستكون أشد كثيرا.»
بعد انتهاء المحاكمة، انضم السيد ويلر إلى جاره عند الباب ونزلا إلى الطابق السفلي معا.
سأل السيد يودر: «حسنا، ما أخبار كلود؟» «لا يزال في حصن آر ... يتوقع أن يحصل على إجازة قبل أن يبحر. جاس، سأحتاج إلى أحد أبنائك كي يساعدني في زرع الذرة. علي التخلص من الحشائش الضارة التي انتشرت بشدة في الأرض.»
قال يودر بمزاج نكد: «بالطبع، يمكنني إرسال أي من أولادي ... إلى أن يصيبهم الدور في التجنيد.» «لن أقلق بشأن ذلك. قليل من التدريب العسكري مفيد للفتى. وأنتم تعلمون ذلك.» غمز السيد ويلر بعينه، وارتعش فم يودر المتجهم من أحد أطرافه.
لما أتى وقت العشاء ذلك المساء، شرح السيد ويلر لزوجته كل ما حدث في المحكمة حتى يمكن أن تنقله إلى كلود عندما تكتب إليه. السيدة ويلر، التي كانت دائما معلمة أكثر من كونها مدبرة شئون منزل، كانت تكتب خطابات بسرعة وسلاسة، وكانت خطاباتها الطويلة إلى كلود تحكي عن كل ما كان يحدث في الجوار. كان السيد ويلر يوفر معظم مادة تلك الخطابات. مثل باقي الرجال المتزوجين من مدة طويلة، بدأ السيد ويلر في حجب أخبار الجيران عن زوجته. ولكن منذ سفر كلود، فإنه كان يخبرها بكل شيء يعتقد أنه سيهم الفتى. وفي هذا الشأن، كتبت على نحو دقيق لكلود في أحد الخطابات تقول: «أبوك يخبرنا بأخبار أكثر كثيرا مما كان يفعل في السابق، وفي بعض الأحيان أعتقد أنه يحاول أن يأخذ مكانك.»
10
في الأول من يوليو، وجد كلود ويلر نفسه في القطار السريع المنطلق من أوماها، عائدا إلى البيت في إجازة مدتها أسبوع. لم يكن الزي العسكري مألوفا بعد في يوليو عام 1917. لم تتم عملية التجنيد الأولى بعد، والفتيان الذين هرعوا وجندوا كانوا في معسكرات تدريب بعيدة. ولذلك بدا الشاب، صاحب الشعر الأحمر والساقين الطويلتين المستقيمتين الملفوفة كل منهما بغطاء ساق، والكتفين العريضتين ذاتي المظهر المفعم بالحيوية والنشاط اللذين برزا في الزي العسكري المجسم المصنوع من قماش الكاكي؛ بارزا بين الركاب. حدق فيه الفتيان الصغار والشابات من فوق مقاعدهم، ووقف الرجال في الممر كي يتحدثوا معه، ولبست السيدات العجائز نظاراتهن، وتفحصن ملابسه وحقيبة أغراضه الضخمة المخيطة من القماش، وحتى الكتاب الذي أبقاه مفتوحا ونسي أن يقرأه.
كانت المناطق الريفية التي كان القطار يمر بها بسرعة على كلا جانبي الطريق مثيرة للاهتمام لعينيه الخبيرتين أكثر من صفحات أي كتاب. سره أن يمر بها في موسم الحصاد؛ الموسم الذي تكون فيه في أبهى صورها. لاحظ أن رقعة زراعة الذرة كانت أكثر من المعتاد؛ ذبل معظم قمح الشتاء الذي زرع بسبب الطقس، وحرثت الحقول في الربيع وزرعت مرة أخرى بالذرة. الحقول كساها اللون البني المحروق، ونما البرسيم الحجازي مرة أخرى بعد حشه للمرة الأولى. ماكينات الحصاد الحازمة والحصاد الدراسة كانت قابعة في حقول القمح والشوفان تحصد الغلال اليانعة بين أذرعها العريضة المغلوبة على أمرها. لما تباطأ القطار كي يشق طريقه على جسر يمر فوق حقل قمح، عمال الحصاد ذوو القمصان وبدل العمل الزرقاء والقبعات العريضة المصنوعة من القش توقفوا عن العمل كي يلوحوا للركاب. التفت كلود إلى الرجل العجوز الجالس في المقعد المقابل له. وقال: «عندما أرى هؤلاء الأشخاص، أشعر وكأنني استيقظت وأنا ألبس الملابس الخاطئة.»
بدا الرجل سعيدا وابتسم. «هل أنت معتاد على هذا الزي؟»
اعترف كلود: «أنا بالتأكيد لم ألبس غيره في شهر يوليو. عندما أجد نفسي راكبا قطارا في وسط موسم الحصاد أحاول أن أتعلم بعض الأفعال الفرنسية، أكون متأكدا من أن العالم انقلب رأسا على عقب!»
قدم له الرجل العجوز سيجارا وبدأ يسأله. مثل بطل الأوديسة وهو عائد إلى وطنه، كثيرا ما كان على كلود التحدث عن بلده وعن أبويه اللذين أنجباه. كان يقاطع بانتظام في مطالعته لكتاب العبارات الفرنسية (المكون من جمل مختارة الهدف منها معاونة الجنود في التواصل، مثل «لا، أنا لا أنظر إلى النساء أبدا») بسبب الأسئلة التي يطرحها عليه الغرباء الفضوليون. جمع الآن أغراضه، وصافح الرجل العجوز، وارتدى قبعته؛ قبعة ستيتسون القديمة نفسها ذات الحبل الذهبي والشرابتين الصلبتين اللتين تضيفان لتصميمها المخروطي الصلب. «سأنزل في هذه المحطة وأنتظر قطار الشحن الذي يذهب إلى فرانكفورت؛ القطار السريع، كما نسميه.»
تمنى له الرجل العجوز إجازة سعيدة وحظا موفقا في أيامه القادمة. ابتسم له كل من في العربة وهو ينزل على الرصيف حاملا حقيبة السفر في يد والحقيبة القماش في اليد الأخرى. كانت تقف صديقته القديمة الألمانية - السيدة فوكت - أمام مطعمها وتدق الجرس كي تعلن أن الغداء جاهز للمسافرين. تزاحم جمع من الأولاد الصغار حولها على الرصيف وهم يضحكون ويصيحون بكلام سخيف وبغيض. لما اقترب كلود خطف أحدهم الجرس من يدها، وجرى عبر قضبان السكك الحديدية ومعه الجرس، واختفى داخل حقل ذرة. تبعه الأولاد الآخرون وصاح أحدهم: «لا تدخل إلى هناك لتأكل أيها الجندي. إنها جاسوسة ألمانية، وستضع بقايا زجاج في غداءك!»
دخل كلود إلى غرفة الطعام، ورمى حقيبتيه على الأرض. «ما الأمر يا سيدة فوكت؟ هل يمكنني أن أساعدك في شيء؟»
كانت تجلس على أحد كراسيها العالية تبكي على نحو يثير الشفقة وقد انحرفت عن مكانها خصلات شعرها الصغيرة المستعارة. لما نظرت لأعلى، أطلقت صرخة خفيفة تنم عن أنها تعرفت على الشخص الواقف أمامها. «أوه، أحمد الرب أنك أنت الشخص الذي جاء، وأنه لن يوجد مزيد من المتاعب! تعلم أنني لا أتجسس ولا أفعل شيئا مما يقوله هؤلاء الفتية. إن هؤلاء الفتية الصغار يروعونني. أبيع لهم الحلوى منذ أن كانوا أطفالا، وقد انقلبوا علي الآن كما ترى. يطلقون علي هيندنبورج والقيصر بيل!» بدأت تبكي مرة أخرى وتلوي أصابعها الصغيرة البدينة وكأنها ستمزقها. «أحضري لي بعض الغداء يا سيدتي، وبعدها سأذهب وأسوي الأمر مع تلك العصابة. لقد كنت مسافرا منذ وقت طويل؛ ولما نزلت من القطار، ورأيت معترشات توت الحجل الخاصة بك تتسلق على الشرفة كما كانت في السابق، أحسست كأني عدت إلى المنزل.»
مسحت عينيها وقالت: «حقا؟ هل تتذكر ذلك؟ أعددت فطيرة لحم اليوم مع القليل من البازلاء التي حصلت عليها من حديقتي الخاصة.» «أحضريهما فورا من فضلك. إننا لا نأكل غير الطعام المعلب في المعسكر.»
دخل بعض عمال السكك الحديدية من أجل تناول الغداء. السيدة فوكت دعت كلود للذهاب إلى نهاية طاولة البيع؛ وبعد أن قدمت الطعام لزبائنها، جلست وأخذت تتحدث إليه همسا.
قالت وهي تربت على كمه : «يا عزيزي، تبدو أنيقا في تلك الملابس. أستطيع تذكر بعض الحروب أيضا؛ لما استعدنا بعض المناطق التي أخذها نابليون منا مثل إلساس ولورين. هؤلاء الأولاد هددوا بأن يأتوا ويضعوا القطران علي في ليلة ما، وأنا أخاف أن أذهب للنوم. لذا، أنا أغطي نفسي فقط بلحاف وأجلس في كرسيي القديم.» «لا تعيريهم أي اهتمام. أنت لا تواجهين أي مشكلات مع العمال هنا، أليس كذلك؟» «بلى، ليست مشكلات على وجه التحديد.» ترددت، ثم مالت فجأة باتجاه طاولة البيع وتحدثت في أذنه. «ولكن في بلدي القديم ليس الأمر بهذا السوء كما يقولون. لا يتعرض الفقراء للاستعباد، ولا يطحنون في العمل كما يقولون هنا. دائما ما يسمح المسئولون عن الغابات للفقراء بالدخول إلى الغابات وحمل الأغصان الساقطة والأشجار الميتة. وإذا فاض روث الحيوانات لدى أحد المزارعين الأغنياء عن حاجته، يسمح للشخص الفقير أن يأخذ بعضا منه لأرضه. الفقراء لا يحصلون على أجور مثل التي يحصلون عليها هنا، ولكنهم يحظون بعيشة مريحة. وحتى أحذيتهم الخشبية، التي يسخرون منها هنا، أنظف من الأحذية الجلد، وأفضل عند المشي في الطين وروث الحيوانات. إنها لا تبتل بشدة؛ ومن ثم لا تنبعث منها رائحة كريهة بشدة.»
كان بإمكان كلود أن يلاحظ أن قلبها يزخر بحبها لوطنها، ويعج بالذكريات الرقيقة عن أيام ولت منذ مدة طويلة، وأرض عاشت عليها أيام شبابها. لم تتحدث معه عن تلك الأشياء من قبل، ولكنها الآن باحت بسيل من الأسرار عن مزرعة الألبان الكبيرة التي عملت فيها في صغرها؛ أخبرته كيف أنها كانت تعتني بتسع بقرات، وعن مدى قوة البقرات على الرغم من صغر سنها؛ إذ كانت تجر المحراث طوال النهار، ومع ذلك تفيض عليهم في الليل باللبن كأنها كانت تتجول طوال النهار في أحد المراعي! لم يضطر قط أهل الريف إلى إنفاق أموالهم على الأطباء، ولكنهم كانوا يعالجون من كل الأمراض بالجذور والأعشاب، وعندما يصاب كبار السن بالروماتيزم، كانوا يأخذون «واحدا من الأرانب الرومية الصغيرة» كي ينام معهم، ويخلصهم هذا الأرنب من كل الآلام .
أحب كلود أن يستمع إليها مدة أطول، ولكنه أراد أن يعثر على من يضايقون المرأة العجوز قبل أن يأتي القطار. ترك حقيبتيه معها، وعبر قضبان السكك الحديدية، واسترشد بطنين جرس غرضه الإغاظة في حقل الذرة، وكان يسمع من وقت لآخر. عثر على مجموعة الأولاد الصغيرة، وكانوا اثني عشر أو نحو ذلك؛ إذ وجدهم مستلقين في أخدود ضحل يمتد من حافة الحقل إلى مرعى مفتوح. وقف على حافة الحقل، ونظر إليهم وهو يقطع طرف سيجار ببطء ويشعله. ابتسم الأولاد له، وحاولوا أن يظهروا عدم المبالاة وعدم الاهتمام.
سأل الفتى الذي كان معه الجرس: «هل تبحث عن أحد أيها الجندي؟» «نعم. أبحث عن ذلك الجرس. عليك أن تعيده إلى صاحبته. كلكم تعلمون أنه لا ضرر يخشى من تلك المرأة العجوز.» «إنها ألمانية، ونحن نحارب الألمان، أليس كذلك؟» «لا أظن أنكم ستقاتلون يوما أحدا منهم. لن تصمدوا أكثر من عشر دقائق في الجيش الأمريكي. أنتم لا تصلحون للانضمام إليه. لا يوجد سوى جيش واحد في العالم يقبل رجالا يتنمرون على امرأة عجوز. يمكن أن تجدوا وظيفة لديه.»
قهقه الفتيان. أشار كلود بنفاد صبر. «تعال ومعك هذا الجرس أيها الولد.»
نهض الفتى ببطء، وصعد الحافة خارجا من الأخدود. لما كانا يمشيان متثاقلين عبر حقل الذرة، التفت إليه كلود فجأة. وقال: «اسمعني يا هذا، ألا تخجل من نفسك؟»
رد الفتى باستخفاف وهو يرمي الجرس لأعلى كأنه كرة ويمسك به ثانية: «أوه، لا أعتقد ذلك!» «أوه، بل عليك أن تشعر بالخجل من نفسك. لا أظن أنني سأرى ثانية أيا من هذه الفعال إلى أن أعود إلى الجبهة. سأعود إلى هنا في غضون أسبوع، وسأعاقب أي أحد يضايقها.» أوشك قطار كلود أن يدخل إلى المحطة؛ لذا جرى كي يأخذ أمتعته. وبمجرد أن جلس في القطار، بدأ يفكر في بلدته التي كان يعرف فيها كل مزرعة يمر بها؛ كان يعرف الأرض حتى لو لم يعرف صاحبها، ويعرف المحصول الذي أخرجته وكم يساوي ثمنه بالتقريب. لم يبتهج لما رأى تلك المزارع كما توقع؛ لأنه غضب غضبا شديدا بسبب المضايقات التي تعرضت لها السيدة فوكت. كانت لا تزال حماسة الجندي المبدئية تتملكه. كان يعتقد أنه سيسافر إلى الخارج مع قوة استكشافية من شأنها أن تحارب بدون ضغينة، بل بفتوة وشهامة لا هوادة فيهما.
كان العديد من أصدقائه في المعسكر يشاركونه أفكاره الخيالية هذه. لقد جمعهم المعسكر من المزارع والمتاجر والطواحين والمناجم؛ بعضهم أتى من الجامعات، والبعض الآخر من الحانات الرخيصة في المدن الكبيرة؛ كان منهم راعي الأغنام وسائق الترام ومساعد السباك ومدون نقاط مباريات البلياردو. رأى كلود المئات منهم لما دخلوا للمرة الأولى؛ رأى «مقدمي عروض» يرتدون بدلات رياضية رخيصة وصاخبة الألوان، وعمال مزارع كبيرة يرتدون صدريات تريكو، وميكانيكيون لا تزال آثار الشحم توجد على أصابعهم، وعمال مزارع مثل دان يرتدون معاطفهم المخصصة للمناسبات التي لا يملكون منها سوى قطعة واحدة. كان بعضهم يحمل حقائب ورقية مربوطة بحبل، في حين وضع البعض الآخر كل ما يملك في منديل أزرق. ولكن كلهم أتوا من أجل العطاء وليس من أجل الأخذ، وما كانوا يهبونه لم يكن سوى أنفسهم؛ أيديهم الكبيرة الحمراء، وظهورهم القوية، والنظرة الثاقبة والصادقة والمتواضعة في عيونهم. لما كان كلود يساعد مسئول الفحص الطبي في بعض الأحيان، لاحظ القلق البادي على وجوه الصفوف الطويلة من الرجال المنتظرين. بدا كأن لسان حال كل منهم يقول: «إن كنت أصلح فخذني. لن أتخلى عن الأمر.» وجدهم على النحو التالي عندما تعامل معهم؛ مفيدين ولطيفين ومتحمسين للتعلم. إذا تحدثوا عن الحرب أو عن العدو الذي كانوا يستعدون لمحاربته، فعادة ما يكون الحديث بحس الفكاهة؛ كانوا في طريقهم إلى «وضع القيصر في جوال»، أو جعل ولي العهد يعمل من أجل لقمة العيش. لما أحب كلود الرجال الذين كان يتدرب معهم، لم يجد ما هو أفضل من العيش بصحبتهم.
تأرجح قطار الشحن بسرعة فوق وادي النهر؛ مما يعني أنه وصل إلى بلدته؛ أي المكان الذي دائما ما يتطلع إليه العقل بعد رحلة طويلة. مرت المزارع بسرعة ؛ أكوام القش، حقول الذرة، الحظائر الحمراء المألوفة، ثم مخازن الفحم الطويلة وخزان المياه، وهنا توقف القطار.
على الرصيف، رأى رالف والسيد رويس ينتظرانه للترحيب به. كان بانتظاره بالسيارة بالخارج والده ووالدته، وكان السيد ويلر في مقعد السائق. كان هناك صف من السيارات منتظر في مكان الانتظار. إنه أول جندي يعود إلى البلدة، وأتى بعض أهل المدينة كي يروه بالزي العسكري. لوحت له سوزي دوسن من إحدى السيارات، ولوحت له جلاديس فارمر من سيارة أخرى. لما توقف وتحدث إليهم، أخذ رالف أمتعته.
صاح السيد ويلر: «هيا تعالوا يا ولدي»، وأطلق بوق سيارته، وانطلق بالجندي في السيارة مخلفا وراءه سحابة من الغبار.
ذهب السيد رويس إلى سيارة دوسن العجوز، وقال بطريقة طفولية بعض الشيء: «لا يمكن أن يكون كلود قد أصبح أطول، أليس كذلك؟ أظن أنهم يعلمونهم هناك أن يبدوا هكذا. دائما ما كان الفتى يبدو كرجل.»
قالت سوزي بحماسة شديدة: «أعتقد أن أمه فخورة به. إنه لحظ سيئ ألا تكون إنيد هنا كي تراه. ما كانت لتسافر مطلقا لو علمت أن كل هذا سيحدث.»
لم تقصد سوزي الإساءة، ولكن كلامها كان له تأثير. استدار السيد رويس بعيدا وأشعل سيجارا ببعض الصعوبة. زاد عدم اتزان يديه بشدة في السنة الأخيرة، على الرغم من إصراره على أن صحته العامة جيدة كما كانت في السابق. مع التقدم في العمر، كان يزداد اكتئابه بسبب اعتقاده أن نساءه لم يضفن الكثير من الدفء والراحة إلى عالمه. على المرأة أن توفر جو الدفء والراحة، مهما كان ما تفعله بخلاف ذلك. شعر بالأسف تجاه عائلة ويلر وتجاه أصدقائه القدامى. بدا كأن بنتيه ليس لديهما قلب.
11
استمرت عادات المعسكر. في صباح اليوم الأول بالمنزل، نزل كلود للطابق السفلي قبل حتى أن تستيقظ ماهيلي، وخرج كي يلقي نظرة على الماشية. اشتدت حرارة الشمس وهو نازل من التل باتجاه حظيرة الماشية، وكان في داخله مسرورا من وجوده في بلدته، على أرض والده. ما الذي كان يسره بشدة في أن يقول «تلنا » و«نهيرنا الموجود هنالك»؟ في أن يشعر بسحق الطين الجاف لهذه الأرض على وجه الخصوص تحت حذائه؟
لما دخل الحظيرة كي يلقي نظرة على الخيول، أول مخلوقين وقعت عيناه عليهما كانا هما البغلين الضخمين اللذين كانا السبب في الحادثة الكبيرة التي تعرض لها؛ وجدهما واقفين في الإسطبل بجانب الباب. خطر على بال كلود أن هذين الحيوانين الضخمين هما اللذان قررا مصيره في واقع الأمر. لو لم يندفعا به ويلقياه عند السياج السلكي في ذلك الصباح، لما أسفت عليه إنيد وأتت كي تراه كل يوم، ولربما اختلفت مجريات حياته. ربما لو كان الكبار أصدق قليلا، ولم يتعلم الفتى تقدير الصفات التي يمكن أن تجعله غير سعيد بالمرة في المرأة ... ولكنه هناك نأى بنفسه عن مشاعر التحسر هذه. ولكن أليس يتناسب مع حاله تماما أن يجره إلى الزواج زوجان من البغال؟!
ضحك لما نظر إليهما. «أيها الشيطانان الكبيران، إنكما قويان بالقدر الكافي كي تحيكا مثل هذه الخدع في حق الأشخاص الأغرار أعواما قادمة. يا للخسة التي تملأ كلا منكما!»
هز أحد الحيوانين أذنه، وأطلق صوتا مهددا من حلقه. تتمتع البغال بعاطفة قوية، ولكنها تكره المتغطرسين، كما أنها أعداء الطبقات الاجتماعية، وبدا دائما أن هذين البغلين اكتشفا في كلود ما اعتاد والده على تسميته ب «كبريائه الزائف». عندما كان فتى صغيرا، كانا مصدر إهانة بالنسبة إليه بسبب النهيق والوقوف فجأة في الأماكن العامة؛ إذ كانا يحاولان جذب الانتباه في مخزن الأخشاب أو أمام مكتب البريد.
في المعلف الأخير، وجد كلود الفرسة مولي العجوز؛ الفرسة الرمادية ذات الساق العرجة التي نما لها حافر آخر مكان حافرها الذي سقط، وهو إنجاز لا تستطيع العديد من الخيول التفاخر به. كان متأكدا من أنها تعرفت عليه؛ تحسست بأنفها يده وذراعه، وأزاحت شفتها العلوية لتكشف عن أسنانها المتهالكة الصفراء.
قال وهو يربت عليها: «لا يجب أن تفعلي ذلك يا مولي. يمكن للكلب أن يضحك، ولكن هذا يجعل منظر الحصان يبدو مضحكا. يبدو لي أن دان لا ينظفك إلا نحو مرة واحدة في الأسبوع!» أخذ محسة من مكانها خلف إحدى العوارض، وبدأ يحك بها جلدها العجوز. شعرها الأبيض كان مرقطا في كل أنحائه بخطوط صغيرة بلون الصدأ، مثل الحبر الهندي الذي يوضع على فرشاة ناعمة، وتحول لون عرفها وذيلها إلى الأصفر المائل إلى الأخضر. لما كان كلود يحك وركيها الثقيلتين المستديرتين، قال إنه لا بد أنها بلغت الثامنة عشرة من عمرها. اعتاد كلود ورالف أن يمتطياها عند الذهاب إلى عائلة يودر لما كانا طفلين حافيين؛ إذ كانا يوجهانها باللجام الحبلي، ويركلان المهر الطويل الساقين الذي كان يمشي معها دائما.
لما دخل المطبخ وطلب من ماهيلي ماء دافئا كي يغسل يديه، نهرته باستنكار. «عجبا يا سيد كلود، كنت تنظف تلك الفرسة العجوز، والتصق الشعر الأبيض في جميع أنحاء ملابسك العسكرية. الشعر يغطيك بالكامل!»
إذا كان زيه العسكري يثير المشاعر لدى أصحاب العقول الرزينة، فإنه كان بمنزلة تعويذة سحرية ألقيت على رأس ماهيلي. لقد انبهرت به كثيرا لدرجة أنها لم تتمكن، طوال الوقت الذي كان فيه كلود في المنزل، من إمعان النظر فيه بالتفصيل ولو مرة. فقبل أن تجتاز غطاءي الساقين، كانت تتشوش قدرتها على الملاحظة من الذهول، ويبدأ عقلها يهتاج مثل قرد في قفص. توقعت أن يكون زيه أزرق اللون مثل زي الجنود الذين كانت تتذكرهم؛ ولما دخل المطبخ في الليلة الماضية تعرفت عليه بصعوبة. وبعدما شرحت لها السيدة ويلر أن الجنود الأمريكان لا يرتدون الزي الأزرق الآن، قالت ماهيلي لنفسها أكثر من مرة إن تلك الملابس البنية لا يظهر الغبار عليها، وإن كلود لن يشبه أبدا الرجال ذوي الثياب الرثة الذين اعتادوا التوقف والشرب من ينبوع والدتها. «إنهم يرتدون أغطية الساق الجلدية لمنع الشوك من الالتصاق بهم، أليس كذلك؟ أعتقد أنه يوجد شوك كثير للغاية هناك، مثل معترشات العليق الطويلة في حقول فيرجينيا. تقول والدتك إن الجنود أصابهم القمل الآن، كما حدث في حربنا. ما عليك سوى أن تحمل زجاجة صغيرة من زيت الفحم في جيبك، وتدهن بهذا الزيت رأسك بالليل. إنه يمنع بيض القمل من الفقس.»
فوق برميل دقيق في الزاوية، علقت ماهيلي بمسمار ملصق للصليب الأحمر؛ الملصق كان عبارة عن رسم بالفحم لسيدة عجوز تنقب بعصا في كومة من الجبس والأخشاب الملتوية التي كانت منزلها يوما ما. ذهب كلود كي ينظر إليها وهو يجفف يديه. «من أين أتيت بتلك الصورة؟» «إنها من المكان الذي أنت ذاهب إليه يا سيد كلود. إنها هنا تبحث عن شيء تطهو به؛ لا يوجد موقد ولا أطباق ولا أي شيء ... لقد تحطم كل شيء. أعتقد أنها ستسر بشدة لرؤيتك.»
سمع وقع أقدام ثقيلة على السلم، فهمست إليه ماهيلي على عجل: «لا تنس زيت الفحم، ولا تترك القمل يسرح في جسدك إن كان بإمكانك أن تتخلص منه يا عزيزي.» لقد كانت تعتبر الحديث عن القمل مثل قول النكات البذيئة؛ أي إنه من الأشياء التي يتحدث عنها همسا.
بعد الإفطار، خرج كلود مع السيد ويلر إلى الحقول، حيث وجدا رالف يوجه عمال الحصاد. وقفا يشاهدان ماكينة الحصاد الحازمة لمدة، ثم ذهبا كي يلقيا نظرة على أكوام القش والبرسيم الحجازي، ثم مشيا بطول حافة حقل الذرة، وتفحصا العيدان اليانعة. أرى السيد ويلر كلود المزرعة، وشرح له تفاصيلها كأنه غريب؛ الفتى ساوره شعور غريب، ووالده يعرفه على تلك الأفدنة التي كان يعمل فيها كل صيف منذ أن كبر بالقدر الكافي، واستطاع حمل المياه إلى عمال الحصاد. أخبره والده عن مساحة الأرض التي يمتلكونها وعن قيمتها، وأنها ليست قيد رهن باستثناء رهن بسيط على قطعة واحدة، تم عندما استحوذ على مزرعة كولورادو.
قال: «عندما تعود، لن تضطر أنت ورالف إلى البحث عن شيء تبدآن به حياتكما. سيكون لديكما ما يكفيكما. والآن، الأفضل أن تعود إلى المنزل من ناحية بيت دوسن العجوز، وتذهب لزيارة سوزي. اندهش الجميع هنا لما ذهب ليونارد إلى الحرب.» مشى مع كلود حتى الزاوية التي تلتقي فيها أرض دوسن مع أرضه. قال وهو يلتفت: «بالمناسبة، لا تنس أن تزور عائلة يودر يوما ما. جاس منزعج بشدة منذ أن أخذوه إلى المحكمة. سل عن أحوال الجدة العجوز. تعلم أنها لم تتعلم أي كلمة إنجليزية. والآن، أخبروها أن التحدث بالألمانية خطر عليها؛ ومن ثم فهي لا تتحدث مطلقا، وتختبئ عن أنظار الجميع. إذا ذهبت في الصباح الباكر وكانت تزيل الحشائش الضارة من الحديقة، فإنها تجري وتختبئ بين شجيرات عنب الثعلب حتى أختفي عن الأنظار.»
قرر كلود أن يزور عائلة يودر في ذلك اليوم، ثم يزور عائلة دوسن في اليوم التالي. لم يشأ أن تكون هناك أي ضغينة تجاهه في منزل قضى فيه الكثير جدا من الأوقات الجيدة، وكثيرا ما كان يلتجئ إليه عندما يضجر مما يحدث في بيته. كان أولاد يودر يمتلكون صندوقا موسيقيا قبل اختراع الفيكترولا بوقت طويل، وفانوسا سحريا، وكانت جدتهم العجوز تنشئ صور ظل رائعة على ملاءة، وكانت تحكي قصصا عنها. اعتادت أن تقلب خريطة أوروبا على طاولة المطبخ، وتوضح للأطفال كيف أنها تشبه الفتاة في تلك الوضعية؛ ثم تتلو قصيدة ألمانية طويلة تصف إسبانيا بأنها رأس الفتاة، وجبال البرانس بأنها طوق رقبتها المصنوع من الدانتيل، وألمانيا بأنها قلبها وصدرها، وإنجلترا وإيطاليا بأنهما ذراعاها، وروسيا، على الرغم من أنها كانت تبدو كبيرة للغاية، بأنها فقط تنورتها المطوقة. ربما تجري إدانة تلك القصيدة باعتبارها دعاية خطيرة في الوقت الراهن!
بينما كان كلود يمشي بمفرده، كان يفكر كيف أن بلدته هذه التي بدت صغيرة ومضجرة له في وقت من الأوقات كانت تبدو الآن كبيرة وغنية بالتنوع. في الشهور التي قضاها في المعسكر، كان قد انشغل بالكلية في عمله الجديد وصداقاته الجديدة، والآن كان ينظر إلى منطقته بالشوق نفسه الذي ينظر به للأشياء التي نسيت منذ مدة طويلة؛ لقد تجمعت أمام عينيه كأنها كل متناغم. كان سيسافر للخارج، وسيحمل الريف بأكمله في عقله وهو له معان أكثر من ذي. كان نهير لافلي كريك ينساب هناك، حيث اعتاد أن يجلس هو وإرنست ويتحسران على انتهاء التاريخ؛ على أن العالم قد عاد إلى عصور الجشع السحيقة، وماتت كل المساعي النبيلة إلى الأبد. ولكنه كان مسافرا للخارج ...
قضى كلود عصر ذلك اليوم مع والدته. لقد كانت أول مرة تتفرد فيها به. رغب رالف بشدة في المكوث والاستماع إلى حديث أخيه، ولكنه عاد إلى حقل القمح لما أدرك شعور والدته. لم تر السيدة ويلر أي تفاصيل تافهة في حياة كلود بالمعسكر بحيث لا تريد سماعها. سألت عن قاعة الطعام والطهاة والغسيل كما سألت عن واجباته. جعلته يصف كيفية التدريب بالحراب، ويشرح طريقة عمل الرشاشات والبنادق الأوتوماتيكية.
قالت متأملة: «لا أتخيل كيف يمكننا تحمل القلق عندما تبدأ سفننا الحربية في الإبحار. إذا تمكنت من نقلكم جميعا سالمين إلى ساحات القتال فلن أخاف؛ إذ أعتقد أن جنودنا جيدون مثل أي جنود في العالم. ولكن مع وجود الغواصات التي يبلغ عن وجودها قبالة سواحلنا، أتساءل كيف ستتمكن الحكومة من نقل رجالنا بأمان. التفكير في تلك السفن وهي تنقل آلاف الشباب على متنها شيء مرعب للغاية ...» ثم وضعت يديها على عينيها بسرعة.
تساءل كلود، لما كان جالسا أمام والدته، ما الذي كان يجعل يدي والدته مختلفتين للغاية عن يدي أي أحد آخر رآهما. كان دائما يرى أنهما مختلفتان، ولكن لا بد أن ينظر إليهما من كثب الآن ويعرف السبب. كانتا نحيفتين، وبيضاوين دوما، حتى عندما تتسخ أظفارها في وقت حفظ الفاكهة. تقوست الأصابع من عند المفاصل كأنها كانت تتقلص بسبب التلامس. وكانت دائمة الحركة، وعندما تتحدث فكثيرا ما تتحرك عبر شعرها أو تلمس فستانها برفق. عندما تبتهج، تضع يدها على حلقها أحيانا، أو تتحسس رقبة ردائها كأنها تبحث عن دبوس زينة نسيته. يداها حساستان، ولكن بدا أنهما لم تكن لهما أي علاقة بحاسة اللمس؛ فقد كانت أصابعهما أشبه بالأصابع المتلمسة لإحدى الأرواح. «ما شعوركم أيها الفتيان حيالها؟»
رد كلود: «شعورنا حيال ماذا يا أمي؟ أوه، تقصدين عملية النقل! لسنا قلقين من ذلك. إنها مهمة الحكومة أن تنقلنا إلى المكان المراد. يجب ألا يقلق الجندي بشأن أي شيء إلا ما هو مسئول عنه مباشرة. إذا أغرق الألمان بعض سفن نقل الجنود، فسيكون الأمر مؤسفا بالتأكيد، ولكنه لن يغير شيئا على المدى البعيد. البريطانيون يعكفون على ابتكار سفينة هوائية ضخمة مصممة لنقل العسكريين. إن غرقت سفننا، فهذا لا يعني سوى بعض التأخير. ففي خلال مدة قصيرة، سيطير الأمريكيون إلى ساحات القتال. إنهم لا يستطيعون إيقافنا.»
مالت السيدة ويلر بجسدها إلى الأمام. وقالت: «لا بد أن هذا هو حديث الفتيان يا كلود. أنت بالتأكيد لا تعتقد أن شيئا كهذا يمكن أن يكون عمليا، أليس كذلك؟» «بلى، على الإطلاق. يعتمد البريطانيون على مصممي الطائرات لديهم لإنجاز تلك المهمة، إن فشلت كل الطرق الأخرى. بالطبع لا أحد يعلم حتى الآن مدى فاعلية استخدام الغواصات في حالتنا.»
غطت السيدة ويلر عينيها بيدها مرة أخرى. «لما كنت صغيرة في فيرمونت، طالما تمنيت لو عشت في العصور القديمة لما كان العالم يتقدم بسرعة شديدة. والآن، أشعر كأن بصري لا يستطيع أن يتحمل البهاء الذي يقع عليه. يبدو الأمر كأننا ينبغي أن نولد بملكات جديدة كي نفهم ما يجري في الجو وتحت الماء.»
12
كانت شمس ما بعد الظهيرة تلقي بأشعتها القوية على النوافذ الخلفية لغرفة الاستقبال الطويلة غير المستوية في منزل السيدة فارمر؛ مما جعل الغرفة المعتمة أشبه بكهف في أحد أطرافه نار. الأثاث كله مغطى بأغطية صيفية جميلة مزينة بالرسوم مصنوعة من قماش الكريتون. المزهريات الزجاجية القابعة على الطاولات الصغيرة تعكس أشعة الشمس، وتلمع كأنها مصابيح صغيرة. جلس كلود في تلك الغرفة مدة طويلة، وهو يعلم أن عليه الذهاب الآن. من النافذة التي توجد عند مرفقه، كان بإمكانه أن يرى صفوفا من نباتات الخطمي الوردي المزدوجة والأوراق المسطحة لنباتات الكاتالبا المنتشرة والقمم المستدقة لأجمة النعناع المتشابكة، التي كانت كلها واضحة تحت أشعة الشمس الذهبية. تحدث هو وجلاديس في كل الأمور باستثناء الأمر الذي أتى من أجله. لما نظر إلى الخارج في الحديقة، شعر أنه لن يتحدث عنه مطلقا. كان هناك شيء في الطريقة التي التمعت بها أجمة النعناع وانسابت، يجعل المرء قدريا ؛ يخاف من التدخل. ولكنه كان سيندم بعدما يبتعد؛ عدم اليقين من شأنه أن يضايقه مثلما تضايقه شظية في إبهامه.
نهض فجأة وقال من دون مقدمات: «جلاديس، أتمنى لو تؤكدين لي أنك لن تتزوجي من أخي مطلقا.»
لم ترد، لكن جلست في كرسيها المريح وأخذت تنظر إليه بهدوء غريب.
أردف من فوره: «أعلم كل ميزات هذا الزواج، ولكنها لن تفيدك بشيء. هذا النوع من ... الصفقات سيتسبب لك في تعاسة شديدة. أنا متأكد من ذلك.»
تحدثت جلاديس بصوتها الدافئ المنخفض المعتاد، ولكن تسارع أنفاسها أظهر أن كلامه لمس جرحا بداخلها: «لا أظن أنني سأتزوج بايليس مطلقا. أعتقد أنني استغللته. تحظى المعلمة بمكانة كبيرة إذا اعتقد الناس أن بإمكانها أن تتزوج عازب المدينة الثري متى أرادت ذلك. ولكني أخشى أنني لن أستطيع أن أتزوجه ... والسبب هو أنك الشخص الذي طالما أحببته.»
ابتعد كلود نحو النافذة. وتمتم قائلا: «لقد كنت الشخص المناسب لك!» «حسنا، هذه حقيقة على أي حال. كان الأمر كذلك عندما ذهبنا إلى المدرسة الثانوية، واستمر الأمر. يعجبني دائما كل شيء تفعله.»
شعر كلود بعرق بارد على جبهته. تمنى الآن لو لم يأت قط. «كفى يا جلاديس. ماذا فعلت في حياتي سوى ارتكاب خطأ أحمق تلو الآخر؟»
أتت إلى النافذة ووقفت بجانبه. «لا أعلم، ربما يتعرف المرء على الناس من خلال أخطائهم الغبية ... من خلال ما لا يستطيعون فعله. إذا كنت مثل بقية الناس، فلربما كان بإمكانك القبول بتسويات مثلما يفعلون. هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أستطيع تقبله.»
كان كلود ينظر عابسا إلى الحديقة المتوهجة بالشمس. لم يسمع كلمة من ردها. سأل بصوت منخفض: «لماذا لم تمنعيني من ارتكاب تلك الحماقات؟» «أظن أنني حاولت ... مرة. على أي حال، تسير الأمور على نحو أفضل مما ظننت. إنك لم تعلق هنا. لقد عرفت طريقك. ستركب البحر وتسافر. لقد بدأت رحلتك بالفعل.» «وماذا عنك؟»
أطلقت ضحكة خفيفة. «أوه، سأدرس في المدرسة الثانوية!»
أخذ كلود يديها، ووقفا يمعنان النظر بعضهما في بعض تحت الضوء الذهبي المتموج الذي أوضح معالم كل ما يسقط عليه. لم يعرف مطلقا على وجه التحديد كيف وجد قبعته وخرج من المنزل. لم يكن متأكدا إلا من أن جلاديس لم تصحبه إلى الباب. نظر خلفه مرة ورأى رأسها عبر النافذة التي يسقط عليها الضوء.
ظلت واقفة هناك، في المكان الذي تركها فيه بالضبط، وشاهدت الليل وهو يرخي أستاره، دون أن تتحرك، وهي تتنفس بصعوبة. كانت تفكر كم مرة، عندما تنزل إلى الطابق السفلي، ستراه يقف هنا عند النافذة، أو يتجول في الغرفة المعتمة، وهو يبدو أخيرا كما ينبغي له أن يبدو ... مثل قناعاته والخيار الذي اتخذه. إنها الآن لن تدع أبدا هذا المنزل يباع بسبب الضرائب المتأخرة. ستوفر من راتبها وتسددها. ما كانت لتحب قط أي مكان آخر مثلما تحب هذا المكان. طالما كان هذا المكان بالنسبة إليها ملجأ من فرانكفورت؛ والآن ستكون هناك تلك الشخصية الواثقة المليئة بالحيوية المتمثلة في كلود، وهي صورة مميزة بالنسبة إليها مثل صورة جدها المعلقة على الحائط.
13
كان الأحد هو اليوم الأخير لكلود في المنزل، وقام بجولة سير طويلة مع إرنست ورالف. كان إرنست يفضل ألا يذهب رالف معهما، لكن الفتى حين خرج من حقل الحصاد تشبث بأخيه مثل نبتة الشوك. ثمة شيء بشأن زي كلود وأسلوبه الجديد كان يذهل رالف، واختبر حالة من تلك التغيرات المفاجئة في المشاعر التي غالبا ما تحدث داخل العائلات. وبالرغم من تحسن صداقتهما منذ زفاف كلود، فقد ظل رالف حتى الآن يشعر بالخجل منه قليلا. اعتاد أن يسأل نفسه لماذا لا يصبح كلود «شخصا مهندما ذا أهمية»؟ والآن صار في غاية الإعجاب بأنه أصبح شخصا ذا أهمية.
في صباح يوم الإثنين، استيقظت السيدة ويلر مبكرا وهي تشعر بوهن في صدرها. كان هذا هو اليوم الذي ينبغي أن تبلي فيه بلاء حسنا. فسيكون الإفطار آخر وجبة يتناولها كلود في المنزل. في الحادية عشرة، كان سيأخذه والده ورالف إلى فرانكفورت كي يلحق القطار. استغرقت وقتا أطول من المعتاد في ارتداء ملابسها. حين نزلت إلى الطابق السفلي، وجدت كلود وماهيلي يتحدثان. كان يحلق في الحمام، ووقفت ماهيلي تشاهده وفي يدها قطعة من اللحم المقدد. «أخبرهم هناك أنني في غاية الأسف على العجائز اللاتي تكسر أطباقهن ومواقدهن.» «حسنا. سأفعل.» ثم كشط كلود ما تبقى من ذقنه.
ظلت واقفة معه. اقترحت مستبشرة: «ربما بإمكانك مساعدتهم على إصلاح أغراضهن، مثلما تفعل معي.»
تمتم وهو شارد الذهن: «ربما.» فتحت السيدة ويلر باب الدرج، وعادت ماهيلي إلى الموقد.
بعد الإفطار، خرج دان إلى الحقول مع عمال الحصاد. انشغل رالف وكلود والسيد ويلر في السيارة طوال وقت الصباح.
أسدلت السيدة ويلر مئزرها فوق رأسها، ونزلت على التل كي ترى ما كانوا يفعلونه. لم تعرف إن كان ثمة عطل في المحرك حقا، أم إن الرجال اتخذوه ذريعة للبقاء معا بعيدا عن المنزل. شعرت أن وجودها غير مرغوب فيه نوعا ما، فصعدت في النهاية واكتفت بمشاهدتهم من نافذة غرفة الجلوس. بعد وقت قصير، سمعت رالف يصعد إلى الطابق الثالث. حين نزل وفي يديه حقائب كلود، أقحم رأسه من الباب، وصاح مبتهجا إلى أمه: «لسنا في عجلة. أنا أنزلها كي تكون جاهزة فقط.»
جرت السيدة ويلر خلفه وهي تنادي بصوت واهن: «انتظر يا رالف! هل أنت متأكد من أنه أخذ كل شيء في الحقائب؟ لم أسمعه يضع شيئا فيها.» «كل شيء جاهز. يقول إنه لن يضطر إلى صعود الطابق العلوي مرة أخرى. سيأتي بعد مدة وجيزة. أمامنا متسع من الوقت.» انطلق رالف إلى القبو.
جلست السيدة ويلر على كرسي القراءة. أرادوا أن يبقوها بعيدة، وهذه أنانية منهم بعض الشيء. لماذا لا يقضون تلك الساعات الأخيرة بهدوء في المنزل بدلا من الهرولة دخولا وخروجا وإخافتها؟ سمعت حينها خرير المياه الساخنة في المطبخ؛ ربما دخل السيد ويلر كي يغسل يديه. شعرت أنها لا تقوى على النهوض إلى النافذة الغربية كي ترى إن كانوا لا يزالون في المرآب أم لا. بات الانتظار مسألة ثوان فحسب، وصار نفسها أقصر ما يكون.
ميزت وقع خطوات بحذاء ثقيل مسمر النعل تتردد على السلم بسرعة. حين دخل كلود حاملا قبعته في يده، علمت من مشيته وكتفيه والطريقة التي يرفع بها رأسه بأن الوقت قد حان، وأنه ينوي ألا يطيل الوداع. نهضت وتقدمت إليه، بينما دنا هو منها واحتضنها بين ذراعيه. ارتسمت ابتسامتها الصغيرة الغريبة الحميمية بعينين مغلقتين بعض الشيء.
تمتمت: «هل حانت لحظة الوداع؟» مررت يديها على كتفيه، وأنزلتها على ظهره القوي وعلى جانبي معطفه الملائم لجسده، وكأنها تحفظ هيكل جسده ومقاساته. لم يرتفع ذقنها عن جيب صدره، وفركته في ملابسه الثقيلة. وقف كلود ينظر إليها من دون أن يتفوه بكلمة. فجأة طوقها بقوة حتى كاد أن يصيبها بأذى.
همس وهو يقبلها: «أمي!» نزل إلى الطابق السفلي، وخرج من المنزل مسرعا من دون أن ينظر خلفه.
بصعوبة نهضت من الكرسي الذي كانت تقبع فيه، وتسللت إلى النافذة؛ كان يثب على التل بأسرع ما يمكنه. قفز إلى السيارة بجانب والده. كان رالف قد تولى عجلة القيادة بالفعل، وما كاد كلود أن يستقر على المقعد حتى انطلقوا بالسيارة. ساروا بجانب النهر، وعبروا الجسر، ثم صعدوا التل على الجانب الآخر. عندما اقتربوا من قمة التل وقف كلود في السيارة، ونظر خلفه إلى المنزل ملوحا بقبعته ذات الشكل المخروطي. مالت إلى الخارج وأمعنت النظر، لكن دموعها جعلت كل شيء ضبابيا. بدا الشكل البني المستقيم كأنه يطفو من السيارة عبر الحقول، وغاب عن ناظريها قبل أن يختفي بالفعل. تراجعت واستندت إلى حافة النافذة، وقد أمسكت صدغيها بكلتا يديها، وانخرطت في حديث عاطفي خانق. انتحبت: «أيتها العينان العجوزتان، لم تخونانني؟ ما لكما تخدعانني في آخر نظرة ألقيها على ولدي الرائع؟!»
الكتاب الرابع
رحلة السفينة أنخيسيس
1
قطار طويل، عرباته مكتظة بالركاب الذين ينتمون إلى الجنس نفسه والسن نفسها تقريبا، وجميعهم يرتدون الزي نفسه والقبعات نفسها، كان يمشي متباطئا بين المروج البحرية الخضراء في عصر أحد أيام الصيف. في العربات، لم يتوقف الركاب عن تمديد سيقانهم المتشنجة، وتحريك أكتافهم، وإشعال الثقاب، وتمرير السجائر فيما بينهم، وإصدار آهات الملل، وفي بعض الأحيان تشارك الضحك حول لا شيء. فجأة توقف القطار. طلت الرءوس الحليقة والوجوه التي لفحتها الشمس بالسمرة من كل نافذة. بدأ الفتيان في التذمر والصياح؛ ما الخطب الآن؟
مر مفتش التذاكر بين العربات وهو يقول شيئا عن تحطم قطار شحن أمامهم، وعن صدور التعليمات إليه بالانتظار لمدة نصف ساعة. لم يعره أحد أي اهتمام. ارتفعت تمتمات الدهشة من أحد جوانب القطار. تزاحم الفتيان على النوافذ الغربية. أخيرا وجدوا ما يستحق النظر إليه، وإن كان ما يشاهدونه هادئا للغاية، حتى إن صيحاتهم بالتعجب لم تعل كثيرا.
قبع قطارهم بجوار لسان بحري يمتد داخل الشاطئ الأخضر حتى مسافة بعيدة. على حافة المياه الساكنة، كانت تقف هياكل أربع سفن خشبية في طور البناء. لا توجد بلدة ولا مداخن، لا يوجد سوى بضعة عمال. كانت تقبع أكوام من الأخشاب على الحشائش. وثمة محرك بنزيني تحت مظلة مؤقتة يشغل رافعة طويلة تمتد ذراعها إلى أكوام الألواح والعوارض الخشبية، وترفع الحمولة وتتأرجح بها في صمت، وتعمد بها إلى أحد هياكل السفن، وتضعها في مكان داخل السفينة القابعة من دون حراك. وعلى طول الجوانب الخاوية، كان يعكف عدد من عمال دق المسامير على عملهم؛ إذ يجلسون على ألواح معلقة، وينزلون أنفسهم أو يصعدون باستخدام البكرات مثل عمال طلاء المنازل. كان لا يسمع صوت مطارقهم إلا بالإنصات إليهم عن قرب. وكان لا يسمع صياح بالأوامر، ولا تتردد جلبة الآلات الثقيلة ولا صخب الحفارات الحديدية في الهواء. إن هذه الزوارق الغريبة تبدو كأنها تبني نفسها.
خرج بعض الرجال من العربات، وجروا بطول خطوط السكك الحديدية، وراحوا يسأل بعضهم بعضا كيف يمكن أن تبنى السفن فوق العشب كما يرون. مدد الملازم كلود ويلر ساقيه على المقعد المقابل، وجلس ساكنا بجوار نافذته، وظل ينظر إلى هذا المشهد الغريب. كان يظن أن بناء السفن يقتضي وجود ضوضاء وأشغال حدادة وصوت المحركات وحشود من الرجال. كان هذا بمثابة حلم. لا شيء سوى المروج الخضراء، ومياه لونها رمادي دافئ، وطبقة طافية من الضباب تعكس شيئا من اللون الوردي الذي اتخذته من الشمس الغاربة، ونوارس كالأشباح تطير على مهل بينما يضفي الوهج الأحمر لونا على أجنحتها، وتلك الهياكل الأربعة المثبتة فوق العوارض في مواجهة البحر كأنها تتباحث بجواره.
لم يكن كلود يعرف شيئا عن السفن ولا عن بنائها، لكن هذه السفن لا تبدو مثبتة بالمسامير، بل تبدو منحوتة من كتل الخشب. ذكرته بالمنازل التي لم تبن باليد؛ كانت كأفكار بسيطة وعظيمة مثل الأغراض التي تتشكل هنا في صمت بجوار لسان هادئ من المحيط الأطلنطي. لم يكن يعرف أي شيء عن السفن، لكنه لم يكن يحتاج إلى ذلك؛ إذ كان شكل تلك الهياكل وما بها من خطوط قوية واضحة يحكي قصتها، بل إنه «هو» قصتها التي تحكي مغامرة الإنسان بأكملها مع البحر.
السفن الخشبية! حين كانت المشاعر العظيمة والتطلعات الكبيرة تحرك بلدا ما، كانت مثل هذه الهياكل تبنى على طول سواحلها كي تحمي بسالتها. ما من شيء قد رآه كلود أو سمعه أو قرأه أو فكر فيه، قد جعل الأمر بهذا الوضوح مثل تلك القيعان الخشبية التي لم تستخدم بعد. كانت تعبر عن الرغبة الخالصة، وعن التصرف المحتمل، وعن «الهجوم»، وعن السهم المنطلق، وعن الصرخة العظيمة المكتومة؛ كانت هي المصير، وهي الغد! ...
انطلقت صافرة القطار لتجمع ركابه المتفرقين، وكأنها دجاجة رومية تنادي على أفراخها. عاد الشباب المجندون جريا على طول الجسر، وقفزوا على متن القطار. صاح مفتش التذاكر بأنهم سيصلون إلى هوبوكين في وقت العشاء.
2
كان منتصف الليل قد حل حين تناول المجندون عشاءهم، وبدءوا في فرد الأغطية كي يناموا على أرضيات قاعات الانتظار الموجودة على المرفأ الطويل، التي كانت تعج في أيام أخرى بالقادمين للترحيب بالأصدقاء العائدين إلى الوطن، أو لوداعهم قبل الذهاب إلى سواحل البلدان الأجنبية. حاول كلود وبعض رجاله استكشاف الأشياء حولهم، لكنهم لم يتمكنوا من رؤية الكثير. ظهرت مقدمة إحدى السفن مطلية بأنماط مربكة باللونين الأبيض والأسود من أحد أطراف السقيفة، لكن المياه نفسها لم تكن ترى. في الشارع المرصوف بالحجارة، ظلوا بعض الوقت يراقبون الصف الطويل من العربات التي تجرها الأحصنة والشاحنات، والتي ظلت طوال الليل تتدافع إلى مخزن مضاء بالكهرباء تخزن فيه الصناديق والبراميل والبضائع من جميع الأنواع، والتي كان مكتوبا عليها ما يأتي: «قوات المشاة الأمريكية»؛ لقد كانت هناك صناديق تحوي آلات كهربائية واردة من مصنع في أوهايو، قطع غيار سيارات، قاطرات مدفعية، أحواض استحمام، مستلزمات طبية، رزم قطن، صناديق من الطعام المعلب، خزانات معدنية رمادية مليئة بالسوائل الكيميائية. عاد كلود إلى قاعة الانتظار، واستلقى وغط في النوم، بينما يشع وهج مصباح قوسي بالكامل في وجهه.
استدعي في الرابعة صباحا، وأخبر بالمكان الذي سيثبت فيه حضوره إلى مركز القيادة. شرح النقيب ماكسي الذي كان يجلس على مكتب يوجد على أحد الأرصفة لملازميه أن سريتهم ستبحر في الساعة الثامنة على متن سفينة أنخيسيس. كانت تلك سفينة شحن إنجليزية قديمة سحبت من التجارة الأسترالية، ولا تسع أكثر من 2500 فرد. كان الطاقم إنجليزيا، لكن جزءا من المؤن، اللحوم والخضراوات والفاكهة الطازجة، مقدم من حكومة الولايات المتحدة. كان النقيب قد صعد على متن السفينة في الليل، ولم تعجبه كثيرا. كان يتوقع أن يبحر الطاقم بإحدى سفن شحن «هامبورج أميركان» المزودة بقاعات طعام بها طبقة من خشب الصندل، ومحطات للتهوية، ومحطات للتبريد، ومصاعد للتنقل بين أعلى السفينة وأسفلها، وكأنها إحدى بنايات المكاتب في نيويورك. قال: «علينا أن نستخدمها على النحو الأمثل بالرغم من هذا. فهم يستخدمون الآن كل ما له قاع.»
تشكل أفراد السرية في طوابير استعدادا لنداء الأسماء في أحد أطراف السقيفة، وأخذوا معهم أمتعتهم وبنادقهم. قدم الإفطار لهم بينما كانوا ينتظرون. بعد الوقوف لمدة ساعة على الأرض الخرسانية، رأوا إشارات مشجعة. فعند نهاية معبر السفينة، أنزل سلمان منها، وبدأ يتدفق على كل سلم طابور من رجال يرتدون زيا بنيا ويرتدون قبعات خدمة أنيقة. تعرفوا على سرية مشاة كانساس، وبدأ التذمر لأنهم لم يحصلوا على قبعات الخدمة حتى الآن؛ وسيكون عليهم الإبحار بقبعات ستيتسون القديمة الخاصة بهم. سرعان ما وجهوا إلى أحد الطوابير البنية التي استمرت في صعود الممرات، مثل سير يتدفق على إحدى الآلات. على متن السفينة، وجه أحد المضيفين المجندين إلى عنبر الجنود، بينما وجه مضيف آخر الضباط إلى مقصوراتهم. اقتيد كلود إلى غرفة بها أربعة أسرة. كان أحد زملائه في السرية، الملازم فانينج، زميلا له في الغرفة أيضا، ووجده بها بالفعل يرتب أغراضه القليلة. أخبرهما المضيف أن الضباط كانوا يتناولون الإفطار في قاعة الطعام.
بحلول الساعة السابعة، كانت جميع القوات قد صارت على متن السفينة، وسمح للجنود بالصعود على ظهرها. للمرة الأولى، رأى كلود المظهر الجانبي لمدينة نيويورك، وهي ترتفع رقيقة ورمادية على خلفية سماء الصباح التي تتخذ لون الأوبال. طلع النهار حارا وضبابيا. بالرغم من أن الشمس كانت مرتفعة حينذاك، بدت ككرة حمراء تلطخها سحب أرجوانية. وبدت المباني الشاهقة التي سمع عنها الكثير واهية ووهمية؛ محض ظلال رمادية وزهرية وزرقاء قد تذوب مع الضباب وتتلاشى فيه. مني الفتيان بخيبة أمل. لقد نشئوا في الولايات الغربية، حيث ألفوا الإضاءة ذات التباين الحاد المميز للارتفاعات العالية، وكانوا يريدون رؤية المدينة بوضوح، لكن حجبتها عنهم تلك الأبراج التي لا تقف على مستوى واحد، ولا تكاد ترى في الضباب. كان الجميع يطرح أسئلة. أي من تلك المباني العملاقة الباهتة هو مبنى سنجر؟ وأيها مبنى وولوورث؟ وما تلك القبة الذهبية التي تلمع بعض الشيء من بين الضباب؟ لا أحد يعلم. اتفقوا على أنه من المخزي أن لم يتمكنوا من قضاء يوم في نيويورك قبل الإبحار بعيدا عنها، وأنهم سيشعرون في باريس بالحماقة حين يكون عليهم الاعتراف بأنهم لم يتجولوا في برودواي. كانت القاطرات والعبارات وبوارج الفحم تتحرك ذهابا وإيابا في النهر المغطى بالزيت، وكلها مشاهد جديدة على الرجال. في مراسي فرنسا وكانار، رأوا الأمثلة الأولى على «التمويه» الذي سمعوا عنه كثيرا؛ سفن كبيرة مطلية بأنماط مجنونة تؤذي العين، بعضها بالأسود والأبيض، وبعضها بألوان قوس قزح الناعمة.
انبعث البخار من قاطرة مجاورة للسفينة وثبتتها. بعد بضع دقائق، ظهر رجل على الجسر، وبدأ يتحدث إلى النقيب. تحدث فانينج الذي لم يترك جانب كلود، وأخبره أن ذلك الرجل هو مرشد السفن، وأن وصوله يعني أن الرحلة ستبدأ. تمكنوا من رؤية تجميع الأدوات اللامعة لإحدى الفرق عند مقدمة السفينة.
قال فانينج: «لنذهب إلى الجانب الآخر بالقرب من السياج إن استطعنا. فالفتيان متجمعون هناك لأنهم يريدون مشاهدة تمثال «إلهة الحرية» مع انطلاق السفينة. إنهم لا يعرفون حتى أن تلك السفينة تستدير في اللحظة التي تدخل فيها إلى النهر. يعتقدون أن السفينة ستنطلق بمؤخرتها أولا!»
لم يكن من السهل عليهما عبور ظهر السفينة؛ إذ غطت الأقدام كل بوصة فيه. اكتسى ظهر السفينة بالكامل بالزي البني؛ كان الجنود يتمسكون برافعات القوارب والأوناش والسياجات ووحدات التهوية مثل سرب من النحل. فور أن خرجت السفينة هب نسيم قلل من رطوبة الهواء. انبلجت السماء الزرقاء فوق رءوسهم، وازداد وضوح الصورة الظلية للمباني الممتدة على الجزيرة الطويلة. لمعت النوافذ بلون اللهب في جوانبها الرمادية، وتلألأت أسطح الأبراج الذهبية والبرونزية حيث سقطت أشعة الشمس بصعوبة. كانت السفينة تتقدم ببطء نحو النقطة المنشودة، وعلى الجهة اليسرى رأت العين الشبكة الفضية التي تتشكل منها الجسور التي تبدو للرائي شديدة التشابك. «ها هي!» «مرحبا أيتها الفتاة العتيقة!» «وداعا أيتها الحبيبة!»
اندفع السرب نحو الميمنة. صاحوا وأشاروا إلى الصورة التي كانوا يبحثون عنها جميعا، رأوها من مسافة أقرب كثيرا من تلك التي توقعوها، رأوها بردائها الأخضر ذي الثنايا بينما يتصاعد الضباب متدفقا من خلفها كالدخان. كانت تلك هي المرة الأولى للغالبية العظمى من الجنود الألفين والخمسمائة التي يرون فيها تمثال بارتولدي، كما كانت المرة الأولى لكلود أيضا. على الرغم من صورة التمثال الواضحة في عقولهم، فإنهم لم يتخيلوه وهو واقف بين البحر والسماء، بينما تمر جميع سفن الشحن من عند قدميه، وتتحرك كتل السحاب من خلفه. لم تعطهم الصور الموجودة على طوابع البريد أدنى فكرة عن الطاقة التي توحي بها إشارة التمثال، ولا عن ثقله الذي يغدو خفيفا بين الضباب. ظل الجنود يحيونها ويقولون: «أعطتنا فرنسا ذلك التمثال.» قبل أن يفيق كلود من أول شعور ينتابه بالإثارة، بدأت فرقة كانساس في مقدمة السفينة تعزف أغنية «هناك». تغنى بها ألفا صوت يدوون فوق المياه بابتهاج وإصرار راسخ ينتشران في تلك الأجواء الجزلة.
مرت عبارة تابعة لجزيرة ستاتين على مقربة من مقدمة السفينة. كان الركاب موظفين ذاهبين إلى العمل، وحين نظروا ورأوا هذه المئات من الوجوه الشابة البرونزية المبتسمة، بدءوا يصيحون ويلوحون لهم بمناديلهم. كان أحد الركاب رجل دين عجوزا، وكان متحدثا مشهورا في عصره، لكنه قد تقاعد الآن، وصار يذهب إلى المدينة كل صباح لكتابة افتتاحيات في جريدة الكنيسة. أغلق الكتاب الذي كان يقرؤه، ووقف بجانب السياج، ورفع قبعته، وبدأ يتلو أبيات شعر لشاعر كان ما يزال معروفا في عصره. تلا بصوت مرتعش: «واصلي المسير»: «أنت أيضا، واصلي المسير أيتها السفينة؛
فالبشرية بكل مخاوفها
وكل آمالها للمستقبل
تتشبث بمصيرك لاهثة الأنفاس.»
بينما تعمقت السفينة العسكرية داخل البحر، ظل الرجل العجوز يراقبها من العبارة ذات الظهر المحدب. ذلك الحشد الهادر من ذوي الوجوه البنية والقبعات والأذرع بدا كأنه ليس سوى جمع من فتية أمريكيين ذاهبين إلى مباراة كرة قدم في مكان ما. لكن هذا المشهد كان أزليا؛ شباب يبحرون بعيدا للموت من أجل فكرة، من أجل عاطفة، من أجل عبارة فحسب ... وفي رحلة المغادرة، كانوا يقطعون العهود لصورة برونزية في البحر.
3
طوال وقت الصباح في اليوم الأول، طاف تود فانينج بكلود ظهر السفينة؛ والحق أن فانينج لم يركب شيئا أكبر من باخرة في بحيرة ميشيجان، لكنه كان يعرف الكثير عن الآلات، ولم يكن يتردد في أن يسأل المضيفين على متن السفينة عن أي شيء لا يعرفه. فوجئ الفتية بطيبة المضيفين الشديدة، بل الطاقم بأكمله، والتزامهم غير العادي.
لم يظهر الشاغل الرابع للمقصورة رقم 96 التي يقيم فيها كلود حتى وقت الظهيرة، ولم يظهر أيضا أي من متعلقاته؛ فبدأ الثلاثة الذين استقروا فيها يأملون أن تظل المقصورة لأنفسهم. ستكون مزدحمة بما يكفي بالفعل عند هذا الحد. خصص السرير الثالث لضابط من سرية كانساس، وهو الملازم بيرد من فيرجينيا، وكان يعمل في بنك عمه بمدينة توبيكا حين انضم للجيش. جلس هو وكلود معا على مائدة الطعام المشتركة. في وقت الغداء، قال الفيرجيني بنبرته اللطيفة: «أيها الملازم، أرجو أن تخبرني عن الملازم فانينج. إنه يبدو لي أرعن. ظل يخبرني عن اختراعه لجهاز لتدمير الغواصات، لكن ذلك يبدو لي محض حماقة.»
ضحك كلود. «لا تحاول أن تفهم فانينج. امنحه الفرصة كي تعرفه، وسيأتي الوقت وتحبه. لقد كنت أتعجب من أنه حصل على التكليف من الأساس. لا يمكن لأحد أن يتوقع الجنون الذي قد يفعله.»
على سبيل المثال، أحضر فانينج أول سروال قطني أبيض خيط له خصيصى، وهو الوحيد الذي يملكه؛ ذلك أن نفسه قد حدثته بأن السفينة ستمكث في أحد الموانئ، وسيدعى لحضور حفل في حديقة! كان يستخدم الكلمات الكبيرة في غير سياقها؛ وليس ذلك حبا في الظهور، بل لأن الكلمات كانت تبدو في نظره سواء. في الأيام الأولى من تعارفهما في المعسكر، أخبر كلود أن تلك علة لا يستطيع التعافي منها، وهي ما يسمى ب «فقد الإحساس». تصبح هذه العلة مربكة في بعض الأحيان؛ فعندما أعلن فانينج متحمسا أنه سيود أن يصبح في الخدمة عندما حسم ولي العهد مشكلته الصغيرة مع بليتو (أفلاطون)، لم يفهم كلود شيئا حتى اتضح من النكات اللاحقة أن الفتى كان يقصد بلوتو.
في الساعة الثالثة، أقامت الفرقة احتفالا على ظهر المركب. انخرط كلود في حديث مع قائد الفرقة، وسر لما علم أنه هو وأعضاء فرقته الأربعة عشر من مدينة هيلبورت بكانساس، وهي مدينة ذهب كلود إليها ذات مرة مع والده لشراء الماشية. كانوا هم فرقة المدينة، والتحقوا بالتجنيد دفعة واحدة، وذهبوا إلى التدريب معا، ولم يتفرقوا قط. أحد أفراد الفرقة يعمل في مطبعة، ويساعد في طباعة مجلة «هيلبورت آرجوس» كل أسبوع، وآخر يعمل في محل بقالة، وثالث ابن رجل ألماني يعمل في إصلاح الساعات، ورابع لا يزال في المدرسة الثانوية، وخامس يعمل في دهان السيارات. بعد العشاء، وجدهم كلود متجمعين وشديدي الاهتمام بأول ليلة لهم في البحر، ويتناقشون فيما إن كان غروب الشمس في المياه بالجمال الذي كانوا يرونه عليه كل مساء في هيلبورت، أم لا. كانوا يقضون الوقت معا بهدوء وحزم، وإن تتحدث إلى أحدهم فسرعان ما ستجد البقية قد اشتركت في الحديث.
حين كان كلود وفانينج والملازم بيرد يخلعون ملابسهم في مبيتهم الضيق تلك الليلة، لم يكن صاحب السرير الرابع قد حضر بعد. وحين دخلوا إلى أسرتهم وكادوا يغطون في النوم، دخل الرجل الرابع وأضاء المصباح دون تكلف. اندهشوا حين رأوه يرتدي زي الفيلق الجوي الملكي ويحمل عصا. بدا صغيرا للغاية، لكن الثلاثة الذين اختلسوا النظر إليه شعروا أنه شخص مهم دون شك. خلع المعطف ذا الياقة التي تتخذ شكل جناحين مبسوطين، وخلع ساعته، وأولى تنظيف أسنانه أهمية خاصة. بعد مدة وجيزة أطفأ المصباح، وصعد إلى سريره فوق الملازم بيرد، وانتشرت رائحة نفاذة لشراب الرم في الغرفة.
كان فانينج ينام تحت كلود، ورفس المرتبة المرتخية فوقه، وأخرج رأسه. «مرحبا يا ويلر! ماذا هنالك؟» «لا شيء.» «لا شيء، هذا طيب الرائحة. سأتناول البعض مع أي شخص يدعونني لذلك.»
لم يرد رد من أي سرير. تمتم بيرد الفيرجيني: «توقف عن الصخب»، ثم خلدوا إلى النوم.
في الصباح عندما أتى الخادم المسئول عن الحمام، شق طريقه في المقصورة الضيقة، ومد رأسه إلى السرير الواقع فوق بيرد. «عذرا يا سيدي، لكني بحثت عن أمتعتك بعناية ولم أجدها يا سيدي.»
استشاط الصوت الخشن بالأعلى: «لا بد أن تعثر عليها كما أخبرتك. لقد أحضرتها بنفسي من سانت ريجيس في سيارة أجرة. رأيت الحقيبة على الرصيف مع حقائب الضباط، إنها حقيبة سفر كبيرة سوداء محفور عليها الحرفان
V.M.
من الطرفين. ابحث عنها.»
ابتسم الخادم سرا. كان يعلم على الأرجح أن الطيار صعد على متن المركب في حالة تحول دون أي ملاحظة دقيقة من جانبه. «حسنا يا سيدي. هل هناك شيء أستطيع القيام به في الوقت الحالي؟» «خذ هذا القميص معك إلى المغسلة وأعده لي الليلة. فليس لدي ملابس كتانية في حقيبتي.» «أمرك يا سيدي.»
خرج كلود وفانينج إلى سطح السفينة بأسرع ما أمكنهما، ووجدا العشرات من زملائهما على ظهرها بالفعل يشيرون إلى بقع من الدخان القاتم على طول الأفق الصافي. كانوا يعلمون أن تلك السفن آتية من موانئ مجهولة، بعضها بعيد، وتبحر إلى أماكن لا يعلم وجهتها سوى القادة. ستصل جميع السفن إلى نقطة محددة على سطح المحيط في أوقات متقاربة. في تلك البقعة، ستقف كل سفينة في مكانها محاطة بمدمراتها، وستتقدم جميعا بتشكيل منظم من دون أي تغيير في مواقعها النسبية. لن تتركها الحاميات حتى تنضم إليها الزوارق الحربية والمدمرات قبالة أي ساحل تتجه إليه، لكن أحدا لا يعرف أي ساحل على وجه التحديد، ولا حتى الضباط.
حدث ذلك اللقاء بالفعل قبيل الظهيرة. كانت هناك عشرة سفن حربية، بعضها زوارق كبيرة، وست مدمرات. وقف الجنود طيلة وقت الصباح تقريبا يحدقون مذهولين بالسفن الشقيقة، ويحاولون معرفة أسمائها، ويخمنون قدراتها الاستيعابية. بعد أن اسمرت جلودهم بالفعل، بدأت شفاههم وأنوفهم في التقرح بفعل أشعة الشمس الحارقة. بعد شهور طويلة من التدريب المكثف، امتن عليهم بوقت من الراحة والسكون. وعلى الرغم من أن حياتهم الماضية لم تكن طويلة ولا متنوعة الأنشطة، فقد شعر معظمهم كما شعر كلود ويلر؛ شعروا بالارتياح للتخلص من جميع ما سبق ومواجهة شيء جديد تماما. قال تود فانينج وهو يقف أمام الحاجز: «يمكن لمن يرغب أن يركض كل صباح للحاق بالقطار، وأن يقضي أيامه في أحد مصانع «ويستنجهاوس»، لكني لم أعد أرغب في القيام بذلك!»
انضم إليهما الفيرجيني. «ذلك الرجل الإنجليزي لم يخرج من السرير حتى الآن. أعتقد أنه لم يفتأ يسرف في الشراب. رائحة المكان تشبه رائحة الحانة. لقد خرج خادم الغرفة لتوه وغمز لي. رأيته يضع شيئا في جيبه خلسة، وبدا أنها ورقة نقدية.»
شعر كلود بالفضول ونزل إلى المقصورة. حين دخل، وجد رجل القوات الجوية مستلقيا على سريره العلوي مرتديا نصف ملابسه، ونهض مستندا إلى مرفقه، ونظر إلى كلود. كانت عيناه الزرقاوان مقطبتين ومكتئبتين، وشعره المجعد غير مرتب، لكن وجنتيه ورديتان كأنهما وجنتا فتاة، وشاربه الصغير الأصفر مثل الطائر الطنان على شفته العليا مبروما بحدة.
قال كلود متوددا: «تفوت على نفسك طقسا جميلا.» «حسنا، سنستمتع بالطقس كثيرا قبل أن نغادر، وسنستمتع بالقليل من أي شيء آخر!» سحب زجاجة من تحت وسادته. «هل تريد رشفة؟»
مد كلود يده: «حسنا، لن أمانع.»
ضحك الآخر، وعاد مرة أخرى إلى وسادته، وتشدق متكاسلا: «يا لك من فتى شجاع! هيا؛ اشرب في نخب القيصر.» «لماذا نخبه على وجه الخصوص؟» «ليس على وجه الخصوص. اشرب في نخب هيندنبورج أو القيادة العليا أو أي شيء آخر أخرجك من حقل الذرة. هذا هو المكان الذي أخذوك منه، أليس كذلك؟» «تخمين صائب على أي حال. من أين أخذوك؟» «كريستال ليك، آيوا. أعتقد أن هذا هو المكان.» تثاءب وطوى يديه فوق بطنه. «عجبا، ظننا أنك إنجليزي.» «كلا. لكني خدمت في الجيش الملكي لمدة عامين.» «هل كنت تسافر إلى فرنسا؟» «نعم، ظللت أتنقل بين إنجلترا وفرنسا طوال الوقت. الآن، ضيعت شهرين في فورت وورث. وضعوني مدربا هناك. ليس ذلك بمجالي. كان ذلك بمثابة عقاب لي. لا يمكن معرفة ما يدور في عقل العقيد الذي يرأسني على أي حال؛ ربما تكون تلك طريقته في إبعادي عن الخطر.»
نظر إليه كلود مندهشا من فكرة كتلك.
ابتسم له الشاب ابتسامة شفقة فاترة. «حسنا، لا أعني طائرات الألمان! توجد الكثير والكثير من المخاطر. ستعرف أنهم لم يخبروك في معسكر التدريب إلا قدرا ضئيلا للغاية من المعلومات عن تلك الحرب. إنهم لا يقولون أي تفاصيل مهمة. هل أنت ذاهب؟»
لم يكن كلود ينوي الخروج، لكنه سحب الباب حين سمع ذلك الاقتراح.
نادى الطيار: «انتظر دقيقة. ذلك الأحمق صاحب السيقان الطويلة الذي ينام على السرير أسفلك، هلا أبقيته هادئا؟» «هل تقصد فانينج؟ إنه فتى طيب. ماذا به؟»
فجأة استشاط الآخر غضبا وهو يتقلب: «جهله العام ونبرته المألوفة بدرجة لا تطاق.»
وجد كلود فانينج والفيرجيني يلعبان الداما، وأخبرهما أن الطيار الغامض ريفي مثلهما. بدا أن كليهما قد منيا بخيبة الأمل.
تعجب الملازم بيرد: «سحقا!»
قال فانينج: «حسنا، لا يسعه النظر إلي نظرة دونية بعد ذلك. كريستال ليك! ليست تلك بمدينة أصلا!»
على الرغم من هذا، أراد كلود أن يعرف كيف استطاع شاب من كريستال ليك أن يصبح عضوا في الفيلق الجوي الملكي. ومن بين مئات الغرباء، برز ستة رجال كان يعزم على أن يتعرف عليهم أكثر. وفي مشهد مهيب يجمعهم جميعا وهم يتجولون على ظهور المراكب تحت أشعة الشمس، نسوا الغيرة والمنافسات التافهة التي نشبت بينهم أيام المعسكر. بدا أن شبابهم يتدفق معا، كزيهم البني الموحد. حين رآهم كلود في هذا الحشد، شعر أن النبل يبدو في سيمائهم. بدا الصدق في وجوه العديد منهم، بدا في وجوههم التعبير عن الترقب المستبشر والحماسة الواثقة.
كان من بين الركاب رجل واحد من سلاح البحرية، وعلى معطفه شارات الخدمة في سلاح حرس الحدود. كان مريضا في مستشفى البحرية في بروكلين حين أبحرت سريته، وكان حينذاك في طريقه كي ينضم إليها. كان شاحب البشرة بعض الشيء بسبب مرضه الأخير، لكنه كان يجسد الصورة التي رسمها كلود في ذهنه عما يجب أن يكون عليه الجندي. وظل يتبع بعينيه جندي البحرية طوال اليوم.
كان الشاب يدعى ألبرت آشر، ويأتي من بلدة صغيرة تقع على جبال ويند ريفر بمقاطعة وايومنج، حيث كان يعمل في أحد معسكرات قطع الأخشاب. أخبر كلود بتلك المعلومات حين كان أحدهما واقفا بجانب الآخر على ظهر المركب في ذلك المساء يشاهدان الشمس الأرجوانية وهي تغوص في مياه البحر ذات اللون البنفسجي.
كان ذلك هو الموعد الذي يبيت مزارعو المنزل فيه ماشيتهم بعد انتهاء عمل اليوم. كان كلود يفكر في أن أمه ستقف كل مساء في النافذة الغربية تشاهد الشمس، وتتبعه بمخيلتها. حين صعد جندي البحرية وانضم إليه، اعترف أنه يعاني ألم الحنين إلى الوطن.
قال ألبرت آشر: «ذلك مرض لن أضطر إلى مصارعته. لقد تركت يتيما في مزرعة منعزلة عندما بلغت التاسعة، وأنا أعتني بنفسي منذ ذلك الحين.»
نظر كلود بطرف عينه إلى رأس الفتى الذي يستقر على رقبة حليقة وقوية، وخطر له أنه قد أبلى بلاء حسنا في الاعتناء بنفسه. لم يستطع معرفة ما كان يعجبه في وجه آشر الشاب على وجه التحديد، لكن بدا له أن ذلك الوجه مر بالعديد من الأحداث التي دربته مثلما درب هو جسده، ونمت فيه شخصية محددة. ما كان كلود يظن أنه يعود إلى الحياة الرجولية المليئة بالمغامرات، كان راجعا في حقيقة الأمر إلى العظام الحسنة التشكيل؛ ذلك أن وجه آشر كان أكثر «تنسيقا» من معظم سماته التي تدل على الصحة.
حين سئل جندي البحرية، قال إنه على الرغم من عدم امتلاكه لبيت خاص به، فإنه دائما ما كان يجد نفسه بين أناس طيبين. وقال إنه يستطيع العودة إلى أي منزل في باينديل أو دو بوا، وسيرحب به ترحيب الأبناء.
قال: «أظن أن النساء الطيبات في كل مكان، لكن وايومنج تتفوق في ذلك الصدد على بقية العالم. لم أشعر قط أنني أفتقر إلى بيت. والآن أصبح سلاح البحرية الأمريكي عائلتي. أينما حل فأنا في بيتي.»
سأل كلود: «هل زرت فيرا كروز؟» «أعتقد ذلك! ظننا أنه حفل صغير في ذلك الوقت، لكني أظن أننا سنجده حدثا غير مهم عندما نصل إلى هناك. أعتقد أننا سنشهد تدميرا من الدرجة الأولى. ما مدة خدمتك في الجيش حتى الآن؟» «مر عام منذ أبريل الماضي. كان حظي سيئا في السفر. ظلوا ينقلوني من مكان إلى آخر لتدريب الجنود.» «سيكون القادم أفضل. هل أنت خريج جامعي؟» «لا، التحقت بالجامعة ولكني لم أكمل.»
قطب آشر وهو ينظر إلى الخط المعسجد فوق المياه حيث تغرب الشمس، وقد انغمس نصفها كأنها عين كبيرة متيقظة توشك أن تغمض. «كنت أرغب في الالتحاق بالجامعة، لكني لم أتمكن من ذلك. ثمة رجل من لارامي عرض علي المشاركة في دورة تدريبية بالجامعة، لكني كنت قلقا للغاية. أظن أنني كنت خجلا من خط يدي.» توقف كأنه تذكر شيئا مؤسفا قديما. بعد برهة، قال فجأة: «هل تتحدث الفرنسية؟» «لا، أعرف بضع كلمات، ولا أستطيع صياغتها معا.» «أنا أيضا أتوقع أن أتعلم بعضا من الفرنسية. فقد عرفت قليلا من الإسبانية عندما كنت على الحدود.»
في ذلك الوقت، كانت الشمس قد اختفت، واصطبغت السماء في جهة الغرب بلون أصفر موحد بدا كستارة ذهبية قد انسدلت فوق البحر الساكن، الذي بدا كأنه تحول إلى لوح من الحجارة باللون الأزرق الداكن؛ إذ اختفى كل بريق من فوق سطح المياه الساكنة. وعلى ستار الغسق الأملس، ارتسمت بقعتان طويلتان بلون أخضر شاحب مثل بيضة عصفور أبي الحناء.
سأل آشر بنبرة المضيف المؤدب: «هل تحب الماء؟ حين سافرت للمرة الأولى على متن طرادة، أغرمت بالبحر. ولا أزال مغرما به. لكني أحب الجبال الجرداء القديمة في وايومنج أيضا. توجد شلالات يمكن رؤيتها من مسافة عشرين ميلا من السهول؛ إنها تبدو كملاءات بيضاء معلقة في المنحدرات الصخرية، أو شيء من هذا القبيل. وفي الجداول الباردة الموجودة في غابات الصنوبر، توجد أسماك السلمون المرقط التي يبلغ طولها طول ساعدي.»
في ذلك المساء، صعد كلود إلى ظهر المركب، وقضى معظم الوقت بمفرده؛ إذ كان ثمة حفل في جناح تناول الطعام. ظهرت سحب مثقلة في جهة الغرب، وراحت ترفرف فوق المياه على ارتفاع منخفض حتى بدت كأنها ملابس سوداء مغسولة منشورة على حبل.
أتت الموسيقى عذبة من أسفل السفينة. ثمة أربعة فتيان سويديين من المستوطنة الاسكندنافية في ليندسبورج بولاية كانساس كانوا يغنون «لونج، لونج أجو». استمع كلود من بقعة مظللة في مؤخرة السفينة. ما الذي يفعلونه، وما الذي يفعله هو في المحيط الأطلسي؟ قبل عامين، كان يبدو كفتى انتهت الحياة بالنسبة إليه، وكأنه غرس في الأرض كدعامة أو كهؤلاء المجرمين الصينيين الذين يدفنون واقفين لا يبدو منهم سوى رءوسهم كي تنقرها الطيور وتلدغها الحشرات. انعزل جميع رفاقه في مدن البراري، وانشغلوا في وظائفهم الصغيرة وخططهم البسيطة. لكنهم هنا الآن، أحضروا إلى سفن مجهولة أتت إليها من جميع جهات الأرض. كيف غدوا يستحقون تلك اليقظة والتفاني من العديد من الرجال والآلات، وذلك الاستهلاك الباهظ من الوقود والطاقة؟ عند النظر إلى كل منهم على حدة، فإنهم ليسوا سوى رجال عاديين مثله. ومع ذلك، فهم هنا الآن. وفي تجمع هؤلاء الرجال وحركتهم، لا يوجد شيء عادي أو شائع كان واثقا من ذلك. الأمر كله من البداية إلى النهاية غير متوقع، وربما عصي على التصديق. قبل أربع سنوات حين استولى الفرنسيون على إقليم المارن، لم يتصور أفطن الرجال في العالم أن هذا سيحدث؛ خمنوا كل احتمال إلا هذا. «إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم.»
في الطابق السفلي، بدأ الرجال يغنون «آني لوري». أين منه تلك الأمسيات الصيفية التي اعتاد الجلوس فيها صامتا بجانب الطاحونة مفكرا فيما يفعله بحياته؟
4
في صباح اليوم الثالث، استيقظ كلود والضابط الفيرجيني وجندي البحرية مبكرا جدا، ووقفوا في مقدمة السفينة يشاهدونها وهي تعلو فوق تلال المياه المتدفقة باستمرار، وكانت حافتها الأمامية، وهي ترتفع وتنخفض، دائما تبدو كمثلث معتم في مقابل الضوء اللامع. بدت سفن الحراسة المصاحبة للسفينة مثل سفن أحلام ناعمة وقزحية اللون، مثل صدفة في درجات الألوان اللؤلئية للصباح. نفثات الدخان الداكنة وحدها هي من أخبرتهم بأنها آلات ذات وقادات ومحركات.
بينما كان الثلاثة واقفين هناك، أخبر رقيب كلود أنه كان حريا باثنين من رجاله الإعلان عن مرضهما. تعرض العريف تانهويزر لنوبة نزيف أنفي في الليل، لدرجة أن الرقيب ظن أنه قد يموت قبل أن يتمكنوا من إيقاف النزيف. استيقظ تانهويزر الآن، وهو في طابور الإفطار، ولكن الرقيب كان متأكدا من أنه ما كان ينبغي له فعل ذلك. إن فريتس تانهويزر هذا كان هو الأطول في هذا الجمع؛ إنه رجل أمريكي من أصول ألمانية، وعندما يسأله أحد عن اسمه فعادة ما يقول إن اسمه هو دينيس، وإنه ينحدر من أصول أيرلندية. حتى إنه حاول المزاح هذا الصباح، وأشار إلى وجهه الأحمر الكبير، وأخبر كلود أنه يظن أنه مصاب بالحصبة. قال مؤكدا: «على الأقل إنها ليست حصبة ألمانية أيها الملازم.»
استغرق الفحص الطبي وقتا طويلا في ذلك الصباح. بدا أن هناك تفشيا للمرض على متن السفينة. لما أحضر كلود رجليه إلى الطبيب، طلب الأخير منهما النزول وملازمة الفراش. ولما غادرا التفت إلى كلود. «أعطهما شايا ساخنا، وابسط عليهما كومة من بطاطين الجيش. اجعلهما يتعرقان إن استطعت.» أشار كلود إلى أن عنبر الجنود ليس مكانا مناسبا للجنود المرضى. «أعلم ذلك أيها الملازم، ولكن مرض عدد من الجنود هذا الصباح، والطبيب الوحيد الآخر الموجود على متن السفينة مرضه الأشد من بين المصابين. يوجد طبيب السفينة بالطبع، ولكنه مسئول فقط عن الطاقم، ولم يبد منه أي اهتمام حتى الآن. أمرت بفحص المستشفى والمؤن الطبية هذا الصباح.» «هل يوجد وباء من أي نوع؟» «حسنا، أرجو ألا يكون هناك وباء. ولكن سيكون عندي أعمال كثيرة اليوم؛ ولذا سأسند إليك مهمة الاعتناء بهذين الرجلين.» كان الطبيب من نيو إنجلاند، وقد انضم إليهم في هوبوكين. إنه رجل متناسق القوام ونشيط، له عينان ثاقبتان وملامح جميلة وشعر رمادي له لون وجهه الشاحب نفسه. شعر كلود على الفور أنه علم ما عليه فعله، ونزل إلى أسفل كي ينفذ التعليمات بقدر ما يستطيع.
لما صعد من عنبر الجنود، رأى الطيار - الذي كان يعلم أن اسمه فيكتور مورس - يدخن عند حاجز السفينة. كان لا يزال رفيق المقصورة ذاك يثير فضوله. «هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها إلى ظهر السفينة، أليس كذلك؟»
كان الطيار ينظر إلى ألسنة الدخان البعيدة التي تعلو الأمواج المتلألئة المرتعشة. «الوقت مبكر. وددت أن أعرف وجهتنا. لن يروقني البتة أن ننزل على شاطئ فرنسي.» «أعتقد أنك قلت إنك ذاهب إلى فرنسا.» «نعم. ولكني أريد الذهاب إلى لندن أولا.» استمر في النظر إلى السفن الزاهية اللون. لاحظ كلود أنه يرفع ذقنه عاليا جدا أثناء وقوفه. بعدما بدت عليه الآن الجدية الشديدة، أصبحت عيناه براقتين وجريئتين؛ إذ بدا أنهما كانتا تزدريان كل ما حوله. من الواضح أنه كان يتحاشى الاختلاط مع الناس، وكأنه بين أناس لا ينتمي إليهم.
رأى كلود أن تصرف هذا الرجل يشبه تصرف طائر كركي أسر وربط من ساقه في حظيرة دجاج ماهيلي؛ إذ كان يضم جناحيه ويحرك رأسه على نحو مستمر وسريع وهو يحملق.
سأله: «أظن أن لك أصدقاء في لندن؟»
رد الطيار ببعض العاطفة: «نعم!» «هل تحبها أكثر من باريس؟» «لا أتصور مكانا أفضل من لندن. لم أزر باريس؛ دائما ما أعود إلى الوطن عندما أكون في إجازة. إنهم يثقلون كاهلنا بعمل كثير. في سلاحي المشاة والمدفعية، لا يحصل رجالنا إلا على أسبوعي إجازة في العام. أعرف أن الأمريكيين استأجروا إقليم الريفيرا ... إنهم يستردون عافيتهم في نيس ومونت كارلو.» وأردف بوجه عابس: «الجولة السريعة الوحيدة التي قمنا بها كانت إلى جاليبولي.»
كان الرفاق هنا يظنون أن فيكتور قطع شوطا كبيرا في اكتساب اللهجة البريطانية. على الأقل لقد بدأ ينطق بعض الكلمات مثل الإنجليز ويستخدم مسمياتهم للأشياء. عرض سيجارة على كلود مشيرا إلى أن علبة سيجاره كانت في حقيبته الضائعة. «خذ سيجارا مني. أرسل لي أخي علبتين قبل أن نبحر مباشرة. سأضع علبة على سريرك عندما أنزل إلى المقصورة المرة القادمة. إنه سيجار جيد.»
التفت الشاب ورمقه بنظرة فاحصة باندهاش. «ما أكرم عرضك! نعم، شكرا لك، سأفعل.»
لما أعار كلود بعض القمصان لفيكتور أمس، حاول أن يحثه على الحديث عن مغامراته الجوية، ولكنه كان شديد الكتمان في هذا الموضوع. اعترف أن الندبة الحمراء الطويلة في أعلى ذراعه تسبب فيها قناص يقود طائرة فوكر ألمانية، ولكنه سرعان ما أردف أنها لم تتسبب في أي عواقب لأنه هبط بطائرته بسلام. والآن، وبسبب جودة السيجار الذي أعطاه له، اعتقد أنه سيعرف منه المزيد. سأل إن كان في الحقيبة المفقودة أي شيء لا يمكن استبداله؛ أي شيء «له قيمة». «يوجد شيء واحد له قيمة كبيرة للغاية؛ عدسة تسايس، وكانت بحالة مثالية. من وقت لآخر، أشتري العديد من معدات التصوير الفوتوغرافي الجيدة، ولكن دائما ما تتصدع العدسات بسبب الحرارة؛ عادة ما تخرب تلك المعدات من الحرارة. تلك العدسة اقتلعتها من طائرة أسقطتها في مدينة بار لي دوك، ولا يوجد فيها خدش واحد؛ ببساطة إن هذه معجزة.»
سأل كلود متحمسا: «إنك تحصل على كل ما في أي طائرة عندما تسقطها، أليس كذلك؟» «بالطبع. لدي مجموعة جيدة؛ أجهزة قياس ارتفاعات وبوصلات ونظارات. دائما ما أحمل معي تلك العدسة؛ لأنني أخشى أن أتركها في أي مكان.» «أظن أن إسقاط طائرة ألمانية يجعل المرء يشعر بإحساس رائع للغاية.» «أحيانا. أسقطت العديد من الطائرات، ولكني لم أجد الأمر ممتعا.» توقف فيكتور عن الكلام وكان عابسا. ولكن وجه كلود الطيب المستعد للتصديق صعب من سعي فيكتور للتكتم. «أسقطت امرأة ذات مرة. إنها شيطان شجاع؛ إذ كانت تطير بطائرة استطلاع وأزعجتنا بعض الشيء؛ إذ كانت تطير فوق خطوطنا. بطبيعة الحال، إننا لم نعرف أنها امرأة حتى أسقطنا الطائرة. لقد سحقت تحت المعدات. عاشت بضع ساعات وأملت خطابا إلى أهلها. خرجت وأسقطت الخطاب داخل خطوطهم. كان عملا محفوفا بالمخاطر. كدت أموت. ومع ذلك حصلت على إجازة لمدة أسبوعين في لندن.» ثم قال فجأة: «ويلر، ليتني أعلم أننا ذاهبون إلى هناك الآن!» «أتمنى ذلك كثيرا.»
هز فيكتور كتفيه. «أعتقد أن هذا هو ما سيحدث!» التفت بوجهه تجاه كلود. «انظر هنا، يمكنني أن أريك معالم لندن إن أحببت! هذا وعد مني. لم ير معالمها الأمريكيون قط كما تعلم. إنهم يجلسون في أكواخ تابعة لجمعية الشبان المسحيين، ويكتبون إلى معارفهم الغارقين في التفاؤل، أو يبحثون عن برج لندن. سأريك مدينة تنبض بالحياة، هذا إن لم تكن لك رغبة في زيارة المتاحف.»
ضحك المستمع. «كلا، أريد أن أرى الحياة، كما يقولون.» «أوه! أفكر في أماكن أود أن أريك إياها. حسنا، أدعوك إلى تناول العشاء معي في فندق سافوي في أول ليلة لنا في لندن. سيتجلى هذا العالم أمامك. لا يدخل أحد لا يرتدي ملابس سهرة. ستبهرك المجوهرات. الممثلات، الدوقات، كل النساء الأنيقات في أوروبا.» «ولكنني ظننت أن لندن يخيم عليها الظلام والكآبة منذ اندلاع الحرب.»
ابتسم فيكتور، وداعب شاربه الصغير الأصفر بإصبعيه الإبهام والوسطى. «لا، توجد بضعة أماكن لا تزال على حالها.» بدأ يشرح لكلود كيف هي الحياة الحقيقية على الجبهة. لم يتحدث أحد دخل الخدمة العسكرية عن الحرب، أو يفكر فيها؛ إنها مجرد حالة عاشوا في ظلها. تحدث الرجال عن الكتيبة التي كانوا يودون الانضمام إليها، أو عن الفرقة المفضلة التي تظهر في جميع العروض القتالية. كان الجميع يفكر في لعبته الخاصة، في حياته الخاصة التي تمكن من الحفاظ على استمرارها على الرغم من صرامة الحياة العسكرية، وفي الإجازة القادمة، وكيفية الحصول على شمبانيا من دون أن يدفع ثمنا لها، ومراوغة الحارس، والدخول في علاقات مع نساء دون أن يلاحظه أحد. سأل: «هل لغتك الفرنسية جيدة؟»
ابتسم كلود ابتسامة عريضة. «ليس تماما.» «حري بك أن تستغل كل معرفتك بها إذا كنت تريد فعل أي شيء مع الفتيات الفرنسيات. سمعت أن الشرطة العسكرية لديكم صارمة جدا. يجب أن تكون قادرا على قول ما تريده في اللحظة التي ترى فيها فتاة وتحدد موعدا للقائها قبل أن يراك الحارس.»
أشار كلود بلامبالاة: «أعتقد أن الفتيات الفرنسيات ليس لديهن أي وازع أخلاقي؟»
هز فيكتور كتفيه الصغيرتين. «من واقع خبرتي، ليس للفتيات الكثير من هذا الوازع، في أي مكان. عندما كنا نتدرب نحن الكنديين في إنجلترا، كنا جميعا نقضي عطلة نهاية الأسبوع مع نساء. أعتقد أن الفتيات في كريستال ليك يصعب إرضاؤهن بنحو أو بآخر ... ولكن مضى على ذلك وقت طويل. لن تواجه أي صعوبة.»
لما كان فيكتور في وسط سرده لمغامرة عاطفية له، وكانت مختلفة قليلا عما سمعه كلود من قبل في حياته، انضم إليهما تود فانينج. لم ينتبه الطيار إلى وجود مستمع جديد، ولكن لما انتهى من قصته، ابتعد بمشية الخيلاء المعروف بها، وعيناه لم تنزل عن هدفه البعيد.
تبعه فانينج بعينيه مشمئزا. «هل تصدقه؟ لا أظن أنه من محطمي قلوب العذارى. تعجبني جرأته؛ إذ ينطق اسم رتبتك بشيء من التكبر على نحو غير صحيح! أما عندما يتحدث إلي فعليه أن ينطق اسم رتبتي على نحو صحيح، وإلا فسأشوه وجهه.»
تذكر الرجال هذا اليوم بعد مدة طويلة من الوقت؛ لأنه كان نهاية الطقس اللطيف والأيام الأولى الطويلة الخالية من الهموم في المحيط. في وقت ما بعد الظهيرة، جلس كلود وجندي البحرية الشاب والفيرجيني وفانينج معا تحت الشمس يشاهدون المياه وهي تنجرف في الفجوات وتتجمع في تلال زرقاء متموجة. كان آشر يحكي لرفاقه قصة طويلة عن رسو قوات البحرية في فيرا كروز.
أنهى حديثه قائلا: «إنها مدينة قديمة وعظيمة. بها شيء لن أنساه ما حييت. أحد السكان أخذ بعضا منا إلى السجن القديم المبني على صخرة في البحر. بقينا هناك طوال اليوم، ولم يكن الأمر بمنزلة جولة سياحية على الإطلاق، صدقني! نزلنا إلى زنازين مبنية تحت المياه كانوا يحتجزون فيها السجناء السياسيين؛ يتركونهم هناك سنوات حتى يذبلوا. رأينا جميع أدوات التعذيب القديمة؛ أقفاصا حديدية صدئة حيث لا يستطيع الرجل الاستلقاء أو الوقوف فيها، ولكن عليه الجلوس منحنيا حتى تعوج قامته. عند الخروج من هذا المكان يرى المرء أنه من الغريب أن يترك الناس حتى يتعفنوا هناك رغم وفرة الشمس والماء بالخارج. يبدو الأمر كأن هناك خطأ كبيرا في البشر حتى يحدث هذا النوع من الأشياء.» لم يتفوه بكلمة أخرى، ولكن من نظرته الجادة، اعتقد كلود أنه وأبناء بلده الذين كانوا يتدفقون للخارج سيساعدون في تغيير كل تلك الأمور.
5
في تلك الليلة أصيب الفيرجيني، الذي كان ينام أسفل فيكتور مورس، بنوبة نزيف أنفي شديدة، ولما طلع الصباح أصبح ضعيفا بشدة لدرجة أنه نقل إلى المستشفى. قال الطبيب إن عليهم أن يعرفوا الحقيقة ويواجهوها؛ وهي تفشي أحد أنواع الأنفلونزا على متن السفينة، وهو نوع خبيث، ويؤدي للإصابة بنزيف. ⋆
ارتعب الجميع قليلا. حبس بعض الضباط أنفسهم في غرفة التدخين، وظلوا يحتسون الويسكي والصودا ويلعبون البوكر طوال اليوم، وكأن بإمكانهم إبعاد العدوى عن أنفسهم. ⋆
إن التفشي الفعلي للأنفلونزا في سفن نقل القوات الأمريكية قد استبق هنا بعدة أشهر.
توفي الملازم بيرد قبيل المساء، وأجريت مراسم دفنه مع شروق شمس اليوم التالي، إذ كفن في قماش مشمع مغلق، وفي قدمه قذيفة مدفعية تزن ثمانية عشر رطلا. انبلج الصباح صافيا وقارس البرودة. تعالت أمواج البحر الزرقاء، وضرب السفينة ريح قارس البرودة مثل الثلج. شهد الجميع، باستثناء المرضى، تأبين الرجل. كانت هذه أول جنازة يشهدونها في البحر على الإطلاق، ووجدوا الأمر مثيرا للاهتمام. أقام القسيس مراسم الجنازة بينما كانوا يقفون عراة الرءوس. عزفت فرقة كانساس لحنا جنائزيا، وتغنت الفرقة السويدية المكونة من أربعة أفراد بإحدى الترنيمات. أشاح العديد من الحضور بوجوههم لما أنزل ذلك الكيس البني في تلك الأمواج العاتية ذات المياه الباردة الزرقاء؛ إذ بدت كأنها لا تعرف أي رحمة تجاه البشر. انتهى الأمر في غضون ثوان، وانطلقوا من دونه.
ظلت الأمواج العالية البراقة يتوالى بعضها خلف بعض بلونيها الأزرق والأرجواني، وزاد بريقها أكثر من أيام الطقس المعتدل. أشعة الشمس الساطعة لم تخفف من البرودة التي كانت تلسع الوجه وتؤلم الصدر. بدأ يتسرب إلى غير معتادي ركوب البحر ذاك الشعور الكئيب بأنهم ليسوا في المكان الملائم لهم البتة. استلقى الجنود على ظهر السفينة وهم يحاولون الحفاظ على دفئهم بالبقاء قرب بعضهم بعضا قدر الإمكان. كان الجميع مصابين بدوار البحر. ذهب فانينج إلى سريره مرتديا ثيابه؛ إذ كان مريضا بشدة بحيث لم يستطع أن يخلع حذاءه. رقد كلود في مؤخرة السفينة المزدحمة يرتجف من البرد وواهن القوى. أطلقت الشمس أشعتها عليهم كأنها لهب، لكن دون أن يجدوا فيها أي مصدر للراحة. عكست الأمواج العاتية التي يعلوها الزبد الضوء وكأنها ملايين من المرايا، ولكن الأعين لم تكن تستوعب هذا الكم من الألوان. بدت كثافة المياه أكثر من ذي قبل؛ فقد كانت ثقيلة مثل الزجاج الذائب، وبدا الزبد على حواف كل موجة زرقاء حادا مثل البلورات. لو سقط فيه أحد، فربما مزق إلى أشلاء.
بدا المحيط بأكمله كأنه أعيدت إليه الروح فجأة؛ إذ اندلعت الحيوية والقوة والعتو في أمواجه، وكانت تحركها قوة لا تعرف غير القسوة. لم يمر سوى بضع ساعات على ذاك الفتى اللطيف الذي رمي في تلك المياه القارسة البرودة ونسي. نعم، لقد نسي؛ فكل واحد مشغول بما لديه من الكروب.
قبيل الغروب هدأ الريح، وحل عليهم غروب منذر بالشر. فباتجاه الغرب ذي الشفق الأحمر، أتت سحابة سوداء متقطعة صغيرة، ثم توالت بعدها السحب الواحدة تلو الأخرى. خرجت تلك السحب من البحر، وتشكلت بأشكال غريبة كأنها ساحرات شريرة تتحرك بسرعة حتى تتقابل في الغرب، وكأنها استدعيت لاجتماع شرير. علقت تلك السحب في ضوء ما بعد الشفق بأشكال مميزة سوداء اللون، كان يقترب بعضها من بعض كأنها تخطط لشيء. شعر الجنود الذين بقوا على ظهر السفينة أن لا خير يأتي من سماء تتخللها تلك السحب. تمنوا أن لو كانوا في منازلهم أو في فرنسا أو أي مكان غير هذا.
6
في الصباح التالي، طلب الطبيب ترومان من كلود أن يساعده في طابور المرضى. وقال: «أصيب مجموعة من الجنود بارتفاع في درجة الحرارة، ولكن يصعب للغاية على رجل واحد أن يفحص هذا العدد. لا أريد أن أطلب أي شيء من أولئك الضباط الذين يجلسون هناك ويلعبون البوكر طوال الوقت. إما أنهم معدومو الضمير، أو لا يعون خطورة الموقف.»
وقف الطبيب على ظهر السفينة مرتديا معطف المطر، وواضعا قدمه على الحاجز كي يحافظ على توازنه، أخذ يكتب مستندا إلى ركبته، بينما كان يتقدم إليه طابور طويل من الرجال. تضمن الطابور أكثر من سبعين رجلا ذلك الصباح، وبدا أنه كان يستحسن أن يقعد بعضهم في أماكن أكثر جفافا. تساقط المطر في البحر كأنه وابل من الرصاص. أخذت سفينة أنخيسيس العتيقة تمضي بخطى متعثرة من نتوء جبلي رمادي إلى آخر، وحيدة تماما. حجب الضباب مظاهر البهجة في السفن الشقيقة. اضطر الطبيب إلى مغادرة موقعه من وقت إلى آخر، عندما كان دوار البحر يزيد على تحمله. أخذ كلود، مستندا إلى مرفقه، يدون الأسماء ودرجات الحرارة. ووسط انخراطه في عمله، طلب من الجنود أن يتولوا أمرهم من دونه لبضع دقائق. فبالقرب من نهاية الطابور، كان قد رأى أحد رفاقه يسيء التصرف، وينتحب ويبكي مثل الأطفال؛ كان فتى قويا في الثامنة عشرة من عمره ولم يتسبب في مشكلة قط. اندفع كلود تجاهه وربت على كتفه.
وقال: «إن لم تستطع أن تتوقف عن ذلك يا بيرت فولر، فاذهب إلى مكان لا يراك فيه أحد. لا أريد أن يرى كل هؤلاء الفتية الإنجليز الواقفين في المكان جنديا أمريكيا يبكي. لم أسمع عن شيء كهذا من قبل!»
رد الفتى منتحبا: «لا أستطيع أن أتمالك نفسي، أيها الملازم.» وتابع: «لقد كتمت ذلك قدر استطاعتي. لا أستطيع أن أكبحه أكثر من ذلك!»
سأله: «ماذا بك؟ تعال إلى هنا واجلس على هذا الصندوق وأخبرني.»
ترك الجندي فولر كلود يقوده، وجلس على الصندوق. وقال: «أنا مريض جدا، أيها الملازم!»
أجابه: «سأفحصك لأرى مدى مرضك.» وضع كلود مقياس الحرارة في فمه، وبينما كان ينتظر أرسل مضيف سطح السفينة كي يجلب كوبا من الشاي. وقال: «ظني في محله يا فولر. إنك لا تعاني من حمى على الإطلاق. أنت خائف، وهذا كل ما في الأمر. الآن، اشرب هذا الشاي. أظن أنك لم تأكل أي شيء على الإفطار.» «كلا يا سيدي. لا أستطيع تناول المأكولات المقرفة التي تحضر على هذا المركب.» «إنها سيئة للغاية. من أين أنت؟»
بلع الفتى ريقه، وبدأت دموعه تنهمر من جديد وهو يقول: «من ب... ب... بليزنتفيل، شمالي ب... ب... بلات.» «الآن، ما الذي سيظن أهل بلدك بك؟ أظن أنهم أخرجوا فرقة موسيقية خلفك، وأثاروا ضجة وهم يحسبون أنهم يرسلون جنديا شجاعا. وما برحت أرى أنك ستكون جنديا من الطراز الأول. أظن أنك ستنسى كل ذلك. أنت تشعر أنك أفضل حالا بالفعل، أليس كذلك؟»
أجاب: «بلى يا سيدي. هذا الشاي مذاقه جيد للغاية. أتعبتني معدتي، وأصابني ألم في صدري ليلة أمس. فرقتي بكاملها مريضة، وأنت أخذت تانهويزر - أعني العريف - إلى المستشفى. يبدو أننا جميعا سنموت هنا.»
قال: «أعرف أن ما يحدث يبعث على التطير. ولكن لا تخجلني أمام هؤلاء المضيفين الإنجليز.»
وعده قائلا: «لن أخجلك مجددا يا سيدي.»
عندما انتهى الفحص الطبي، أخذ كلود الطبيب كي يعاين فانينج، الذي ظل يسعل ويصدر صفيرا عند التنفس طوال الليل ولم يبارح سريره. استغرق الفحص وقتا قصيرا. عرف الطبيب العلة قبل أن يضع عليه السماعة الطبية. لما خرجا إلى الردهة قال: «إنه مصاب بالتهاب رئوي في كلتا رئتيه.» وأضاف: «لدي حالة في المستشفى ستموت قبل أن يحل الصباح.» «ما الذي يمكنك فعله من أجله، أيها الطبيب؟» «أنت ترى مدى انشغالي؛ ما يقرب من مائتي مريض وطبيب واحد. المؤن الطبية غير كافية بالمرة. لا يوجد ما يكفي من زيت الخروع على متن هذه السفينة للحفاظ على نظافة أمعاء الجنود. إنني أستخدم عقاقيري الخاصة، ولكنها لن تصمد مع وباء كهذا. لا أستطيع فعل الكثير للملازم فانينج. ولكنك تستطيع، إذا منحته الوقت الكافي. يمكنك أن تقدم له الرعاية هنا، وستكون أفضل من تلك التي يمكن أن يحصل عليها في المستشفى. لا توجد لدينا أسرة شاغرة هناك.»
عثر كلود على فيكتور مورس، وأعرب له عن رغبته في العثور على سرير في إحدى الكبائن الأخرى. عندما غادر فيكتور ومعه متعلقاته، حملق فانينج فيه من ظهره. وقال: «هل هو ذاهب؟» «نعم. سيصبح المكان مزدحما للغاية هنا، إن أنت اضطررت إلى البقاء في السرير.» «يسرني ذلك. فقصصه بالغة السذاجة لي. لست مخنثا، ولكن ذلك الفتى مثل دون كيخوتي.»
ضحك كلود. وقال: «يجب ألا تتكلم. فالكلام يجعلك تسعل.» «أين الفيرجيني؟»
سأله كلود في دهشة؛ فقد كان فانينج واقفا بجانبه في جنازة بيرد: «من، بيرد؟» وأضاف: «لقد رحل هو الآخر. يمكنك النوم إن استطعت.»
بعد العشاء دخل الطبيب، وشرح لكلود طريقة إعطاء مريضه حماما كحوليا. قال: «تتلخص المسألة ببساطة فيما إذا كان بإمكانك الحفاظ على قوته. لا تجرب أيا من الأطعمة المليئة بالدهون التي تقدم هنا. أعطه بيضة نيئة مضروبة في عصير برتقالة كل ساعتين، ليلا ونهارا. أيقظه من النوم عندما يحين الوقت، ولا تغفل أي مرة من مدة الساعتين. سأكتب أمرا إلى مضيف طاولتك، ويمكنك ضرب البيض هنا في مقصورتك. والآن يجب أن أعود إلى المستشفى. رائع ما يفعله فتية الفرقة أولئك هناك. بدأت أشعر ببعض الفخر تجاه المكان. ذلك الألماني الضخم كان يسأل عنك. إنه في حالة سيئة جدا.»
إذ لم يكن يوجد طاقم تمريض على متن السفينة، كانت فرقة كانساس قد تولت إدارة المستشفى. كانوا قد تلقوا تدريبا على أعمال نقل المصابين والإسعافات الأولية؛ ولما أدركوا ما كان يحدث على متن سفينة أنخيسيس، أتى رئيس الفرقة إلى الطبيب وعرض عليه خدمات رجاله. اختار طاقم التمريض ومساعديهم، وقسمهم على نوبات ليلية ونهارية.
عندما ذهب كلود لزيارة العريف، لم يتعرف عليه تانهويزر الضخم. كان قد فقد عقله تماما إذ كان يتحدث إلى عائلته باللغة التي كان يتحدث بها في طفولته المبكرة. كانت فرقة كانساس قد اختصته برعاية خاصة. وكانت مجرد حقيقة أنه كان يتحدث بلغة محرمة على سطح البحار قد جعلته يبدو بلا أصدقاء له ووحيدا أكثر من الآخرين.
من المستشفى، نزل كلود إلى مخزن السفينة حيث كان يرقد ستة من رفاقه مرضى. كان المخزن رطبا ومنتن الرائحة مثل قبو قديم؛ إذ كان مشبعا بالروائح الكريهة والتسريب من عدد هائل من الحمولات القذرة لدرجة يصعب معها تنظيفه أو الحفاظ على نظافته. كاد العنبر يخلو من التهوية، وكان الهواء فاسدا نتيجة المرض والعرق والقيء. كان اثنان من فتيان الفرقة يعملان في تلك الرائحة الكريهة والقذارة، ويساعدان المضيفين. مكث كلود كي يمد يد العون حتى حان وقت إعطاء فانينج تغذيته. بدأ يرى أن ساعة اليد، التي كان في السابق يحتقرها معتبرا إياها شيئا مخنثا ويحملها في جيبه، ربما تكون أداة مفيدة جدا. بعدما جعل فانينج يبتلع البيض، بسط جميع البطاطين المتوفرة عليه، وفتح الباب لتهوية العنبر. وبينما كان الهواء المنعش يهب إلى الداخل، جلس على حافة سريره، وحاول أن يستجمع رباطة جأشه. ماذا حل بتلك الأيام الأولى ذات الطقس العليل والراحة والصحبة الطيبة؟ حفلات الفرقة الموسيقية، فرقة ليندسبورج، البهجة الأولى وحداثة العهد بالبحر: كل ذلك تبخر مثل حلم .
في تلك الليلة عندما دخل الطبيب كي يعاين فانينج، رمى سماعته على السرير، وقال بنبرة متعبة: «أتعجب لماذا لا تدخل هذه السماعة في أذني وتكبر بداخلها.» جلس ووضع مقياس الحرارة في فمه بضع دقائق، ثم رفعه ليفحصه. نظر كلود إلى مقياس الحرارة، وقال له إنه يتعين عليه الذهاب للنوم.
فأجاب: «إذن، من الذي سيكون موجودا؟ لا نوم لي الليلة. لكني سآخذ حماما ساخنا في وقت لاحق قريبا.»
تساءل كلود لماذا لم يفعل طبيب السفينة أي شيء، وأضاف أنه لا بد أنه صغير كما هو شكله. «تشيسوب؟ كلا، لن تتوقع مدى طيبته حتى تعرفه. لقد ساعدني كثيرا في تحضير الأدوية، والتناقش معه بشأن الحالات يمثل عونا كبيرا. سيفعل أي شيء من أجلي عدا تقديم التعامل مع المرضى مباشرة. لا يريد أن يتعدى صلاحياته. يبدو أن البحرية الإنجليزية بالغة الدقة في تلك الأمور. إنه كندي، وكان الأول على دفعته عندما تخرج في جامعة إدنبرة. أعتقد أن عمله انحسر في عيادته الخاصة. كما ترى، مظهره لا يدل على شخصيته. إنه عائق مريع أن تبدو مثل طفل، وأن تكون خجولا مثلما هو حاله.»
نهض الطبيب، وشد كتفيه، وأخذ حقيبته. وقال: «تبدو بخير أيها الملازم.»
وأردف: «هل كلا والديك على قيد الحياة؟ هل كانا في ريعان شبابهما عندما ولدت؟ حسنا، ربما كان والداهما كذلك. أنا مهووس بمعرفة ذلك. نعم، سآخذ حمامي قريبا، وأرقد ساعة أو ساعتين. ما دام فتيان الفرقة الرائعون أولئك يسيرون عمل المستشفى، فلدي فسحة قليلة من الوقت.»
تعجب كلود كيف استمر الطبيب في العمل. كان يعرف أنه لم ينم أكثر من أربع ساعات في الثمانية والأربعين الماضية، ولم يكن رجلا قوي البنية. على حد قوله، كانت راحته عند المضيف المسئول عن الحمام. كان هوكينز رجلا مسنا تولى مناصب أفضل في سفن أفضل، وفي أوقات أفضل أيضا. كان قد ركب البحر للمرة الأولى عندما عمل مضيفا مسئولا عن الحمامات؛ والآن، بسبب أقدار الحروب، عاد مرة أخرى من حيث بدأ؛ ليس مكانا جيدا لرجل مسن. انحنى ظهره بخنوع، وكان يجر ساقيه المقوستين. كان يهتم براحة جميع الضباط، ويعتني بالطبيب كأنه خادمه؛ كما يخرج قماش الكتان النظيف، ويقنعه بأن يرقد ويتناول شرابا ساخنا بعد استحمامه، ويقف حارسا على الباب كي يتلقى الرسائل الواردة إليه في الساعات القليلة التي يستريح فيها. لقد فقد هوكينز اثنين من أبنائه في الحرب، ويبدو أنه يجد عزاء كبيرا في خدمته للجنود. كان يقول لكل واحد منهم: «هون عليك يا سيدي. ستواجه ما يكفي من الصعوبات هناك.»
في الحادية عشرة، أتى واحد من رجال فرقة كانساس كي يخبر كلود أن حالة العريف كانت تتدهور بسرعة. كانت الحمى قد زالت عن تانهويزر الضخم، ولكن كان قد زال عنه كل شيء آخر. كان يرقد في حالة ذهول. غارت مقلتا عينيه المحتقنتين داخل تجويف رأسه، ولم يكن يرى سوى بياضهما المصفر. كان فمه مفتوحا، ولسانه يتدلى منه على أحد جانبيه. من نهاية الردهة، سمع كلود أصواتا مخيفة تصدر من حلقه؛ أصواتا تشبه صوت قيء حاد أو حشرجة مختنقة من رجل يحتضر؛ وبالفعل كان يختنق. أحضر أحد أفراد الفرقة كرسي معسكر لكلود، وقال بلطف: «إنه لا يعاني. بات الأمر ميكانيكيا الآن. كان سيموت بسهولة أكبر لو لم يكن حاله يتمتع بحيوية كبيرة. يقول الطبيب إنه قد يعود إلى وعيه بضع لحظات قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مباشرة، إن أردت أن تمكث.»
قال كلود: «سأنزل وأعطي المريض المسئول مني بيضة، ثم أعود.» ذهب كلود ثم عاد، وأخذته سنة من النوم وهو جالس بجوار السرير. بعد الساعة الثالثة، سكنت ضوضاء الصراع، وعلى الفور عاد الشخص الضخم النائم على السرير ليصبح عريفه طيب الطباع. أطبق الفم، وعادت الكرتان الهلاميتان الزجاجيتان عينين مبصرتين تشعان ذكاء. فقد الوجه مظهره المنتفخ الفظ، وعاد مرة أخرى وجه صديق. كاد أن يكون من غير المعقول أنه يمكن لأي شيء ولى أن يعود. نظر أسفا إلى الملازم وكأنه يريد أن يطلب شيئا. اغرورقت عيناه بالدموع، وحول رأسه قليلا.
همس بصوت واضح بالألمانية: «يا لأمي المسكينة!»
بعد بضع لحظات، مات ووجهه يعلوه الوقار، ولم يعان وطأة عذاب خروج الروح، بل كان واعيا، حسبما بدا لكلود، مثل فتى شجاع يرد شيئا ما، لم يكن من حقه أن يحتفظ به.
عاد كلود إلى مقصورته، وأيقظ فانينج مرة أخرى، ثم رمى بنفسه على سريره القابل للطي. بدا أن السفينة تتمايل وتترنح وسط الأمواج، مثلما كانت تفعل الحيوانات في المزرعة عندما كانت تنجب صغارا. يا لعجز تلك السفينة القديمة وسط البحار، ويا لهول البؤس الذي كانت تحمله! بينما كان راقدا أخذ ينظر إلى أنابيب المياه الصدئة والوصلات غير المطلية. كانت هذه السفينة هي في الحقيقة «سفينة أنخيسيس القديمة»، حتى إن النجارين الذين أصلحوها كي تدخل الخدمة رأوا أنها لم تكن تستحق عناء الإصلاح، وفعلوا فيها أسوأ ما يمكنهم فعله. كانت العوارض الجديدة معلقة إلى الروافد باستخدام بضعة مسامير.
لقد كان تانهويزر الضخم واحدا ممن يخشون الإبحار كثيرا. اعتاد أن يبتسم ويقول: «فرنسا هي المناخ الوحيد الذي يفيد صحة رجل مثلي.» كان قد لوح بيده مودعا مشهد تمثال الحرية في ميناء نيويورك مع الباقين؛ إذ كان يؤمن بها مثل الباقين. لم يرد غير الخدمة في الجيش. بدا الأمر صعبا.
لما أتى تانهويزر إلى المعسكر للمرة الأولى، كان مشوشا طوال الوقت، ولم يستطع أن يتذكر التعليمات. أخرجه كلود ذات مرة من الطابور ووبخه؛ لأنه لم يعرف يمينه من يساره. عندما بحث في الأمر، وجد أن الفتى لم يكن يأكل شيئا؛ لأن الحنين إلى الوطن أسقمه. كان أحد أولئك الفتية المزارعين الذين يخشون حياة المدينة. كان الطفل الضخم ينحدر من عائلة كبيرة، ولم يكن مطلقا قد نام ليلة واحدة بعيدا عن البيت قبل أن يدرج في قائمة المجندين.
دفن العريف تانهويزر، ومعه أربعة جنود، مع شروق الشمس. لم توجد فرقة هذه المرة، وكان القس مريضا؛ لذا تلا أحد النقباء الشباب صلاة الجنازة. وقف كلود يراقب حتى رمى البحارة كيسا، أطول من الأكياس الأربعة الأخرى بنصف قدم، في هوة بالبحر لونها مثل لون الرصاص. لم يتناثر حتى رذاذ مياه. بعد الإفطار، دعاه واحد من طاقم تمريض كانساس إلى مقصورة صغيرة كانوا قد جهزوا فيها جثة الميت من أجل الدفن. كانت لوائح الجيش تنص بدقة على ما ينبغي فعله بأمتعة الجندي المتوفى. كانوا يتخلصون من زيه العسكري وحذائه وأسلحته وحقيبته الشخصية، كانوا يتخلصون من كل هذا وفقا للتعليمات. ولكن في كل حالة من الحالات كانت تتبقى مخلفات؛ فرشاة أسنان المتوفى، وأمواس حلاقته، والصور التي كان يحملها معه. كانت هنالك في خمس كومات تدعو إلى الشفقة؛ ما الذي ينبغي فعله بها؟
أخذ كلود الصور الفوتوغرافية التي تخص العريف؛ إحدى الصور كانت لفتاة سمينة تبدو ساذجة، ترتدي فستانا أبيض ضيقا للغاية عليها وقبعة عريضة، وتضع علما صغيرا مثبتا على صدرها الممتلئ. الصورة الأخرى كانت لامرأة كبيرة جالسة ويدها متقاطعتان على حجرها. شعرها الرقيق مشدود، ويكشف عن وجه متخشب وبارز العظام - لا ريب أنه وجه من العالم القديم - وعيناها مغمضتان في مواجهة الكاميرا. ظن أن وجهها ينم عن صدقها وعنادها وعدم اقتناعها، وكأنها لم تكن تفهم على الإطلاق.
قال: «سآخذ هاتين الصورتين.» وأضاف: «وكذلك الصور الأخرى، ما عليك سوى أن تلقي بهم من السفينة، ألا تظن ذلك؟»
7
أصيب النقيب ماكسي - الضابط الأول في السرية «بي» - بنوبة دوار بحر حادة أثناء الرحلة، لدرجة أنه لم يستطع أن يساعد رجاله في هذا الوباء. لا بد أنها كانت بمثابة ضربة مروعة لكبريائه؛ لأنه لم يوجد أحد على الإطلاق أكثر تلهفا منه لأداء واجبات الضابط بأكملها.
كان كلود قد عرف هاريس ماكسي معرفة بسيطة في لينكن؛ إذ كان قد قابله عند عائلة إرليش، وظل بينهما تعارف داخل الجامعة. لم يكن قد أعجب بماكسي حينذاك، ولم يكن معجبا به الآن، ولكنه اعتبره ضابطا جيدا. كانت عائلة ماكسي فقيرة من المسيسيبي، وقد استقرت في مقاطعة نيماها، وهو يتمتع بطموح كبير، لا يقتصر على تحقيق تقدم في حياته فحسب، بل أن يصبح «شخصا ذا شأن» على حد قوله. حياته الجامعية عبارة عن سعي محموم وراء الامتيازات الاجتماعية والمعارف المفيدين. وشعوره إزاء «الأشخاص المناسبين» يبلغ حد التبجيل. بعد تخرجه، خدم ماكسي على الحدود المكسيكية. كان مدربا عسكريا لا يكل، وانخرط في واجباته بكل ما أوتي جسده الضعيف من قوة. كان نحيلا وشاحب البشرة، وتصلب فكه يجعل أسنانه السفلى تخرج عن أسنانه العليا، وتجعل وجهه يبدو متصلبا. كانت كل تصرفاته، النابعة من التوتر والعصبية، تعبيرا عن رغبته العميقة في التفوق.
شعر كلود أنه يعيش حياة مزدوجة هذه الأيام. عندما كان يقدم الرعاية لفانينج، أو عندما كان في المخزن يساعد في رعاية الجنود المرضى، لم يكن لديه وقت للتفكير؛ إذ كان تلقائيا يفعل الشيء التالي الذي كان يتاح له فعله. ولكن عندما يختلي بنفسه ساعة على ظهر السفينة، كان يعاوده لمحة من الشعور الواخز بالحرية الدائمة الاتساع. كان الطقس بمثابة مغامرة مستمرة؛ إذ لم يكن قد سبق له أن عرف طقسا مثله على الإطلاق. كان الضباب والمطر والسماء الملبدة بالغيوم وامتدادات المحيط الرمادية الموحشة مثل شيء قد تخيله منذ زمن بعيد؛ ربما ذكريات من قصص البحر القديمة التي قرأها في طفولته، وتلك الذكريات أيقظت بقعة دافئة في قلبه. هنا على سفينة أنخيسيس، بدا أنه يبدأ من حيث انتهت طفولته. كانت الثغرة البغيضة فيما بين ذلك قد أغلقت بين الفينة والأخرى. محيت سنوات عمره وسط الضباب. هذا الضباب الذي كان محبطا في البداية صار مأوى؛ خيمة تتنقل في حيز المكان، متخفية من كل الأحداث السالفة، ومعطية للمرء فرصة كي يصحح أفكاره ويخطط للمستقبل. طويت صفحة الماضي حرفيا؛ كان ذلك هو ما توهمه. لقد قطع أميالا أكثر بكثير مما ينبئ سجل السفينة. عندما طلب منه رئيس الفرقة فريد ماكس أن يلعب معه الشطرنج، تعين عليه أن يتوقف للحظة ويفكر في السبب وراء أنه كان لتلك اللعبة ذلك القدر من التداعيات الممقوتة لديه. نادرا ما تراءى له وجه إنيد الأبيض الخادع إلا إذا ذكره به أحد الأحداث العابرة. إذ تصادف أن مر على مجموعة من الفتية يتحدثون عن محبوباتهم وعرائس الحرب، كان يستمع للحظة ثم يبتعد وشعور السعادة يختلج في قلبه؛ لأنه كان الرجل الأقل حظا في الزواج على متن السفينة.
كان يوجد متسع كبير على سطح السفينة؛ وذلك لأن العديد من الجنود كانوا معتلين إما من دوار البحر أو الوباء، وفي بعض الأحيان كان هو وألبرت آشر يستحوذان لأنفسهما على الجانب المعرض للعواصف على السفينة. كان جندي البحرية أفضل رفيق في هذه الأيام الكئيبة؛ فقد كان ثابت الجنان، وهادئا، ومعتمدا على نفسه. وأيضا ما فتئ يتطلع إلى المستقبل. أما فيكتور مورس، فكان إعجاب كلود به يتزايد. كان فيكتور يحتسي الشاي في ركن خاص في غرفة التدخين الخاصة بالضباط كل يوم بعد الظهر- كان سيهلك من دونه - ودائما ما كان المضيف يقدم له بعض الأطباق الجانبية الخاصة من الخبز المحمص والمربى أو البسكويت المحلى. وعادة ما كان كلود يتمكن من الانضمام إليه في هذه الساعة.
في يوم جنازة تانهويزر، دخل إلى غرفة التدخين في الساعة الرابعة. أشار فيكتور إلى المضيف، وطلب منه أن يحضر كأسين من الويسكي الساخن مع الشاي. قال وهو يضع كأسه: «أتعلم، أنت مبتل للغاية يا ويلر، وينبغي أن تحتسي بعض الشراب. ألا تشعر بحال أفضل مع الشرب؟» «أفضل كثيرا. أظن أنني سأتناول كأسا أخرى. من المستحسن أن أشعر بالدفء من الداخل.» «كأسان أخريان أيها المضيف، وأحضر لي بعض الليمون الطازج.» كان شاغلو الغرفة إما يقرءون أو يتحدثون بصوت منخفض. وأحد الفتية السويديين يعزف بعذوبة على بيانو قديم. بدأ فيكتور يصب الشاي. وله طريقة منمقة في فعل ذلك، واليوم كان حريصا على نحو خاص. قال: «هذا الضباب الاسكتلندي ينخر في عظم المرء، أليس كذلك؟ بدوت لي متوعكا نوعا ما عندما مررت بك على سطح السفينة.»
تمتم كلود وهو يتثاءب: «كنت مستيقظا أرعى تانهويزر ليلة البارحة. ولم أحظ بأكثر من ساعة من النوم.»
قال: «نعم، سمعت أنك فقدت عريفك الضخم. يؤسفني ذلك. لقد تلقيت أنا أيضا أخبارا سيئة. لقد أفصح صراحة الآن عن أننا سنتوجه إلى ميناء فرنسي . ذلك يحبط كل خططي. على أي حال، هذا هو حال الحرب!» أزاح كأسه وهو يهز كتفيه. وأضاف: «هل لديك نوبة بالخارج؟»
كان كلود كثيرا ما يتساءل في نفسه عن السبب الذي يدفع فيكتور إلى الإعجاب به؛ إذ لم يكن من النوع الذي يفضله فيكتور. قال: «إن لم يكن سرا، أود أن أعرف كيف التحقت بأي حال من الأحوال بالجيش البريطاني.»
بينما كانا يغدوان ويروحان تحت المطر، سرد فيكتور قصته بإيجاز. عندما أنهى المدرسة الثانوية، عمل في بنك والده الكائن في كريستال ليك محاسبا. وبعد ساعات العمل في البنك، كان يتزلج أو يلعب التنس أو يعمل في حوض زراعة الفراولة، حسب الموسم. قال إنه كان يشتري زوجين من السراويل البيضاء كل صيف، ويطلب قمصانه من شيكاجو، ورأى أنه متأنق. بعد ذلك خطب ابنة الواعظ. قبل عامين، في الصيف الذي بلغ فيه العشرين من عمره، أراده والده أن يرى شلالات نياجارا؛ ومن ثم كتب له شيكا بمبلغ متواضع، وحذر ولده من الحانات - إذ لم يكن فيكتور قد دخل واحدة منها مطلقا - ومن الفنادق الباهظة، ومن النساء اللاتي يأتين يسألن عن الوقت من دون مقدمات، ثم ودعه، وأخبره بعدم ضرورة إعطاء بقشيش للحمالين أو الندل. في شلالات نياجارا، تعرف فيكتور على بعض الضباط الكنديين الشباب الذين فتحوا عينيه على أشياء عظيمة كثيرة. سافر إلى تورونتو معهم. كان التجنيد على أشده، ووجده مهربا من البنك ومن حوض زراعة الفراولة. بدت القوات الجوية السلاح الأفضل والأكثر جاذبية في الجيش. وقبلوه فيها، وها هو ذا.
قال كلود واثقا: «لن تعود إلى ديارك مرة أخرى.» وأضاف: «لا أظن أنك ستستقر في أي بلدة صغيرة في آيوا.»
قال فيكتور بغير اكتراث: «في القوات الجوية، لا نشغل أنفسنا بالمستقبل. إنه لا يستحق عناء التفكير.» أخرج علبة سجائر ذات لون ذهبي باهت قد لاحظها كلود معه من قبل. «هل تسمح لي أن أراها للحظة؟ إنها تعجبني كثيرا. إنها هدية من شخص تحبه، أليس كذلك؟»
بدت اختلاجة عابرة من التأثر، شعور صادق جدا، على وجه رجل القوات الجوية الصبياني، وتقلص فمه الصغير الأحمر بشدة. وأجاب: «نعم، امرأة أريدك أن تقابلها. هاك»، وقرص ذقنه من فوق ياقته المرتفعة، «سأكتب عنوان مايزي على بطاقتي: «أقدم الملازم ويلر، من قوات المشاة الأمريكية»، هذا كل ما ستحتاج إليه. إن وصلت إلى لندن قبلي فلا تتردد. زرها فورا. قدم لها هذه البطاقة، وستستقبلك بترحاب.»
شكره كلود ووضع البطاقة في دفتر جيبه، بينما كان فيكتور يشعل سيجارة. «لم أنس أنك ستتناول عشاءك معنا في فندق سافوي، إذا تصادف وكنا في لندن معا. إن كنت هناك، فستجدني هناك دوما. عنوانها هو عنواني. حقا سيكون أمرا رائعا لك أن تقابل امرأة مثل مايزي. ستكون لطيفة معك؛ لأنك صديقي.» تابع حديثه وقال إنها فعلت كل ما بوسعها لأجله؛ فقد تركت زوجها، وتخلت عن أصدقائها لأجله. وكانت الآن تعيش في شقة صغيرة في تشيلسي، حيث تنتظر قدومه وتخشى ذهابه. عاشت حياة مروعة. بالطبع كانت تستضيف ضباطا آخرين من المعارف القدامى، لكن هذا كله كان تمويها. كان الرجل المفضل عندها.
وصل الأمر بفيكتور أن أخرج صورتها، وحملق كلود دون أن يعرف ما يقوله عن الوجه المستدير كالقمر، والعينين المنهكتين ذاتي الرموش الثقيلة، والرقبة الملتف حولها عقد من اللؤلؤ، والكتفين العاريتين، حتى النهدين المنتفخين اللذين يعبران عن أنوثة ناضجة. لم تكن توجد خطوط أو تجاعيد في تلك الفسحة من البشرة الناعمة، ولكن من الفم الذي لا يبتسم والذقن، من شكل الوجه نفسه، كان من السهل أن يرى أنها كبيرة في السن بما يكفي لأن تكون أما لفيكتور. وعلى الصورة، كان مكتوبا بخط كبير مبعثر «إلى نسري!» لو كان فيكتور على قدر من رقة المشاعر لدرجة أن يترك كلود واقعا بين الشكوك، لفضل كلود أن يعتقد أن علاقته مع هذه السيدة كانت علاقة بنوة تامة.
تمتم الطيار وهو يغلق صندوق الصور: «النساء من نوعية تلك المرأة لا وجود لهن في عالمك.» وأضاف: «إنها متخصصة في اللغات وموسيقية وأشياء أخرى. معها تغدو الحياة اليومية فنا راقيا. الحياة، على حد قولها، هي كيفما يجعلها المرء. أما الحياة في حد ذاتها، فلا قيمة لها. مسقط رأسك لا قيمة له؛ إنه سقم هامد.»
ضحك كلود. وقال: «لا أظن أنني أتفق معك، ولكني أحب أن أسمعك تتكلم.» «حسنا؛ في ذلك الجزء من فرنسا الذي تمزق إلى أشلاء، ستجد أمورا حياتية تجري في الأقبية أكثر مما يجري في مسقط رأسك أيا كان. أفضل أن أكون عامل تحميل وتفريغ على أحد أرصفة لندن على أن أكون أحد ملوك المصارف في إحدى ولايات البراري في أمريكا. في لندن، إن كنت محظوظا بما يكفي لأن تمتلك شلنا، يمكنك الحصول على شيء مقابله.»
اعترف الآخر: «نعم، الأمور هادئة جدا في الديار.» «هادئة؟ يا إلهي، إنها حياة كالموت! ما الذي سيتبقى في أنفس الرجال إن سلبتهم كل ما بداخلهم من توهج؟ إنهم يخافون من كل شيء. إنني أعرفهم؛ التسلل من دروس الأحد في الكنائس، والتجول في طرقات تلك البلدات الصغيرة بعد حلول الظلام!» انصرف فيكتور عن الموضوع فجأة. وقال: «بالمناسبة، أنت والطبيب صديقان، أليس كذلك؟ أنا بحاجة إلى دواء ما، كان موجودا في حقيبة أمتعتي المفقودة. هل تمانع أن تسأله إن كان بإمكانه توفير هذه الوصفة الطبية؟ لا أريد أن أذهب إليه بنفسي. كل هؤلاء الأطباء ثرثارون، وقد يبلغ عني. لقد حالفني الحظ في التهرب من الفحوص الطبية. كما ترى، لا أريد أن أحبس في أي مكان. بالطبع يمكنك أن تخبره أن الأدوية ليست لك.»
عندما قدم كلود الورقة الزرقاء إلى الطبيب ترومان، ابتسم بازدراء. وقال: «فهمت؛ كتب هذه الوصفة صيدلي لندني. لا، ليس لدينا شيء من هذا النوع.» أعاد لي الورقة. وأضاف: «تلك الأدوية ما هي إلا مسكنات. إن كان صديقك يريدها، فهو بحاجة إلى علاج، وهو يعلم من أين يحصل عليه.»
أعاد كلود الورقة إلى فيكتور وهما يغادران غرفة الطعام بعد تناول العشاء، وأخبره أنه لم يتمكن من الحصول على أي منها.
قال فيكتور وقد تورد وجهه بغطرسة: «أنا آسف.» وأضاف: «شكرا جزيلا لك!»
8
صمد تود فانينج أفضل من كثير من الرجال الأقوى منه؛ وفاجأت حيويته الطبيب. كانت قائمة الوفيات تتزايد باطراد، وأسوأ ما في الأمر أن المرضى الذين ماتوا لم يكونوا معتلين جدا. انقلب حال شباب أقوياء أصحاء، في التاسعة عشرة والعشرين من عمرهم، وماتوا لأنهم فقدوا شجاعتهم، بسبب موت الآخرين، ولأن الموت كان في كل مكان. كانت طرقات السفينة تعج برائحة الموت من حولهم. قال الطبيب ترومان إن الأمر يكون هكذا دائما في حالة الوباء؛ مات مرضى لو عزلت حالاتهم كانوا سيتعافون من المرض.
علق الطبيب في أحد الأيام، عندما صعدا معا من المستشفى لاستنشاق نسمة هواء: «أتعلم يا ويلر، أحيانا أتساءل عما إن كانت كل هذه اللقاحات التي تلقاها الجنود لمكافحة التيفويد والجدري وغيرهما من الأمراض تقلل من نشاطهم. سوف أفقد عقلي إن ظللت أفقد رجالا! ما الذي ستقدمه فداء أن تخرج من كل هذا وتعود سالما إلى المزرعة؟» لما لم يسمع ردا أدار رأسه، ونظر من فوق ياقة معطف مطره، ورأى نظرة ذاهلة ممانعة في عيني الشاي الزرقاوين، تبعها تورد سريع في وجنتيه. «أرى أنك لا تريد العودة إلى المزرعة! لا تريد ذلك على الإطلاق! حسنا، حسنا؛ هذا حال الشباب!» هز رأسه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ربما كانت تعبر عن مواساة، أو ربما عن حسد، وعاد إلى مهامه.
مكث كلود في مكانه يشهق الهواء الرطب الكئيب إلى رئتيه، ويشعر بالضيق وتأنيب الضمير. أدرك أن هذا كان صحيحا تماما؛ لقد أخذه الطبيب على حين غرة. كان يستمتع بحياته في تلك الأثناء، ولم يرد أن يكون آمنا في أي مكان. يشعر بالأسى على تانهويزر والآخرين، ولكنه لم يشعر بالأسى على نفسه. لم تزعجه المصاعب والمصائب التي وقعت في هذه الرحلة. بالطبع تذمر لأن الآخرين تذمروا. لكن الحياة لم تبد جذابة مثلما كانت تبدو هنا والآن. يمكنه أن يصعد من يوم عمل شاق في المستشفى، أو من رعاية فانينج البائس وبيضه الذي يداوم عليه، وينسى كل ذلك في غضون عشر دقائق. شيء ما بداخله، في مثل رخاوة الأمواج الرمادية الهائجة التي كانت تتقاذفهم، ما فتئ يتلاطم ويقول: «أنا هنا بكل ذاتي. لقد تركت كل شيء ورائي. أنا ماض في طريقي.»
لم يشعر بالبؤس حقا إلا في ذلك اليوم، اليوم البارد الذي أقيمت فيه جنازة الفيرجيني، عندما كان مصابا بدوار البحر. لا بد أن يكون بلا مشاعر، بالتأكيد، كي لا يتأثر بمعاناة رجاله وأصدقائه، لكنه لم يكن كذلك. كان عقله منشغلا بهم، وكان يفعل كل ما بوسعه من أجلهم، ولكن بدا له حينئذ أنه شعر أيضا بنوع من الرضا نتيجة لذلك، وكان نوعا ما مزهوا بكونه ذا فائدة للطبيب ترومان. يا له من سلوك طيب! كان يستيقظ كل صباح وفي قلبه ذلك الشعور بالحرية والاستمرارية، كأن العالم يكبر كل يوم وهو يكبر معه. كان الآخرون يصابون بالمرض ويموتون، وكان ذلك مروعا، لكنه كان ماضيا إلى الأمام هو والسفينة، ودائما إلى الأمام.
كان يحدث نفسه بأن شيئا ما ظل يصارع مدة طويلة، وتحرر أخيرا. من المفترض أن يصل إلى فرنسا منذ معركة إقليم المارن الأولى؛ قد تبع مسارات خاطئة، وأضاع وقتا ثمينا، ورأى ما يكفي من البؤس، ولكنه أصبح على المسار الصحيح أخيرا، ولا يمكن لأي شيء أن يوقفه. لو لم يكن غضا جدا، ويمنعه الحياء والخوف من إظهار مشاعره، وشديد الحمق في العثور على دربه؛ كان سينضم إلى الجيش في كندا، مثل فيكتور، أو يهرب إلى فرنسا ويلتحق بالفيلق الأجنبي. كل ذلك بدا ممكنا تماما الآن. فلماذا لم يفعل؟
حسنا، لم تكن تلك «طريقة آل ويلر.» كان آل ويلر يخشون للغاية من إقحام أنفسهم في أماكن ليس مرغوبا فيهم بها، ومن شق طريقهم في حشد لا ينتمون إليه. وكانوا أكثر خشية من فعل أي شيء قد يظهر تأثر مشاعرهم أو «رومانسيتهم». لم يستطيعوا أن يسمحوا لأنفسهم بأن ينتهجوا مسلكا لافتا للنظر، فضلا عن أن يسلكوا مسلكا غريبا، إلا إذا كان في إطار العمل اليومي. حسنا، لقد تعطف التاريخ مع شخص مثله، أصبحت هذه المغامرة الرائعة بكاملها عمله اليومي. لقد خاض غمار هذه التجربة في نهاية الأمر، مع فيكتور وجندي البحرية وأشخاص آخرين يتمتعون أصلا بقدر أكبر من الخيال والثقة بالنفس. قبل ثلاث سنوات، اعتاد أن يجلس مكتئبا عند الطاحونة لأنه لم يكن يعرف كيف لفتى مزارع من نبراسكا أن يتلقى أي «استدعاء»، أو في الواقع، أي طريقة يرمي بها نفسه في أتون الصراع الدائر في فرنسا. اعتاد أن يقرأ، والغيرة تأكله، عن ألان سيجر وأولئك الفتية الأمريكيين المحظوظين الذين كان لديهم الحق في القتال من أجل حضارة عرفوها.
لكن المعجزة حدثت؛ معجزة هائلة حتى إنها تضمنت آل ويلر، جميع أفراد عائلة ويلر، لدرجة أنها شملت ذوي الأسلوب الفظ وعديمي الطموح. نعم، لقد كان ذلك كله معجزة لأصحاب الأسلوب الفظ؛ كانت فرصتهم الذهبية. لقد انخرط فيها، ولم يكن يمكن لأي شيء أن يوقفه أو يثبطه إلا إذا نحي به جانبا، وهو ما كان مجرد مزحة؛ لأن ذلك كان احتمالا لم يفكر فيه جديا مطلقا. كان الشعور بوجود هدف، هدف مصيري، يختلج بقوة في صدره.
9 «انظر إلى هذه، أيها الطبيب!» التقى كلود بالطبيب ترومان وهو عائد من الإفطار، وسلمه ورقة مكتوبة وموقعة باسم رئيس المضيفين دي تي ميكس. كان مكتوبا في الورقة أنه لا يوجد بيض أو برتقال لتقديمه إلى المرضى لأن المؤن نفدت.
نظر الطبيب شزرا إلى الورقة. «أخشى أن تكون هذه الورقة بمثابة الحكم بإعدام مريضك. لن تتمكن من إبقائه على قيد الحياة بإطعامه أي شيء آخر. لماذا لا تتناقش في الأمر مع تشيسوب؟ إنه شخص واسع الحيلة. سألحق بك عنده في غضون بضع دقائق.»
كان كلود يتردد كثيرا على مقصورة الطبيب تشيسوب منذ تفشي الوباء، حتى إنه كان يحب الانتظار هناك عندما يذهب من أجل أدوية أو مشورة. كان مكانا مريحا، ويتسم بالخصوصية، ومزودا بستائر من قماش قطني مبهج. الجدران مليئة بالكتب، المثبتة في مكانها بألواح خشبية منزلقة على الجدران، ومزودة بأقفال في الأطراف. وتوجد مجموعة كبيرة جدا من الأعمال العلمية باللغتين الألمانية والإنجليزية؛ وبقية الكتب عبارة عن روايات فرنسية في أغلفة ورقية. هذا الصباح، وجد تشيسوب يزن مسحوقا أبيض على مكتبه. على الرف فوق سريره، يوجد الكتاب الذي كان هو نفسه قد قرأه ليلة البارحة حتى نومه؛ لفت العنوان، «جريمة حب»، المكتوب بحروف باللونين الأسود والأصفر، انتباه كلود. ارتدى الطبيب معطفه، وأشار إلى الزائر أن يجلس على المقعد ذي المفصلات الذي كان يفحص عليه المرضى في بعض الأحيان. شرح كلود مأزقه.
كان من الغريب أن يكون طبيب السفينة من كندا، أرض الرجال الضخام والخشونة. بدا مثل تلميذ، بيدين وقدمين صغيرتين وبشرة وردية. على عظمة وجنته اليسرى، توجد شامة بنية كبيرة، يغطيها شعر حريري، ولسبب ما بدا أن ذلك جعل وجهه أنثويا. من السهل معرفة السبب وراء عدم نجاحه في العمل الخاص. كان مثل شخص يحاول حماية سطح جلدي مسحوج من الحرارة والبرد؛ فهو مبتلى بشدة بعدم الثقة بالنفس، وكان لديه حساسية شديدة فيما يتعلق بمظهره الصبياني، لدرجة أنه اختار أن يحبس نفسه في سجن خشبي متأرجح في البحر. كان طول الرحلة إلى أستراليا قد ناسبه تماما. وخشونة الحياة والتلاطم تحت ظروف الطقس السيئة أهون عليه بكثير من المكوث في مكتب بالمدينة، والتعرض الدائم لشخصيات البشر.
لما أخبره كلود بأن تغذية فانينج مهددة بالنفاد، سأل: «هل جربت أن تعطيه الحليب المملت؟» «لم يتبق لدى الطبيب ترومان زجاجة واحدة. كم من الوقت في تقديرك سنظل في البحر؟» «أربعة أيام، وربما خمسة.»
قال الطبيب ترومان، الذي كان قد دخل لتوه: «سيفقد الملازم ويلر صديقه.»
وقف تشيسوب عابسا للحظة، ويجذب بعصبية أزرار معطفه النحاسية. أغلق مزلاج بابه والتفت إلى زميله قائلا بحزم: «بوسعي أن أمنحك بعض المعلومات، إذا لم تقحمني في الأمر. يمكنك فعل ما يحلو لك، ولكن لا تذكر اسمي في هذا الأمر. لعدة ساعات ليلة البارحة، ظل أحد مساعدي كبير المضيفين يحمل إلى مقصورة الأخير علب البيض وصناديق البرتقال من مطبخ السفينة. بغض النظر عن الميناء الذي نحن متجهون إليه، يمكنه أن يحصل على شلن عن كل علبة بيض طازج، وربما ستة بنسات عن البرتقال. هذه المؤن مملوكة لكم؛ فحكومتكم أمدتكم بها، ولكن هذه علاوته المتعارف عليها. لقد أمضيت على متن هذه السفينة ست سنوات، ودائما ما كان الأمر كذلك. قبل الوصول إلى أحد الموانئ بنحو أسبوع، يؤخذ أفضل ما يتبقى من المؤن إلى مقصورته، ويصرفها بعد أن نرسو. لا أعلم كيف يصرفها، ولكنه يفعل ذلك. ربما يكون الربان على علم بذلك العرف، وربما يوجد سبب ما وراء سماحه به. ليس من شأني أن يكون لي وجهة نظر في أي شيء. يتمتع رئيس المضيفين بنفوذ على متن السفن الإنجليزية. وإن حدث وكان لديه أي ضغينة نحوي، فعاجلا أو آجلا يمكن أن يجعلني أفقد عملي. ها هي الوقائع بين يديك.»
سأل الطبيب ترومان: «هل تأذن لي أن أذهب إلى رئيس المضيفين؟» «بالطبع لا. ولكن يمكنك أن تذهب دون علمي. إنه رجل فاجر في الخصومة عندما يغضب، ويمكنه أن ينغص العيش عليك وعلى مرضاك.» «حسنا، لن نتحدث عن الأمر أكثر من ذلك. أقدر لك أن أخبرتني، وسأحرص على عدم إقحامك في الأمر. أيمكنك أن تذهب معي لمعاينة تلك الحالة الجديدة المصابة بالتهاب السحايا؟»
انتظر كلود بصبر نافد في مقصورته عودة الطبيب. لم يفهم السبب وراء عدم فضح رئيس المضيفين والتعامل معه مثل أي وغد آخر. كان يكره الرجل منذ سمعه يوبخ المضيف المسن المسئول عن الحمام صبيحة أحد الأيام. لم يحاول هوكينز أن يدافع عن نفسه، ولكنه وقف مثل كلب تعرض لضرب مبرح، وجسده كله يرتعش، ويقول: «نعم يا سيدي. نعم يا سيدي»، بينما كان رئيسه يسبه ببرود بصوت منخفض مزمجر. لم يكن قد سبق لكلود أن سمع إنسانا أو حتى حيوانا يخاطب بهذا القدر من الاحتقار. كان رئيس المضيفين ذا وجه يوحي بالقسوة؛ أبيض كالجبن، وله شعر منهك رطب ممشط إلى الخلف من أعلى جبهته؛ الشعر الدهني الغريب الذي يبدو أنه لا ينمو إلا على رءوس المضيفين والندل. كانت عيناه تشبهان بالضبط حبتي لوز ، ولكن جفونهما كانتا منتفختين لدرجة أن بؤبؤ العين ذا اللون الباهت لم يكن يرى إلا من خلال فتحة ضيقة. وكان شارب طويل فاتح اللون يتدلى كأنه هداب فوق شفتيه المفتوحتين.
عندما عاد الطبيب ترومان من المستشفى، أعلن أنه مستعد الآن لأن يزور السيد ميكس. «إنه شخص قبيح الخلقة، ولكنه لا يستطيع فعل أي شيء لي.»
ذهبا إلى مقصورة رئيس المضيفين وطرقا الباب.
رد صوت مهدد: «ماذا تريد؟»
رمى الطبيب رفيقه بتكشيرة ودخل. كان رئيس المضيفين يجلس على مكتب كبير مغطى بدفاتر الحسابات. أدار كرسيه. وقال ببرود: «أستميحك عذرا، لا أرى أي أحد هنا. سأكون ...»
رفع الطبيب يده بسرعة. «لا بأس أيها المضيف. أعتذر على تطفلي، ولكن لدي شيء يجب أن أقوله لك على انفراد. لن آخذ من وقتك طويلا.» اعتقد كلود أنه لو كان تردد للحظة، كان رئيس المضيفين سيطرده، ولكنه أردف بسرعة. «هذا هو الملازم ويلر، يا سيد ميكس. أحد زملائه من الضباط يرقد مريضا بالتهاب رئوي في المقصورة 96. حافظ الملازم ويلر على حياته برعاية خاصة. إنه لا يستطيع الاحتفاظ بأي طعام في معدته عدا البيض وعصير البرتقال. وإذا توفرت له هذه الأطعمة، فربما نتمكن من الحفاظ على قوته حتى تزول الحمى، ونحمله إلى مستشفى في فرنسا. إن لم نحصل له عليها، فسيموت في غضون أربع وعشرين ساعة. هذا هو الوضع.»
نهض المضيف ووجه المصباح الموضوع على مكتبه إلى الخارج. «هل تلقيت إخطارا بنفاد كمية البيض والبرتقال على متن السفينة؟ إذن يؤسفني القول إنه لا يمكنني فعل شيء لك. لست أنا من أمد هذه السفينة بالمؤن.» «كلا، أنا أفهم ذلك. أعتقد أن حكومة الولايات المتحدة وفرت الفاكهة والبيض واللحم. وأعلم يقينا أن الأصناف التي أحتاج إليها من أجل مريضي لم تنفد. دون الخوض في مزيد من التفاصيل، أحذرك أنني لن أترك ضابطا من الولايات المتحدة يموت بينما وسائل إنقاذه متاحة. سأذهب إلى الربان، وسأدعو الضباط على متن السفينة إلى اجتماع. سأفعل أي شيء لأنقذ هذا الرجل.» «هذا شأنك، ولكنك لن تتدخل في طريقة أداء واجباتي. هلا غادرت مقصورتي؟» «بعد لحظة، أيها المضيف. أعلم أنه ليلة البارحة حمل عدد من علب البيض والبرتقال إلى هذه الغرفة. إنها هنا الآن، وهي تخص قوات المشاة الأمريكية. إذا وافقت على تقديم المئونة لمريضي، فلن يعرف أحد آخر ما أعرفه. أما إن رفضت، فسأعمل على فتح تحقيق في هذا الأمر. لن أتوقف حتى أفعل.»
جلس المضيف وأخذ قلما. بدت يده الكبيرة الناعمة بيضاء بياض الجبن، مثل وجهه. سأل بعدم اكتراث: «ما رقم المقصورة؟» «ستة وتسعون.» «ما المطلوب بالضبط؟» «دزينة من البيض ودزينة من البرتقال كل أربع وعشرين ساعة، على أن تصل في الوقت الذي يناسبك.» «سأرى ما يمكنني فعله.»
لم يرفع رئيس المضيفين عينه عن لوحة الكتابة أمامه، وخرج ضيفاه بغتة مثلما دخلا.
في نحو الساعة الرابعة من كل صباح، قبل حتى أن يضطلع المضيف المسئول عن الحمامات بمهامه، كان باب مقصورة كلود يطرق طرقا خفيفا، ويترك مرسال لم يغتسل، ونصفه العلوي عار، وعليه إزار مربوط حول خصره، وصدره المشعر ملطخ بالدقيق؛ سلة مغطاة أمام الباب. لم يتكلم مطلقا، وكان لديه عين واحدة فقط، ومحجر عين متورم. عرف كلود أنه شقيق لرئيس المضيفين ومصاب بإعاقة ذهنية، ويعمل في تقشير البطاطس وغسل الأطباق في مطبخ السفينة.
بعد أربعة أيام من محادثتهما مع السيد ميكس، عندما كانوا أخيرا يقتربون من نهاية الرحلة، أوقف الطبيب ترومان كلود بعد فحص طبي كي يخبره أن رئيس المضيفين قد ظهرت عليه أعراض الوباء. «أرسل في طلبي ليلة البارحة، وطلب مني أن أتولى حالته؛ لن يتعامل مع تشيسوب مطلقا. تعين علي أن أحصل على تصريح من تشيسوب. بدا مسرورا جدا بتسليم الحالة لي.» «هل حالته سيئة جدا؟» «ليس لديه فرصة في الشفاء، وهو يعلم ذلك. ثمة مضاعفات؛ داء برايت المزمن. يبدو أن لديه تسعة أطفال. سأحاول أن أدخله مستشفى عندما نصل إلى ميناء، ولكنه لن يعيش أكثر من بضعة أيام على أقصى تقدير. أتساءل من سيحصل على الشلنات مقابل كل البيض والبرتقال الذي اكتنزه.» تكلم الطبيب بحيوية مفاجئة: «كلود، يا ولدي، إذا وضعت قدمي على اليابسة مرة أخرى، فسأنسى هذا الرحلة كأنها كانت كابوسا. عندما أكون بعافيتي، أنتمي إلى الكنيسة المشيخية، ولكني الآن أشعر أنه حتى الأشرار ينالون أسوأ مما يستحقون.»
أخيرا أتى يوم استيقظ فيه كلود من نومه يكتنفه شعور بالسكون. قفز من سريره شاعرا بخوف مشوش من أن أحدا ما قد مات، لكن فانينج كان راقدا في سريره يتنفس بهدوء.
لفت انتباهه شيء ما عبر الكوة؛ حافة يابسة عريضة رمادية تبرز في ضوء الفجر الوردي، عظيمة ومستقرة بغرابة بعد عدم الاستقرار المزعج للبحر. أشجار باهتة وتحصينات طويلة ومنخفضة ... مبان رمادية قريبة ذات أسقف حمراء ... زوارق صغيرة تبحر نحو البحر ... وفوق الجرف، قلعة كئيبة.
كان ما برح يفكر في أن وجهته بلد ممزق وخرب؛ «فرنسا الدامية»، ولكنه لم يكن قد رأى قط أي شيء بدا في غاية القوة والاكتفاء والثبات من أول مبنى، مثل الساحل الذي كان ماثلا أمامه. كان مثل أحد أعمدة الخلود. تحت قدميه، كان البحر الخضم يقبع خانعا، وفوق رأسه يشرق الصبح هادئا.
هذا الجدار الرمادي الثابت والقوي كان نهاية تحضير طويل؛ إذ كان نهاية البحر. كان سبب كل ما حدث في حياته على مدار خمسة عشر شهرا مضت. كان السبب في أن تانهويزر والفيرجيني اللطيف، وعديدين آخرين ممن انطلقوا معه في الرحلة، لن يحظوا بأي حياة على الإطلاق، أو حتى بميتة جندي. كانوا مجرد نفايات في مؤسسة كبيرة، ألقيت من فوق السفينة مثل حبال بالية. بالنسبة إليهم، لن يكون لهذا الانعتاق اللطيف - الأشجار والشاطئ الساكن والمياه الهادئة - وجود أبدا. تساءل، إلى متى ستظل أجسادهم مطروحة في تلك المملكة اللاإنسانية التي تكتنفها الظلمة وعدم الراحة؟
أجفله صوت ضعيف آت من خلفه. «كلود، هل وصلنا؟» «أجل يا فانينج. لقد وصلنا.»
الكتاب الخامس
«الرهان على استمرار تحليق نسور الغرب»
1
في ظهيرة ذلك اليوم، وجد كلود نفسه في شارع به متاجر صغيرة، محتر ومتعرق، حائر تماما ولا يعرف وجهته. أخذ سائقو الشاحنات وصبية على دراجات هوائية بدون أجراس يصيحون فيه بسخط وغضب. استظل بظل شجيرة دلب ووقف عند جذعها، كأنما يمكن أن تحميه. على أي حال، كان أكبر شواغله قد رفع عن كاهله. بمساعدة فيكتور مورس، كان قد استأجر سيارة أجرة مقابل أربعين فرنكا، وأخذ فانينج إلى مستشفى القاعدة، ورآه بين ذراعي معاون تمريض ضخم من تكساس. خرج من المستشفى دون أن يكون لديه أي فكرة عن المكان الذي كان ذاهبا إليه، باستثناء أنه أراد الوصول إلى قلب المدينة. ولكن بدا أنها كانت بلا قلب؛ فقط شرايين طويلة متحجرة، مفعمة بالحرارة والضوضاء. كان لا يزال واقفا هناك، تحت شجرة الدلب، عندما أقبلت مجموعة من أشخاص غير محددين، يبدون تائهين، في ثياب بنية، يتقدمهم الرقيب هيكس، يسيرون على غير هدى في الشارع؛ تسعة رجال لكل منهم همه، وكل واحد منهم يحمل رغيفا طويلا تحت ذراعه. حيوا كلود بابتهاج، واعتدلوا في مشيتهم، وبدوا كأنهم وجدوا طريقهم الآن! رأى أنه لا بد أن تكون شجرة دلب لشخص آخر.
أوضح الرقيب هيكس أنهم كانوا يتسكعون في شوارع المدينة بحثا عن جبن. بعد ستة عشر يوما من الطعام الصعب الهضم، العديم الطعم، كان الجبن هو كل ما يبتغون. كان يوجد متجر بقالة على ناصية الشارع، وبدا أنه تتوفر فيه كافة أنواع البقالة عدا الجبن. كان قد حاول أن يجعل المرأة العجوز تفهمه باستخدام الإشارات. «أيا كان، ألا يأكل هؤلاء الفرنسيون الجبن؟ ماذا تعني كلمة الجبن في لغتهم، أيها الملازم؟ لتحل علي اللعنة لو كنت أعرف، ولقد فقدت كتاب العبارات. أتظن أنك تستطيع أن تجعلها تفهم؟» «حسنا، سأحاول. تعالوا معي، أيها الفتيان.»
احتشد الرجال العشرة، ودخلوا المتجر. هرعت صاحبة المتجر نحوهم بصيحة قانطة. كان من الواضح أنها قد ظنت أنها انتهت منهم، ولم يسرها أن تراهم عائدين. عندما توقفت لالتقاط أنفاسها، خلع كلود قبعته احتراما، وقام بأجرأ عمل في حياته؛ ألا وهو التلفظ بأول جملة من كتاب العبارات خاطب بها شخصا فرنسيا في حياته. وقف رجاله خلفه، وتعين عليه أن يقول شيئا ما أو أن يهرب، لم يكن يوجد سبيل آخر. نظر إلى المرأة العجوز في عينيها، وقال بنبرة ثابتة بالفرنسية: «هل لديك جبن، يا سيدتي؟» ظن أن إلهاما نزل عليه وجعله يضيف الكلمة الأخيرة؛ وعندما أفلح ذلك أصابه ذهول شديد، وكأن رصاصة انطلقت من مسدسه وهو في حزامه.
صاحت صاحبة المتجر: «جبن؟» صاحت ببضع كلمات إلى ابنتها، التي كانت جالسة إلى المكتب، وأمسكت كلود من كمه، وسحبته خارج المتجر، وجرت في الشارع وهو معها. جرته إلى مكان تغطيه ستارة طويلة، وألقت التحية على صاحبة المكان، ثم دفعت الرجال خلف قائدهم كأنهم جحوش عنيدة.
وقفوا يرمشون في الظلام، ويستنشقون رائحة لاذعة ورطبة وزبدية ولزجة، إلى أن اخترق بصرهم الظلام، ورأوا أن المكان لم يكن يوجد فيه سوى الجبن والزبد. كانت صاحبة المتجر امرأة سمينة، ذات حاجبين أسودين متصلين فوق أنفها، وكانت مشمرة عن ساعديها، ورداؤها القطني مفتوحا فوق رقبتها ونهديها الأبيضين. همت من فورها أن تقول لهم إنه توجد قيود على منتجات الألبان، ولا بد أن يكون مع كل فرد بطاقات، وإنه ليس بوسعها أن تبيع لهم كمية كبيرة. ولكن سرعان ما لم يعد يوجد ما يتنازع عليه. انقض الفتية على مخزونها كالذئاب. اختفت الأجبان البيضاء الصغيرة التي كانت قابعة فوق أوراق خضراء داخل الأفواه الواسعة. قبل أن تتمكن من إنقاذ قطعة جبن كبيرة دائرية الشكل، انقض هيكس عليها، وأخذ يقطعها مثل بطيخة. قالت لهم إنهم خنازير قذرة، وأسوأ من الجنود الألمان، ولكنها لم تستطع أن توقفهم. «ما خطب تلك العجوز، أيها الملازم؟ علام الجلبة التي تثيرها؟ أليست هنا من أجل بيع السلع؟»
حاول كلود أن يبدو أحكم مما كان عليه. وقال: «بناء على ما فهمت، توجد بعض القيود؛ ليس مسموحا لكم شراء كل ما تريدون. كان علينا أن نفكر في ذلك؛ فهذا بلد في حالة حرب. أظن أننا استهلكنا كل مخزونها.»
قال هيكس وهو يمسح سكين جيبه: «أوه، لا بأس.» وأضاف: «سنحضر لها بعض السكر غدا. أخبرني أحد الأشخاص الذين ساعدونا في تفريغ حمولة السفينة في الميناء أنه يمكنك تهدئتهم بإعطائهم السكر.»
أحاطوا بها وأخرجوا نقودهم كي تأخذ ثمن ما أخذوه. وقالوا: «خذي المال أيها السيدة، ولا تخجلي. ما الخطب؟ أليست هذه النقود صالحة؟»
شتت انتباهها الضوضاء التي أحدثوها، ووجوههم البرونزية وأسنانهم البيضاء وأعينهم الشاحبة، وهم يتزاحمون قريبا جدا منها. عشر أياد كبيرة جيدة الشكل ذات أصابع مستقيمة، وكفوف مفتوحة وممتلئة بالأوراق النقدية المجعدة ... لما أوقفت الرجال بحجة البحث عن قلم رصاص، أجرت حسابات سريعة. لم يكن المال الذي وضعوه في كفوفهم ذا أهمية لهؤلاء الرجال الضخام المتملقين والصاخبين؛ كان محل تندر بينهم، لم يكونوا يعرفون ما يعنيه في العالم. من خلفهم كانت توجد حمولات سفن من الأموال، وخلف السفن ...
كان الموقف غير عادل. سواء أخذت الكثير أو القليل من أيديهم، لم يكن يمكن لهذا أن يشغل بال الأمريكيين، ولم يكن يمكن حتى أن يفسد عليهم مزاجهم الجيد. ولكن كان ثمة ضغط على بائعة الجبن، وكانت المعايير التي عاشت عليها طوال حياتها معرضة للخطر. كان عقلها مضبوطا بطريقة آلية على «اثنين ونصف»؛ أي كانت ستتقاضى منهم سعرا أعلى من سعر الجبن في السوق بمقدار مرتين ونصف. لما تشبثت بهذا الداعم الأخلاقي، أجرت تغييرا بدقة أملاها عليها ضميرها، ولم تأخذ من أيهم بنسا أكثر. بعدما أخبرتهم كم هم أغبياء، وأنه من الضروري أن يتعلموا الحساب في هذا العالم، استحثهم على الخروج من المتجر. أعجبت بهم كثيرا، ولكنها لم تحب التعامل معهم. لو لم تأخذ نقودهم، كان سيأخذها غيرها. ومع ذلك، كانت تمقت القيم الزائفة؛ إذ كانت تجعل كل شيء يبدو رديئا وغير آمن.
وقفت عند المدخل، وأخذت تراقب مجموعة الرجال ذوي الملابس البنية وهم يسيرون على غير هدى في الشارع؛ لما عبروا أمام كنيسة القديس جاك القديمة، تعثر الاثنان اللذان كانا يمشيان في الأمام في درجة غائرة كانت لا تكاد تعلو فوق مستوى الرصيف. ضحكت بصوت عال. نظروا خلفهم ولوحوا لها. ردت عليهم بابتسامة كانت تنم عن الود والغضب في آن واحد. أعجبت بهم، ولكنها لم تحب حكايات التبذير والإسراف التي سبقتهم وشاعت عنهم قبل أن يأتوا وتبعتهم بعدما غادروا. كان هذا متجاوزا للحد ومفسدا في عالم ذي واقع أليم. جيش كان جنوده يأكلون اللحم في الإفطار، ويأكلون كل يوم أكثر مما كان يتحصل عليه الجنود الفرنسيون على الجبهة في أسبوع! كانت مطابخهم المتنقلة وقطارات إمداداتهم أعجوبة فرنسا. في جنوب مدينة آرل، حيث كانت أخت زوجها متزوجة، على سهل كراو المقفر، كانت مؤنهم المعلبة مكدسة مثل سلاسل الجبال، تحت السقائف والخيام. لم يكن قد سبق لأحد أن رأى هذا القدر الهائل من الطعام؛ القهوة، والحليب، والسكر، واللحم المقدد، ولحم الخنزير؛ كل شيء كان العالم يفتقر إليه. أحضروا أيضا حمولات سفن من أشياء عديمة النفع. وكذلك أناس عديمو النفع. أتوا بحمولات سفن من نساء لم يكن ممرضات؛ قال البعض إنهن أتين من أجل الرقص مع الضباط؛ حتى لا يصيبهم الضجر.
كل هذا لم يكن حربا، بقدر ما كان أموالا يدفعها إليك رجال بالغون لا يعرفون العد، كان تجارة. كان غزوا، مثل الغزو الآخر. دمر الأول الممتلكات المادية، وهدد هذا السلامة المعنوية للجميع. خيم النفور من مثل هذه الأساليب والارتياب العميق والتشكك فيها على جبين بائعة الجبن وهي ترمي نقودها في الدرج وتقفل عليها بالمفتاح.
أما جنود المشاة، فبعدما تعثرت أصابع أقدامهم في الدرجة الغائرة، تفحصوها باهتمام، ودخلوا لاستكشاف الكنيسة. كانوا قد عقدوا النية على ألا يدعوا كنيسة تفلت منهم، مثلما عقدوا النية على ألا يتركوا ألمانيا يهرب. داخل الكنيسة، صادفوا جماعة من رفقائهم على السفينة، ومنهم فرقة كانساس، وتفاخروا أمامهم بأن الملازم «يتحدث الفرنسية مثل السكان المحليين».
ظن الملازم أنه يحرز تقدما جيدا جدا، ولكن بعد بضع ساعات تعرض كبرياؤه للإذلال. كان جالسا بمفرده في حديقة صغيرة مثلثة الشكل بجانب كنيسة أخرى، مبديا إعجابه بأشجار الطلح المقصوصة، ويراقب بعض النساء العجائز اللواتي كن يصلحن أغراضهن في الظل. أقبل عليه طفل صغير يرتدي رداء أسود، حليق الرأس وحاسرها ، وهو يقفز على حبل. قفز بخفة حتى وصل إلى كلود وقال، بالفرنسية، بصوت مقنع وواثق للغاية: «من فضلك يا سيدي الجندي، هلا أخبرتني بالوقت؟»
نظر كلود إلى عينيه اللتين كان يبدو فيهما الإعجاب، وانتابه شعور بالهلع. لم يكن يضيره أن يبدو أحمق في نظر رجل، أو حتى في نظر فتاة جميلة، ولكن هذا الموقف كان مروعا. جف لسانه، واحمر وجهه. تحولت نظرة الترقب في عيني الطفل إلى نظرة ارتياب، ثم خوف. كان قد سبق له أن تحدث إلى أمريكيين لم يفهموه، ولكن لم تحمر وجوههم ويبد عليهم الغضب هكذا؛ لا بد أن الجندي مريض، أو به علة في عقله. استدار الطفل وجرى مبتعدا.
كان الكثير من الحوادث الخطيرة أقل تكديرا لكلود. أصابه الإحباط أيضا. كان ثمة شيء ودود في وجه الطفل ابتغاه ... بل احتاج إليه. بينما كان ينهض، ضغط بكعبه على الحصى. وتمتم محدثا نفسه: «إن لم أتعلم كيفية التحدث إلى «أطفال» هذا البلد، فسأعود إلى دياري!»
2
انطلق كلود يبحث عن فندق جراند، حيث كان قد وعد فيكتور مورس أن يتناول العشاء معه هناك. تحدث الناطور هناك اللغة الإنجليزية. نادى صبيا ذا شعر أحمر يرتدي لباسا موحدا متسخا، وأمره أن يأخذ الأمريكي إلى رقم أربعة وعشرين. تحدث الصبي أيضا باللغة الإنجليزية. قال: «أظن أن نيويورك فيها أموال كثيرة! في فرنسا، لا توجد أموال.» قاده عبر ممرات تنبعث منها رائحة العفن وصعودا على درج زلق، لأطول مدة ممكنة، وهو ينظر إلى الزائر بفطنة، ويفرك إبهامه في أصابعه توترا طوال الوقت.
أعلن باللغتين الفرنسية والإنجليزية: «أربع وعشرون»، وهو يقرع الباب بإحدى يديه ويفتح الأخرى بطريقة موحية. وضع كلود فيها شيئا؛ أي شيء كي يتخلص منه.
كان فيكتور واقفا أمام المدفأة. قال: «مرحبا يا ويلر، تفضل بالدخول. سيقدم عشاؤنا هنا. هذه الغرفة كبيرة جدا، أليس كذلك؟ لم أستطع أن أحصل على شيء وسط بين غرفة بحجم حظيرة الدجاج، وهذه بخمسة عشر دولارا في اليوم.»
كانت الغرفة واسعة بما يكفي لإقامة مأدبة؛ تضم سريرين كبيرين، ونوافذ كبيرة تفتح إلى الداخل على مفصلات، مثل الأبواب، وكان واضحا أنها لم تغسل منذ وقت ما قبل الحرب. كانت الستائر المصنوعة من الديباج القطني الأحمر الثقيل والستائر المصنوعة من الدانتيل متصلبة بسبب ما كانت تحويه من غبار، وأعقاب السجائر وأعواد الثقاب متناثرة على السجادة السميكة. كانت شفرات حلاقة وصناديق ملابس من طراز «كاكي كومفورت» ملقاة حول التسريحة، وشاغلو الغرفة السابقون قد تركوا توقيعاتهم على غبار الطاولة. نام جنود فيها، ورحلوا، ووصل جنود آخرون؛ وبقيت الغرفة على حالها، مثل غابة يخيم فيها المسافرون ويمضوا ليلتهم. لم يأخذ مسئول تجهيز الغرف من الغرفة سوى ما كان يمكنه أن يستخدمه؛ قمصانا مهملة وجوارب وأحذية قديمة. بدا المكان كئيبا نوعا ما ولا يصلح لإقامة حفل.
عندما جاء النادل، نفض الغبار عن الطاولة بمئزره، ووضع مفرشا نظيفا ومناديل وكئوسا. جلس فيكتور وضيفه تحت مصباح كهربي ذي مظلة مكسورة، وتدور حوله هالة صامتة من الذباب دون توقف. لم يصدر الذباب أزيزا، ولم يندفع عاليا، ولم يهبط كي يتذوق الحساء، ولكنه ظل معلقا هناك في مركز الغرفة كأنه جزء من نظام الإضاءة. أحرج الحضور المستمر للنادل كلود؛ إذ شعر بأنه مراقب.
بينما كانت أطباق الحساء ترفع، قال فيكتور: «بالمناسبة، ما رأيك في هذا النبيذ؟ لقد كلفتني الزجاجة ثلاثين فرنكا.»
رد كلود: «يعجبني مذاقه جدا. ولكن مع ذلك، هذه هي المرة الأولى التي أشرب فيها الشمبانيا.» «حقا؟» تجرع فيكتور كأسا أخرى وتنهد. «أنا أغبطك. ليتني أعيد كرة كل شيء من جديد. الحياة قصيرة للغاية كما تعرف.» «يجب أن أقول إنك بدأت بداية جيدة. نحن بعيدون جدا عن كريستال ليك.» «لسنا بعيدين بما يكفي.» مد مضيفه يده عبر الطاولة، وملأ كأس كلود الفارغة. «أحيانا أستيقظ وبداخلي شعور بأنني عدت إلى هناك. أو تراودني أحلام سيئة، وأجد نفسي جالسا على ذاك الكرسي اللعين داخل القفص الزجاجي ولا أستطيع أن أجعل دفاتر حساباتي متوازنة؛ أسمع الرجل العجوز يسعل في غرفته، الطريقة التي يسعل بها عندما يكون سيرفض أن يمنح قرضا لشخص مسكين يحتاج إليه. لقد نجوت بأعجوبة يا ويلر؛ «كشعلة منتشلة من الحريق». لا أتذكر من الكتاب المقدس غير تلك الآية.»
بدا أن البقع الحمراء البراقة في وجنتي فيكتور، وجبهته الشاحبة، وعينيه اللامعتين، وشاربه الصغير الأنيق؛ تعطي اقتباسة حيوية غريبة. غبطه كلود. لا بد أنه من الممتع جدا أن تستحوذ على دور وتلعبه حتى النهاية؛ أن تؤمن بأن المرء يبني كيانه من جديد، وأن تحب شخصيتك التي بنيتها لنفسك. أعجب هو الآخر بطريقة ما بفيكتور، على الرغم من أنه لم يستطع أن يؤمن به على الإطلاق.
قال: «لن ترجع مرة أخرى، لن أقلق حيال ذلك الأمر.» «صدقني عندما أقول لك إنه يوجد الآلاف ممن لن يرجعوا أبدا! أنا لا أتحدث عن الضحايا. من المحتمل أن يكتشف بعض منكم، أيها الأمريكيون، العالم في هذه الرحلة ... وسيصنع هذا فارقا كبيرا للغاية! لم تحصلوا أيها الفتية على فرصة عادلة. تتآمر عليكم الكنيسة والدولة لإخضاعكم. أنا ذاهب للتسلية مع بعض الفتيات الليلة، هل تأتي معي؟»
ضحك كلود. «لا أظن ذلك.» «ولم لا؟ لن يقبض عليك، أضمن لك ذلك.»
تحدث كلود معتذرا: «لا أظن ذلك. سأخرج لزيارة فانينج بعد العشاء.»
هز فيكتور كتفيه. «ذاك الأحمق!» أشار إلى النادل كي يفتح زجاجة أخرى ويحضر القهوة. «حسنا، هذه فرصتك الأخيرة كي تذهب لمعاشرة الفتيات معي.» نظر بانتباه إلى كلود ورفع كأسه. «في نخب المستقبل، ولقائنا التالي!» عندما وضع كأسه الفارغة، قال: «جاءتني برقية اليوم، سأغادر غدا.» «إلى لندن؟» «إلى مدينة فردان.»
التقط كلود نفسا سريعا. فردان ... كان وقع الاسم على سمعه كئيبا، مثل القرع على طبول مجوفة. كان فيكتور ذاهبا إلى هناك غدا. هنا يمكن للمرء أن يستقل القطار إلى فردان، أو إلى مكان قريب منها، مثلما يستقل المرء القطار في مسقط رأسه إلى أوماها. شعر أنه «وصل إلى هناك» أكثر مما شعر سابقا، وشعر ببعض الانفعال المحتدم يسري في سائر جسمه. حاول أن يظهر عدم اكتراثه: «ألن تذهب إلى لندن قريبا؟»
أجاب فيكتور بكآبة: «الرب وحده يعلم.» رفع ناظريه إلى السقف، وبدأ يصفر بعذوبة نغمة ساحرة. «هل تعرف تلك النغمة؟ إنها شيء تعزفه مايزي كثيرا؛ «ورود بيكاردي». لن تعرف ما يمكن أن تكون عليه شخصية المرأة حتى تقابلها، يا ويلر.» «أرجو أن أحظى بتلك الفرصة السعيدة. كنت أتساءل إن كنت نسيتها في الوقت الحالي. ألا تعترض على هذه الانحرافات؟»
رفع فيكتور حاجبيه بطريقة الغطرسة القديمة. «لا تطلب النساء ذلك النوع من الإخلاص من رجال القوات الجوية. فارتباطاتنا متقلبة للغاية.»
بعد نصف الساعة، كان فيكتور قد ذهب في مغامرة عاطفية، وكان كلود يتجول وحيدا في شارع مضاء بإضاءة ساطعة، ويعج بالجنود والبحارة من كل الأمم. كان يوجد أناس سود من السنغال، ورجال من مرتفعات اسكتلندا يرتدون تنانير، وسائقو شاحنات صغار من سيام؛ وكلهم يتحركون ببطء بين صفوف الملاهي الليلية ودور السينما. كانت الفروع الطويلة لأشجار الدلب تتلاقى فوق الرءوس، فتحجب الشمس وتشكل سقفا ينفذ منه الوهج البرتقالي. كانت الأرصفة مكدسة بالكراسي والطاولات الصغيرة، التي كانت يجلس عليها جنود البحرية والمشاة يحتسون المسكرات والكونياك والقهوة. من كل مدخل، كانت آلات الموسيقى تصدح بألحان الجاز ومارشات سوزا العسكرية الصاخبة. كانت الضوضاء مروعة. في منتصف الشارع، خرجت مجموعة من الفتيات حاسرات الرأس، ذوات مظهر جريء وقوي؛ كن يتبعن سربا من الأمريكيين المحرجين ويهرولن وسطهم، ويتأبطن أذرعهم، ويطلبن هدايا، ويصحن: «هلا رقصت معي الفوكستروت، يا سام؟»
وقف كلود أمام دار سينما، وحيث كان مكتوبا بالفرنسية على اللافتة المضاءة بالأضواء الكهربائية «الحب، عندما يتملكنا!» ووقف يراقب الناس. في هذا الحشد الذي مر به، وقعت عيناه على اثنين يسيران وقد تشابكت ذراعاهما ويداهما، ويتحدثان بلهفة غير واعيين بالزحام؛ لاحظ على الفور أنهما كانا مختلفين عن الأزواج المتحابين الآخرين الذين كانوا يتسكعون في الشارع.
كان الرجل يرتدي زيا أمريكيا، وذراعه اليسرى مبتورة من عند الكوع، وكان رأسه مائلا وكأن رقبته كانت متيبسة. وجهه الأسمر النحيل يكتسي بتعبير عن قلق شديد، وحاجباه يختلجان كأنه يعاني ألما لا يفارقه. بدت الفتاة مهمومة هي الأخرى. عندما مرا به، تحت الإضاءة الحمراء للافتة «الحب»، كان بوسع كلود أن يرى أن عينيها كانتا مغرورقتين بالدموع. كانت عيناها واسعتين وزرقاوين وتوحيان ببراءتها، ووجهها أجمل وجه رآه منذ أن وطئت قدماه اليابسة. من شالها الحريري وقلنسوتها الصغيرة ذات الأشرطة الزرقاء والطوق الأبيض، ظن أنها لا بد أن تكون من الريف. بينما كانت تستمع إلى الجندي، وفمها نصف فاغر، رأى فرجة بين ثنيتيها العلويتين، كما في حال الأطفال الذين نمت سنتهم الثانية لتوها. بينما كانا يشقان طريقهما في الزحام، كانت ترفع ناظريها باهتمام شديد إلى الرجل بجانبها، أو تشيح بهما نحو الضوء الذي غشي بصرها؛ حيث كان من الواضح أنها لم تكن ترى شيئا. بدا أن وجهها النضر والناعم كان حديث عهد بالعاطفة، وكانت نظرتها المتحيرة تشعر المرء بأنها لم تكن تعرف أين تتجه.
دون أن يدرك ما كان يفعل، تبعهما كلود حتى خرجا من الزحام إلى شارع هادئ، ثم إلى شارع آخر أكثر خلوا من المارة، حيث بدا كأن قاطني منازله كانوا نياما منذ مدة طويلة. هنا لم توجد مصابيح شوارع، ولا حتى ضوء في النوافذ؛ إذ لم توجد سوى ظلمة طبيعية؛ والقمر فوق الرءوس يلقي بظلاله الحادة على الرصيف المكسو بحجارة بيضاء. انعطف الشارع الضيق، وخرج إلى الكنيسة التي كان قد دخلها هو ورفاقه بعد ظهر ذلك اليوم. بدت أكبر في الليل، ولولا الدرجة الغائرة، ما كان سيصبح واثقا من أنها هي ذاتها. بدت المنازل المظلمة المجاورة مائلة باتجاهها، وسطع ضوء القمر الفضي القاتم على واجهتها البالية.
نزل الاثنان السائران أمامه الدرجات وانزويا إلى داخل المدخل العميق، وهناك تعانقا عناقا طويلا وساكنا حتى إنه كان كالموت. في النهاية تباعدا وهما يرتجفان. جلست الفتاة على المقعد الحجري بجانب الباب. ألقى الجندي بجسده على الرصيف عند قدميها، ووضع رأسه على ركبتها، وذراعه الوحيدة ممددة في حجرها.
في ظل المنازل المقابلة، ظل كلود يراقب مثل حارس على أهبة الاستعداد لأن يساندهما إن طرأ شيء أفزعهما. مالت الفتاة على الجندي وهي تربت على رأسه بنعومة، حتى إنها ربما كانت تجعله يخلد إلى النوم؛ وأمسكت بيده الوحيدة ووضعتها على صدرها كأنها تسكن ألما ألم به. خلفها مباشرة عند البوابة المنحوتة، وقف أسقف عجوز، يرتدي قلنسوة مدببة ويمسك بصولجان مكسور، رافعا إصبعين إلى أعلى.
3
في الصباح التالي عندما وصل كلود إلى المستشفى كي يزور فانينج، وجد الجميع مشغولين للغاية، ولم يكن في وسع أحد أن يوليه اهتماما. كان الفناء ممتلئا بسيارات الإسعاف، وانتظر طابورا طويلا من الشاحنات خارج البوابة. كانت قد دخلت حمولة قطار من الجرحى الأمريكيين، الذين كانوا قد أرسلوا من مستشفيات الإجلاء لينتظروا نقلهم إلى الوطن.
بينما كان الرجال يمرون عليه محمولين، جال في عقله أنهم بدوا كأنهم كانوا مرضى مدة طويلة؛ بالفعل بدا أنهم لم يكن من الممكن أن يتماثلوا للشفاء قط. لم يكن الفتية الذين ماتوا على متن سفينة أنخيسيس بادين مرضى مثلما بدا هؤلاء. كانت بشرتهم صفراء أو أرجوانية، وأعينهم غائرة، وشفاههم متقرحة. كان كل شيء ذي صلة بالصحة الجيدة قد تولى عنهم، وكل سمة من سمات الشباب ولت. لم يتوقف جندي بائس، كان وجهه وجذعه ملفوفين بالقطن، عن الأنين، وبينما كان محمولا في الرواق كانت رائحته كريهة. علق مساعد التمريض من تكساس قائلا لكلود: «في البداية لم يبتر من ذلك الشخص سوى إصبع واحدة؛ هل تصدق هذا؟»
كان هؤلاء أول دفعة من الجرحى يراها كلود. أن تراق دماؤك الزكية، أن تكتسي بشارة الشجاعة الحمراء، فهذا كان أمرا، ولكن أن يصل بك الحال إلى هذا فذاك أمر مختلف تماما. بالتأكيد، كلما كان موت هؤلاء الفتية أسرع، كان ذلك أفضل لهم.
بينما كان مساعد التمريض من تكساس يمر بحمولته التالية، سأل كلود عن السبب في أنه لم يدخل المكتب وينتظر إلى أن ينتهي التزاحم. نظر كلود إلى الداخل عبر الباب الزجاجي، فلاحظ شابا يكتب على مكتب محاط بسياج حديدي. كان ثمة شيء ما مألوف في هيئته وفي وضعية رأسه. عندما رفع ذراعه اليسرى كي يبقي الصفحة في دفتر اليومية مفتوحة، كانت مبتورة من تحت المرفق. نعم، لم يكن ثمة شك في الأمر؛ الوجه الشاحب الحاد، الأنف المستدق، الجبين العابس المتوتر. بعد لحظات، كأنما أحس بنظرات فضولية ترمقه، توقف الشاب عن كتابته السريعة، ولوى كتفيه ووضع ثقالة ورق حديدية على صفحة دفتره، وأخرج علبة من جيبه وهزها ليخرج منها سيجارة على المكتب. سار كلود إلى السياج، وعرض عليه سيجارا. «كلا، شكرا لك. لم أعد أدخنه. إنه ثقيل على صدري.» أشعل عود ثقاب، وحرك كتفيه مرة أخرى كأنما كان بهما تشنج، وجلس على حافة مكتبه.
سأله كلود: «من أين يأتي هؤلاء الجرحى؟» وأضاف: «جئت على متن سفينة أنخيسيس أمس فقط.» «إنهم يأتون من مستشفيات إجلاء متنوعة. أعتقد أن معظمهم أصيب في معركة بيلو وود.» «أين فقدت ذراعك؟» «في معركة كانتيني. كنت في الكتيبة الأولى. انتهت خدمتي منذ سبتمبر الماضي، وانتظرت حدوث شيء، ثم حظيت بخطبتي الأولى.» «أليس بمقدورك العودة إلى وطنك؟» «بلى، بمقدوري. لكنني لا أرغب في العودة. لقد اعتدت على العيش هنا. لقد كنت على صلة بالقيادة في باريس بعض الوقت.»
استند كلود إلى السياج. «بالطبع قرأنا عن معركة كانتيني عندما كنا في الوطن. انتابنا قدر كبير من الحماسة؛ أظن أنك كنت متحمسا أيضا، أليس كذلك؟» «بلى، كنا منفعلين. لم نكن قد وضعنا تحت النار من قبل، وكنا قد ضقنا ذرعا بكل ذلك الحديث عن أن بناء آلة قتال يستغرق خمسين عاما. كان الجنود الألمان في موضع قوي؛ نظرنا إلى تلك التلة الطويلة، وتساءلنا كيف سنتصرف.» ولما كان الفتى يتحدث، لم تتوقف عيناه عن الحركة طوال الوقت؛ ربما لأنه لم يكن يستطيع تحريك رأسه على الإطلاق. بعدما نفث سحبا كثيفة من الدخان حتى انتهت سيجارته، جلس إلى دفتر اليومية الذي كان بين يديه، ونظر عابسا إلى الصفحة بطريقة توحي بانشغاله الشديد، وأنه لم يكن لديه وقت للحديث.
رأى كلود الطبيب ترومان يقف في المدخل منتظرا إياه. انتهيا من زيارتهما الصباحية لفانينج، وغادرا المستشفى معا. التفت الطبيب إليه كأنما كان شيء ما يدور في ذهنه. «رأيتك تتحدث إلى ذلك الفتى صاحب الرقبة الملتوية. كيف بدا حاله، بخير؟» «ليس بالضبط. يبدو عصبيا جدا. هل تعرف أي شيء عنه؟» «أوه، أجل! إنه مريض مميز هنا، حالة اضطراب عقلي. كنت أتحدث للتو مع أحد الأطباء عنه، عندما خرجت ورأيتك معه. أصيب برصاصة في عنقه في معركة كانتيني، وفيها فقد ذراعه. التأم الجرح، ولكن ذاكرته تأثرت؛ أظن أنه أصيب بقطع في الأعصاب الموصلة بذلك الجزء من الدماغ. يهتم الطبيب النفسي فيليبس بحالته اهتماما كبيرا، ويبقيه هنا كي يلاحظ حالته. إنه يكتب كتابا عنه. يقول إن الرجل ربما يكون قد نسي كل شيء عن حياته قبل أن يأتي إلى فرنسا. الغريب في الأمر أن أكثر جزء تضرر هو ذكرياته المتعلقة بالنساء. يمكنه أن يتذكر والده، لكنه لا يتذكر والدته؛ لا يعرف أن له أخوات أم لا؛ بوسعه أن يتذكر رؤية فتيات في المنزل، لكنه يظن أنهن بنات عمومته. فقدت صوره الفوتوغرافية ومتعلقاته عندما جرح، كل شيء باستثناء مجموعة خطابات كانت في جيبه. إنها من فتاة كانت مخطوبة له، ويقول إنه لا يتذكرها على الإطلاق؛ لا يعرف كيف شكلها ولا أي شيء عنها، ولا يمكنه أن يتذكر أنه خطبها. الخطابات مع الطبيب. يبدو أنها من فتاة جميلة من مدينته شديدة التوق إلى أن يبذل قصارى جهده لكي يكون ناجحا. فر من الجندية بعد مدة وجيزة من إرساله إلى هذا المستشفى، هرب. عثر عليه في مزرعة في الريف هنا، حيث كان الأبناء قد قتلوا، ونوعا ما تبناه أصحابها. كان قد خلع زيه، وكان يرتدي ملابس أحد الأبناء الذين ماتوا. ربما كان سيفلت بفعلته، لو لم يكن مصابا بذلك الالتواء في العنق. رآه شخص ما في الحقول، وتعرف عليه، وأبلغ عنه. أظن أن لا أحد اهتم بشأنه كثيرا باستثناء هذا الطبيب النفسي؛ أراد أن يستعيد مريضه المدلل. يطلقون عليه هنا اسم «الأمريكي الضائع».»
علق كلود بصوت منخفض: «يبدو أنه يقوم ببعض الأعمال الكتابية.» «نعم، يقولون إنه تلقى تعليما جيدا. إنه يتذكر الكتب التي قرأها أفضل مما يتذكر حياته الخاصة. لا يتذكر أي تفاصيل عن مسقط رأسه أو بيته. كما محيت النساء من ذاكرته تماما، حتى الفتاة التي كان يعتزم الزواج منها.»
ابتسم كلود. وقال: «ربما حالفه الحظ في تلك النقطة.»
التفت إليه الطبيب بمودة، وقال: «كلود، لا تبدأ في الحديث بتلك الطريقة بمجرد أن وطئت قدمك هذا البلد.»
مر كلود بكنيسة القديس جاك. مرت ليلة البارحة مثل حلم، ولكنها كانت تؤرقه. تمنى لو كان بوسعه فعل شيء لمساعدة ذلك الفتى؛ مساعدته في الهرب من الطبيب الذي كان يريد تأليف كتاب عنه، والفتاة التي أرادت أن تستغله أسوأ استغلال؛ في أن يهرب ويضيع تماما فيما حالفه الحظ كثيرا في العثور عليه. لما كان كلود يروح ويجيء طوال اليوم، كان يبحث بين الحشود عن ذلك الوجه الشاب، بالغ الحنو والرقة.
4
أعمق وأعمق في فرنسا الزاهرة! ما فتئ كلود يتفوه بتلك الجملة لنفسه مع ارتجاج العجلات، بينما كان القطار الحربي متجها جنوبا، في اليوم الثاني لمغادرته هو وسريته ميناء الإنزال. حقول من القمح، وحقول من الشعير، وحقول من الشيلم؛ كل التلال المنخفضة والمرتفعات المتموجة كانت مكسوة بالنباتات في موسم الحصاد. وفي كل مكان، في الحشائش والحبوب المصفرة، على طول جانب الطريق، كانت نباتات الخشخاش تنسال وتتدفق. في اليوم الثاني، كان الفتية لا يزالون يتصايحون بشأن الخشخاش؛ لم يكن أي شيء آخر قد فاق توقعاتهم تماما بهذا القدر. كانوا في السابق يظنون أن الخشخاش لا ينمو إلا في ساحات المعارك، أو في أذهان المراسلين الحربيين. لم يكن أحد يعرف ماهية نبات القنطريون العنبري إلا ويلي كاتز، وهو فتى نمساوي من مصانع تعبئة أوماها، ولم يكن يعرف له سوى اسم يبغضونه؛ لذا لم يتفوه بأي معلومة. ظلوا وقتا طويلا يحسبون أن زهور البرسيم الأحمر هي زهور برية؛ إذ كانت كبيرة مثل الورود البرية. عندما مروا بأول حقل برسيم، انفجر القطار بأكمله في الضحك؛ إذ ظنوا أن البرسيم من النباتات التي لم يسمع عنها إلا في ولايات البراري التي جاءوا منها.
طوال الطريق، ظلت السرية «بي» تعثر على الأشياء القديمة بدلا من الجديدة، أو حسب طريقة تفكيرهم، الأشياء الجديدة بدلا من القديمة. كانت الأسقف المصنوعة من القش التي عدوها بحسب ما رأوا قليلة ومتباعدة. ولكن آلات الحصاد الأمريكية، ذات العلامات التجارية المعروفة، كانت تقف في الحقول التي بدأت تنضج، وكان تشحم وتجهز، ليس على يد «فلاحين»، وإنما مزارعين مسنين تظهر الحكمة على محياهم، وبدا أنهم يعرفون عملهم. لم تذهلهم أشجار الكمثرى، التي كانت تتسلق الجدار مثل الكروم، بقدر مرأى نباتات الحور القطني، التي كانت تنمو في كل مكان. ظن كلود أنه لم يدرك من قبل مدى جمال تلك الشجرة. في الوديان الصغيرة الخضراء، على امتداد الأنهار الصافية، كانت تلوح نباتات الحور القطني وتحدث حفيفا؛ وعلى الجزر الصغيرة، التي كان يوجد منها الكثير في هذه الأنهار، على هيئة كتل مدببة، بدا أنها تغرس جذورها بعمق في التربة وتستقر ثابتة فيها، وكأنها كانت في مواضعها منذ مدة طويلة، وستبقى في مكانها مدة أطول. في الديار، في كل أرجاء فرانكفورت، كان المزارعون يحصدون نباتات الحور القطني لأنها كانت «منتشرة»، ويزرعون أشجار الدردار والقيقب لتشق طريقها معا بدلا منها. لا بأس، كانت نباتات الحور القطني مفيدة لفرنسا، ومفيدة له أيضا! شعر بأنها كانت تمثل رابطا حقيقيا بينه وبين هذا الشعب.
عندما تلقت السرية «بي» لأول مرة الأوامر بالانتقال إلى معسكر تدريب في شمال وسط فرنسا، تسرب الإحباط إلى قلوب جميع الرجال. كانت خبرة القوات أقل بكثير من أن يدفع بها إلى جبهة القتال، فما الداعي من التخبط أكثر من ذلك؟ لكنهم توافقوا في النهاية على التأجيل. بدا أن قدرا كبيرا من فرنسا لم يكن متعلقا بالحرب، ولم يمانعوا من الترحال قليلا في بلد كهذا. هل كان موسم الحصاد متأخرا شهرا دوما عما كان عليه في الوطن، كما بدا الحال هذا العام؟ لماذا كان المزارعون يزرعون صفوفا من الأشجار على حدود كل حقل؛ ألا تضعف التربة؟ إلام كان المزارعون يهدفون من زراعة بقع من الخردل جنبا إلى جنب مع المحاصيل الأخرى؟ ألا يعرفون أن الخردل يتغلغل في حقول القمح ويعيق نمو الحبوب؟
كان الفتية سيقضون الليلة الثانية في مدينة روان، وسيستغلون اليوم التالي في التجول في المدينة. كان الجميع يعرفون ما حدث في روان، وإن لم يعرف أحدهم، كان جيرانه متلهفين بشدة لأن يخبروه! كان الأمر قد وقع في السوق، وكان السوق هو المكان الذي كانوا يبحثون عنه.
أتى الغد مكفهرا وباردا؛ إذ هطلت الأمطار غزيرة. بينما كانوا يتجولون عبر الشوارع الضيقة المزدحمة، لم يعثروا في هذه المدينة النورماندية الموحشة على أي مظهر من مظاهر البهجة. ابتهجوا أخيرا عندما عثروا على ضفة النهر؛ ليخرجوا إلى الجسر ويستنشقوا الهواء المنعش في الخلاء الواسع فوق النهر، بعيدا عن جلجلة عجلات العربات والأصوات العالية والوجوه الخادعة لساكني هذه المدينة، الذين بدا عليهم الغلظة وانعدام الود. من الجسر نظروا إلى التلال البيضاء الطباشيرية، التي كانت قممها صورة ضبابية ذات لون أخضر قوي تحت السماء ذات السحب الرصاصية المنخفضة. شاهدوا جحافل المراكب النهرية العريضة والعميقة، وهي تغدو وتروح تحت أقدامهم بمداخنها المائلة. على مسافة قصيرة عبر ذلك النهر كانت تقع باريس؛ المكان الذي كان مقصد كل فرد من جنود المشاة؛ وبينما كانوا يتكئون على السياج وينظرون إلى المياه البطيئة التدفق من تحتهم، كان في عقل كل واحد منهم صورة مشوشة عما كانت ستبدو عليه. كانوا متأكدين في قرارة أنفسهم من أن نهر السين لا بد أن يكون أعرض هناك، وأن جسورا كثيرة تمتد عليه، وكلها أطول من الجسر فوق نهر ميسوري في أوماها. ستكون هناك أبراج وقباب ذهبية لا حصر لها، والمباني كلها أطول من أي شيء في شيكاجو، ورائعة، روعتها مذهلة، لا شيء فيها رمادي الغبار ومتهالك مثل مدينة روان القديمة هذه. منحوا مدينتهم المنشودة ضخامة بلا حصر، واتساعا مذهلا، وعظمة وجسامة بابلية؛ وهي السمات الوحيدة التي تعلموا الإعجاب بها.
في وقت متأخر من الصباح، وجد كلود نفسه بمفرده أمام كنيسة سانت أوين. كان يبحث عن كاتدرائية، وبدا أن هذه قد تكون المكان المناسب. نفض الماء من على معطف مطره ودخل، وخلع قبعته عند الباب. النهار الذي كان مظلما جدا بالخارج، كان أكثر إظلاما بالداخل ... بعيدا، كانت توجد بضع شمعات متفرقة، ومع ذلك كانت نقاط ضوء صغيرة ... أمامه مباشرة، في الشفق الرمادي، أعمدة بيضاء رفيعة في صفوف طويلة؛ إذ تشبه سيقان أشجار الحور الفضية.
كان المدخل إلى الصحن مغلقا بحاجز سلكي؛ لذا مشى في الممر جهة اليمين بخطى خفيفة، مارا بمصليات كان فيها نساء متوحدات راكعات في ضوء بضع شمعات رفيعة. فيما عداهن، كانت الكنيسة خالية ... خالية. كان صوت أنفاسه مسموعا في هذا الصمت. تحرك بحذر خشية أن تحدث خطواته صدى.
عندما وصل إلى مكان المرتلين، التفت ورأى، على مسافة بعيدة خلفه، نافذة زهرية ذات قلب أرجواني. بينما وقف يحملق، والقبعة في يده، ساكنا مثل الأجساد الجامدة في المصليات، بدأ جرس كبير من فوقه يقرع معلنا الساعة بصوته العميق والشجي؛ إحدى عشرة دقة، موزونة ومتباعدة، في مثل ثراء الألوان في النافذة، ثم خيم الصمت ... لم يبق في ذاكرته سوى دقات ذات جودة صوت لم يحلم بها أحد من قبل. كان تجليا الزجاج والجرس متزامنين تقريبا، وكأن أحدهما أحدث الآخر؛ وكلاهما كان شيئا فائقا كان عقله يتلمسه دوما، أو هكذا بدا له حينذاك.
أمام مكان المرتلين كان الصحن مفتوحا، ولم يكن يوجد حاجز حبل يحجبه. وضعت عدة كراسي من القش على بلاط الأرضية الحجرية. بعد بعض التردد أخذ واحدا، وأداره إلى الجهة الأخرى، وجلس مواجها النافذة. إن أتى إليه أحد وقال له أي شيء، أي شيء على الإطلاق، فسينهض ويقول بالفرنسية: «عذرا يا سيدي، لم أعلم أن هذا ممنوع.» كرر هذه الجملة في نفسه حتى يتأكد تماما من أنها جاهزة لديه.
في القطار، عندما كان آتيا إلى المدينة، كان قد تحدث إلى الفتية عن السمعة السيئة التي كان قد اكتسبها الأمريكيون بأنهم يتسكعون في سائر الأنحاء ويتدخلون فيما لا يعنيهم، وحثهم على أن يتحسسوا خطاهم بخفة؛ وعندها تدخل الفتى الذي من بليزنتفيل في الحديث قائلا: «ولكن أيها الملازم، أليست هذه الحملة برمتها تدخل في شئون الآخرين؟ ففي النهاية، هذه الحرب لا تخصنا.» ضحك كلود، ولكن أخبره أنه كان يقصد أن يضرب مثالا بالشخص الذي يدخل في مشاكسات.
إنه مطمئن جدا، حتى إنه لم يكن يفكر حينئذ في رفاقه القلقين. كان يمكنه أن يجلس هنا حتى الظهيرة، ويسمع قرع الجرس مرة أخرى. في الوقت الحالي، لا بد أن يحاول أن يفكر؛ كان هذا بالطبع طرازا معماريا قوطيا؛ قد قرأ بعض الشيء عنه، وينبغي أن يكون بوسعه أن يتذكر بعض ما قرأه. قوطي ... كانت تلك كلمة مجردة، توحي له بشيء رفيع ومدبب، أقواس حادة، أسقف منحدرة. لم يكن لها أي صلة بهذه الأعمدة البيضاء الرفيعة المشيدة باستقامة وارتفاع كبير، ولا بالنافذة المتوهجة هناك بالأعلى في قوسها المظلم ...
بينما كان يحاول عبثا التفكير في الهندسة المعمارية، التمعت في ذهنه ذكرى بعض دروس علم الفلك القديمة؛ شيء ما عن النجوم التي يسافر ضوءها في الفضاء مئات السنين قبل أن يصل إلى الأرض والعين البشرية. لقد ظل الضوء ذو اللون الأرجواني والقرمزي والأخضر الزاهي لتلك النافذة يتوهج طويلا بهذا القدر قبل أن يصل إليه ... شعر بوضوح أنه كان يمر من خلاله، ويظل مستمرا في المضي أبعد من ذلك ... كما لو كانت والدته تنظر من خلفه. جلس في وقار طوال الساعة حتى الساعة الثانية عشرة، ومرفقاه على ركبتيه، وقبعته ذات الشكل المخروطي تتأرجح في يده بينهما، وهو ينظر إلى الأعلى عبر الشفق بعينين صافيتين غارقتين في التفكير.
عندما التحق كلود بسريته في المحطة، أخذوا يضحكون عليه. كانوا قد وجدوا الكاتدرائية، وتمثال ريتشارد قلب الأسد، فوق البقعة التي دفن فيها قلب الأسد نفسه؛ أكد له الرقيب هيكس السمين قائلا: «العضو ذاته». ولكنهم كانوا جميعا مسرورين لأنهم سيغادرون روان.
5
وصلت السرية «بي» إلى معسكر التدريب في المنطقة «إس» ينقصها ستة وثلاثون رجلا؛ كانوا قد دفنوا خمسة وعشرين منهم في الرحلة المنتهية، وترك أحد عشر جنديا مريضا في مستشفى القاعدة. من المقرر أن تلحق السرية بكتيبة قد دخلت إلى الخدمة بالفعل، بقيادة المقدم سكوت. عند وصولهم في الصباح الباكر، أبلغ الضباط القيادة على الفور. لا بد أن النقيب ماكسي صدم عندما نهض العقيد من مكتبه كي يتقبل تحيته العسكرية، ثم أخذ يصافح كل من كانوا حوله وسألهم عن رحلتهم. لم يكن العقيد يتمتع بجسد يليق بعسكري؛ إذ كان قصيرا وسمينا وذا كتفين متراخيتين، وظهر متكتلا مثل كيس بطاطس. ومع أنه لم يكن قد تجاوز الأربعين من العمر بكثير فإنه كان أصلع، ومن السهل أن تنزلق ياقته فوق رأسه دون فك أزرارها. لم يظهر في عينيه اللامعتين أو في وجهه البشوش ذرة تكبر أو وقار رسمي.
قبل سنوات، عندما كان الجنرال بيرشينج، الذي كان وقتئذ ملازما شابا وسيما نحيل الخصر وذا شارب أصفر، معينا قائدا في جامعة نبراسكا، كان وولتر سكوت ضابطا في سرية من طلاب العسكرية أخذها الملازم إلى أماكن متعددة للاشتراك في بطولات عسكرية. أطلق عليهم «بنادق بيرشينج»، وفازوا بالجوائز أينما ذهبوا. بعد تخرجه، استقر سكوت ليدير مشروعا تجاريا للأجهزة المنزلية في بلدة مزدهرة في نبراسكا، وباع مواقد الغاز وخراطيم الحدائق لمدة عشرين عاما. في ذاك الوقت تقريبا، أرسل بيرشينج إلى الحدود مع المكسيك، وتبادر إلى ذهن سكوت أن هناك إرهاصات لحدوث شيء ما، وأنه من الأفضل له أن ينخرط في التدريب. انتقل إلى تكساس مع سلاح الحرس الوطني. وكان قد أتى إلى فرنسا مع الكتيبة الأولى، وترقى في المناصب بفضل صفات الجندية الراسخة فيه.
أشار العقيد في اجتماعهم: «أرى أنه ينقصكم ضابط، أيها النقيب ماكسي.» وأضاف: «أظن أن لدي هنا رجلا يمكن أن يشغل هذا الموقع. الملازم جيرهارت رجل من نيويورك، أتى مع الفرقة ونقل إلى سلاح المشاة. في الآونة الأخيرة، حصل على علاوة على خدمته الجيدة. كان يتمتع ببعض الخبرة، كما أنه رجل كفء.» أرسل العقيد خادمه خارجا كي يحضر شابا قدمه إلى الضباط باسم الملازم ديفيد جيرهارت.
كان كلود يشعر بالخزي من تود فانينج، الذي ما فتئ يثبت أنه أحمق، وما كان سيحصل على علاوة لو لم يكن عمه نائبا في الكونجرس. ولكن في اللحظة التي تلاقت فيها عينه مع عين الملازم جيرهارت، احتدم في نفسه شيء يشبه الغيرة. في لمح البصر، شعر أنه أقحم في مقارنة مع ضابط جديد؛ ومن ثم لا بد أن يكون على أهبة الاستعداد، وألا يترك أحدا يتعالى عليه.
عندما كانا يغادران مكتب العقيد معا، سأله جيرهارت إن كان قد حصل على مأوى له. رد كلود قائلا إنه سيبحث عن مكان له بعدما يذهب الجنود إلى مقراتهم.
ابتسم الشاب. وقال: «يؤسفني أن أقول إنك قد تواجه صعوبة في ذلك. الناس هنا كانوا يعملون فوق طاقتهم برعايتهم للجنود، وليسوا متحمسين كما كانوا من قبل. أنا أعيش مع زوجين مسنين لطيفين في القرية. أكاد أكون متأكدا من أنه بوسعي أن أدخلك إلى هناك. إذا أتيت معي فسنتحدث إليهما قبل أن يسبقنا إليهما أحد آخر.»
لم يرغب كلود في أن يذهب معه، ولم يرغب في قبول أفضال، ولكنه ذهب معه. مشيا معا على طريق ترابي يمتد بين حقول قمح نصف ناضجة، وتحده أشجار الحور. كانت أزهار مجد الصباح والجزر البري، التي كانت تنمو على جانب الطريق، لا تزال تتلألأ بقطرات الندى. حرك نسيم منعش الغلال ذات السبلات، مفرقا إياها إلى أثلام حقلية ومباعدا بين خطوط من نباتات الخشخاش القرمزية. بالتأكيد لم يكن الضابط الجديد متطفلا. مشى معه وهو يصفر بعذوبة، وبدا مستغرقا تماما في انتعاش الصباح، أو في أفكاره. لم يكن قد ظهر في أسلوبه حتى ذلك الحين أي شيء يدل على التفضل، وبدأ كلود يتساءل لماذا شعر نوعا ما بعدم الارتياح معه. ربما كان ذلك لأنه لم يشبه بقيتهم. مع أنه كان شابا، فإنه لم يبد طائشا. بدا متمرسا؛ كأنه منتج نهائي وليس شيئا في طور التطوير. كان وسيما، وفي وجهه شيء مميز، كما في أسلوبه ومشيته. كان ذا جبهة بيضاء عريضة يعلوها شعر بني مائل إلى الحمرة، وعينين عسليتين نظرتهما تنم عن الثقة، وأنف معقوف مرسوم بعناية، وفم دقيق وساخر، بطريقة ما لم ينتقص من التعبير اللطيف على وجهه رغم كونه متحفظا قليلا.
لا بد أن الملازم جيرهارت كان يعيش في هذا الحي منذ مدة؛ إذ بدا أنه يعرف أهله. في الطريق، مرا بالعديد من القرويين؛ منهم فتاة ذات مظهر خشن تأخذ بقرة إلى المرعى، ورجل مسن يحمل سلة على ذراعه، وموظف بريد على دراجته الهوائية؛ تحدث جميعهم إلى رفيق كلود كأنهم يعرفونه جيدا.
سأله كلود فجأة وهو يشير إلى كومة بقدمه: «ما هذه الزهور الزرقاء التي تنمو في كل مكان هنا؟»
قال الآخر: «إنها زهور القنطريون العنبري. يطلق عليه الألمان اسم زهرة قيصر.»
كانا يقتربان من القرية التي كانت تقع على حافة غابة؛ غابة كبيرة لا يستطيع أحد أن يرى آخرها، وتلتقي بالأفق بصف من أشجار الصنوبر. لم تكن القرية سوى شارع واحد. وعلى جانبي الشارع، كانت توجد بيوت بلون طيني، وأبواب خشبية مطلية، ومزاليج خضراء. فتح مرشد كلود أحد هذه الأبواب، ودخلا حديقة صغيرة مكسوة بالرمل؛ كان المنزل مبنيا حولها ويحيطها من ثلاث جهات. تحت شجرة كرز، جلست امرأة ترتدي ثوبا أسود، عاكفة على الحياكة، وبجانبها طاولة عمل.
ربما كانت في الخمسين من عمرها، ولكن على الرغم من أن شعرها كان رماديا فإن حيوية الشباب كانت تبدو على محياها؛ إذ كانت لها وجنتان رفيعتان، متوردتان بلون وردي، وعينان هادئتان مبتسمتان ذكيتان. فكر كلود في أنها كانت تشبه نساء نيو إنجلاند؛ مثل صور بنات أعمام أمه وزميلاتها. قدمه الملازم جيرهارت إلى السيدة جوبيرت. ثبط عزيمته الحديث الذي تلا ذلك. كان من الواضح أن زميله الضابط الجديد كان يتحدث لغة السيدة جوبيرت المعقدة بالسهولة نفسها التي كانت تتحدث هي بها، وشعر بغضب وقهر وهو يستمع. كان يرجو أن يستطيع أن يتعلم التحدث قليلا مع الناس في أي مكان يبقى فيه، لكنه في حضور هذا الشاب البارع، لم يكن سيمتلك مطلقا شجاعة أن يحاول. كان بوسعه أن يرى أن السيدة جوبيرت كانت معجبة بجيرهارت، كانت معجبة به كثيرا؛ وكل هذا أحبطه، لسبب ما.
التفت جيرهارت إلى كلود متحدثا بطريقة أدخلت السيدة جوبيرت في الحديث، رغم أنها لم تستطع أن تفهمه: «ستسمح لك السيدة جوبيرت بالمجيء، على الرغم من أنها فعلت ما عليها، وحقا ليست مضطرة إلى استقبال أي شخص آخر. لكنك ستكون في وضع جيد جدا هنا؛ وهو ما يجعلني سعيدا بموافقتها. سيتعين عليك أن تشاركني غرفتي، ولكن يوجد سريران. ستريك الغرفة.»
خرج جيرهارت من البوابة، وتركه بمفرده مع مضيفته. بدا أن عقلها يقرأ أفكاره. عندما كان يتفوه بكلمة، أو أي صوت يشبه كلمة، كانت بسرعة ويسر تصنع منها جملة، وكأنها كانت معتادة على التحدث بتلك الطريقة، ولا تتوقع سوى الكلمات الأحادية المقطع من الأجانب. كانت لطيفة، بل إنها كانت لعوبا قليلا معه، لكنه شعر أن هذا كله كان نابعا من حسن الخلق، وأنها في باطنها لم تكن تفكر فيه على الإطلاق. عندما كان بمفرده في غرفة النوم ذات الأرضية المكسوة بالبلاط بالطابق العلوي، يبسط بطاطينه ويرتب أدوات الحلاقة الخاصة به، نظر من النافذة ورآها جالسة تحيك تحت شجرة الكرز. رأى أن وجهها كان حزينا جدا؛ لم تكن مرارة ولا شعورا حادا ومحددا مثل الأسى. كان حزنا قديما وهادئا ومبهما، عذبا في تعبيره، مثل حزن الموسيقى.
بينما كان يخرج من المنزل كي يعود إلى الثكنات العسكرية انحنى لها، وحاول أن يقول بالفرنسية: «إلى اللقاء يا سيدتي. سألقاك في المساء.» توقف بالقرب من باب المطبخ كي ينظر إلى كرمة الورود ذات الفروع المتعددة التي امتدت على الحائط بالكامل، المليئة بورود ذات أوراق قشدية اللون، وردية اللون عند الأطراف، أقوى بمسحة قليلة من ناحية اللون من الجدار ذي اللون الطيني خلفها. أتت السيدة جوبيرت ووقفت بجانبه، ونظرت إليه وإلى الأطراف الأكثر وردية، وقالت: «نعم، إنها جميلة، أليس كذلك؟» أخذت المقص المعلق في حزامها بشريط، واقتطفت وردة وأقحمتها في ثقب الزر. وقالت: «هاك.» ونسقتها قليلا بيدها الرفيعة.
بعدما خطا إلى الشارع، استدار كي يغلق الباب الخشبي خلفه، فسمع حركة خافتة في غرفة الأدوات المظلمة بجانبه. من بين أدوات الجرف والعزق، كان وجه طفلة مرتعب يحملق فيه. كانت جالسة على الأرض وحجرها ممتلئ بالقطط الصغيرة. لم يبصر سوى لمحة من وجهها الباهت والشاحب.
6
في الصباح التالي، استيقظ كلود وهو يشعر بعافية لم يشعر بها منذ وقت طويل. كانت الشمس ترسل أشعتها البراقة على الجدران ذات الجص الأبيض وبلاط الأرضية الأحمر. ظللت ستائر خضراء، مزاحة قليلا، الجزء العلوي للنافذتين. ومن بين ألواحهما، كان بوسعه أن يرى فروعا متشعبة من شجرة طلح عجوز نامية على مقربة من البوابة. طار سرب من الحمام فوقها، هابطا وصاعدا، وأجنحته الفضية تتألق بقوة. كان من الجيد أن يقيم مرة أخرى في بيت ترعاه امرأة. لا بد أنه شعر بذلك حتى في نومه؛ لأنه عندما فتح عينيه كان يفكر في ماهيلي والإفطار والصباح الصيفي في المزرعة. كانت السكينة في الصباح الباكر حلوة، وكذلك ملمس الملاءة الجافة النظيفة على جسده. كانت رائحة لافندر تفوح حول وسادته الدافئة. رقد في سكون خشية أن يوقظ الملازم جيرهارت. كان هذا هو السلام الذي يريد المرء أن ينعم به وحده. عندما ارتفع بحذر على مرفقه ونظر إلى السرير الآخر، كان خاليا. لا بد أن رفيقه ارتدى ملابسه وانسل خارجا مع أول ضوء للنهار. ها هو شخص آخر كان يحب أن يستمتع بالأشياء وحده؛ كان هذا يدعو إلى الأمل. ولكن بعدما أصبح المكان له وحده، قرر النهوض. بينما كان يرتدي ملابسه، كان بوسعه أن يرى السيدة جوبيرت العجوز في الحديقة بالأسفل تسقي النباتات والكرم وتعزق التربة الرملية كي تجددها وتنعمها، وتجمع الأوراق الجافة والزهور الذابلة، وتلقي بها في عربة يد. قد قيل له إن هذين الشخصين فقدا ولديهما كليهما في الحرب، والآن يتوليان رعاية ممتلكات حفيدتيهما، ابنتي ولدهما الأكبر. رأى كلود جيرهارت يدخل إلى الحديقة، ويجلس على الطاولة تحت الأشجار، حيث كانا قد تناولا عشاءهما ليلة البارحة. نزل مسرعا لينضم إليه. أفسح جيرهارت له مكانا على المقعد. «هل تنام دوما هكذا؟ إنه إنجاز. أحدثت جلبة كبيرة وأنا أرتدي ملابسي، وأخذت الأشياء تسقط مني، ولكن لم يصل شيء من ذلك إلى مسامعك.»
خرجت السيدة جوبيرت من المطبخ مرتدية ثوبا صباحيا أرجوانيا زهريا، وشعرها ملفوف في ورق تجعيد تحت قلنسوة من الدانتيل. أحضرت القهوة بنفسها، وجلسوا إلى الطاولة غير المطلية التي لم يكن عليها مفرش، واحتسوا القهوة في فناجين كبيرة من الفخار. تناولوا معها حليبا طازجا - أول حليب يتذوقه كلود منذ مدة طويلة - وسكرا أخرجه جيرهارت من جيبه. احتست الطباخة العجوز قهوتها عند باب المطبخ، وعلى الدرج، وعند قدميها، جلست الفتاة الصغيرة الغريبة الشاحبة.
توجهت السيدة جوبيرت بالحديث بلطف إلى كلود؛ كانت تعرف أن الأمريكيين لهم عادات مختلفة في الوجبة الصباحية، وإن كان يرغب في إحضار اللحم المقدد من المعسكر، فستطهوه له بسرور. كانت حتى قد أعدت فطائر محلاة للجنود الذين أقاموا عندها قبلئذ. ولكن بدا عليها السرور لما علمت أن كلود كان قد سئم من تلك الأشياء منذ مدة. دعت ديفيد باسمه الأول، ونطقته بالطريقة الفرنسية؛ وعندما قال كلود إنه يأمل أن تفعل الشيء نفسه معه، قالت: «أوه، نعم، إنه اسم فرنسي جيد جدا، ولكنه رومانسي قليلا»، وعندها تورد وجهه، ولم يكن يعلم هل كانت تسخر منه أم لا.
سأله ديفيد: «بل هو اسم إنجليزي، أليس كذلك؟» «حسنا، إنه اسم مخنث، إن كنت تقصد ذلك.»
اعترف ديفيد بلا مواربة: «نعم، إنه كذلك، قليلا.» كان عمل اليوم في أرض التدريب العسكري صعبا، والجنود تحت إمرة النقيب ماكسي ضعفاء، ولم يتحملوا الحرارة، لم يكونوا يضاهون فتيان كانساس الذين كانوا قد اخشوشنوا بالخدمة في الجيش. لم يكن العقيد مسرورا من السرية «بي» وأمرهم ببناء ثكنات جديدة ومد نظام الصرف الصحي. خرج كلود وعمل مع الجنود. حذا جيرهارت حذوه، ولكن كان من السهل ملاحظة أنه لم يكن قد سبق له مطلقا التعامل مع الألواح الخشبية أو التسقيف بالصاج. بدا أن ضربا من التنافس ظهر بينه وبين كلود، ولم يكن أي منهما يعرف السبب.
كان بوسع كلود أن يلاحظ أن الرقباء والعريفين غير واثقين بعض الشيء في جيرهارت. تحيروا من حديثه المقتضب، الذي كان يخلو تماما من الألفاظ العامية الرائعة التي كانوا يستمتعون بها كثيرا، وكذلك جديته، وابتسامته النادرة المرتابة. هل الضابط الجديد رجل متأنق؟ سأل الرقيب هيكس صاحبه ديل آبل. كلا، ليس متأنقا. هل هو مغرور؟ كلا، على الإطلاق، ولكنه لم يكن بارعا اجتماعيا. كان من «الولايات الشرقية»؛ ماذا أيضا بشأن حقيقته يمكن أن يظهر لاحقا. استشعر كلود وجود شيء غير عادي بشأنه. شك في أن جيرهارت كان يعرف أشياء كثيرة جدا بالإضافة إلى معرفته للفرنسية، وأنه كان يحاول أن يخفيها، مثلما يفعل الناس أحيانا عندما يشعرون أنهم ليسوا بين نظرائهم؛ أغاظته هذه الفكرة. كان كلود هو من انتهز الفرصة للتعالي عندما أفصح جيرهارت عن أنه لم يكن يستطيع مطلقا أن يختار ألواحا خشبية بقياسات معينة.
عصر اليوم التالي، أوقف العمل في الثكنات الجديدة بسبب المطر. شرع الرقيب هيكس في إقامة مباراة ملاكمة، ولكن عندما ذهب ليدعو الملازمين، كان كلاهما قد اختفى. كان كلود يسير بتثاقل متجها نحو القرية، عازما على دخول الغابة الكبيرة التي كانت قد استهوته منذ وصوله.
أصبح الطريق السريع شارع القرية، ثم أصبح طريقا غير ممهد مرة أخرى على أطراف الغابة. على مسافة أبعد قليلا، حيث ازدادت كثافة الظل، انقسم إلى ثلاثة طرق للعربات، اثنان منهما غير واضحين ولا يستخدمان إلا قليلا. اتبع كلود أحد هذين الطريقين. كان المطر قد انحسر وأصبح قطرات سريعة متواصلة، ولكن الأجمات الطويلة التي كانت تنمو على طول الطريق بللته وجعلته يمشي في المنتصف، وغاصت قدماه في الأرض الرخوة المكسوة بالطحالب. اكتسى الضوء من حوله، والجو ذاته، بلون أخضر. كانت جذوع الأشجار مغطاة بطحالب خضراء ناعمة، مثل العفن. بينما كان يتساءل في نفسه عما إذا لم تكن الغابة دوما مكانا رطبا مظلما، نفذت الشمس فجأة، وانتثرت أشعتها الذهبية في الغابة بكاملها. لم يكن قد رأى من قبل أي شيء يشبه لون الطحالب الزمردي المرتعش، اللون الأخضر الحريري لقمم أشجار الزان التي يتقاطر منها الماء. استيقظت جميع الكائنات؛ جرت الأرانب عبر الطريق، وبدأت الطيور تغرد، ودفعة واحدة صارت جميع الأجمات مليئة بحشرات تصدر أزيزا.
انعطف الطريق المتعرج مرة أخرى، وانتهى فجأة إلى جانب تل، فوق فرجة مفتوحة مكدسة بصخور رمادية. على الجانب المقابل من الأرض، كانت تقبع أيكة من أشجار الصنوبر ذات الجذوع الحمراء الخالية من الفروع. كان الضوء من حولها ومن تحتها أحمر بلون أشعة الشمس وقت الغروب. كانت كل الجذوع تقريبا منقسمة من عند المنتصف تقريبا إلى ذراعين عظيمتين، كانا يلتقيان مرة أخرى عند القمة، مثل صور القيثارات الإغريقية القديمة.
في الأسفل في الفرجة العشبية، بين أكوام صخور الصوان، اهتزت الأوراق اللامعة لأشجار البتولا البيضاء الصغيرة بفعل الهواء المتحرك بخفة. وحول كل الصخور كانت توجد رقع من مروج أرجوانية؛ كانت تمتد في الشقوق بينها مثل ألسنة اللهب. على واحدة من هذه الصخور العارية، جلس الملازم جيرهارت حاسر الرأس، في مظهر ينم إما عن إرهاق أو هم شديد، وشبك يديه حول ركبتيه، وظهر شعره البرونزي بلون أحمر تحت أشعة الشمس. بعدما راقبه كلود لبضع دقائق، نزل من على المنحدر، وهو يحف بنباتات السرخس الطويلة.
عندما توقف عند سفح الصخور، سأله: «هل أعيق الطريق؟»
قال الآخر: «أوه، كلا»، وتحرك قليلا وفك تشابك يديه.
جلس كلود على صخرة. وسأل: «هل هذا نبات الخلنج؟» وأضاف: «ظننت أنني تعرفت عليه من رواية «المخطوف». هذا الجزء من العالم ليس جديدا عليك بقدر ما هو جديد علي.» «كلا، عشت في باريس عدة سنوات عندما كنت طالبا.» «ماذا كنت تدرس؟» «عزف الكمان.»
نظر إليه كلود بتعجب: «هل أنت موسيقي؟»
أجاب الآخر بابتسامة ازدراء، وهو يمد ساقيه بتكاسل في الخلنج: «كنت موسيقيا.»
علق كلود بجدية: «ذلك يبدو سيئا للغاية.» «ما هو؟» «عجبا، تجنيد الأشخاص أصحاب المواهب. البلد مليء بمن لا يملكون أي مواهب.»
استلقى جيرهارت على ظهره، ووضع يديه تحت رأسه. وقال: «أوه، هذه المسألة كبيرة للغاية، ولا تنفع فيها الاستثناءات؛ إنها مسألة عالمية. إن تصادف أنك ولدت منذ ست وعشرين سنة، فلن تستطيع الهرب. وإن لم تقتلك هذه الحرب بطريقة ما، فستقتلك بطريقة أخرى.» أخبر كلود أنه تلقى التدريبات في معسكر ديكس، وأتى منذ أكثر من ثمانية أشهر ضمن أحد الفيالق، ولكنه كره العمل الذي تعين عليه القيام به، ونقل إلى سلاح المشاة.
عندما عادا أدراجهما، كان يعم الغابة ضوء شفق أخضر. كانت العلاقة بينهما قد تغيرت نوعا ما في آخر نصف ساعة، ومشيا صامتين صمتا متسما بالألفة في الشارع الذي كان يشبه شوارع وطنهما حتى وصلا إلى باب حديقتهما.
بما أن المطر كان قد توقف، وضعت السيدة جوبيرت المفرش على الطاولة الفارغة تحت شجرة الكرز، كما كانت تفعل في الليالي السابقة. كان زوجها يحضر الكراسي، وكانت الفتاة الصغيرة خارجة تحمل كومة من الأطباق الثقيلة. أسندتها على بطنها، ومالت إلى الخلف وهي تمشي كي تحافظ على توازنها. كانت تلبس حذاء، ولكن من دون جوارب، وثوبها القطني الباهت يتخبط بين ساقيها البنيتين. كانت لاجئة بلجيكية صغيرة أرسلت إلى تلك القرية مع والدتها. الأم متوفاة الآن، ولم تكن الطفلة حتى تذهب لزيارة قبرها. لم يكن من الممكن إقناعها بأن تخرج من فناء المنزل إلى الشارع الهادئ. وإذا أتى أطفال الجيران إلى الحديقة من أجل مهمة ما، كانت تختبئ. لم يكن لديها أحد تلعب معه غير القطة؛ والآن صارت لديها القطط الصغيرة في مستودع الأدوات.
كان العشاء مبهجا في تلك الأمسية. سرت السيدة جوبيرت لأن العاصفة لم تستمر مدة طويلة بما يكفي لأن يتضرر القمح. كانت الحديقة منعشة ومبهجة بعد المطر. تساقطت من شجرة الكرز قطرات براقة على مفرش الطاولة عندما هب النسيم. غفت القطة الأم على الوسادة الحمراء الموضوعة على كرسي خياطة السيدة جوبيرت، ورفرف الحمام ونزل كي يلتقط ديدان الأرض التي كانت تتلوى في الرمل الرطب. سقط ظل المنزل على طاولة العشاء، ولكن قمم الأشجار استقبلت ضوء الشمس بالكامل، وأرسلت الشمس أشعتها الصفراء على الجدار الترابي والورد ذي اللون الكريمي . انبعثت من بتلاتها، التي غضنها المطر، رائحة رطبة مثيرة.
لا بد أن السيد جوبيرت كان يكبر زوجته بعشر سنوات. أسلوبه يشي برضا كبير، وفي عينيه بريق يدل على السرور. ويحب الضباط الشباب. كان جيرهارت يمكث معهما منذ أكثر من أسبوعين، وبطريقة ما أضفى بعض الحيوية على المنزل الذي قد اكتنفه الجمود منذ وفاة الابن الثاني في المستشفى. كان الزوجان جوبيرت قد انقطعا عن مباهج الحياة. وقد فعلا كل ما بوسعهما، وقدما كل ما كانا يمتلكان، والآن لم يعد لديهما أي شيء يتطلعان إليه، باستثناء الحدث الذي تتطلع إليه فرنسا بأسرها. كان الأب يتحدث مع جيرهارت عن الميناء العظيم الذي ينشئه الأمريكيون في بوردو، وقال إنه ينوي الذهاب إلى هناك بعد الحرب كي يرى كل شيء بنفسه.
سرت السيدة جوبيرت لما سمعت أنهما كانا يتمشيان في الغابة. هل تفتحت أزهار الخلنج؟ تمنت لو كانوا قد أحضروا لها بعضا منها. ربما عندما يذهبان في المرة القادمة. اعتادت أن تتمشى هناك كثيرا. تصور كلود أن عينيها كانتا تقتربان منهما أكثر وأكثر عندما كانت تتحدث عن الغابة، ولم يكن خافيا أنها كانت تولي اهتماما بالزهور التي كانت تتفتح في الغابة أكبر من اهتمامها بما يفعله الأمريكيون في إقليم جارون. تمنى أن يتمكن من الحديث معها مثلما كان يفعل جيرهارت. أعجبته الطريقة التي كانت تحمس بها نفسها وتحاول أن تثير بها اهتمامهما، وهي تتحدث بلغتها الصعبة بهذا القدر من الحيوية والدقة. إنها لغة لا يمكن الغمغمة بها؛ بل ينبغي أن تنطق بكل طاقة وحمية، أو لا تنطق على الإطلاق. ارتأى أن مجرد التحدث بتلك اللغة الدقيقة من شأنه أن يجبر الروح الكسيرة.
كانت الفتاة الصغيرة التي كانت تخدمهم تتحرك حولهم دون جلبة. لم يبد على عينيها الخاملتين أنهما كانتا تنظران على الإطلاق، ولكنها لاحظت عندما حان وقت إحضار سلطانية الحساء الثقيلة، وعندما حان وقت رفعها. وقد وجدت السيدة جوبيرت أن كلود يحب البطاطس مع اللحم - عندما يوجد لحم - وليس في طبقين منفصلين. وتعين عليها في كل مرة أن تأمر الفتاة الصغيرة أن تذهب وتحضرهما. كانت الفتاة تفعل هذا بإحجام واضح وبتجهم، وكأنها تجبر على ارتكاب فعل خاطئ. كانت فتاة صغيرة غريبة الأطوار جدا، غريبة الأطوار تماما. عندما غادر الجنديان الطاولة، وانطلقا في طريقهما إلى المعسكر؛ مد كلود يده إلى داخل مستودع الأدوات، وأمسك بإحدى القطط الصغيرة، ورفعها في الضوء ورآها ترمش بعينيها. ما إن خرجت الفتاة الصغيرة من المطبخ، حتى أطلقت صرخة حادة، صرخة مروعة حقا، وجلست القرفصاء وغطت وجهها بيديها. خرجت السيدة جوبيرت كي توبخها.
سألها كلود وهما يهرعان إلى الخروج من البوابة: «ما خطب تلك الطفلة؟» وأضاف: «هل تظنين أنها تعرضت لأذى، أو للإساءة إليها بطريقة ما؟» «إنها مرتعبة. كثيرا ما تصرخ بتلك الطريقة في الليل. ألم تسمعها؟ إنهم يضطرون إلى الذهاب إليها وإيقاظها، لإسكاتها. إنها لا تتحدث الفرنسية مطلقا؛ لا تتحدث سوى اللهجة الولونية. وهي لا تستطيع أن تتعلم أو لن تتعلم؛ ومن ثم لا يمكنهم معرفة ما يدور في رأسها الصغير البائس.»
في الأسبوعين التاليين من التدريب المكثف، اندهش كلود من روح جيرهارت وقوة تحمله. كان الإجهاد العضلي لمحاكاة عمليات الخنادق عبئا عليه أكثر من أي من الضباط الآخرين. كان يضاهي كلود طولا، ولكنه كان يزن مائة وستة وأربعين رطلا فقط، ولم يكن قد نشأ تنشئة خشنة مثل معظم الآخرين. عندما علم زملاؤه الضباط أنه كان عازف كمان محترفا، وأنه كان بإمكانه أن يتولى وظيفة سهلة مثل مترجم أو منظم لحفلات الترفيه في المعسكر، لم يعودوا مستاءين من تحفظه أو من تكلفه العرضي. احترموا رجلا كان بإمكانه التملص، ولكنه لم يفعل.
7
لما أتى يوم الزحف أخيرا؛ على مدار يوم من أيام شهر أغسطس المشمسة، أخذت كتيبة العقيد سكوت تتدفق على طرق ترابية متهالكة شرقي مقاطعة سوم، ومن خلفهم قاعدة السكك الحديدية التابعة لهم. قادهم الطريق عبر منطقة ريفية متعرجة؛ بين حقول وتلال وغابات وقرى صغيرة مدمرة، ولكنها كانت لا تزال مأهولة بالسكان، حيث خرج الناس كي يشاهدوا الجنود وهم يمرون.
مر الأمريكيون عبر كل قرية بخطوة عسكرية، وسط رفرفة الألوان وعزف الفرقة الموسيقية «لإظهار أن الروح المعنوية كانت مرتفعة»، على حد قول الضباط. مشى كلود بتثاقل خارج الصف؛ مرة في مقدمة سريته، وأخرى في مؤخرتها، ووجهه مكتس بالرزانة، خائفا من أن تفتضح قناعته بالرجال والطقس والبلد.
كانوا في طريقهم إلى العرض الكبير، وعلى كل جانب كانت توجد علامات مطمئنة؛ صفوف طويلة من الأشجار العجفاء الميتة المتفحمة والممزقة، وحفر واسعة محفورة في الحقول وسفوح التلال، تكاد تخفيها شجيرات جديدة، ومنخفضات متعرجة في الأرض، وهياكل شاحنات وسيارات محطمة متناثرة بطول الطريق، وفي كل مكان خطوط لا نهاية لها من الأسلاك الشائكة الصدئة والمبعثرة، التي يبدو أنها وضعت في أماكنها تلك بالصدفة، بلا هدف على الإطلاق.
قال الرقيب هيكس، مبتسما وهو يلقي تحيته العسكرية: «يبدو أننا على وشك الوصول، أيها الملازم.»
أومأ كلود بالإيجاب، ومر إلى الأمام. «حسنا، ألا يمكننا الوصول في وقت أقرب يا فتيان؟» نظر الرقيب خلفه، وابتسم الجنود، وظهر بياض أسنانهم في وجوههم الحمراء المتعرقة. لم يتعجب كلود من أن الجميع على طول الطريق، حتى الأطفال، خرجوا لرؤيتهم؛ إذ رأى أنهم كانوا أجمل مشهد في العالم. كان هذا هو أول يوم يرتدون فيه خوذاتهم؛ قد أراهم جيرهارت كيف يحشونها من الداخل بالحشائش والأوراق للحفاظ على برودة رءوسهم. عندما انقسموا إلى مجموعات من أربعة أفراد، وقرعت الفرقة الطبول وهم يقتربون من إحدى البلدات، حاذى بيرت فولر، الفتى من بليزنتفيل على نهر بلات، الذي كان ينتحب في أثناء الرحلة، جهة اليمين على دليله؛ وكلما مر كلود عليه كان يبدو على لسان حاله أنه يقول: «لن تضبط أي شيء يدينني بسرعة، أيها الملازم!»
عسكروا بعد الظهيرة بوقت قصير، على تل مغطى بأشجار صنوبر شبه محترقة. أخذ كلود كلا من بيرت وديل آبل وأوسكار السويدي، وانطلقوا لعمل مسح وتقرير عن التضاريس.
خلف التل، أسفل الطرف المحترق من الغابة، عثروا على منزل مزرعة مهجور وبئر بدا أن ماءها كان نظيفا.
كان له حاجز من الحجارة الصلبة ، ودلو خشبي معلق بحبل سلكي صدئ. عندما رش الفتية ماء الدلو حولهم، بعثت المياه نسمة هواء نقية وباردة. ولكنهم كانوا فتية عقلاء، وكانوا يعرفون أكثر الأماكن التي يحب أن يختبئ فيها البروسيون الخامدون. حتى القش الموجود في الحظيرة كانوا يرمقونه بنظرات ريبة، ورأوا أن الأصوب ألا يبعثوا بأحد إلى هناك.
عندما توجهوا جهة اليمين ليكملوا جولتهم، دخلوا في وحل؛ حقل منخفض أهملت فيه قنوات الصرف حتى فاضت. هناك أتوا على مجموعة أناس ملطخين بالوحل وحالتهم يرثى لها. جلست امرأة مريضة وذات مظهر بائس على جذع شجرة ساقط في نهاية المستنقع، وفي حجرها طفل رضيع وثلاثة أطفال يتسكعون حولها. كانت طاقتها مستنزفة لأقصى حد، ولم يكن على المرء إلا أن يستمع إلى تنفسها، وأن ينظر إلى وجهها الشاحب المتعرق حتى يعرف مدى وهنها. كانت متسخة، والطين يصل حتى ركبتيها، وتحاول أن ترضع طفلها الذي كان شبه مختف حتى منتصفه تحت شال أسود قديم. لم يكن مظهرها يدل على أنها امرأة متشردة، ولكن كان يوحي بأنها كانت فيما مضى تعتني بنفسها جيدا، وأنها كانت لا تزال شابة. كان الأطفال مرهقين ومحبطين. ارتدى ولد صغير سترة زرقاء غير متقنة، مصنوعة من أحد معاطف الجيش الفرنسي. وارتدى الآخر قبعة ستيتسون أمريكية بالية تغطي أذنيه. وكان يحمل، في كل ذراع من ذراعيه الاثنتين، ساعة وردية من السيلولويد. رفعوا جميعا أعينهم، وانتظروا أن يفعل الجنود شيئا.
اقترب كلود من المرأة، ولمس حافة الخوذة محييا إياها، وقال بالفرنسية: «صباح الخير يا سيدتي. ما الأمر؟»
حاولت التحدث، ولكنها دخلت في نوبة سعال، ولم يسعها سوى أن تلهث منادية: «توينيت، توينيت!»
تقدمت توينيت بسرعة. كانت في الحادية عشرة من عمرها تقريبا، وبدا أنها قائدة المجموعة. وهي ذات وجه صغير يتسم بالجرأة والصلابة وذقن طويل، وشعر أسود أملس مربوط بقطعة قماش وعينين ماكرتين؛ كان مظهرها أقل لطفا وأكثر خبرة من والدتها. بدأت تشرح، وكانت بارعة جدا في توضيح ما تقوله. كانت معتادة على التحدث إلى الجنود الأجانب، حيث إنها تتحدث ببطء وتوكيد، وبإشارات مبدعة.
كانت، هي الأخرى، قد خرجت للاستطلاع. كانت قد اكتشفت منزل المزرعة الفارغ، وتحاول أن تدخل جماعتها فيه لتمضية الليل. كيف أتوا إلى هنا؟ أوه، كانوا لاجئين. كانوا يمكثون مع أناس على بعد ثلاثين كيلو مترا من مكانهم هذا. كانوا يحاولون العودة إلى قريتهم. أصاب المرض أمها حتى أعياها، وشارفت على الموت، وأرادت أن تعود إلى الديار لتموت هناك. كانوا قد سمعوا أن أناسا لا يزالون يعيشون في القرية، ومنهم عمة عجوز تعيش في قبو بيتهم؛ وبوسعهم هم أيضا أن يعيشوا فيها بمجرد أن يصلوا إلى هناك. المقصد من الحديث، وكررته مرارا وتكرارا، أن والدتها كانت تريد الموت في بيتها، أتفهم؟ لم يكن معهم أوراق، وما كان الجنود الفرنسيون سيدعونهم يمرون، ولكن بعدما أتى الجنود الأمريكيون، كانوا يأملون في أن يمروا؛ إذ كان يقال إن الأمريكيين يتسمون باللطف دوما.
أثناء ما كانت تتحدث بصوت حاد ومطقطق، بدأ الرضيع في النحيب، تعبيرا عن عدم اكتفائه من الرضاعة. هزت الفتاة الصغيرة كتفيها. وتمتمت: «إنه غاضب دوما.» أدارته المرأة إلى الجانب الآخر بصعوبة - بدا طفلا ضخما وثقيلا، لكنه كان شاحبا ومريضا - وألقمته الثدي الآخر. بدأ يرضع بصخب؛ إذ كان ينقب وينفث كأنه كان جائعا جدا. كان من المؤلم للغاية، بل كاد أن يكون غير لائق، مشاهدة هذه المرأة المنهكة وهي تحاول إرضاع طفلها. أشار كلود إلى رجاله أن يبتعدوا ويقفوا في أحد الجوانب، وأمسك بالفتاة الصغيرة من يدها وسحبها خلفهم.
قال لها بالفرنسية، وبتوقف في كلامه كان يصنعه دوما في وسط الجملة التي كان ينطقها بالفرنسية: «ينبغي أن تستريح والدتك.» فهمته الفتاة. لم يفاجئها أو يحيرها أي اعوجاج بلغتها الأم. كانت معتادة على أن تخاطب بكل الضمائر والأعداد والأجناس والأزمنة؛ من الألمان أو الإنجليز أو الأمريكيين. هي تنصت فقط كي تسمع إن كانت نبرة الصوت لطيفة أم لا، ومع الرجال أصحاب هذا الزي عادة ما كانت لطيفة.
سألها بالفرنسية: «هل معكم طعام لتأكلوه؟» «كلا. ليس معنا طعام على الإطلاق.»
هل كانت والدتها «مريضة جدا ولا تقدر على المشي»؟
هزت كتفيها؛ بوسع السيد أن يرى بنفسه.
وماذا عن والدها؟
لقد وافته المنية؛ «مات في معركة مارن، في الرابع عشر من الشهر.» «في معركة مارن؟» كرر كلود تلك العبارة، وهو ينظر بحيرة بالغة نحو الطفل الذي كان يرضع. تبعته عيناها الحادتان، وعلى الفور تكهنت بشكوكه. قالت بسرعة: «الرضيع؟» وأضافت: «أوه، الرضيع ليس أخي، إنه ألماني.»
للحظة لم يفهم كلود. كررت تفسيرها بنفاد صبر، وكان صوتها الصغير الرنان يوحي بنبرة ازدراء وخبث. اعتلت حمرة الخجل جبهته ببطء.
دفعها إلى والدتها وقال بالفرنسية: «انتظري هناك.»
قال للجنود: «أظن أنه يتعين علينا أن نأخذهم إلى تلك المزرعة.» وكرر ما فهمه مما حكته الطفلة. وعندما وصل إلى تصريحها المقتضب عن الرضيع، نظر كل منهم إلى الآخر. خشي بيرت فولر أن يبكي مرة أخرى؛ ولذا ظل يتمتم: «بحق الرب، ليتنا وصلنا إلى هنا في وقت أقرب، بحق الرب، ليتنا وصلنا!» بينما كانوا يجرون عائدين بحذاء الخندق.
صنع ديل وأوسكار مقعدا من أيديهما المتشابكة، وحملا المرأة، ولم يكن وزنها ثقيلا. حمل بيرت الطفل الصغير ذا الساعة الوردية قائلا: «تعال أيها الضفدع الصغير، ساقاك ليستا طويلتين بما يكفي.»
سار كلود في الخلف ممسكا بالرضيع الذي كان يصرخ بين ذراعيه بتصنع. سأل نفسه كيف يمكن لرضيع أن تكون له تلك الشخصية الصارمة، وكيف يمكن أن يكره رضيعا إلى هذه الدرجة؟ أبغضه بسبب رأسه المربع ذي الشعر الأشقر والأذنين الشاحبتين، وحمله باشمئزاز ... ولا عجب من أنه كان يبكي! عندما لم يجد الصراخ والتصنع نفعا هدأ فجأة، ونظر إليه بعينين زرقاوين شاحبتين، وحاول أن يريح نفسه على معطفه الكاكي. أخرج يدا صغيرة متسخة، وأمسك بأحد أزراره. تمتم وهو ينظر إلى الرضيع: «يا رفيق، ما هذا؟» وأضاف: «اقطعه!»
قبل أن يتناولوا العشاء في تلك الليلة، حمل الفتية طعاما ساخنا وبطاطين إلى العائلة.
8
التوقيت: الساعة الرابعة فجرا، أحد أيام الصيف، صباحه الأول داخل الخنادق.
كان كلود قد مر للتو على الصف ليتأكد من أن فرق المدفعية قد اتخذت مواقعها. هذه الساعة، حينما يكون النور آخذا في التبدل، كانت وقتا مفضلا للهجوم. قد أتى في وقت متأخر ليلة البارحة، وعرف كل ما يلزم معرفته. لما صعد على حاجز إطلاق النار، حدق من فوق الحاجز بين أكياس الرمال، في الضباب المنخفض المتشابك. وقتئذ لم ير شيئا سوى تشابك الأسلاك، والطيور تتقافز فوق السلك العلوي، وهي تغرد وتزقزق كما كانت تفعل على السياجات السلكية في الديار. كانت تصدح بتغريدات صافية تشبه صوت الناي تشق الهواء الكثيف، ولم يكن يسمع غير أصواتها. هب نسيم خفيف، وببطء أخذ يقشع الضباب. ظهرت خطوط خضراء من بين ركام البخار المتحرك. زاد اضطراب الطيور. كانت الأرض الممتدة الخامدة ذات اللونين الرمادي والأخضر منطقة محرمة. تلك الروابي المنخفضة المتعرجة، التي تشبه تلال خلد محمية بحواجز سلكية، هي خنادق الألمان؛ ويوجد منها خمسة أو ستة خنادق. بوسعه أن يتتبع بسهولة خنادق التواصل من دون منظار. عند إحدى النقاط، كان خطهم الأمامي لا يبعد أكثر من ثمانين ياردة، وعند نقطة أخرى لا بد أن المسافة كلها كانت ثلاثمائة ياردة. بدأت ألسنة دخان رفيعة ترتفع هنا وهناك؛ كان الألمان يتناولون الإفطار؛ كان كل شيء مريحا وطبيعيا. خلف موقع العدو كان الريف يرتفع تدريجيا لعدة أميال، بوديانه الضيقة وغاباته الصغيرة، حيث، حسب خريطته، أخفوا مدفعية. في الخلف على التلال توجد بيوت ريفية مدمرة وأشجار مكسورة، ولكن لم يوجد في أي مكان مخلوق حي على مرمى البصر. كانت منطقة ريفية خامدة ساكنة، غارقة في الصمت والكآبة. ومع ذلك، في كل مكان كانت الأرض مليئة بالرجال. لا بد أن خنادقهم، من الجانب الآخر، تبدو ساكنة وخامدة. كانت الحياة سرا، هذه الأيام.
كانت البساطة التي يمكن بها فعل الأشياء مذهلة. قد سارت كتيبته داخلة بهدوء عند منتصف الليل، والصف الذي جاءوا ليحلوا محله قد تحرك بالهدوء نفسه نحو المؤخرة. جرى كل هذا في ظلام حالك. في الوقت نفسه الذي كانت فيه السرية «بي» تتراجع نزولا على منحدر إلى خنادق غير عميقة في المؤخرة، أضاء الريف للحظة جراء قذيفتي إنارة، وسمعت قعقعة مدافع رشاشة، مدافع ماكسيم الألمانية؛ كانت قرقعات متفرقة لم تستمر. بينما كانوا يسيرون متتابعين على طول خنادق الاتصال أنصتوا بوجل؛ إذ كان يمكن لنيران المدفعية أن تلحق أضرارا بالرجال الآخرين الذين كانوا يتحركون إلى المؤخرة. ولكن لم يحدث شيء. مرت ليلتهم هادئة، وعندما أتى الصباح كانوا على قيد الحياة!
توهجت السماء بلوني الزعفران والفضة. نظر كلود في ساعته، ولكن لم يكن بعد يطيق أن يغادر. ما أطول الوقت الذي يستغرقه أحد آل ويلر في اجتياز أي عقبة! أمضى أربع سنوات ماضيا في طريقه، وظن أنه بعدما وصل سيستمتع بالمشهد قليلا. تمنى لو كان بوسع والدته أن تعرف بما كان يشعر هذا الصباح، ولكن لعلها بالفعل كانت تعرف. على أي حال، ما كانت ستجده في أي مكان آخر. قبل خمس سنوات، عندما كان جالسا على درجات مبنى المجلس التشريعي في دنفر، ويعرف أنه لا يمكن أن يحدث له أي شيء غير متوقع ... أيتصور أنه كان بإمكانه للحظة أن يتنبأ بمكانه اليوم؟ ألقى نظرة طويلة على المشهد المائل إلى الحمرة الممتد أمامه، ونزل على المعبر الخشبي.
عاد كلود إلى الملجأ الذي كان هو وجيرهارت قد ألقيا فيه أغراضهما الليلة الفائتة. كان شاغلوه السابقون قد تركوه نظيفا. ويوجد سريران مثبتان في الحوائط الجانبية بمسامير؛ كانا عبارة عن هيكلين خشبيين فوقهما شبكة سلكية مغطاة بأكياس رمل جافة. بين السريرين كانت توجد طاولة صغيرة، عليها شمعة محشورة في زجاجة خضراء، وموقد يعمل بالكحول، وحمام مائي لحفظ الطعام ساخنا، وكوبان من الصفيح. على الجدار كانت توجد صور ملونة من مجلة «جوجند» الألمانية، مأخوذة من أحد خنادق الألمان.
وجد أن جيرهارت لا يزال نائما في سريره، فهزه حتى استيقظ. «كم أمضيت في الخارج يا كلود؟ ألم تنم؟» «نمت قليلا. لم أكن متعبا كثيرا. أظن أنه يمكننا تسخين ماء الحلاقة على هذا الموقد؛ فقد تركوا لنا نصف زجاجة كحول. إنه وكر صغير مريح جدا، أليس كذلك؟»
علق ديفيد بنبرة جافة: «سيؤدي الغرض منه بلا شك.» وأضاف: «إنك حساس جدا تجاه أي انتقاد لهذه الحرب! عجبا، هذا ليس شأنك؛ فأنت لم تصل إلا توا.»
رد كلود بوداعة، وقد بدأ يطوي بطاطينه: «أعلم ذلك.» وتابع: «ولكن من المحتمل أن تكون الحرب الوحيدة التي سأشارك فيها في حياتي؛ ولذا يحق لي أيضا أن أهتم بها.»
عصر اليوم التالي، كان أربعة شباب، كلهم عراة إلى حد ما، منشغلين بحفرة قذيفة كانت مليئة بمياه بنية عكرة. كان الرقيب هيكس وصاحبه ديل آبل قد أخذا يفتشان طيلة نصف وقت الصباح القائظ الحارق بحثا عن حفرة ليست بالغة القذارة، وفي موضع ملائم، بل رائع، وكانا قد أبلغا الملازمين بهذه الحفرة. قال هيكس إن النقيب ماكسي يمكن أن يرسل الجندي التابع له حتى يعثر على حفرته، ويأخذ حمامه منفردا. أضاف الرقيب: «لن يستحم أبدا مع أي أحد آخر.» وأردف: «يخجل من كشف عورته!»
كان بروجر وهاموند، الملازمان الثانيان، قد انتهيا من استحمامهما، واستندا إلى ما يمكن أن نطلق عليه منحدرا عشبيا، وهما يتفحصان أماكن متفرقة من جسديهما باهتمام. لم يخلعا ملابسهما بالكامل منذ بعض الوقت، وكان المشي لمدة أربعة أيام في طقس حار يجعل الرجل يتلهف إلى النظر إلى نفسه.
قال لهما جيرهارت: «انتظرا حتى الشتاء.» كان لا يزال يستحم في الحفرة، والماء الموحل يصل حتى إبطيه. «عندئذ لن تغتسلا إلا مرة واحدة كل ثلاثة أشهر. أخبرني بعض الجنود البريطانيين أنهم عندما استحموا للمرة الأولى بعد معركة فيمي، تقشرت جلودهم مثل جلد الثعبان. ما الذي تفعله بسروالي يا بروجر؟» «أفتش عن سكينك. سقط مني سكيني أمس، عندما انفجرت تلك القذيفة في الطريق الفرعي. لقد جفلت حتى كدت أسقط مغشيا علي!» «تبا، لم يكن ذلك أمرا جللا. لا تستمر في الحديث عن هذا الأمر؛ فهذا يظهر أنك غر ساذج.»
خلع كلود ملابسه، ونزل إلى البركة بجانب جيرهارت. قال: «يا للهول، ارتطمت بشيء حاد بالأسفل! لماذا لم تخرجوا الشظايا أيها الفتية؟»
أغمض عينيه واختفى للحظة، ثم صعد وهو يبصق، وألقى على الأرض جسما معدنيا دائريا، مغطى بالصدأ وممتلئا بالوحل. «خوذة ألمانية، أليس كذلك؟ هذا مقرف!» مسح وجهه ونظر حوله بتشكك.
قلب بروجر الجسم بعصا، وقال: «مقرف حقا!» وأضاف: «لماذا لم تخرج بقيته بحق الجحيم؟ لقد أفسدت علي حمامي. أتمنى أن تستمتع به.»
تسلق جيرهارت الجانب وصعد. وقال: «اخرج يا ويلر! انظر إلى هذا»، مشيرا إلى فقاعات كبيرة خاملة، تنفجر صعودا عبر المياه الكثيفة. «لقد أثرت مشكلة، أيعجبك ذلك! شيء بالغ السوء يجري بالأسفل هنا.»
خرج كلود بعده ناظرا خلفه إلى ما يجري في الماء. «لا أفهم كيف يمكن لإخراج خوذة أن يثير القاع بهذه الطريقة. أظن أن المياه تبقي الرائحة تحتها.»
سأله بروجر بسخرية: «هل درست الكيمياء يوما ما؟» وتابع: «لقد فتحت مقبرة لتوك، والآن يصلنا الغاز المنبعث. إن كنت قد ابتلعت شيئا من تلك الكولونيا الألمانية، أوه، يجب أن تقلق!»
كان الملازم هاموند عاكفا على الكتابة في دفتره، بينما كان لا يزال عاري الساقين، وقميصه مربوط على كتفيه. وقبل أن يغادروا وضع لافتة على عصا مفلوجة.
ممنوع الاستحمام للعامة! شاطئ خاص!
سي ويلر، السرية «بي»، كتيبة المشاة الثانية. •••
أتت الخطابات الأولى من الوطن! حملتها عربات الإمداد، وتلقى كل رجل في السرية شيئا عدا إد دراير، مزارع من تلال نبراسكا الرملية، وولي كاتز، الفتى النمساوي ذو الشعر الأشقر الذي كان يعمل في مصانع التعبئة في أوماها. شعر رفاقهم بالأسى لحالهم. لم يكن لإد أي «أهل»، ولكنه مع ذلك قد توقع ورود خطابات إليه. كان ويلي متأكدا من أنه لا بد أن والدته قد كتبت إليه خطابا. عندما سلم آخر ظرف مهترئ وعاد خاوي الوفاض، تمتم قائلا: «إنها خرقاء من شرق أوروبا، ولا تجيد الكتابة. أظن أن العنوان لم يكن واضحا، وتلقى خطابي جندي آخر في سرية أخرى.»
لم ترسل إليهم أي نشرات دورية، كان الفتية يأملون في جرائد من الوطن كي تطلعهم على القليل من أخبار الحرب؛ إذ لم تصلهم أي أخبار هنا. على الرغم من ذلك ، أرفقت أخت ديل آبل قصاصة من جريدة «كانساس سيتي ستار»، وهي عبارة عن تقرير مطول كتبه أحد مراسلي الحرب البريطانيين في بلاد الرافدين، يصف فيه العناء التي الذي كان يلاقيه الجنود هناك، مثل الدوسنتاريا والذباب والبعوض والحرارة التي لا يمكن تصورها. قرأ هذه المقالة بصوت عال على مجموعة من أصدقائه، وهم يجلسون حول حفرة قذيفة كانوا يغسلون فيها جواربهم. قد انتهى لتوه من القصة التي تقول إن الجنود البريطانيين عثروا على بضعة أكواخ طينية في المكان الذي يزعم أنه البقعة التي كانت فيها جنة عدن؛ كان مكانا مقفرا مليئا بالحشرات اللاسعة، عندما فتح أوسكار بيترسن، وهو فتى سويدي متدين جدا عادة ما يظل صامتا لأيام كاملة، فمه، وقال مستهزئا: «ذلك كذب!»
رفع ديل ناظريه إليه منزعجا من المقاطعة. وقال: «كيف تعرف أنه كذلك؟» «لأن الرب وضع أربعة من ملائكة الكروبيم معهم سيوف لحراسة الجنة، ولن يعثر عليها بشر. ليست من الأماكن التي من المفترض أن يعثر عليها البشر. الكتاب المقدس يقول هذا.»
بدأ هيكس يضحك. «عجبا، ذلك كان منذ ستة آلاف سنة، أيها المضحك! هل تظن أن ملائكة الكروبيم ما زالت هناك؟» «بالطبع. ماذا تمثل ستة آلاف سنة لملاك كروبيم؟ لا شيء!»
نهض السويدي وجمع جواربه بتجهم.
نظر ديل آبل إلى صاحبه. وقال: «ألم تجتمع فيه كل صفات الحمق؟ يا له من متحجر العقل!»
لم يرغب أوسكار في أن يستمر في الاستماع إلى «حفنة أكاذيب»، وأخذ ملابسه المغسولة وسار مبتعدا. •••
كان مقر قيادة الكتيبة نحو نصف ميل خلف الجبهة، وكان جزء منه عبارة عن مخبأ، وجزء عبارة عن سقيفة، لها سقف خشبي مغطى بطبقة عشب. كان مكتب العقيد مفصولا من أحد الأطراف، وأعطى بقية المكان للضباط ليكون بمثابة غرفة للترويح عن أنفسهم. في إحدى الليالي، عاد كلود كي يقدم تقريرا عن المواقع الجديدة لفرق المدفعية. كان الضباط الشبان جالسين حول طاولات صغيرة يدخنون ويأكلون مقرمشات حلوة يخرجونها من علب صفيح. وكان جيرهارت عاكفا على العمل على طاولة خشبية بأوراق وأقلام تلوين، يرسم نسخة مبيضة من خريطة تقريبية قد تعاونا في رسمها ذلك الصباح، تظهر مدى النيران. لم تربكه الضوضاء؛ إذ كان بوسعه الجلوس وسط عدد كبير من الرجال، والكتابة بهدوء كما لو كان وحده.
كان يوجد ضابط واحد يمكن أن يعلو صوته أثناء الحديث عن الباقين جميعهم، أينما كان، وهو النقيب باركلي أوينز، الملحق من سلاح المهندسين. كان رجلا بالغ القصر؛ إذ كان طوله خمس أقدام وأربع بوصات فقط، وكان عريضا جدا، وشعلة نشاط. قبل الحرب، كان يبني سدا في إسبانيا، «أكبر سد في العالم»، وأثناء عمليات التنقيب التي كان يجريها اكتشف أطلال أحد معسكرات يوليوس قيصر المحصنة. وهذا يفوق قدرة مخيلته السهلة التأثر على التحمل. عكف على تصوير هذه الآثار القديمة، وأخذ قياساتها والاستغراق في تأملها. كان مهندسا في النهار، وأثريا في الليل. لديه صناديق كتب أرسلت من باريس؛ تضم كل ما كتب عن يوليوس قيصر باللغتين الفرنسية والألمانية، فأشرك معه قسا شابا كي يقرأ عليه ترجمة تلك الكتب في المساء. اعتقد القس أن الأمريكي كان مجنونا.
عندما كان أوينز في المرحلة الجامعية، لم يظهر أدنى اهتمام بالدراسات اليونانية والرومانية، ولكن الآن بدا الأمر كأنه سيبعث الحياة في يوليوس قيصر. اندلعت الحرب، وتوقف العمل في السد الذي كان يبنيه. وكذلك أدخلت أفكارا أخرى إلى عقله الذي كان منصرفا إلى الهندسة. عاد مسرعا إلى مسقط رأسه في كانساس كي يشرح الحرب لمواطنيه. سافر في أنحاء الغرب، وأخذ يوضح ما حدث بالتحديد في معركة المارن الأولى، حتى أتته فرصة الانضمام إلى الجيش.
في الكتيبة، أطلق على أوينز اسم «يوليوس قيصر»، ولم يعرف الرجال البتة إن كان يشرح عمليات القائد الروماني في إسبانيا، أم عمليات جوفر في معركة المارن؛ إذ كان ينتقل من أحد الموضوعين إلى الآخر. كان كل شيء حاضرا في صدارة ذهنه؛ فلم تكن القرون تشكل فارقا. لم يكن لأي شيء وجود حتى يكتشفه باركلي أوينز. الرجال يحبون سماعه وهو يتكلم. في تلك الليلة، ظل يغدو ويروح وعيناه الصفراوان تدوران في محجريهما، وفي يده سيجار كبير، ويلقي محاضرة على الضباط الشبان عن سمات الفرنسيين، ويدربهم ويعدهم. كانت ساقاه هما اللتين تجعلان منه أضحوكة؛ فجذعه كان جذع رجل كبير، محمولا على ساقين قصيرتين. «الآن، لا ينبغي أيها الرفاق أن تنسوا أن حياة الليل في باريس ليست شيئا تقليديا على الإطلاق؛ ذلك عرض أقيم للأجانب. الفلاح الفرنسي شخص مقتصد. هذا النبيذ الأحمر لا بأس به إن لم تسرف فيه؛ تناوله مخففا بالماء حتى الثلثين وسيقيك الإصابة بالدوسنتاريا. لست بحاجة إلى أن تكون فظا معهم، بل كن حازما. عندما تبادرني إحداهن بالكلام لتراودني عن نفسها أتبع خطة معتادة؛ أولا أعطيها خمسة وعشرين فرنكا، ثم أنظر في عينيها وأقول: «يا فتاتي، لدي ثلاثة أطفال، ثلاثة صبية.» فتفهم المقصود على الفور، ولا تفشل تلك الخطة مطلقا. فتبتعد وهي خجلة من نفسها.»
قال الملازم الشاب هاموند ببراءة: «ولكن ذلك باهظ جدا! لا بد أنه يجعلك فقيرا.» زمجر الآخرون غضبا.
كان كلود يعرف أن ديفيد تحديدا يمقت النقيب أوينز من سلاح المهندسين، وتعجب من أنه كان بوسعه أن يستمر العمل بهذا القدر من التركيز، بينما ظلت أجزاء من محاضرات العقيد تقطع صخب الحديث المعتاد وضوضاء الفونوغراف. استرق أوينز، بينما كان يغدو ويروح، النظر نحو جيرهارت. كان قد تناهى إلى سمعه أن ثمة شيئا غير مألوف بشأنه.
أبقى الرجال الفونوغراف دائرا؛ فبمجرد أن ينتهي تسجيل حتى يضع أحد ما تسجيلا آخر. في إحدى المرات، عندما بدأ لحن جديد، لاحظ كلود أن ديفيد رفع ناظريه عن الورقة التي كان عاكفا عليها والفضول باد على محياه. أنصت لوهلة وعلى شفتيه ابتسامة بها قدر من التهكم، ثم تجهم وجهه وعاد إلى رسم خريطته. شيء ما في نظرته الخاطفة التي كانت تنطوي على التمييز جعل كلود يتساءل عما إن كان اللحن قد أيقظ لديه ذكريات معينة مرتبطة به؛ ظن كلود أنها ذكريات حزينة، ولكنها جميلة. قام من جلسته وذهب كي يغير التسجيل بنفسه هذه المرة. أخرج الأسطوانة ورفعها في النور، وقرأ ما كان مكتوبا عليها: «تأملات تايلندية - عزف كمان منفرد - ديفيد جيرهارت.»
عندما كانا عائدين عبر خندق الاتصال تحت المطر، يخوضان الطريق في صف واحد، كسر كلود حاجز الصمت فجأة. وقال: «ذلك التسجيل الذي شغلوه الليلة كان أحد تسجيلاتك، عزف الكمان المنفرد، أليس كذلك؟» «يبدو كذلك. سنتجه يمينا الآن. فدائما ما أضل الطريق هنا.» «هل توجد لك تسجيلات كثيرة؟» «عدد لا بأس له. لماذا تسأل؟» «أود أن أرسل خطابا لأمي. إنها مغرمة بالموسيقى الجيدة. ستشتري تسجيلاتك، وهذا نوعا ما من شأنه أن يقرب كل شيء منها، ألا ترى ذلك؟»
قال ديفيد متلطفا: «حسنا، يا كلود.» وتابع: «سوف تجدهم في الكتالوج، جنبا إلى جنب مع صورتي بالزي الرسمي. لقد سجلت تسجيلات كثيرة قبل أن أنضم إلى معسكر ديكس. تحصل أمي على دخل بسيط من تلك التسجيلات. ها قد وصلنا.» بينما كان يشعل عود ثقاب، قفز ظلان أسودان من على الطاولة واختفيا خلف البطانيات. فقال: «يوجد الكثير منهم في الجوار، في هذه الليالي الممطرة. هل أمسكت بواحد؟ لا تسحقه هناك. ها هو الكيس.»
فتح جيرهارت فوهة كيس من الخيش، ودفع كلود الزاوية المتلوية من بطانيته داخله، وضغط بقوة على الشيء الذي سقط في القاع. «في ظنك، أين الآخر؟» «سينضم إلينا لاحقا. لا أنزعج من الفئران بقدر ما أنزعج من باركلي أوينز. يا له من منظر وهو متجرد من ملابسه! اخلد إلى النوم، سأذهب في جولة تفقدية.» مشى جيرهارت على المعبر الخشبي المغمور بالماء، والمياه تتناثر من وقع خطواته. خلع كلود حذاءه وبرد قدميه في المياه الموحلة. تمنى أن يتمكن من إقناع ديفيد أن يتحدث عن مهنته، وتساءل كيف كان يبدو وهو على منصة حفل موسيقي يعزف على الكمان.
9
في الليلة التالية، أرسل كلود إلى مقر القيادة في الموقع «كيو» بمعلومات لم يهتم العقيد بتدوينها على الورق. وفي الساعة العاشرة، انطلق مع الرقيب هيكس مرافقا له. كان المطر يهطل منذ يومين، وامتلأت به خنادق الاتصال حتى كادت المياه أن تبلغ الركب. على بعد نصف ميل خلف خط المواجهة، زحف الرجلان خروجا من الخندق، واستمرا في الزحف على سطح الأرض. لم يشهد خط المواجهة في تلك الليلة سوى القليل جدا من القصف. حين اندلع وهج من النيران، انبطحا ورقدا على وجهيهما وهما يحاولان في الوقت ذاته أن يلمحا بنظرة خاطفة ما يوجد أمامهما.
كانت الأرض وعرة والظلام دامسا؛ إذ الوقت قد تجاوز منتصف الليل عندما وصلا إلى الطريق الذي يربط الشرق بالغرب، الذي عادة ما يكون مزدحما، ولا يخلو من المارة تماما حتى في ليلة كهذه. كانت قوافل الخيول تخوض في الوحل بالقذائف على ظهورها، بينما كانت عربات الإمداد في طريق عودتها من الجبهة فارغة. توقف كلود وهيكس بعض الوقت بجانب الخندق؛ أملا في العثور على وسيلة ركوب. بدأ المطر يهطل بغزارة حتى إنهما بحثا عن ملجأ منه. بعدما راحا يبحثان على غير هدى هنا وهناك، عثرا على قطعة مدفعية كبيرة قد غاصت عجلاتها حتى المحاور في حفرة من الوحل.
نادى صوت بنبرة سريعة بريطانية دون شك: «من هناك؟» «جنديان من المشاة الأمريكية. هل يمكننا الدخول إلى إحدى الشاحنات حتى يتوقف المطر؟» «أجل، بالتأكيد! يمكننا أن نفسح لكما مكانا هنا إن لم تكونا ضخمين للغاية. تحدثا بهدوء وإلا ستوقظان الرائد.» سمع صوت قهقهة وضحكات مكتومة، وأومض مصباح يدوي للحظة؛ فبدا في ضوئه صف يتألف من خمس شاحنات قد غطيت الأولى والأخيرة منها بخيام من القماش المشمع. كانت الأصوات تأتي من الملجأ الموجود بجوار المدفع. سحب الجنود الموجودون بالداخل سيقانهم، وأفسحوا مكانا للغريبين، واعتذروا لعدم وجود شراب قوي يقدمونه لهما سوى قليل من شراب الرم. وقبل الدخيلان هذا العرض بامتنان.
كان البريطانيون كثيري الضحك، واعتقد كلود - بناء على أصواتهم - أنهم جميعا صغار للغاية. يسخرون من الرائد كأنه معلمهم في المدرسة. لم يكن في الشاحنة من مكان يكفي لأن يستلقي أي أحد؛ فجلس كل منهم وقد أسند ركبتيه تحت ذقنه، وراحوا يتبادلون الحديث والأخبار. كان فريق المدفعية ينتمي إلى سرية مدفعية مستقلة أرسلت إلى البلاد لتؤدي الخدمة «أينما كانت الحاجة إليها». وصلت باقي السرية وذهبت باتجاه الشرق، لكن ذلك المدفع الكبير دائما ما يسبب المشكلات، والآن قد تعطلت قاطرته ولم يستطيعوا سحبه وإخراجه. كانوا يطلقون عليه اسم «جيني»، وقالوا إنه يصاب بنوبات الإغماء بين الحين والآخر، وإنه لا بد من الترويح عنه. قال أحد الجنود البريطانيين غير المرئيين إن التعامل معه يشبه تجول المرء مع جدته؛ إذ إنه: «مدفع قديم فخم!» قالوا إن الرائد نائم في الشاحنة الخلفية، وإنه سيحصل على وسام «صليب فيكتوريا» في النوم. فدوت المزيد من أصوات القهقهة.
كلا، لم يكونوا يعرفون وجهتهم؛ كان الضباط يعرفونها بالطبع، لكن ضباط المدفعية لا يقولون شيئا البتة. ما سمات هذا البلد على أي حال؟ إنهم جدد على تلك المنطقة، وقد أتوا لتوهم من فيردور.
قال كلود إن له صديقا من القوات الجوية هناك؛ فهل يتصادف أنهم يعرفون أي شيء عن فيكتور مورس؟
هل تقصد مورس الطيار البطل الأمريكي؟ ألم يسمع؟ عجبا، لقد ورد ذلك في صحف لندن. أصيب مورس داخل خطوط الهمجيين الألمان منذ ثلاثة أسابيع. كانت مناورة رائعة. طاردته ثماني طائرات ألمانية؛ أسقط ثلاثة منها وأجبر البقية على الفرار، ثم اتجه إلى القاعدة، لكن الطائرات عادت حينها ونالت منه. سقطت طائرته وقد اشتعلت فيها النيران، وقفز هو من ارتفاع ألف قدم أو أكثر.
سأل كلود: «إذن فهو لم يحصل على إجازته قط، أليس كذلك؟»
لم يعرفوا بشأن ذلك. لقد حظي بإشادة حسنة.
جلس الجنود في انتظار تحسن الطقس أو انقشاع الليل. غفا بعضهم لكن كلود جفاه النوم. كان يفكر في أمر شقة تشيلسي، ويتساءل عما إذا كانت الجميلة الناعسة الطرف لا تزال تشعر بالأسف أم إنها تعزف لحن «ورود بيكاردي» لغيره من الضباط الشباب. راودته أفكار حزينة بأنه لن يعود إلى لندن الآن مطلقا. لقد كان يعول كثيرا على لقاء فيكتور هناك ذات يوم بعد التخلص من القيصر تماما. كان يحب فيكتور بحق. ثمة شيء مميز بشأن ذلك الفتى ... كان أشبه بطفل ماجن ذهب يطلب عدوه بين السحاب. أي عصر آخر كان يمكن أن ينتج شخصية كتلك؟ تلك إحدى تبعات هذه الحرب؛ تأخذ فتى صغيرا من بلدة صغيرة وتمنحه الخيلاء؛ تمنحه حياة كالأفلام، ثم تمنحه موتا كالملائكة المتمردين.
رجل، كجيرهارت على سبيل المثال، عاش عمره في عالم وردي بشكل أو بآخر، لكنه بات ينتمي إلى هنا في الواقع. كيف له أن يعلم الهياكل الصلبة والأراضي التي اخترقتها قذائف المدافع الكبيرة على الجانب الآخر من البحر؟ من يفهمه أنه أصبح بعيدا عن مزرعة الفراولة والصندوق الزجاجي في المصرف وأصبح يحلق في سماء فيردور؟
توقف المطر بحلول الثالثة. وانطلق كلود وهيكس مرة أخرى وقد صحبهما أحد أعضاء فرقة المدفعية؛ إذ عاد ليحصل على المساعدة من أجل القاطرة. لما بدأ نور النهار في الظهور، زاد تعجب الأمريكيين من المظهر الشبابي الفائق لرفيقهما. عندما وقفوا عند حفرة نتجت عن إحدى القذائف وغسلوا الوحل عن وجوههم، خلع الفتى الإنجليزي خوذته ومسح البقع التي خلفها الطقس، فظهرت على محياه نضارة الشباب، وربما شيء من ملامح الأنوثة؛ إذ كان خداه متوردين بلون التفاح، ورموشه طويلة ناعمة، وانسدلت على جبينه خصل الشعر الأصفر المجعد.
حين انطلقوا في طريقهم مرة أخرى، سأل كلود بنبرة أبوية: «لم تنضم إلى الجيش منذ مدة طويلة، أليس كذلك؟» «انضممت في السادسة عشرة. كنت في سلاح المشاة قبل أن آتي إلى هنا.»
أحب الأمريكيان سماع حديثه؛ إذ كان يتحدث بسرعة كبيرة وبصوت عال رنان. «كيف استطعت تغيير سلاحك؟» «حسنا، كنت في إحدى كتائب الزملاء ومنينا بهزيمة نكراء. عندما خرجت من المستشفى فكرت في الانضمام إلى سلاح آخر في الجيش بعدما رأيت أصدقائي وقد أخذهم الموت.»
قال هيكس بنبرته البطيئة: «وما كتائب الزملاء؟» كان يكره كل المفردات الإنجليزية التي لا يفهمها، على الرغم من أنه لا يضجر على الإطلاق من الكلمات الفرنسية التي لا يفهمها.
قال الفتى بصوته الرنان: «رفاق انضموا إلى الجيش معا من المدرسة.»
نظر هيكس إلى كلود. كلاهما يفكر أنه ينبغي بهذا الفتى أن يقضي المزيد من الوقت في المدرسة، ويتخيلان هيئته في بداية التحاقه بالخدمة.
سأل متعاطفا: «وتقول إنكم هزمتم؟» «نعم، على نهر سوم. كان حظنا سيئا للغاية. أرسلنا إلى هناك للاستيلاء على خندق، ولم نتمكن من ذلك. لم نصل حتى إلى السلك. كان الألمان الهمجيون على أهبة الاستعداد في تلك المرة، ولم نستطع التغلب عليهم. ذهبنا في عداد ألف جندي، ورجع منا سبعة عشر.» «هل تقصد مائة وسبعة عشر؟» «كلا، سبعة عشر.»
أصدر هيكس صفيرا، وتبادل النظرات مع كلود مرة أخرى. لم يشك أي منهما في كلامه. ثمة شيء مزعج للغاية في فكرة إرسال ألف فتى نضر الوجه لم ينتهوا من دراستهم في مواجهة مع المدافع. علق: «لا بد أنها كانت أوامر غبية. هل تظن أن خطأ قد حدث لدى القيادة؟» «كلا، على الإطلاق، كانت القيادة تعلم حقيقة الأمر! كنا سنستولي على الخندق لو حالفنا أي شيء من الحظ. لكن الألمان الهمجيين كانوا يقاتلون بضراوة شديدة. مدافعهم فعلت بنا الأفاعيل.»
سأله كلود: «هل أصبت في تلك العملية؟» «أصيبت ساقي. كانت القذائف تندفع باتجاهي طوال الوقت، لكني انبطحت على بطني وتقهقرت. عندما خرجت من المستشفى، لم تكن ساقي قوية، والسير على القدمين أقل في سلاح المدفعية.» «أظن أنك كنت قد سئمت.»
قال الفتى بصوته العالي الرنان: «حسنا، لا يمكن للمرء أن يستمر في مكان قتل فيه جميع أصحابه! سيظل يفكر فيهم طوال الوقت كما تعلم.»
وصل كلود وهيكس إلى مقر القيادة، بينما كان الطهاة يستعدون لإعداد الطعام. أخذهما عريف إلى حمام الضباط، الذي كان عبارة عن سقيفة بها أحواض كبيرة من القصدير، وحمل ملابسهما كي يجففها في المطبخ. قال العريف إن الضباط سيأتون بعد ساعة، وسيكون قد تمكن هو في هذه الأثناء من تنظيف القمصان والجوارب لهما.
تحدث هيكس وهو يفرك جسده بفوطة حمام حقيقة: «اسمع أيها الملازم، لا أريد سماع المزيد عن كتائب الزملاء تلك، ماذا عنك؟ إنها تزعجني. لو أننا اشتركنا فيها لكان من الممكن أن نحظى ببعض الأسبقية. أكره أن أشعر بالضآلة.» قال كلود بنبرة خشنة: «أعتقد أن علينا أن نتجرع دواءنا، لم يكن هناك أي مفر، أليس كذلك؟ كنت أشعر بهذا. فتى لطيف. لا أعتقد أن الفتية الأمريكيين يبدون على هذه الدرجة من حداثة السن أبدا.»
تذمر الرقيب السمين: «عجبا، إذا قابلته في أي مكان آخر، فربما كنت ستخشى استخدام الكلمات البذيئة أمامه، إنه جميل جدا! ما الفائدة من إرسال ملجأ أيتام لكي يقتلوا؟ لا أرى فائدة في ذلك. حسنا، هذا شأنهم. لن أدع هذا الحديث يفسد علي إفطاري. هل سنأكل اللحم المبرد والبيض أيها الملازم؟»
10
بعد الإفطار، ذهب كلود إلى مقر القيادة وتحدث مع رائد هناك. أخبره الرائد أن عليه الانتظار حتى الغد كي يرى العقيد جيمس الذي استدعي إلى باريس لحضور مؤتمر عام. لقد سافر بسيارته في الساعة الرابعة من فجر ذلك اليوم استجابة لرسالة هاتفية.
قال الرائد: «لا يوجد الكثير من الأنشطة التي يمكن القيام بها هنا للتسلية. سيعرض فيلم الليلة، ويمكنك الحصول على ما تريد في الحانة الصغيرة؛ تلك الموجودة في الميدان مقابل الدبابة الإنجليزية هي الأفضل. توجد فتاتان فرنسيتان جميلتان في ثكنة الصليب الأحمر الكائنة على التل، في حديقة الدير القديمة. إنهما يحاولان رعاية المدنيين ونحن على وفاق معهما. إننا نحضر المؤن الخاصة بهما مع مؤننا، وقد صدرت الأوامر لضابط التموين والإمدادات بمساعدتهما عندما تنفد مؤنهما. يمكنك أن تذهب وتزورهما. إنهما يتحدثان الإنجليزية بطلاقة.»
سأل كلود إن كان بإمكانه زيارتهما من دون أي نوع من التعريف. «نعم، نعم، إنهما معتادتان علينا! لكني سأعطيك بطاقة تقدمها إلى الآنسة أوليف. إنها صديقة مقربة لي. ها هي البطاقة: «الآنسة أوليف دي كورسي، أقدم لك ... إلى آخره.» وأنت تفهم الباقي»، وحينها رفع رأسه بسرعة خاطفة ونظر إلى كلود من رأسه إلى قدمه، ثم قال: «إنها سيدة جميلة.»
حتى مع بطاقة التعارف، شعر كلود ببعض التردد بشأن تقديم نفسه لهاتين السيدتين. ربما لا تحبان الأمريكيين؛ وكان دائما ما يخشى لقاء فرنسيين لا يحبون الأمريكيين. وقد عرف أن العديد من رفاقه في الكتيبة يخشون ذلك أيضا؛ إذ كانوا يرتعبون من عدم حب الناس لهم. وفور أن كانوا يشعرون بأنهم غير محبوبين، يهرعون إلى أسوأ التصرفات كي يستحقوا ذلك الشعور بالكراهية؛ فلا يشعرون بأنهم قد خدعوا؛ والخداع هو أسوأ شعور قد ينتاب جندي المشاة الأمريكي!
رأى كلود أنه يستطيع التجول في المدينة بعض الوقت. لقد استولى عليها الجيش الألماني في خريف عام 1914 بعد تراجعه في معركة المارن، وظلت تحت سيطرة الألمان حتى قبل عام تقريبا حين استعادها الجيش الإنجليزي بالاستعانة بفرق المشاة الجبلية التابعة للجيش الفرنسي. تمكنوا من السيطرة على المدينة وإخراج الألمان منها، ولم يحدث ذلك إلا من خلال دكها بالمدفعية حتى لم يبق فيها مبنى واحد قائم.
كان كلود يفكر وهو يسير بين الطرقات الممتلئة بأكوام الطوب والجص أن الخراب بالغ ولا يوجد سواه. لم يكن في المشهد أي جمال على غرار صور الحرب التي كان المرء يراها في الوطن. كان يمكن لإعصار أو حريق أن يقوم بالمهمة نفسها. لم يكن المكان سوى كومة نفايات ضخمة؛ محض صورة مكبرة من أكوام القمامة التي تعيب ضواحي المدن الأمريكية. المناظر نفسها تتكرر في جميع أنحاء المكان؛ أكوام من الطوب المحروق والحجارة المكسورة، وأكوام من الحديد الصدئ الملتوي، وعوارض ودعامات متكسرة إلى شظايا، وبرك آسنة، وحفر أقبية ممتلئة بالمياه الموحلة. لقد خطا أحد الجنود الأمريكيين في إحدى هذه الحفر قبل بضع ليال وغرق فيها.
لقد كانت تلك المدينة ثرية يسكنها ثمانية عشر ألف نسمة، والآن يبلغ سكانها من المدنيين نحو أربعمائة فحسب. ظل بعضهم صامدين في المدينة طوال سنوات الاحتلال الألماني، وعاد البعض الآخر من الملاجئ التي لجئوا إليها فور سماعهم بإجلاء العدو عن المدينة. كانوا يعيشون في الأقبية أو في ثكنات خشبية صغيرة مصنوعة من الأخشاب القديمة أو صناديق البضائع الأمريكية. وبينما كان يسير قرأ كلود أسماء وعناوين يعرفها مكتوبة على لوحات موضوعة على الجانبين من تلك الملاجئ الهشة: «من إميري بيرد، شركة «ثير»، كنساس سيتي، ولاية ميزوري.» و«دانيلز آند فيشر، دنفر، كولورادو.» سرته هذه النقوش كثيرا حتى إنه بدأ يشعر بالرغبة في الصعود وزيارة السيدتين الفرنسيتين.
سطعت الشمس حارة بعد ثلاثة أيام من المطر. وصدرت عن المياه الراكدة والحشائش التي نمت في الخنادق رائحة كريهة. انتصرت الزهور البرية في النمو فوق أكوام الخشب المتعفن والحديد الصدئ؛ نمت زهور القنطريون العنبري، وزهور الجزر البري، وزهور الخشخاش، بألوانها الزرقاء والبيضاء والحمراء، وكأنما خرجت ألوان العلم الفرنسي من التراب الفرنسي تلقائيا تتحدى ما فعله الألمان بها.
توقف كلود أمام كوخ صغير بني على جدار من الطوب نصفه متهدم. تدلى في المدخل قفص ذهبي اللون، وبداخله طائر كناري يغرد بصوت عذب. وكان في الحديقة امرأة عجوز عاكفة على العمل تلتقط قطع الطوب والجص التي رسبها المطر، وتحفر بأصابعها حول رءوس الجزر الباهتة ورءوس الخس المرتبة. اقترب كلود منها ولمس خوذته على سبيل التحية، وسألها عن الطريق إلى الصليب الأحمر.
مسحت يديها في مئزرها وأخذته من مرفقه. «هل تعرف الدبابة الإنجليزية؟ لا تعرفها؟ ماري، ماري!» (علم فيما بعد أن الجميع كان يوجه لأخذ هذا الطريق أو ذاك؛ بداية من دبابة بريطانية معطلة تركت في موقع مبنى البلدية القديم.)
خرجت فتاة صغيرة من الثكنة، وأخبرتها جدتها أن تذهب من فورها وتأخذ الأمريكي إلى الصليب الأحمر. أمسكت ماري يد كلود، وتوجهت به في أحد الطرق الملتفة فيما بين أكوام القمامة. وخرجت به عن الطريق كي تريه كنيسة من الجلي أنها أحد الأنقاض التي يفتخرون بها كثيرا، حيث السماء الزرقاء تسطع من بين الأقواس البيضاء. وقفت العذراء على الباب المركزي وذراعاها فارغتان؛ ودلت قدما صغيرة كانت تلتصق بردائها على المكان الذي نسف فيه تمثال يسوع الطفل.
شرحت ماري بلغتها الفرنسية وقد بدا في نبرتها الرضا: «كسر تمثال الطفل، لكنه حمى تمثال والدته.» وبينما استمرا في طريقهما، أخبرت كلود أن لديها صديقا جنديا من الجنود الأمريكيين. «إنه جيد ومرح صديقي هذا»، لكنه يكثر من شرب الكحول في بعض الأحيان، وتلك عادة سيئة. ربما اتعظ صديقها «شارلي» الآن وأصبح أفضل بعدما خطا رفيقه في قبو ليلة الإثنين وهو مخمور وغرق فيه. كان من الواضح أن ماري طفلة طيبة المنبت. قالت إن والدها كان معلما في مدرسة. عند سفح التل الذي يقف عليه الدير، التفتت وعادت إلى المنزل. نادى عليها كلود وحاول مرتبكا أن يعطيها بعض المال، لكنها دفعت يديها خلف ظهرها وقالت مصرة: «كلا، شكرا لك. لست بحاجة إلى أي شيء»، ثم جرت في طريقها.
بينما كان يصعد إلى قمة التل، لاحظ أن الأرض قد نظفت بعض الشيء. كان الطريق خاليا؛ إذ وضعت والطوب والحجارة المنحوتة في أكوام مرتبة، وقلمت السياج المكسورة، وقطعت منها الأجزاء الميتة. عندما وصل إلى الحديقة أخيرا، وقف ساكنا في دهشة؛ فعلى الرغم من أنها محض أنقاض بدت جميلة بعد ما رآه من اضطراب العالم القابع تحتها.
كانت ممرات الحصى نظيفة ولامعة. ووقف جدار من أشجار البقس القديمة نضرا أمام صف من أشجار الحور الميتة. وعلى طول الجانب المحطم من المبنى الرئيسي، كان ثمة شجرة كمثرى تتسلق على أسلاك كأشجار الكروم لا تزال مزدهرة، وتزخر بثمار الكمثرى الحمراء الصغيرة. حول البئر الحجرية، كانت توجد قطعة أرض من الحشائش المقلمة، وانتشرت في كل مكان أشجار صغيرة وشجيرات كانت أقصر من أن تطولها القذائف أو النيران التي اشتعلت في أشجار الحور وأحرقتها. لا بد أن التل قد أحيط بالنيران في مرحلة ما واحترقت الأشجار الطويلة كلها.
كانت الثكنة مبنية على جدران الدير، الذي لا تزال ثلاثة من أقواسه قائمة كأنها جناح حجري يظلل على السقيفة المصنوعة من ألواح الخشب. على سلم خشبي، وقف شاب بذراع واحدة يدق المسامير بمهارة بالغة بتلك اليد الواحدة. بدا أنه يصنع إطارا يمتد من السقف المائل ليدعم به إحدى السقائف. كان يحمل المسامير في فمه. وحين يريد مسمارا يعلق المطرقة في حزام سرواله ويخرج المسمار من بين أسنانه ويضعه على الخشب، ثم يطرق على رأس المسمار ببراعة. وقف كلود يشاهده برهة، ثم ذهب إلى قاعدة السلم وعرض يديه الاثنين. صاح بالفرنسية: «اسمح لي.»
لفظ الواقف على السلم المسامير في راحة يده، ونظر إلى الأسفل وضحك. كان في مثل سن كلود تقريبا؛ أشقر الشعر والشارب، وعيناه زرقاوان. شاب جميل المحيا.
قال: «تفضل. العمل ليس صعبا، لكني أسلي نفسي به، وسوف تسر به السيدتان.» نزل من على السلم وناول المطرقة للزائر. شرع كلود في العمل على الإطار، وذهب الآخر تحت الأقواس الحجرية، وأحضر لفة من القماش يبدو من شكله أنه جزء من خيمة قديمة.
شرح وهو يبسط القماش على العشب: «لقد تركها الألمان. وجدتها بين القذارة التي خلفوها في القبو، وخطر لي أن أصنع بها جناحا للسيدتين بعدما احترقت الأشجار.» وقف فجأة. «هل أتيت كي ترى السيدتين؟» «سأراهما لاحقا.»
قال الفتى إنه يستحسن ذلك؛ إذ سينتهيان من الجناح ويفاجئان به الآنسة أوليف عندما تعود. كانت في المدينة حينذاك تزور المرضى. انكفأ على القماش مرة أخرى، وأخذ يقيس ويقطع باستخدام مقص حدائق بينما يتحرك حول البقعة الخضراء على ركبتيه، ولا يبرح الغناء. تمنى كلود لو أنه كان يفهم الكلمات التي يغنيها.
بينما كانا يعملان معا، ويربطان القماش في الإطار، رأى كلود من موقعه المرتفع على السلم فتاة طويلة تمشي رويدا على الطريق الذي أتى منه. توقفت قليلا عند القمة بجوار سياج أشجار البقس، وكأن التعب تملك منها، ووقفت تنظر إليهما. اقتربت من السلم وقالت بلغة إنجليزية بطيئة وحريصة: «صباح الخير. أرى أن لويس وجد من يساعده.»
نزل كلود على السلم. «هل أنت الآنسة دو كورسي؟ أنا كلود ويلر. معي بطاقة تعارف لك، أرجو أن أجدها معي.»
أخذت البطاقة لكنها لم تنظر فيها. «هذا ليس ضروريا. الزي الذي ترتديه كاف. لماذا أتيت؟»
نظر إليها في شيء من الحيرة. وقال بصراحة: «حسنا، لا أعرف تحديدا! أتيت لتوي من الجبهة كي أرى العقيد جيمس لكنه في باريس؛ لذا علي انتظاره يوما كاملا. واقترح أحد الموظفين أن آتي إلى هنا، وأعتقد أن السبب هو أن المكان جميل للغاية!» «إذن، أنت ضيف من على الجبهة، وستتناول الغداء معي أنا ولويس. السيدة بار غادرت هي أيضا ولن تعود اليوم. هلا تتفضل برؤية منزلنا؟» توجهت به من باب منخفض إلى غرفة المعيشة، وهي غرفة غير مطلية وغير مفروشة بالسجاد، وتتسم بالإضاءة الجيدة والتهوية. كانت هناك ملصقات حرب ملونة معلقة على الجدران الخشبية النظيفة، وأغلفة قذائف نحاسية مليئة بالزهور البرية وزهور الحديقة، وكراسي المعسكرات المصنوعة من القماش، ورف كتب، وطاولة مغطاة بمفرش حريري أبيض مطرز بفراشات كبيرة. أشعة الشمس على الأرض، وباقة الزهور النضرة، والستائر البيضاء التي يحركها النسيم، كل هذا ذكر كلود بشيء ما، ولكنه لم يستطع تحديده.
قالت الآنسة دو كورسي: «ليس لدينا غرفة للضيوف. لكنك ستأتي إلى غرفتي، وسيحضر لك لويس الماء الساخن كي تغتسل.»
في غرفة من الخشب في نهاية الطرقة، خلع كلود معطفه وشرع في ترتيب هندامه قدر المستطاع. كان الماء الساخن والصابون المعطر أشياء مبهجة في حد ذاتها. كانت منضدة التزيين عبارة عن صندوق بضائع قديم يرتكز منتصبا على أطول جانب منه، ومغطى بقطعة قماش بيضاء. على منضدة التزيين، يوجد صف من أغراض الحمام المصنوعة من العاج، منها الأمشاط والفرش والمساحيق والعطر، وكذلك كومة من المناديل البيضاء المنعشة من الكي. شعر بأن عليه ألا يطيل النظر في أرجاء الغرفة، لكن أغرته رائحة النظافة والطابع الشخصي الغامض. في أحد الأركان، علقت ستارة على قضيب لتصبح بمثابة خزانة ملابس، وفي ركن آخر سرير حديدي منخفض يشبه أسرة الجنود مغطى بملاءة باللون الأزرق الفاتح ووسائد بيضاء. سار بحذر واغتسل دون إحداث صوت بالمياه. لم يكن بالغرفة شيء قد يتلف أو ينكسر ولا حتى سجادة على الأرضية العارية، وحتى الإبريق ووعاء الغسيل كانا من الحديد، لكنه شعر مع ذلك أنه يعرض شيئا هشا للخطر.
عندما خرج وجد المائدة الموضوعة في غرفة المعيشة معدة لثلاثة أفراد. لم تعره العجوز البدينة التي كانت تضع الأطباق أي اهتمام، وبدا من تعبيراتها أنها تزدريه هو وجميع من على شاكلته. ابتعد عن طريقها أبعد مسافة ممكنة، وأخذ من على الطاولة كتابا من مؤلفات هاينز رايسبلدر باللغة الألمانية.
قبل الغداء، أرته الآنسة دو كورسي غرفة المخزن الخلفية التي تكدست على رفوفها صفوف من علب القهوة والحليب المكثف واللحوم والخضروات المعلبة، وكلها بأسماء تجارية أمريكية يعرفها جيدا؛ وقد بدت هذه الأسماء مألوفة له و«موثوقة» بدرجة أكبر، هنا بعيدا عن أرض الوطن. أخبرته أن الناس في البلدة لم يكونوا ليتمكنوا من اجتياز الشتاء دون هذه الأشياء. لقد اضطرت إلى الاقتصاد في توزيعها حين كان الاحتياج إليها بالغا، لكنها شكلت الفارق بين الحياة والموت. أما الآن وقد حل الصيف، فقد صار الناس يقتاتون على ما تخرجه حدائقهم، لكن النساء العجائز لم يبرحن المجيء لالتماس بضع أوقيات من القهوة، وتأتي الأمهات أيضا للحصول على زجاجة حليب لأطفالهن.
أضاء وجه كلود من السرور. نعم، لبلده باع طويل. نسي الناس ذلك، لكنه شعر أنه وجد هنا شخصا لم ينس. حين جلسوا على الغداء، علم أن الآنسة دو كورسي والسيدة بار تسكنان هنا منذ عام تقريبا؛ إذ رجعا بعد استعادة البلدة بمدة وجيزة عندما بدأ السكان القدامى ينزحون إليها مرة أخرى. لم يحضر الناس معهم سوى ما يمكنهم حمله بين ذراعيهم.
قالت: «لا بد أنهم يحبون بلدهم كثيرا كي يعودوا إليها بالرغم من هذا الفقر الذي يتحملونه، ألا تعتقد ذلك؟ حتى كبار السن لا يشتكون كثيرا من افتقادهم للأشياء المحببة إلى قلوبهم مثل مفارشهم وأوعية الخزف الصيني وأسرتهم. ما داموا يمتلكون الأرض ويحدوهم الأمل، فيمكنهم تعويض ذلك كله مرة أخرى. هذه الحرب قد علمتنا جميعا مدى هوان هذه الأشياء المصنوعة. لا شيء أهم من المشاعر.»
هذا بالضبط ما يراه؛ أفلا يحاول قول هذا منذ ولادته؟ ألم يختبر ذلك بنفسه على الدوام وقد أضفى على حياته المرارة مثلما أضفى عليها العذوبة؟ ما أجمل صوتها تلك الآنسة أوليف، وما أنبل تعامله مع اللغة الإنجليزية. كان يرغب في أن يقول شيئا، ولكن ما الذي يقوله في ذلك؟ ومن ثم فقد ظل صامتا، وجلس مضطربا يقطع رغيف الحرب الأسود القابع بجوار طبقه.
رآها تنظر إلى يده، وشعر في ومضة أنها تنظر إليها باستحسان؛ لذا وضعهما فورا على ركبتيه تحت المائدة.
أردفت بنبرة حزن: «ما حدث لأشجارنا هو الأسوأ. ألم تر أشجارنا المسكينة؟ إنها تجعل المرء يشعر بالخجل لأجل هذه البقعة الجميلة من فرنسا. السكان آسفون عليها أكثر من أسفهم على فقدان الماشية والخيول.»
تبادر إلى ذهن كلود حين نظر إلى الآنسة دو كورسي أنها تبدو مثقلة بأعباء الرعاية والمسئولية. بدت واهنة القوى. كان جسمها نحيلا وعيناها رماديتان، ولها شعر أسود وبشرة بيضاء، وتتوهج شفتاها ووجنتاها، كأنما اشتعلت بلهب من الداخل. كانت كتفاها منكفئتين كأن التعب لا يبرحها. لا بد أنها في عمر الشباب على الرغم من خصلات الشعر الرمادي التي انتشرت في رأسها، وقد مشطت وربطت دون اهتمام خلف رأسها.
بعد القهوة، انكبت الآنسة كورسي على العمل في مكتبها، وأخذ لويس كلود كي يريه الحديقة. كانت أعمال التنظيف والتقليم والزراعة من اختصاصه، وقد أداها كلها بذراع واحدة. سيتمكن من إنجاز المزيد في هذا الخريف؛ لأنه صار الآن أقوى، واعتاد على العمل بيد واحدة. لا بد أن يتمكن من قطع الأشجار الميتة لأنها تحزن الآنسة أوليف. كان يوجد أمام الثكنة أربع شجرات قديمة من أشجار السنط قممها كالشوكات العارية قد احترقت إلى حد التفحم، لكن الأغصان السفلية كانت تنبت حزما سميكة من الأوراق باللونين الأخضر والأصفر؛ كانت قوية لدرجة توحي بأن الحياة لا تزال تدب في جذوعها. قال لويس إنه ينوي الاستعانة ببعض الشباب الأمريكيين في هذا الخريف؛ لمساعدته في قطع الأغصان الذابلة وتقليم القمم لتصبح مستوية فوق الجذوع السميكة. كان كلود يفكر في مدى الحب الجم الذي يكنه رجل لبلده لدرجة أن يحب أشجارها وزهورها، ويرعاها حين تمرض، ويداوي جراحها بذراع واحدة. من بين الزهور التي نمت مرة أخرى من تلقاء نفسها أو من الجذور القديمة، وجد كلود مجموعة من النباتات الطويلة المتشابكة التي تميل سيقانها إلى الحمرة، ولها أزهار بيضاء صغيرة تنتمي إلى فصيلة زهرة الربيع المسائية؛ زهرة الجورا التي كانت تنمو على الضفاف الطينية لنهير لافلي كريك في موطنه. لم يرها بهذا الجمال من قبل، لكنه ابتهج حين وجدها هنا. لقد كان يظن أنها من زهور البراري التي لا يعرف اسمها، وأنها لا تنمو في أي مكان آخر.
عندما عادا إلى الثكنة، وجدا الآنسة أوليف جالسة في أحد كراسي القماش التي وضعها لويس تحت الجناح الجديد.
صاح كلود وهو ينظر خلفه: «يا له من شخص رائع!» «لويس؟ نعم. إنه الجندي الحاجب لأخي. عندما كان إيميل يأتي في إجازة، كان يحضر لويس معه، وأصبح لويس كأنه واحد من العائلة. القذيفة التي قتلت أخي أخذت معها ذراعه. ذهبت مع أمي كي نزوره في المستشفى، وبدا الفتى المسكين خجلا من بقائه على قيد الحياة في حين مات أخي. وضع يده على وجهه، وبدأ في البكاء وقال: «آه يا سيدتي، لقد كان دائما أرقى مني!»»
على الرغم من أن الآنسة أوليف كانت تجيد التحدث بالإنجليزية، رأى كلود أنها لم تكن تفعل ذلك إلا عند تركيز عقلها في الحديث. كانت الجمل الصعبة التي تلفظت بها غريبة على طبيعتها؛ فسبقت تعبيرات وجهها وعينيها ما جرى على لسانها، وجعلت المستمع ينتظر العبارات التالية بتلهف. جلس على كرسي من القماش المرتخي، وراح وهو شارد الذهن يلوي غصنا قطفه من زهرة الجورا.
نظرت إليه وقالت: «هل عثرت على زهرة؟» «نعم، إنها تنمو في وطني، في مزرعة والدي.»
أفلتت القميص الباهت الذي كانت تخيطه. قالت: «أجل، هلا أخبرتني عن وطنك! تحدثت إلى الكثيرين منكم، لكن يصعب علي الفهم. نعم، أخبرني عن وطنك!»
نبراسكا؛ كيف هي؟ كم يوما يستغرقه الوصول إليها بحرا؟ وما معالمها؟ بينما حاول هو الوصف، استمعت إليه وقد أغمضت عينيها قليلا. «مسطحات مغطاة بأنهار مليئة بالوحل والحصى. أعتقد أنها تشبه روسيا. لكن مزرعة والدك، صفها لي وصفا دقيقا، وربما أتمكن حينها من تخيل البقية.»
أخذ كلود عصا ورسم مربعا على الرمال، وبدأ يشرح؛ أولا في هذا المكان يوجد المنزل والمزرعة، وفي تلك الزاوية المرعى الكبير الذي يمر عبره نهير لافلي كريك، وفي هذا الجانب حقول القمح وحقول الذرة ، وأرض الغابة المملوكة للعائلة، ثم المزيد من القمح والذرة، والمزيد من المراعي. رسمت كل المعالم فوق الرمال الصفراء، وانسدلت عليها الظلال من أشجار السنط نصف المتفحمة. لم يكن ليظن يوما أنه سيخبر غريبا عن تلك المزرعة بتلك التفاصيل. لا شك أن السبب يعود جزئيا إلى المستمعة؛ فقد منحته تعاطفا استثنائيا واتقادا ذهنيا غير عادي. عندما انكفأت على الخريطة وأخذت تسأله، تجمع ندى خفيف من العرق على شفتها العليا، وتسارعت أنفاسها جراء جهدها في رؤية كل شيء وفهمه. أخبرها عن والدته ووالده وعن ماهيلي؛ أخبرها عن معالم الحياة في الصيف والشتاء والخريف، وعن ذلك الصيف المشئوم حين كان الألمان الهمجيون يتحركون دائما تجاه باريس، وعن تلك الأيام الثلاثة التي صمد فيها الفرنسيون في معركة المارن، وأخبرها أيضا عن انتظار والدته ووالده كي يأتي لهما بالأخبار ليلا، وكيف أن حقول الذرة نفسها كانت تبدو مترقبة.
غاصت الآنسة أوليف في كرسيها مرة أخرى وقد بدا عليها التعب. نظر كلود إليها ورأى دموعا تتلألأ في عينيها اللامعتين. تمتمت: «أنا نفسي لم أعلم عن معركة المارن إلا بعد مرور عدة أيام عليها، على الرغم من أن أخي ووالدي شاركا فيها! كنت بعيدة في بريتاني، وتوقفت القطارات عن العمل. فكم هو رائع أنك هنا وتخبرني بتلك الأخبار! نحن، نحن تعلمنا منذ طفولتنا أن الألمان سيأتون ذات يوم، وكبرنا ونحن نعيش في ظل هذا التهديد. لكنك كنت تعيش في أمان وسط حقول القمح والذرة. لم يكن لشيء أن يمسك، لا شيء على الإطلاق!»
خفض كلود عينيه. تمتم والخجل يعتلي وجهه: «نعم، كان للخزي أن يمسني. وقد كاد أن يفعل. لقد تأخرنا كثيرا.» نهض من كرسيه وكأنه سيحضر شيئا. ولكن من أين سيأتي به؟ هز رأسه. قال بنبرة حزينة: «يؤسفني أني لا أجد كلمات أستطيع قولها كي تفهمي كم أن الأمر بدا بعيدا للغاية، وكم أنه بدا حلما. لم يبد بعيدا من حيث الأميال فحسب، بل بعيدا لقرون أيضا.» «لكنكم تأتون بالفعل، أتى العديد منكم، ومن مكان بعيد ! إنها المعجزة الأخيرة في هذه الحرب. كنت في باريس في الرابع من يوليو عندما تقدمت قوات البحرية الأمريكية من «بيلو وود» بمناسبة يومكم الوطني، وقلت لنفسي وهم آتون «هؤلاء رجال ذوو روح جديدة!» رأيت رءوسهم الدقيقة من خلف آذانهم. ورأيت فيهم الانضباط والعزم. سر الفرنسيون وكانوا ينادون عليهم ويرمونهم بالزهور، لكنهم لم يلتفتوا قط كي ينظروا، بل ظلت عيونهم مثبتة أمامهم. مروا كأنهم رجال أرسلهم القدر.» بسطت ذراعيها بحركة سريعة وأنزلتها في حجرها. بدت مشاعر ذلك اليوم على وجهها. وعندما نظر كلود إلى وجنتيها وعينيها المتوقدتين، أدرك أن ضغوط تلك الحرب قد منحتها بصيرة هي أشبه بهدية النبوءة.
ظهرت امرأة إلى التل وهي تحمل بين يديها رضيعا. ذهبت الآنسة دو كورسي كي تقابلها وتأخذها إلى المنزل. جلس كلود مرة أخرى وقد غمره الشعور بأنه أصبح مفهوما تماما ولم يعد غريبا. وعلى مسافة بعيدة، كانت أصوات المدافع الكبيرة تدوي على فترات. كان لويس جالسا في الحديقة ويغني. وتمنى مرة أخرى لو أنه يعلم الكلمات التي يغنيها لويس. كانت الألحان حزينة، لكنه غناها بصوت في غاية العذوبة. كان صوت الفتى يختلج بالصدق والدفء، ووجهه الأشقر يفصح عن شيء أيضا. صوته رقيق على نحو مميز مثل حقول القمح الصيفية؛ ناضجة تهتز مع النسيم. جلس كلود وحيدا لنصف ساعة أو يزيد، وتذوق نوعا جديدا من السعادة، ونوعا جديدا من الحزن أيضا. رأى أن الحياة تجمع بين الخراب والميلاد الجديد، وتجمع ارتعاد الأمور القبيحة في الماضي والصور المهتزة لأمور جميلة تلوح في الأفق، وتجمع بين الإيجاد والفقد.
عندما عادت مضيفته، نقل كرسيها بعيدا عن أشعة الشمس التي زحفت عليه. وبينما هي تجلس قال ببساطة: «لم أكن أعرف أنه توجد أي فتيات فرنسيات مثلك.»
ابتسمت. وقالت: «لا أعتقد أنه لا يزال هناك أي فتيات فرنسيات. يوجد أطفال ونساء. كنت في الحادية والعشرين عندما اندلعت الحرب، ولم أكن قد ذهبت إلى أي مكان قط من دون أمي أو أخي أو أختي. وفي غضون سنة، جبت كل أنحاء فرنسا بمفردي؛ أحيانا مع جنود، وأحيانا مع سنغاليين، أو مع أي أحد. تغير كل شيء في حياتنا.» أخبرته أنها كانت تعيش في مدينة فرساي حيث كان والدها يعمل معلما في المدرسة العسكرية. مات والدها مع اندلاع الحرب. وقتل جدها في حرب عام 1870. كانت تنتمي إلى عائلة من الجنود، لكن أحدا من رجالها لم يعش حتى يرى يوم النصر.
بدا عليها الإرهاق الشديد حتى إن كلود أدرك أنه لا يحق له البقاء. كانت الظلال الطويلة تنسدل على الحديقة. وكان من الصعب عليه أن يغادر، لكن ساعة أو قرابتها لن تهم كثيرا. وقد خطر له أنه لا يمكن لشخصين أن يمنح أحدهما الآخر ما هو أكثر من ذلك، وإن كانا معا لسنوات.
قال وهو ينهض: «هلا أخبرتني عن مكان يمكن أن آتي وأزورك فيه إذا نجا كلانا من تلك الحرب؟»
كتب العنوان في دفتره.
قالت وهي تمد له يدها: «سأنتظرك.»
لم يجد بدا من أن يأخذ خوذته ويذهب. على حافة التل وقبل أن ينطلق في طريق العودة، توقف ونظر خلفه على الحديقة التي تكتنفها أشعة الشمس، وعلى الأقواس الحجرية الثلاثة، وعلى زهور الداليا والقطيفة، وعلى السياج الشجري اللامع. كان قد ترك على قمة التل شيئا لن يعثر عليه مرة أخرى مطلقا.
في اليوم التالي بعد الظهيرة، انطلق كلود والرقيب إلى الجبهة. أخبروه في مركز القيادة أنهما يستطيعان اختصار الطريق بأخذ الطريق الكبير إلى المقبرة العسكرية ثم الانعطاف يسارا. ولما كان من غير المحبذ السير في النصف الآخر من الطريق قبل حلول الليل، فقد تمهلا في السير عبر حزام حقول المحاصيل المتناثرة وحقول القش.
عندما سلكا الطريق، وجدا رجلا ضخما من سكان المرتفعات الاسكتلندية يجلس على طرف عربة إمدادات فارغة ويدخن الغليون، بينما يفرك الطين الجاف من على تنانيره. كانت الخيول تمضغ الطعام في الأكياس المعلقة في رقابها، وكان السائق قد اختفى. لم يقابل الأمريكيان أيا من سكان المرتفعات الاسكتلندية قبل ذلك، وقد انتابهما الفضول. كانا يعتقدان أن هذا الرجل مقاتل جيد لا محالة؛ رجل ضخم مفتول العضلات وبارز الفكين، ووجهه أحمر وبارز كركبتيه. صعد هيكس إلى الرجل، وسأله إن كان قد رأى مقبرة عسكرية على طريق العودة أم لا، والحق أن ذهابه بدافع الإعجاب بمظهر الرجل كان أكبر من ذهابه لحاجته إلى المعلومات. أومأ الاسكتلندي بالإيجاب. «كم تبعد تقريبا على طريق العودة؟»
أجاب باقتضاب وهو يفرك تنورته كأنه يفركها في حوض غسيل: «لا أعرف. لا أهتم بعد الكيلومترات.» «حسنا، ما المدة التي يستغرقها السير إلى هناك؟» «لا أعلم. يقطعها الاسكتلندي في ساعة.»
سأل هيكس بوجه بشوش: «أظن أن الأمريكي يقطعها بالسرعة نفسها التي يقطعها بها الاسكتلندي، ألا تظن ذلك؟» «لا أدري. لقد استغرقت أربع سنوات حتى وصلت إلى هنا، أعلم ذلك جيدا.»
طرف هيكس بعينه كأنه ضرب بشيء. «حسنا، إن كانت تلك طريقتك في الحديث ...»
قال الآخر بحدة: «تلك هي طريقتي في الحديث.»
أشار كلود بيده محذرا: «هيا يا هيكس. لن تجني شيئا من هذا.» سلكا الطريق وهما في حالة من الاضطراب الكبير. ظل هيكس يفكر في أشياء كان يمكن أن يقولها. حين كان الرقيب يغضب، كان جبينه ينتفخ ويتحول إلى اللون الأحمر الداكن كجبين طفل صغير. قال بانفعال: «لماذا أوقفتني؟» «لا أدري ما كان يمكن أن ينتهي إليه هذا النقاش، ولم يكن لك أن تتغلب عليه بالتأكيد.»
انعطفا جانبا عند المقبرة وانتظرا غروب الشمس. لم يكن ثمة سياج حول المقبرة، ولم تكن أرضها مخضرة بالعشب، وكان طريق العربات يمر في منتصفها يقسمها إلى نصفين. قبعت المقابر الفرنسية في جانب وعليها الصلبان البيضاء، وقبعت المقابر الألمانية على الجانب الآخر وعليها الصلبان السوداء. وانتشرت زهور الخشخاش وزهور الذرة فيما بينها. تمشى الأمريكيان في المنطقة، وأخذا يقرآن الأسماء. وجدا صور بعض الجنود مثبتة هنا وهناك فوق صليب المقبرة قد تركها أحد الرفاق تخليدا لذكراه مدة أطول قليلا.
بدأت الطيور، التي دائما ما تنتعش في وقتي الغسق والفجر، تغرد عائدة إلى أعشاشها من مكان ما. جلس كلود وهيكس بين المرتفعات وشرعا في التدخين بينما تغرب الشمس. كانت صفوف من الأشجار الميتة تحدد جهة الغرب المحمرة بالشفق. كان ذلك الجزء من البلدة مخيفا حتى للأولاد الذين نشئوا في البراري. دخنا السجائر في صمت وظلا يتأملان وهما ينتظران المساء. على صليب عند قدميهما، لم يذكر النقش المكتوب عليه بالفرنسية إلا: «جندي مجهول مات في سبيل فرنسا».
استحسن كلود هذه المرثية المكتوبة على القبر. فمعظم الفتية الذين ماتوا في هذه الحرب كانوا مجهولين حتى لأنفسهم. كانوا شبابا صغارا. ماتوا وأخذوا أسرارهم معهم؛ دفن معهم ما كانوا عليه في الماضي وما كان يمكن أن يصبحوا عليه في المستقبل. أما الاسم الذي صمد فهو «فرنسا». ما مدى الأهمية التي صار هذا الاسم يمثلها له منذ أن رأى للمرة الأولى جانبا من الأرض يزداد وضوحا في وقت الفجر من على متن السفينة أنخيسيس. إنه اسم جميل لأن يردده المرء في عقله؛ إذ يستطيع إبراز المخارج الأنفية كما يحلو له دون خجل.
كان هيكس أيضا غارقا بين أفكاره. وفي النهاية كسر حاجز الصمت وقال: «بشكل أو بآخر أيها الملازم، يبدو لي أن المرادف الفرنسي لكلمة ميت
mort
أكثر تعبيرا عن الموت من نظيره الإنجليزي
dead . صوتها يذكرني بالنعش. وها هو نظيرهما الألماني
tod
يشير إلى الشيء اللعين ذاته. انظر إلى المقابر وقد اصطفت بالأبيض والأسود مثل رقعة الشطرنج. السؤال التالي هو: من السبب في موتهم وما الجدوى من ذلك؟»
تمتم الآخر شارد الذهن: «لا أدري.»
لف هيكس سيجارة أخرى وجلس يدخنها، تجعد وجهه الممتلئ من خطورة الأفكار التي تختلج في عقله وتضنيه. في النهاية قال: «حسنا، الأفضل أن نسير على أقدامنا. سيستمر هذا الشفق ساعة، هذا ما يحدث دوما هنا.» «معك حق.» نهضا للمسير. كانت الصلبان البيضاء قد تحولت الآن إلى اللون البنفسجي، وذابت الصلبان السوداء كلها تحت الظلام. خلف الأشجار الميتة في الغرب، كانت مسحة طويلة من الشفق الأحمر لا تزال متوهجة. وإلى الشمال، كانت المدافع تدوي كالرعد. «ثمة شخص يتعرض إلى الهجوم هناك. أيصيح البوم دائما في المقابر؟»
قال هيكس: «هذا ما كنت أفكر فيه بالضبط أيها الملازم. لكنها بقعة هادئة فيما عدا ذلك.» وأردف بلطف وهما يغادران المقابر: «تصبحون على خير أيها الفتيان.»
سرعان ما وجدا طريقهما بين الحفر التي أحدثتها القذائف، وحين شرعا في القفز من فوق قمم الخنادق في الظلام، بدآ يشعران بالبهجة لأنهما عائدان إلى أصحابهما وإلى مجموعتهما الصغيرة. انطلق هيكس وأخبر كلود كيف أنه خطط هو وديل آبل للتشارك في عمل تجاري عندما يعودان إلى وطنيهما؛ إذ ينويان افتتاح مرآب وورشة لإصلاح السيارات. وتحت ثنايا الحديث، علقت تلك البقعة الوحيدة والأسطورية في ذهنيهما: جندي مجهول مات في سبيل فرنسا.
11
بعد الاستراحة لأربعة أيام في خطوط المؤخرة، عادت الكتيبة إلى الجبهة مجددا في بلدة جديدة تبعد نحو عشرة كيلومترات شرقي الخندق الذي حرروه من قبل. في صباح أحد الأيام، أرسل العقيد سكوت إلى كلود وجيرهارت وبسط خرائطه على الطاولة. «سنخرجهم الليلة من المنطقة «إف 6»، وسنرتب صفوفنا. ما يزعجنا هو وقوع هذه القرية الصغيرة على التل، حيث تتخذ مدافع العدو الرشاشة موقعا قويا. أريد أن أخرجهم منها قبل أن تذهب الكتيبة إلى هناك. لا يمكننا التضحية بعدد كبير من الجنود، ولا أحب أن أرسل من الضباط أكثر مما أضطر إليه؛ إذ لا يمكن تقليص عدد الكتيبة في العملية الأساسية. فهل تظنان أيها الفتيان أن باستطاعتكما تنفيذ هذه المهمة بمائة جندي؟ المهم أن عليكما الذهاب والعودة قبل أن تبدأ مدفعيتنا القصف في الساعة الثالثة.»
تحت التل حيث تقبع القرية، يوجد واد صغير عميق يمتد منه مجرى مائي ملتو ينتهي على جانب التل. بتسلق هذا المجرى المائي، سيتمكن المهاجمون من الوصول إلى رماة المدافع الرشاشة من الخلف، وأخذهم على حين غرة. لكن سيتوجب عليهم أولا عبور المنطقة المفتوحة التي يبلغ عرضها كيلومترا ونصفا، وتقع بين الجبهة الأمريكية والوادي، من دون لفت الانتباه. كانت تمطر آنذاك، وكان بوسعهم الاعتماد على ظلام الليل.
حل الليل بالعتمة. وعبرت السرية المنطقة المفتوحة من دون التسبب في إطلاق النار، وتسللت إلى الوادي في انتظار ساعة الهجوم؛ كان طبيب شاب من بنسلفانيا حديث الانضمام إلى الفرقة قد تطوع بالذهاب معهم، وأقام مركز إسعاف ميدانيا عند سفح الوادي حيث تركت النقالات. كانوا سيأخذون جرحاهم في طريق العودة. فكل ما سيبقى في تلك المنطقة سيتعرض لنيران المدفعية لاحقا.
في الساعة العاشرة، بدأ الرجال في تسلق الممر المائي زاحفين بين البرك والشلالات الصغيرة؛ فصدر عن اجتيازهم المياه صوت مستمر يشبه صوت الخنازير عند احتكاكها بجدران الحظيرة. كان كلود على رأس الصف يخرج لتوه من الوادي الواقع على جانب التل أعلى القرية حين اندلع وهج وانطلق وابل من النيران من فوق أجمة أعلى المجرى المائي على جانب التل؛ إذ انطلقت المدافع الرشاشة على الطابور الزاحف بالأسفل. تلقى الألمان إنذارات بأن الأمريكيين يعبرون السهل، وتوقعوا طريق وصولهم. حوصر الرجال في الوادي؛ لم يتمكنوا من الرد على الهجوم، وانهال رصاص مدافع ماكسيماس الألمانية على الصخور من حولهم كالسيل. جرى جيرهارت على طول حافة الصف، وراح يحث الرجال على عدم التراجع أو العودة، بل على الخروج من الوادي عند أسفل التل والتفرق بعد ذلك.
بدأ كلود ومجموعته في استجماع أنفسهم مجددا. «فلنختبئ في الأجمة وننل منهم! رجالنا مكبلون أسفل الوادي. سنستخدم القنابل اليدوية حتى تنفد، ثم نستخدم الحراب. اسحبوا سدادة الأمان ولا تبقوها في أيديكم مدة طويلة.»
هرع الرجال بالفعل يقصفون الأجمة. تعرف المدفعية الألمانية كل شبر على التل، وعندما بدأت القنابل تنفجر بينهم، اختبئوا خلف المقطورات والجحور. ظل كلود ينادي: «لا تتبعوهم إلى الصخور. تقدموا إلى الأمام مباشرة! أخلوا الطريق تماما في الوادي.»
احتمى رجال المدفعية الألمان، فتوقف وابل النيران في الوادي، وتدفق صف الرجال المحاصر في الممر المنحدر خلف جيرهارت.
وجد كلود وفرقته أنفسهم عند سفح التل مرة أخرى، على حافة الوادي الذي بدءوا من عنده. عرفوا من كثافة النيران على التل أن بقية الرجال قد عبروا. كان أسرع طريق للعودة إلى مسرح الأحداث هو الممر المائي ذاته الذي صعدوه من قبل. نزلوا فيه وبدءوا الصعود. شعر كلود الذي كان في المؤخرة بأن الأرض ترتفع من تحته، وجرفه كوم من التربة والصخور إلى الوادي.
لم يعرف قط إن كان قد فقد وعيه أم لا. بدا له أنه ظل يشعر بأحاسيس متواصلة. في البداية، شعر بأنه تمزق إلى أشلاء، ثم شعر بأن جسمه قد انتفخ إلى حجم ضخم للغاية تحت وطأة ضغط لا يحتمل، ثم انفجر. بعد ذلك شعر بأنه ينكمش ويرتعش، كجسد عضه الصقيع قد بدأ في الذوبان. شعر بالانتفاخ مرة أخرى ثم الانفجار. تكررت هذه الأحاسيس، لكنه لم يعرف عدد مرات تكرارها. بعد مدة وجيزة، أدرك أنه ينام تحت وزن هائل من التراب؛ كان جسده هو المغطى وليس رأسه. شعر بالمطر يتساقط على وجهه. كانت يده اليسرى تتحرك بحرية ولا تزال في ذراعه. حركها بحذر إلى وجهه. بدا أنه كان ينزف من أنفه وأذنيه. حينها بات يتساءل عن المكان الذي أصيب فيه؛ أحس أن جسده مليء بشظايا المدافع. كان التراب يغطي جسده بالكامل فيما عدا رأسه وكتفه اليسرى. سمع صوتا ينادي من مكان بالأسفل. «ألا يزال أحد على قيد الحياة أيها الفتيان؟»
أغمض كلود عينيه لئلا يدخلها المطر الذي يضرب في وجهه. سمع الصوت مرة أخرى بنبرة تنم عن صبر مدفوع باليأس. «إن بقي أحد على قيد الحياة في تلك الحفرة، فهلا تحدث بصوت عال؟ فأنا نفسي أعاني إصابات خطيرة.»
لا بد أنه الطبيب الجديد؛ ألم يقم مركز الإسعاف الميداني في مكان قريب من هنا؟ قال إنه جريح. حاول كلود أن يحرك ساقيه قليلا. إذا استطاع أن يخرج من تحت الرماد، فربما يستطيع التماسك مدة كافية حتى يصل إلى الطبيب. بدأ يتلوى ويسحب نفسه. التصقت به الأرض المبتلة، وكانت محاولة مؤلمة. استند إلى مرفقيه، ولكنه ظل ينزلق إلى مكانه.
قال الصوت الحزين بالأسفل: «أنا الوحيد المتبقي إذن؟»
أخرج كلود نفسه من الجحر أخيرا، لكنه لم يقو على الوقوف. في كل مرة كان يحاول الوقوف تخور قواه، ويهيأ له أنه سينفجر مرة أخرى. أصيب كاحله الأيمن أيضا؛ إذ لم يكن يتحمل وزنه عليه . ربما كان على مسافة قريبة للغاية من القذيفة التي ضربت؛ إذ سمع الفتيان يتحدثون عن حالات كتلك. انفجرت القذيفة تحت قدمه وجرفته إلى الوادي، لكنها لم تترك أي معادن في جسده. لو كانت تركت أجزاء منها في جسده، لأصبح ذلك كثيرا للغاية لدرجة تمنعه من الجلوس في هذا المكان والتكهن. بدأ يحبو وينزل المنحدر على يديه وقدميه. «هل أنت الطبيب؟ أين أنت؟» «هنا على إحدى النقالات. أطلقوا علينا القذائف. من أنت؟ لقد نجا إخواننا، أليس كذلك؟» «أظن أن معظمهم نجا. ما الذي حدث هنا؟»
قال الصوت بنبرة حزينة: «يؤسفني أنني كنت السبب. استخدمت مصباحي اليدوي، ولا بد أنه نبههم إلى مكاننا. لقد ضربوا ثلاث قذائف أو أربعا فوق رءوسنا. وظل الأفراد الذين أصيبوا في الوادي ينسلون إلى هنا، ولم أستطع فعل شيء في الظلام. اضطررت إلى إشعال الضوء لفعل أي شيء. وما كدت أنتهي من وضع جبيرة حتى رميت القذيفة الأولى. أعتقد أن جميعهم قد قتلوا.» «كم كان عددهم؟» «أربعة عشر على ما أعتقد. لم يتعرض البعض لإصابات خطيرة. كانوا سيظلون جميعا على قيد الحياة لو أنني لم أخرج معكم.» «من كانوا؟ لكنك لا تعرف أسماءنا حتى الآن، أليس كذلك؟ ألم تر الملازم جيرهارت بينهم؟» «لا أظن.» «ولا الرقيب هيكس، الشخص السمين؟» «لا أظن.» «أين أصبت؟»
تمتم الطبيب: «في بطني. لا أستطيع تحديد أي شيء دون أن أرى. فقدت مصباحي اليدوي. لم يخطر ببالي قط أنه قد يسبب المتاعب؛ فأنا أستخدمه في المنزل عندما يمرض الأطفال.»
حاول كلود أن يشعل عود ثقاب، لكن من دون جدوى. «انتظر دقيقة، أين خوذتك؟» خلع خوذته المعدنية وأمسكها فوق الطبيب، وتمكن من إشعال عود الثقاب تحتها. كان الرجل الجريح قد فك سرواله بالفعل، وبدأ يرفع الآن قميصه الملطخ بالدم. وفخذه وبطنه ممزقان من الجانب الأيسر. كان الجرح والنقالة التي يستلقي عليها، يحملان كتلة من الدم الداكن المتخثر شبيهة بكبد بقرة كبيرة.
قال الطبيب لما انطفأ عود الثقاب: «أعتقد أن أمري قد انتهى.»
أشعل كلود عودا آخر. «كلا، هذا غير معقول! سيعود الرفاق قريبا، وسنتمكن من القيام بشيء لأجلك.» «لا فائدة أيها الملازم. أيمكنك أن تخلع معطفا عن أحد هؤلاء الرفاق المساكين؟ أشعر ببرد قارس في أمعائي. كان معي زجاجة من البراندي الفرنسي، لكني أعتقد أنها تحت التراب.»
خلع كلود معطفه الذي كان دافئا من الداخل، وبدأ يتحسس الطين بحثا عن زجاجة البراندي. تساءل في نفسه عما يمنع هذا الرجل البائس من الصراخ من الألم. توقف رمي القذائف على التل فيما عدا أحد مدافع ماكسيماس كانت نيرانه تنزل على الصخور في مكان ما. دقت ساعته الثانية عشرة وعشر دقائق؛ أترى فشلت العملية هناك؟
فجأة جاءت أصوات من الأعلى، وسمع قرع نعال على الصخر الطيني. بدأ ينادي عليهم.
أجاب صوت: «أنا آت، أنا آت!» وقد عرفه. ركض جيرهارت إلى الوادي مع بنادقه ومجموعة من الأسرى. نادى عليهم كلود أن يتوخوا الحذر. «لا تشعلوا أي ضوء! لقد كانوا يقصفون هنا.» «هل أنت بخير يا ويلر؟ أين الجرحى؟» «لم يتبق أحد غيري والطبيب. أخرجنا من هنا بسرعة. أنا بخير لكني لا أستطيع المشي.»
وضعوا كلود على نقالة وأرسلوه أولا. حمله أربعة ألمان ضخام كان هيكس وديل آبل ينخسانهم حتى أسرعوا إلى درجة الوثب. أخذ أربعة من رجالهم الطبيب وسار جيرهارت بجانبهم. على الرغم من حذرهم، فقد تسببت الحركة في النزيف مرة أخرى، وتمزقت كتل الدم التي تكونت فوق الجروح. بدأ يتقيأ دما ويختنق. وضع الرجال النقالة على الأرض. رفع جيرهارت رأس الطبيب. وسرعان ما قال: «انتهى الأمر. الأفضل أن نستفيد من الوقت قدر الإمكان.»
حملوا النقالة مرة أخرى. وقال السويدي المتدين أوسكار: «الذين يحملونه الآن لن يهزوه.»
فقدت السرية «بي» تسعة عشر رجلا في تلك الغارة. بعد يومين، أخذت السرية إجازة مدتها عشرة أيام. تورم كاحل كلود الملتوي حتى ضعف حجمه الطبيعي، لكنه اضطر إلى المشي حتى محطة السكة الحديدية كي يتفادى دخول المستشفى. أعطاه الرقيب هيكس حذاء كبيرا وجده معلقا في الأسلاك الشائكة. وسافر كلود وجيرهارت إلى إجازتهما معا.
12
في ليلة خريف مطيرة، جلس بابا جوبيرت يقرأ الصحيفة. سمع طرقا ثقيلا على بوابة الحديقة. خلع نعله ولبس قبقابا خشبيا يحتفظ به للسير على الطين، ومشى متثاقلا عبر الحديقة تحت قطرات المطر، وفتح الباب على الشارع المظلم. وجد أمامه شخصين طويلين يحمل كل منهما بندقية وحقيبة أمتعة. وفي غضون لحظة، بدأ يحتضنهما وينادي على زوجته: «يا إلهي، أيتها الأم، إنه ديفيد، ديفيد وكلود، الاثنان معا!»
بدوا كجنديين بائسين وهما يقفان في ضوء الشمعة يغطيهما الطين، وتلمع خوذتاهما المعدنيتان مثل وعاء من النحاس، بينما يقطر الماء من ملابسهما على أرضية المطبخ المبلطة. قبلت زوجة جوبيرت خديهما المبتلين، وعانقهما السيد جوبيرت مرة أخرى بعدما صار يراهما. من أين أتيا وكيف كان حالهما هناك؟ حسن جدا، كما لا يخفى على أحد. ما الذي يريدانه أولا؛ ربما تناول العشاء؟ كانت غرفتهما جاهزة لهما دوما، والملابس التي تركاها كانت في الصندوق الكبير.
أوضح ديفيد أن قمصانهما لم تجف منذ أربعة أيام، وأن ما يريدانه حقا هو أن يرتديا ملابس جافة ويغتسلا. أمرت مارتا العجوز، التي كانت نائمة بالفعل، بتسخين المياه. وحمل السيد جوبيرت حوض الاستحمام الكبير إلى الطابق العلوي. قال إن الغد للحديث، أما الليلة فللراحة. تبعه الفتيان وبدآ يخلعان ملابسهما المبتلة، وتركاها في كومين مبللين على الأرض. يوجد حمام واحد لهما، فاقترعا بعملة معدنية لتحديد أيهما سيدخل إلى المياه الساخنة أولا. لما رأى السيد جوبيرت كاحل كلود المتورم مربوطا بضمادات لاصقة، بدأ يضحك بهدوء. «أرى أن الألمان جعلوك تتراقص هناك!»
حين ارتديا منامات نظيفة من الصندوق، حمل بابا جوبيرت قمصانهم وجواربهم إلى مارتا كي تغسلها. عاد ومعه طبق التقديم الكبير وقد أعد فيه البيض المخفوق المصنوع من اثنتي عشرة بيضة، المحشو باللحم المقدد والبطاطس المقلية. أحضرت السيدة جوبيرت إبريق قهوة من الخزف ومعه ثلاثة أكواب إلى الباب وهتفت: «بالهناءة والشفاء!» صب صاحب البيت القهوة، وقطع رغيف الخبز بسكين جيبه. جلس كي يشاهدهما وهما يأكلان. كيف الأحوال هناك على أي حال؟ هل الألمان مهذبون ومرحبون كعادتهم؟ ولما لم يتبق أي فتات في النهاية، صب لكل واحد كوبا صغيرا من البراندي «للمساعدة على الهضم»، وتمنى لهما ليلة سعيدة. وأخذ الشمعة معه.
شعر كلود أنه في نعيم تام، بينما كانت الملاءات الباردة تزداد دفئا حول جسده، واستنشق رائحة الخزامى القديمة في الوسائد. كان يشعر بقدر كبير من الدفء والجفاف والنظافة والحب! بدت رحلة العودة جميلة حين راجعها من هنا. فور أن خرجوا من منطقة الأشجار التي أرداها القصف، وجدا فرنسا تتحول إلى اللون الذهبي. ففي الوديان الواقعة على طول النهر، تحول لون أشجار الحور والحور القطني من الأخضر إلى الأصفر، وكانت درجة اللون واحدة كأنها لهب شموع وسط الضباب والمطر. كانت الأشجار تمتد على طول الحقول، ومد الأفق كمشاعل تنتقل من يد إلى يد، بينما تحولت جميع أشجار الصفصاف المجاورة للجداول الصغيرة إلى اللون الفضي. كانت حقول الكرم لا تزال خضراء ومكتظة بالفروع الملتوية ذات اللون الأحمر القاني. رأى كل ذلك بجانب وسادته؛ هذه الأرض الجميلة، وهذا البيض المخفوق اللذيذ، وأشجار الحور الذهبية، وحقول الكرم التي تجمع بين اللونين الأزرق والأخضر، وأوراق الكرم القرمزية المبتلة، وتساقط المطر في الفناء، وانتشار العبير في الظلام، والنوم الذي هو أقوى من ذلك كله.
13
تساقطت أوراق الأشجار بكثافة على طريق الغابة حتى غاص تحتها. كان كلود وديفيد مستلقيين على الخلنج الجاف اللين المتناثر بين جلاميد الصوان. وضع جيرهارت قبعته فوق عينيه، وربما كان نائما. كانوا يستمتعون بطقس عليل في تلك الإجازة. تطل الغابة على تلك الأرض المنفتحة كأنها مسرح مدرج، له شرفات ذهبية من خشب الكستناء والزان. كانت حبوب الجوز الكبيرة تتساقط مخملية وبنية وكأنها كانت منقوعة في الزيت، ثم تختفي في الأوراق الجافة على الأرض. ظهرت أشجار الطقسوس السوداء الصغيرة التي لم تكن واضحة بين اخضرار أشجار الصيف، بين الأجمات الصفراء الملتوية. ومن بين الشبكة الرمادية التي تشكلها أغصان الزان، لمعت أشجار البهشية اليابسة.
كان دأب ويلر أن يرهب السعادة المزيفة، وأن يخشى التعرض للخداع. ظل كلود يتساءل في نفسه أكثر من مرة عما إذا كان يعد الكثير من الأمور على أنها من المسلمات، وأنه يشعر بأنه في وطنه هنا بأكثر مما يحق له أم لا. لاحظ أن الأمريكيين يميلون إلى التصرف وكأنهم في وطنهم، وأن يخلطوا بين حسن السلوك وحسن النية. على الرغم من ذلك، فلم يكن يحق له التشكيك في حب آل جوبيرت؛ إذ كانت تلك العاطفة حقيقية وشخصية، وليست غطاء أملس يخفي تحته أي شكل من أشكال الازدراء والسخرية؛ أي إنه لم يكن - باختصار - ذلك «الأدب الفرنسي» الغادر الذي ينبغي على المرء ألا ينخدع به. إن محض تغير الفصول على المرء في بلد ما، يعطيه إحساسا بأنه يمكث فيه منذ مدة بعيدة. ثم إنه ليس بسائح على أي حال. إنه يمكث لعمل مشروع.
كان كاحل كلود الملتوي لا يزال متورما للغاية. وكانت السيدة جوبيرت متأكدة من أنه لا ينبغي عليه تحريكه على الإطلاق، وتوسلت إليه أن يجلس في الحديقة طوال اليوم ويوفر الرعاية لكاحله. لكن الجراح على الجبهة قد أخبره أنه سيضطر إلى الذهاب إلى المستشفى إن توقف عن المشي. ولهذا، استعان بأفضل أعواد أشجار البهشية في حديقة مضيفه، وراح يستند إليها ويخرج إلى الغابة كل يوم. وبعد ظهر ذلك اليوم، استهواه الابتعاد أكثر. كانت السيدة جوبيرت قد أخبرته عن بعض الكهوف على الطرف الآخر من الغابة، وعن غرف تحت الأرض ذهب السكان كي يعيشوا فيها في أوقات المحنة الكبرى أيام الحروب الإنجليزية منذ أمد بعيد. لم يستطع أن يتذكر المدة التي انقضت منذ تلك الحروب الإنجليزية، لكنها مدة طويلة بما يكفي لأن يشعر المرء بالارتياح. بالنسبة إليه، ربما لا يعود إلى وطنه مطلقا. وعندما تنتهي تلك الحرب العظمى، فربما يشتري مزرعة صغيرة ويمكث هنا بقية حياته. كان ذلك مشروعا يحب أن يفكر فيه. ففي وطنه، لم تكن هناك فرصة لأن يعيش الحياة التي كان يرغب فيها؛ إذ لا يبرح الناس الشراء والبيع، والبناء والهدم. بدأ يصدق أن الأمريكيين يتسمون بضحالة العواطف. هذا ما وصفهم به جيرهارت ذات مرة، وإن كان ذلك صحيحا فلا علاج منه. الحياة قصيرة، حتى إنها لا تعني شيئا على الإطلاق إلا حين يعززها باستمرار شيء باق؛ إنها لا تعني شيئا ما لم تتحرك ظلال الوجود الفرد على خلفية متماسكة. بينما كان غارقا في أحلام اليقظة عن الزراعة في فرنسا، تحرك رفيقه باتجاهه مستندا إلى كوعه. «تعلم أننا سننضم إلى الكتيبة في النقطة «إيه». سيعيشون كالملوك هناك. سيزيد وزن هيكس لدرجة أنه سيسقط في أثناء المسيرة. لا بد أن مركز القيادة يفكر في شيء بغيض للغاية؛ فدائما ما يسمن جند المشاة قبل المذبحة. لكن خطر ببالي أن لدي أصدقاء قدامى في النقطة «إيه». فماذا لو أننا عدنا قبل الموعد بيوم، وطلبنا منهم أن يسمحوا لنا بالمكوث؟ إنه مكان قديم وجميل، وينبغي أن أذهب وأراهم. كان الابن زميلا لي في معهد الموسيقى. قتل في فصل الشتاء الثاني في الحرب. اعتدت أن أذهب في الإجازات معه، وأريد أن أرى والدته وأخته مرة أخرى. فهل تمانع؟»
لم يرد كلود في الحال. استلقى محدقا في أشجار الزان من دون أن يتحرك. وقال بعد مدة قصيرة: «دائما ما تتحاشى الكلام معي في ذلك الموضوع، أليس كذلك؟» «أي موضوع؟» «أي موضوع له علاقة بمعهد الموسيقى، أو مهنتك.» «ليس عندي أي مهنة في الوقت الحالي. لن أعود إلى عزف الكمان أبدا.» «هل تقصد أنك لا تستطيع تعويض الوقت الذي ستخسره؟»
أسند جيرهارت ظهره على صخرة وأخرج غليونه. «سيكون هذا صعبا، لكن هناك أشياء أخرى أصعب. خسرت ما هو أكثر من الوقت.» «ألم تستطع الحصول على إعفاء بطريقة أو بأخرى؟» «كان من المحتمل أن أحصل على إعفاء. أراد أصدقائي أن يتولوا القيام بذلك، ويختبروا الأمر في حالتي. لكني لم أتحمل ذلك. لم أشعر أنني عازف كمان جيد بما يكفي لدرجة أن أعترف بأنني لست رجلا. كثيرا ما أتمنى لو أنني كنت في باريس في ذلك الصيف الذي اندلعت فيه الحرب؛ وإذن لالتحقت بالجيش الفرنسي منذ اللحظة الأولى مع الطلاب الآخرين، وكان هذا سيصبح أفضل.»
توقف ديفيد وجلس ينفث دخان غليونه. وعندئذ أثارت حركة خفيفة الأجمات الموجودة على جانب التل. كان ثمة فتاة صغيرة تقف هناك حافية القدمين وتنظر حولها. سمعت أصواتا، ولكنها لم تر في البداية الزي الذي اختلط لونه مع اللونين الأصفر والبني اللذين يكسوان الغابة. بعد ذلك رأت الشمس تشرق فوق رأسين؛ رأس مربعة كهرمانية اللون، ورأس طويلة ورفيعة بلون البرونز المائل إلى الأحمر. لم تشك في أنهما سيكونان ودودين، ونزلت من التل، وراحت تتوقف بين الحين والآخر لالتقاط حبوب كستناء الجبل اللامعة وتضعها في كيس تجره. نادى ديفيد عليها، وسألها عما إذا كان الجوز صالحا للأكل أم لا.
صاحت وعلى وجهها تعبيرات تنم عن رعب شديد: «يا إلهي، لا. هذا من أجل الخنازير!» يمكن لهؤلاء الأمريكيين السذج أن يأكلوا أي شيء. ضحك الفتيان وقدما لها بعض النقود المعدنية: «هذه من أجل الخنازير أيضا.» تحركت بخفة في طرف الغابة تقلب بين أوراق الأشجار بحثا عن الجوز بينما تراقب الجنديين.
أخرج جيرهارت غليونه، وبدأ يعيد ملأه. «عدت إلى المنزل كي أرى والدتي في شهر مايو عام 1914. لم أكن هنا عندما اندلعت الحرب. كان معهد الموسيقى قد أغلق على الفور؛ ولذا نظمت جولة موسيقية في الولايات المتحدة ذلك الشتاء، وحققت نجاحا كبيرا. كان ذلك قبل أن يذهب إليها الأوكرانيون، وقبل أن يصبح المجال مزدحما. حظيت بموسم ثان، وحققت فيه نجاحا أيضا. لكني كنت أزداد توترا مع مرور الوقت؛ كنت هناك بنصفي فحسب.» بدا غارقا في التفكير وهو يدخن؛ إذ جلس طاويا ذراعيه كأنه يراجع سلسلة من الأحداث أو المشاعر في عقله. «وعندما جاءت قرعتي، ذهبت كي أرى ما يمكنني فعله بشأن الخروج؛ ألقيت نظرة على زملائي الآخرين الذين كانوا يحاولون التملص، فصرفت النظر عن ذلك. لم أشعر بالأسف قط. وبعد مدة ليست بالطويلة، هشم الكمان، وبدا أن حياتي المهنية قد تهشمت معه.»
سأله كلود عما يقصده. «عندما كنت في المعسكر «ديكس»، اضطررت إلى العزف في إحدى الحفلات الترفيهية. كانت آلة الكمان الخاصة بي من طراز «ستراديفاريوس»، وكانت محفوظة بخزينة في نيويورك. لم تكن حاجتي إليه في ذلك الحفل أكثر من حاجتي إليه في هذه اللحظة، لكني ذهبت إلى المدينة وأخرجته من الخزينة. كنت آخذه من المحطة في سيارة عسكرية، واصطدم بنا سائق سيارة أجرة مخمور. لم يصبني أذى، ولكن الكمان القابع على ركبتي، تهشم إلى ألف قطعة. لم أعرف معنى ما حدث حينذاك، لكني شهدت بعد ذلك تدمير العديد من الأشياء الجميلة القيمة ... أصبحت أومن بالقدر.»
راقب كلود رأس الرجل الغارق بين الأفكار، الذي كان يتكئ به على صخرة صوان رمادية. «كان عليك الابتعاد عن كل شيء. أي رجل في الجيش سيقول هذا.»
أرجع ديفيد رأسه وأسندها إلى الصخرة، ورمى واحدة من ثمار الكستناء في الهواء بلطف. «حسنا، عازف كمان أكثر أو أقل لن يهم! ولكن من سيعود إلى أي شيء؟ هذا ما أريد معرفته!»
شعر كلود بالذنب وكأن ديفيد خمن أفكار الارتداد التي كانت تدور في عقله بعد ظهر ذلك اليوم. سأل فجأة: «لا تصدق أننا سنخرج من هذه الحرب بما اشتركنا فيها لأجله، أليس كذلك؟»
رد الآخر بعدم مبالاة هادئة: «بلى، بالطبع.» «إذن، فأنا لا أعرف السبب الذي توجد من أجله هنا!» «لأنه في عام 1917 كان عمري أربعا وعشرين سنة؛ ومن ثم أستطيع حمل السلاح. فرضت هذه الحرب على جيلنا. ولا أعلم السبب؛ ذنوب آبائنا على الأرجح. فليس السبب بالطبع هو جعل العالم آمنا لإقامة الديمقراطية، أو أي شعارات بليغة من هذا القبيل. عندما كنت أعمل في النقالات، اضطررت إلى أن أقول لنفسي مرارا وتكرارا إننا لن نجني منها شيئا، لكن ذلك لا بد أن يحدث. لكنني أعتقد في بعض الأحيان أن شيئا لا بد أن يحدث ... لن يكون شيئا متوقعا، بل شيئا مفاجئا.» توقف وأغلق عينيه. «ألا تتذكر في حكايات الأساطير القديمة كيف أن الأمهات كن يصارعن سكرات الموت دائما بعد ولادتهم لأبناء الآلهة؟ ربما هي سيميلي فقط التي تخطر على بالي الآن. على أي حال ، كنت أفكر في بعض الأحيان فيما إن كان لا بد من أن يموت شباب عصرنا لإحضار فكرة جديدة في العالم ... شيء أولمبي. أود أن أعرف. أعتقد أنني سأعرف. فمنذ أن جئت إلى هنا هذه المرة وأنا أومن بالخلود. هل تؤمن أنت؟»
ارتبك كلود من هذا السؤال الهادئ. «لا أعلم. لم أتمكن قط من التوصل إلى رأي في هذه المسألة.» «حسنا، لا تشغل بالك. إنما هو يأتي إليك. لست مضطرا إلى السعي خلفه. لقد توصلت إلى هذا الرأي بالطريقة ذاتها التي اتبعتها في فهم أمور الفن، وتكمن تلك الطريقة في التعرف على الشيء والتعايش معه قبل أن أفهمه.» نهض جيرهارت على قدميه وقال: «كانت هذه الأفكار تبدو لي طفولية. والآن، هل أخبرتك بما تريد معرفته عن حالتي؟» نظر إلى كلود بنظرة فضولية تنطق بالأنس والحب. «سأمدد ساقي. الساعة تدق الرابعة.»
اختفى بين سيقان أشجار الصنوبر حيث صنعت أشعة الشمس بحيرة وردية اللون مثلما كانت تفعل في فصل الصيف، وكان كلود يفكر في أنها ستفعل ذلك في كل السنوات القادمة أيضا حين لن يكونا هنا لرؤيتها. سحب قبعته فوق عينيه ونام.
تركت الفتاة الصغيرة الواقفة على طرف غابة الزان كيسها، وسارت بهدوء إلى أسفل التل. جلست الفتاة على نباتات الخلنج جلسة القرفصاء، ومكثت ساكنة مدة طويلة تراقب بفضول جسد الجندي الأمريكي المسترخي الذي يتنفس بعمق.
كان اليوم التالي عيد ميلاد كلود الخامس والعشرين، واحتفالا بتلك المناسبة أخرج بابا جوبيرت زجاجة نبيذ معتق من القبو، وكانت إحدى الزجاجات التي احتفظ بها فيه من أجل المناسبات العظيمة عندما كان شابا.
في هذا الأسبوع الذي استراح فيه كلود في منزل السيدة جوبيرت، كان كلود يفكر كثيرا في أن آونة سعادة «الشباب» التي كانت صديقته القديمة السيدة إرليش تتحدث عنها، والتي لم يختبرها في حياته من قبل، تعوض له الآن. كان يعيش شبابه في فرنسا. وكان يعرف أن مثل هذه الفرصة لن تأتيه مرة أخرى؛ لن تعود الحقول والغابات مغلفة بهذا السحر الغامض. عندما نزل إلى شارع القرية في المساء وقت الشفق الأرجواني، تصاعدت رائحة دخان الخشب من المداخن إلى رأسه كالمخدر، وفتحت مسام بشرته، وجلبت الدموع إلى عينيه في بعض الأحيان. صارت الحياة طيبة معه بالرغم من كل شيء، وأصبح لكل شيء أهمية نبيلة. بدا التوتر العصبي الذي عاش فيه سنوات أمرا لا يصدق الآن، وصار يبدو له سخيفا وطفوليا، هذا إن فكر فيه أصلا. لم يعذب نفسه بالذكريات. كان يبدأ من جديد.
حلم ذات ليلة أنه عاد إلى وطنه، ووقف بين الحقول المحروثة لا يرى غير الأرض البنية المحروثة تمتد من الأفق إلى الأفق. كان ثمة فتى يتحرك فيها ذهابا وإيابا ومعه محراث وفرسان. ظن في البداية أنه أخوه رالف، لكن حين دنا أكثر رأى أنه هو نفسه، وكان الخوف يملؤه من ذلك الفتى. لن يبتعد كلود المسكين مطلقا؛ كان سيفتقد كل شيء! بينما كان يحاول جاهدا أن يتحدث إلى كلود ويحذره، استيقظ من نومه.
في السنوات التي ذهب فيها إلى المدرسة في لينكن، ظل يبحث دائما عن شخص يعجب به من دون تحفظات؛ شخص يمكن أن يغبطه أو يقلده أو يكون مكانه. صار يعتقد الآن أنه حتى حينذاك، لا بد أنه كان يتخيل صورة باهتة لرجل مثل جيرهارت. ولم يكن من المرجح أن تتلاقى طرقهما إلا في أوقات الحرب، أو ربما إذا جمعهما عمل واحد، أو أي اهتمام مشترك يشكل أواصر الصداقة بين رجلين.
14
ترجل جيرهارت وكلود ويلر من سيارة أجرة أمام بوابات مفتوحة لمنزل ذي سقف مربع موحد اللون، حيث جميع مصاريع النوافذ في الواجهة مغلقة، وتظهر قمم العديد من الأشجار من فوق سور الحديقة. عبرا ساحة مرصوفة ودقا جرس الباب. استقبلهما خادم عجوز، وسار بهما عبر صالة واسعة إلى قاعة الاستقبال التي كانت تطل على الحديقة. أخبرهما الخادم أن السيدة والآنسة ستنزلان بعد مدة وجيزة. ذهب ديفيد إلى إحدى النوافذ الطويلة ونظر بالخارج. «لقد حافظوا على المكان بالرغم من كل ما حدث. ظل هذا المكان جميلا على الدوام.»
كانت الحديقة فسيحة كأنها متنزه صغير. يوجد ملعب التنس على أحد جانبيها، وعلى الآخر نافورة تقع وسط حمام سباحة وزنابق الماء. اختفى الجدار الشمالي خلف أشجار طقسوس عتيقة، أما الجدار الجنوبي فكان أمامه صفان من أشجار الدلب قلمت على شكل مربع؛ فتشكلت منها تعريشة طويلة. في الجزء الخلفي من الحديقة، توجد أشجار زيزفون قديمة وجميلة. كانت الممرات الحصوية تلتف حول أحواض من زهور الخريف الرائعة، وفي حديقة الورد كانت بعض الورود البيضاء الصغيرة لا تزال متفتحة على الرغم من أن أوراقها قد تحولت إلى اللون الأحمر بالفعل.
دخلت سيدتان غرفة الاستقبال. الأم قصيرة ومكتنزة وذات بشرة وردية تتسم بملامح قوية، بل حتى ذكورية، وشعرها أبيض مائل إلى الأصفر. التمعت الدموع في عينيها عندما انحنى ديفيد كي يقبل يدها، وقد احتضنته ولمست خديه بشفتيها.
أخذت تتلمس معطف زيه الرسمي بأصابعها وتقول: «وأنت، أنت أيضا!» كانت تلك لحظة من الرقة الخالصة. وقف كلود يراقب المجموعة من النافذة، وجال بخاطره أنها قد استجمعت شتات نفسها مثل جنرال كبير، ثم قدمت ابنتها وسألت ديفيد إن كان قد عرف الفتاة الصغيرة التي كان يلعب معها أم لا. لم تكن الآنسة كلير تشبه والدتها في شيء؛ فهي نحيفة سمراء، وترتدي زي التنس الأبيض وقبعة خضراء بلون التفاح، وبها أشرطة سوداء، بدت عصرية للغاية وعفوية وغير عابئة بشيء. لقد بدأت تخبر ديفيد بالفعل عن سعادتها بوصوله مبكرا؛ إذ سيسمح لهما ذلك بلعب مباراة تنس قبل الشاي. قالت إن الأم ستحضر غزلها إلى الحديقة وتشاهدهما وهما يلعبان. هدأ ذلك الاقتراح الأخير مخاوف كلود من أن يترك بمفرده مع صاحبة البيت. عندما نادى عليه ديفيد وعرفه بالسيدتين صافحته الآنسة كلير سريعا، وقالت إنها ستسر أن تجربه على أرض الملعب فور أن تهزم ديفيد. قالت إنهما سيجدان أحذية التنس في غرفتهما، حيث توجد تشكيلة من الأحذية التي تناسب الأقدام من جميع الجنسيات؛ فمنها حذاء أخيها وبعض الأحذية التي نسيها صديقه الروسي حينما هرع كي ينضم إلى الجيش، وزوجان من الأحذية يعودان لضابط إنجليزي أرسل كي يعيش معهما وتركهما منذ مدة وجيزة. قالت إنها ستنتظر مع والدتها في الحديقة. ودقت الجرس طلبا للخادم العجوز.
وجد الأمريكيان أنفسهما في غرفة كبيرة بالطابق العلوي تضم سريرين حديديين على الطراز العصري قد برزا على نحو صارخ بين الطاولات والمكاتب ومنضدات التزيين المصنوعة من خشب الماهونجي الثقيل، والكراسي المحشوة، والسجاد المخملي، وستائر النوافذ المزركشة باللون الأحمر الفاتح. ذهب ديفيد من فوره إلى غرفة الملابس الصغيرة، وبدأ يجهز نفسه لمباراة التنس. وجد على الحائط اثنين من البناطيل البيضاء وصفا من القمصان الناعمة.
لاحظ أن كلود يقف ثابتا تماما عند النافذة، وينظر إلى الحديقة بالأسفل، سأله: «ألن تغير ملابسك؟» علق كلود بسخرية: «ولماذا أغير ملابسي؟ أنا لا ألعب التنس. لم أمسك مضربا في يدي قط.» «هذا مؤسف للغاية. كانت تجيد لعبة التنس على الرغم من أنها لم تكن سوى فتاة صغيرة حينذاك.» كان جيرهارت ينظر إلى ساقيه في السروال الأقصر منها بمقدار بوصتين. «يا للغرابة، لقد تغير كل شيء بالرغم من أن كل شيء لا يزال على حاله! الأمر يشبه العودة إلى الأماكن في الأحلام.»
علق كلود: «ينبغي أن أذكرك أنه لا يوجد كثير من الوقت للأحلام.» «من حسن الحظ!» «هلا شرحت للفتاة أني لا أجيد اللعب؟ سأنزل في وقت لاحق.» «كما تحب.»
وقف كلود في النافذة يشاهد رأس جيرهارت العاري وقبعة الآنسة كلير وذراعها البنية الطويلة تثب في أرض الملعب.
عندما أتى جيرهارت كي يغير ملابسه قبل تناول الشاي، وجد زميله الضابط يقف أمام حقيبته التي كانت مفتوحة، لكن لم تفرغ محتوياتها. «ما الأمر؟ هل عاودك الشعور بصدمة القذائف؟» «ليس هكذا تحديدا.» عض كلود على شفته. «الحقيقة يا ديف أني لا أشعر بالراحة هنا. الناس جميعهم طيبون. لكني في مكان غير مكاني. سأنسحب من المكان وأمكث في مسكن آخر، وأدعك تزور أصدقاءك في سلام. لماذا عساي أن أمكث هنا؟ هؤلاء الناس لا يفتحون منزلهم فندقا.» «بناء على ما أخبروني به، يكاد أن يكون هذا المنزل فندقا. لقد نزل عليهم مجموعة من الجنود الاسكتلنديين والإنجليز. إنهم يحبون ذلك أيضا، أو هم يدعون ذلك من حسن أخلاقهم. بالطبع ستفعل ما تريد، لكنك ستؤذي مشاعرهم، وستضعني في موقف غير ملائم. والحق أنني لا أعرف طريقة تترك بها المكان من دون أن تكون وقحا وقاحة بينة.»
وقف كلود ينظر إلى محتويات حقيبته على الأرض مترددا. لما وقعت عينه على وجهه في إحدى المرايا الكبيرة، رآه جيرهارت حائرا وبائسا. تلاشت حدة مزاجه، ووضع يده برفق على كتف صديقه. «تعال يا كلود! لا تكن سخيفا. إن زيك يجعلك غير مضطر إلى ارتداء ملابس أخرى، وليس عليك أن تتحدث أيضا بما أنه من المفترض أنك لا تعرف اللغة. كنت أظن أنك ستحب المجيء إلى هنا. لقد مر هؤلاء الناس بوقت صعب للغاية؛ ألا تعجبك بسالتهم؟» «بالطبع، نعم، تعجبني! على الرغم من أنها غريبة عني.» خلع كلود معطفه، وبدأ يمشط شعره بقوة. «أظن أني دائما ما كنت أخاف الفرنسيين أكثر من الألمان. إن المكوث يحتاج إلى شجاعة كما تعرف. أريد أن أهرب.» «ولكن لماذا؟ ما الذي يجعلك تريد ذلك؟» «حسنا، لا أعلم! شيء في المنزل، في الجو العام.» «شيء بغيض؟» «لا، بل شيء طيب.»
ضحك ديفيد: «حسنا، ستتجاوز ذلك!»
شربوا الشاي في الحديقة على الطريقة الإنجليزية، وكان الشاي إنجليزيا أيضا مثلما أخبرتهم الآنسة؛ إذ تركه ضباط إنجليز.
على العشاء، انضم إليهم عضو ثالث من العائلة؛ فتى صغير حليق الرأس ذو عينين كبيرتين وسوداوين. جلس عن يسار كلود هادئا وخجلا في معطفه المخملي، لكنه كان يتابع الحديث بحماسة، لا سيما عندما تطرق إلى أخيه رينيه الذي قتل في معركة فردان في الشتاء الثاني من اندلاع الحرب. تحدثت الأم والأخت عنه كما لو كان حيا؛ إذ تحدثتا عن خطاباته وخططه وأصدقائه في معهد الموسيقى وفي الجيش. وأخبرت الآنسة كلير جيرهارت عن كل الطالبات اللاتي عرفهن في باريس؛ فحكت له عن فتاة كانت تغني للجنود، وأخرى تعمل ممرضة في مستشفى تفجرت في غارة جوية، وحملت عشرين جريحا من المبنى المحترق واحدا تلو الآخر على ظهرها كأكياس الدقيق. وحكت له عن أليس الراقصة التي ذهبت إلى الصليب الأحمر الإنجليزي وتعلمت الإنجليزية. أما أوديت فقد تزوجت من ضابط نيوزلندي يقال إنه من آكلي لحوم البشر؛ إذ يشيع أن قبيلته أكلت اثنين من مبشري أوفيرنات. لم يستطع كلود فهم جزء كبير من الحديث، لكنه أدرك مما فهمه أن الحرب في نظر هاتين السيدتين كانت هي فرنسا، وهي الحياة وكل ما يحدث فيها. إن حياة المرء وامتلاكه للوعي وجميع ملكاته، يعني أن يخوض المرء حربا.
عندما ذهبوا إلى قاعة الاستقبال بعد العشاء، سألت السيدة فلوري ديفيد إن كان يود رؤية كمان رينيه مرة أخرى، وأومأت إلى الفتى الصغير. خرج الفتى وعاد يحمل صندوقا وضعه على الطاولة. فتحه بحرص وأخرج قطعة قماش مخملية، وكأنما كان ذلك طقسه الخاص، ثم سلم الآلة إلى جيرهارت.
قلبه ديفيد تحت أضواء الشموع، وأخبر السيدة فلوري أنه كان سيعرفه حيثما كان، إنه كمان رينيه من طراز «أماتي» الرائع، أنغامها في غاية العذوبة وسط قاعات الاحتفالات كأنها امرأة آية في الجمال تقف على خشبة المسرح. التفت العائلة حوله، واستمعوا إلى مدحه وقد بدا الرضا على وجوههم. أخبرته السيدة فلوري أن لوسيان كان جادا للغاية في موسيقاه حتى إن معلمه سر به للغاية، وحين تكبر يداه قليلا سيسمح له بالعزف على كمان رينيه. شاهد كلود الفتى الصغير واقفا ينظر إلى الآلة وهي في يدي ديفيد، وقد انعكس في كل واحدة من عينيه السوداوين الكبيرتين لهب شمعة، وكأنما كانت شعلة من النار تحترق داخل كل منهما بالفعل.
سألت والدته: «ما الأمر يا لوسيان؟»
تمتم متوسلا: «أرجو أن يتكرم السيد ديفيد بأن يعزف لنا قبل أن أذهب إلى النوم.» «لكن يا لوسيان أنا جندي الآن. أنا لم أعزف قط منذ سنتين. سيعتقد كمان الأماتي أنه وقع بين يدي ألماني.»
ابتسم لوسيان وقال: «كلا! إنه أذكى من ذلك. اعزف قليلا من فضلك»، وجلس أمام الأريكة على مسند قدمين في حالة ترقب واثق.
ذهبت الآنسة كلير إلى البيانو. عبس ديفيد وبدأ يضبط الكمان. نادت السيدة فلوري الخادم العجوز، وأخبرته أن يشعل العيدان الموضوعة في المدفأة. أخذت الكرسي ذا الذراعين على يمين الموقد، وأشارت إلى كلود كي يجلس على كرسي موضوع على اليسار. ظل الفتى جالسا على كرسيه في الطرف الآخر من الغرفة. بدأت الآنسة كلير تعزف مقدمة الأوركسترا لكونشرتو سان سانس.
رفع ديفيد ذقنه، ونظر إليها نظرة الحائر: «كلا، ليس هذا اللحن!»
لم ترد عليه، وواصلت العزف وقد انحنى كتفاها إلى الأمام. رفع لوسيان ركبتيه أسفل ذقنه وبدأ يرتعش. عندما حان الوقت، بدأ الكمان بالعزف. وضعه ديفيد تحت ذقنه مرة أخرى تلقائيا، وانطلقت الآلة بألحان حزينة ومكبوتة.
ظلا يعزفان وقتا طويلا. في النهاية، توقف ديفيد ومسح جبينه. «لا أستطيع عزف الحركة الثالثة مع الأسف، حقا.» «ولا أنا. لكنها آخر ما عزفه رينيه على الكمان في الليلة التي سبقت رحيله في آخر إجازة له.» استكملت العزف وتبعها ديفيد. جلست السيدة فلوري بعينين شبه مغلقتين وهي تنظر إلى النيران. أطبق كلود شفتيه ووضع يديه على ركبتيه، وظل يشاهد صديقه من ظهره. كانت الموسيقى جزءا من مشاعره المرتبكة. كان ممزقا بين الإعجاب الكبير والحسد المرير. ما الذي يشعر به المرء حين تكون قادرا على فعل أي شيء بهذه البراعة، وأن تكون يده قادرة على الرقة والدقة والقوة؟ لو كان قد تعلم أي شيء على الإطلاق، لما جلس الليلة متخشبا في مكانه بين أناس ينبضون بالحياة. شعر أنه كان يمكن أن يصنع منه رجل، لكن أحدا لم يتكلف عناء ذلك؛ فصار معقود اللسان، مقيد القدمين، مكبل اليدين. إذا ولد المرء في هذا العالم على أنه من صغار الدببة أو عجول الثيران، فلن يسعه إلا الضرب ببراثنه وقلب الأشياء، والتكسير والتدمير على مدار حياته.
لف جيرهارت الكمان في قطعة القماش. شكره الفتى الصغير وحمل الكمان. وتمنت السيدة فلوري وابنتها لضيفيهما أن يقضيا ليلة سعيدة.
قال ديفيد إنه يشعر بالحر، واقترح الذهاب إلى الحديقة للتدخين قبل أن يخلدا إلى النوم. فتح إحدى النوافذ الطويلة وخرجا إلى الشرفة. كانت الأوراق الجافة تخشخش على الممرات، ووقفت أشجار الطقسوس جدارا مصمتا أحلك من ظلمة الليل. لا بد أن النافورة اجتذبت ضوء النجوم إذ كانت هي الشيء اللامع الوحيد؛ عمود صغير صاف من الفضة المتلألئة. تمشى الفتيان في صمت إلى نهاية الممر.
تحدث كلود بتلك النبرة غير الطبيعية التي يتحدث بها الناس أحيانا عن أشياء لا علم لهم بها، فقال: «أعتقد أنك ستعود إلى مهنتك.» «كلا. لقد اضطررت إلى العزف لهم بالطبع. إن الموسيقى أشبه بالدين في هذا المنزل. أنصت»، أشار بيده، وكانت الضربات المنتظمة التي تصدر من المدافع الكبيرة البعيدة قد اخترقت سكون الليل. «لنا ما تسمعه، هو كل ما يهم في الوقت الراهن. لقد قتل كل ما سواه.» «لا أصدق هذا.» توقف كلود لحظة عند حافة النافورة محاولا استجماع أفكاره. «لا أصدق أنه قتل أي شيء. وإنما بعثر كل شيء فحسب.» نظر من حوله سريعا إلى حالة النوم التي تخيم على المنزل والحديقة، وإلى السماء الصافية المرصعة بالنجوم التي لا تبعد كثيرا. كسر حاجز الصمت قائلا: «إن أمثالك هم من يرون أسوأ ما في الأمر. أما أنا فلم أعرف قط شيئا يستحق الحياة من أجله حتى اندلعت تلك الحرب. قبل ذلك، كان العالم يبدو لي كعرض عمل.»
قال ديفيد بنبرة خشنة: «عليك الاعتراف أنها طريقة مكلفة لتوفير المغامرة للشباب.» «ربما، على أي حال ...»
تابع كلود النقاش مع نفسه مدة طويلة بعدما دخلا إلى سريريهما الوثيرين وخلد ديفيد إلى النوم. ما من ساحة معركة أو بلد ممزق كانا بالقبح الذي كان العالم سيغدو عليه إذا تحكم فيه رجال مثل أخيه بايليس. وحتى اندلاع الحرب، كان يظن أنهم يتحكمون في العالم بالفعل؛ ومن ثم تعكر صباه وسلب منه جراء هذا الاعتقاد. يبدو أن البروسيين أيضا يؤمنون بذلك. لكن الحرب قد أوضحت أن عددا كبيرا من الناس لا يزالون يهتمون بشيء آخر.
صارت الفواصل الزمنية بين نيران المدفعية أقصر، وكأنما كانت المدافع الكبيرة تستعد وتملأ جوفها كي تنطلق. جلس كلود على سريره وأنصت. كان صوت المدافع يسره منذ البداية؛ إذ يمنحه شعورا بالثقة والأمان، وقد بات الليلة يعرف السبب. صوت المدافع يقول إن البشر لا يزالون مستعدين للموت من أجل فكرة، وربما يحرقون كل ما صنعوه من أجل الحفاظ على أحلامهم. كان يعلم أن الأمان ينتظر مستقبل العالم؛ لن يتمكن واضعو الخطط الحريصون من تقييده؛ فلن يمكنهم المكر والحذر من الفوز. عجبا، إن ذلك الفتى الصغير في الطابق السفلي الذي التمع ضوء الشموع في عينيه، يمكن أن «يستمر» في الصرخة الأخيرة إلى الأبد، كما يقولون! ليست المبادئ أمورا عتيقة وجميلة، لكنها عاجزة، بل هي المورد الحقيقي للقوة بين الرجال. وما دامت تلك الحقيقة باقية، وقد صار يعلم الآن بعد أن قطع هذه المسافة بأكملها أنها لا تزال باقية، فلا خلاف له إذن مع القدر. ثم إنه لم يعد يحسد ديفيد. هو نفسه لن يتنازل عن مغامرته لأي رجل. على مشارف النوم، التمع له الوجه المشرق للخطر مثل عمود النافورة الصافي، ومثل الهلال؛ مغر ومحجم في الوقت ذاته.
15
عندما عاد كلود وديفيد إلى السرية في العشرين من سبتمبر، لم تبد للحرب نهاية على الإطلاق. لم يعرف الجيش الأمريكي بسقوط بلغاريا، وكانت معرفتهم بالشئون الأوروبية ضئيلة للغاية، حتى إن هذا الخبر لم يكن ليهمهم كثيرا إن كانوا قد سمعوا به. وكان الجيش الألماني لا يزال مسيطرا على شمال فرنسا وشرقها، ولم يكن أحد يعرف مقدار ما تبقى من الحياة في ذلك الجسد المترامي الأطراف.
استقلت الكتيبة القطار في أراس. كانت لدى المقدم سكوت تعليمات بالتقدم إلى رأس السكك الحديدية ثم التقدم إلى أرجون سيرا على الأقدام.
ازدحمت العربات، وكانت الرحلة بالقطار طويلة ومرهقة. نزلوا من القطار في الليل تحت المطر في مكان قال الرجال إنه يبدو نقطة الهجوم. لم تكن هناك مدينة، ومحطة السكك الحديدية قد قصفت أمس على يد سرب من القوات الجوية بهدف تفجير ذخيرة المدفعية. دلت أكوام الطوب والحفر الممتلئة بالماء على المكان الذي كانت تقف فيه. أرسل العقيد كلود مع دورية للبحث عن مكان ينام فيه الجنود. وجدت الدورية حقلا من أكوام قش وعلى طرفه بيت ريفي.
ذهب كلود وطرق الباب. كان الصمت يخيم على المكان. ظل يطرق الباب وينادي: «الأمريكيون هنا!» فتح مصراع نافذة. أخرج المزارع رأسه وسأل بأسلوب فظ عما يريده الطارق: «ماذا تريد الآن؟»
شرح كلود بأفضل ما لديه من اللغة الفرنسية أن سرية أمريكية وصلت لتوها؛ فهل يمكنهم النوم في الحقل ما داموا لن يدمروا أكوام القش؟
رد المزارع: «بالتأكيد»، وأغلق النافذة.
تلك الكلمة الواحدة التي لفظت في الظلام وفي مكان غير مبشر، كان لها وقع مبهج على الدورية وعلى الجنود عندما كررت عليهم. «قال بالتأكيد، أليس كذلك؟» ظلوا يضحكون عليها وهم يطوفون في أرجاء الحقل ويندسون داخل القش. ومن لم يتمكن منهم من الاندساس داخل القش، رقد على القصب الموحل. غلبهم النوم قبل أن يشعروا بالأسف على حالهم.
خرج المزارع وعرض الحظيرة على الجنود، لكنه توسل إليهم ألا يشعلوا الضوء تحت أي ظرف من الظروف. قال إن البلدة لم تتعرض إلى غارات جوية حتى أمس، ولا بد أن السبب هو قدوم الأمريكان وإرسالهم الذخيرة.
نودي جيرهارت كي يتحدث إلى المزارع، وأخبره أن العقيد يجب أن يدرس الخريطة؛ فأخذهم الرجل إلى القبو حيث ينام الأطفال. وقبل أن يستلقي العقيد على السرير الذي أعده له خادمه من القش، ظل يتفوه بأسماء وكيلومترات يعدها على أصابعه. كانت أسماء الأماكن تمثل لضباط مثل العقيد سكوت إحدى الصعاب الحقيقية في الحرب. كان يفكر ببطء، لكنه يركز في عمله دوما، ويمكنه المواصلة من دون نوم لعدد من الساعات يزيد عما يطيقه أي من جنوده. لم يكد أن يرقد في تلك الليلة عندما أحضر الحارس رسولا محملا برسالة. اضطر العقيد إلى العودة إلى القبو مجددا كي يقرأها. أخبرته الرسالة بأن يقابل العقيد هارفي في مزرعة الأمير جوشيم في أقرب وقت من صباح الغد. وسيكون الرسول مرشده.
جلس العقيد وعينه على ساعته، وسأل الرسول عن الطريق والوقت الذي يستغرقه حتى يصل إلى المكان. وسأله: «ما وضع الألمان هناك بشكل عام؟» «هذا يتوقف على الظروف يا سيدي. في بعض الأحيان نعتقل دورية ليلية مكونة من اثني عشر أو خمسة عشر جنديا، ونرسلهم إلى مؤخرة الجيش تحت حراسة رجل واحد. وفي أحيان أخرى، تقاتل مجموعة صغيرة منهم قتالا مريرا كالشياطين. يقال إن ذلك يتوقف على الإقليم الألماني الذي أتوا منه؛ البافاريون والساكسونيون هم الأشجع.»
انتظر العقيد سكوت ساعة ثم تجول يهز الجنود النائمين. «أمرك يا سيدي.» انتفض النقيب ماكسي على قدميه وكأنه أمسك على فعل فاضح. نادى على الرقباء وشرعوا يوقظون الجنود من تحت أكوام القش والحفر. وفي غضون نصف الساعة، أصبحوا على الطريق.
كانت هذه هي المسيرة الأولى للكتيبة على طرق سيئة للغاية، حيث كان السير يتطلب الشد والحفاظ على التوازن. سرعان ما دفئوا من ذلك على أي حال، حتى صاروا يتعرقون. ظل وزن معداتهم يرمى في المكان الخطأ على الدوام. أعاقت ملابسهم المبتلة من حركتهم، والتوت حقائبهم على أكتافهم وتكومت. بدأ كلود وهيكس يفكران معا فيما كان عليه الحال في الوحل الحقيقي، في مدينتي إبير وباسيندالي، منذ عامين. كان هيكس يتدرب في أراس الأسبوع الماضي، حيث «يستريح» العديد من الجنود البريطانيين بالطريقة ذاتها، وكان لديه حكايات يرويها.
وصلت الكتيبة إلى مزرعة جوشيم في الساعة التاسعة. لم يكن العقيد هارفي قد أتى بعد، لكن يوليوس قيصر العجوز كان هناك مع مهندسيه، وأعد لهم إفطارا ساخنا. في السادسة مساء انطلقوا على الطريق مرة أخرى، وظلوا يسيرون حتى مطلع الفجر، ولم يستريحوا إلا أوقاتا قصيرة. وفي الليل أسروا دوريتين من الألمان من ثلاثين جنديا. في استراحة الإفطار، أراد السجناء أن يساعدوا، لكن الطباخ قال إنهم قذرون للغاية لدرجة أن رائحتهم ستفسد الحساء. أبعدوا في مكان بمفردهم على مسافة كافية من خط إعداد الطعام.
كان جيرهارت بالطبع هو من ذهب إليهم واستجوبهم. شعر كلود بالأسف تجاه السجناء؛ إذ كانوا جميعا مستعدين لسرد كل ما يعرفونه، وكانوا حريصين للغاية على أن يحظوا بالقبول ؛ بدءوا في الحديث عن أقاربهم في أمريكا، وقالوا مبتهجين إنهم ينوون السفر إليهم بأنفسهم بعد الحرب، وقد بدوا واثقين من أن الجميع سيسر بزيارتهم!
توسلوا إلى جيرهارت أن يسمح لهم بالقيام بعمل ما. ألا يمكنهم حمل أغراض الجنود في أثناء المسيرة؟ بلى، إنهم ممتلئون بالحشرات، لكنهم يستطيعون مساعدة فرقة الصرف الصحي. حسنا، سيفعلون ذلك بكل سرور، سيدي الضابط!
تتمثل الخطة في الوصول إلى خندق روبرشت والاستيلاء عليه قبل حلول الليل. كان الاستيلاء عليه سهلا؛ إذ خلا من كل شيء عدا الحشرات وبعض البشر المهملين؛ عدد من المعاقين والمرضى تركوا للعدو كي يتخلص منهم، وعدد من الشباب المجانين الذين ينبغي حبسهم في مؤسسة ما. عرف الألمان معنى عدم رجوع دورياتهم. أخلوا المكان مخلفين وراءهم مرضى ميئوسا من حالتهم، وأكبر قدر ممكن من القذارة. كانت المخابئ جافة نسبيا، لكنها تعج بالحشرات لدرجة أن الأمريكيين فضلوا النوم في الوحل وفي العراء.
بعد العشاء، انكب الرجال على أمتعتهم، وبدءوا يخففون أحمالها ويرمون كل ما هو ليس ضروريا، وكثيرا ما كان ذلك. تخلى العديد منهم عن المعاطف الجديدة التي قدمت لهم عند رأس السكك الحديدية، وقطع آخرون التنانير وحولوا المعاطف إلى سترات ممزقة. كان النقيب ماكسي منزعجا للغاية من هذه الخسارة والتلف، لكن العقيد نصحه بإغلاق عينيه. «سيواجه الجنود مسيرة عسيرة؛ فليمشوا خفافا. وإذا كانوا يفضلون تحمل البرد، فلهم حق الاختيار.»
16
استراحت الكتيبة لمدة أربع وعشرين ساعة في خندق روبرشت، ثم استكملت المسير لمدة أربعة أيام وأربع ليال كانوا يسرقون فيها الخنادق ويأسرون الدوريات، ولا ينالون من النوم إلا سويعات يسترقونها على جانب الطريق، بينما يعد لهم الطعام. لقد اندفعوا بجد شديد خلف عدو منسحب، وكادوا يتفوقون على أنفسهم. نفدت مؤنهم في الليلة الرابعة، عندما حلوا على مزرعة اتخذها الألمان مقرا لقيادتهم، لم تكفهم المؤن التي عثروا عليها هناك، وذهبوا إلى النوم من دون عشاء.
لسبب ما، يطلق السجناء على هذه المزرعة اسم «فراو هولدا»، وقد كانت عشا ووكرا للهواتف؛ إذ تمتد مئات الأسلاك على الجدران في جميع الاتجاهات. قطع العقيد كل الأسلاك التي استطاع الوصول إليها، ثم وضع حراسة على مزارع عجوز ترك كي يرعى المنزل؛ إذ كان يشك في أنه يعمل لصالح العدو.
وأخيرا، دخل العقيد سكوت إلى السرير الموجود في مقر القيادة - كان كبيرا وسميكا - ذلك أول سرير يراه منذ أن غادر أراس. لم ينم أكثر من ساعتين، ثم أتاه رسول من عقيد الفوج. كان كلود ينام على سرير علوي بين جيرهارت وبروجر. شعر أن شخصا يهزه، لكنه قرر أن أحدا لن يزعجه، وعاد إلى نومه بهدوء. بعد ذلك، اجتذب أحد ما شعره بقوة جعلته ينهض. كان النقيب ماكسي يقف أمام السرير. «هيا أيها الفتيان. لدينا تعليمات من مقر قيادة الفوج. ستنقسم الكتيبة هنا. سوف تتقدم سريتنا الليلة أربعة كيلومترات، وتستولي على مدينة بوفورت.
نهض كلود. «الرجال منهكون للغاية أيها النقيب ماكسي، ولم يتناولوا طعاما على العشاء.» «لا مفر من ذلك. أخبرهم أننا سنكون في بوفورت لتناول الإفطار.»
خرج كلود وجيرهارت إلى الحظيرة، وأيقظا هيكس وصديقه ديل آبل. كان الرجلان نائمين على قش جاف للمرة الأولى منذ عشرة أيام. كانا منهكين للغاية غير واعيين بمكانهما أو زمانهما. العديد منهم على بعد مسافة أربعة آلاف ميل بالفعل، موزعين بين المدن الصغيرة ومزارع البراري. بدا عليهم البؤس؛ إذ تجمعوا وهم يتخبطون في الظلام.
بعدما اطلع العقيد على الخريطة مع النقيب ماكسي، خرج ورأى السرية متجمعة. أخبرهم أنه لن يذهب معهم، لكنه يتوقع منهم أن يؤدوا عملهم جيدا. حالما يصلون إلى بوفورت، سيستريحون لمدة أسبوع حيث لا ينامون في العراء ويعيشون بين الناس لفترة.
سلك الجنود الطريق وقد أغمض بعضهم عينيه في محاولة لإيهام أنفسهم أنهم لا يزالون نائمين، واستعادة أحلامهم الجميلة مجددا في أثناء المسير. لم يفيقوا من النوم بالفعل إلى أن قابلوا دورية من الألمان، وأرسلوها أسيرة إلى العقيد تحت حراسة رجل واحد. عندما تقدموا كيلومترين وجدوا الجسر قد نسف. ذهب كلود وهيكس في اتجاه واحد بحثا عن معبر في النهر، وذهب بروجر وديل آبل في اتجاه آخر، واستلقى الرجال على جانب الطريق، وغطوا في سبات عميق. وصلوا إلى أطراف القرية عند الفجر، وجدوها ساكنة وهادئة.
لم يكن لدى النقيب ماكسي أي معلومات عن عدد الألمان المتبقين في البلدة. كان الألمان قد احتلوا البلدة منذ اندلاع الحرب، واستخدموها بمثابة معسكر استراحة. ولم يقع فيها أي قتال قط.
في المنزل الأول على الطريق، توقف النقيب وطرق الباب. لم تأته أي إجابة. «نحن أمريكيون ولا بد أن نرى ساكني المنزل. وإذا لم تفتحوا فسنكسر الباب.»
نادى صوت امرأة: «لا يوجد أحد هنا. ابتعد من فضلك وأبعد رجالك. أنا مريضة.»
نادى النقيب على جيرهارت الذي بدأ يشرح الأمر للمرأة ويطمئنها من خلف الباب. انفتح الباب قليلا، وظهرت منه امرأة عجوز ترتدي قلنسوة نوم. أتى رجل عجوز من خلفها. حدقت في الجنود في دهشة وعدم فهم. إنهم أول جنود تراهم من قوات الحلفاء. قالت إنها سمعت الألمان يتحدثون عن الأمريكيين، لكنها اعتقدت أنها إحدى أكاذيبهم. فور أن اقتنعت، سمحت للجنود بالدخول، وردت على استفساراتهم.
كلا، لم يتبق ألمان في منزلها. أتتهم تعليمات بالمغادرة أول أمس؛ ومن ثم فجروا الجسر. كانوا يتمركزون في مكان ما جهة الشرق. لم تكن تعلم عدد الجنود الذين لا يزالون في البلدة ولا مكانهم، لكنها تستطيع إخبار النقيب بالموقع الذي كانوا فيه. أحضرت خريطة للبلدة وعلى وجهها نشوة النصر، قالت وعلى شفتيها ابتسامة ذات مغزى إن ضابطا ألمانيا فقدها، وعلى الخريطة علامات لأماكن مساكن الإيواء.
استنادا إلى هذا الدليل؛ سلك النقيب ماكسي ورجاله الشارع. وضعوا ثمانية أسرى في زنزانة وسبعة عشر في زنزانة أخرى. عندما رأى أهل القرية السجناء مقيدين معا في الميدان، خرجوا من منازلهم وتحدثوا بما لديهم من معلومات. قال بيرت فولر إن هذا النصر أشبه باصطياد السمك من نهر بلات وقت انحسار المياه؛ إذ لا يكون عليك سوى نشلها بالدلاء! ولا تسلية في ذلك.
في الساعة التاسعة، كان الجنود واقفين معا في الميدان أمام الكنيسة، ويحددون على الخريطة تلك المنازل التي فتشت. جلس الجنود يحتسون القهوة ويأكلون الخبز الطازج من المخبز. امتلأ الميدان بأهل القرية الذين خرجوا كي يتأكدوا بأنفسهم. اعتقد البعض أن الخلاص قد أتى، وآخرون هزوا رءوسهم وتراجعوا ارتيابا من تدبير خدعة أخرى. كان هناك حشد من الأطفال يلعبون في المكان ويكونون صداقات مع الجنود. ثمة فتاة صغيرة لها شعر أصفر مجعد ترتدي ثوبا أبيض نظيفا ألصقت نفسها بهيكس، وأخذت تأكل الشوكولاتة من جيبه. كان جيرهارت يساوم الخباز من أجل إعداد دفعة أخرى من الخبز. كانت الشمس ساطعة على غير العادة، وكل شيء بهيجا. بدا أن هذه القرية مليئة بالفتيات؛ بعضهن جميلات، وكلهن ودودات. الرجال الذين يبدو في وجوههم الإرهاق والبؤس حين بزغ الفجر عليهم عند حدود القرية، بدءوا يستعدون ويفتحون صدورهم. كانوا مغلفين بالقذارة والوحل، لكن مثلما أشار كلود إلى النقيب، فقد بدوا منتعشين في حقيقة الأمر.
فجأة سمع صوت طلقة غطى على صوت الثرثرة، ثم صرخت امرأة عجوز ترتدي قلنسوة بيضاء، وتعثرت على الرصيف، وراحت تتدحرج وهي تركل بكلتا يديها وقدميها على نحو غير ملائم. سمع صوت فرقعة أخرى، اندفعت الفتاة الصغيرة التي كانت تقف بجانب هيكس وتأكل الشوكولاتة، وركضت بضع خطوات ثم وقعت، وأخذ دمها ودماغها ينضحان من بين شعرها الأصفر. بدأ الناس يصرخون ويركضون. نظر الأمريكيون هنا وهناك في استعداد للتحرك بسرعة، لكنهم لم يعرفوا إلى أين يذهبون. دوت طلقة أخرى، وسقط النقيب ماكسي على إحدى ركبتيه، واحمر وجهه من الغضب، ولم يكد ينهض حتى سقط مرة أخرى؛ أصبح لونه شاحبا، وتحولت ساق سرواله إلى اللون الأحمر.
صاح هيكس وهو يشير بيده: «هناك، على اليسار!» صاروا يرون الآن. ثمة دخان كان يخرج من منزل مغلق يقع على مسافة قريبة في شارع يتفرع من الميدان. علق الدخان أمام إحدى النوافذ بالطابق العلوي. سحب الحارس النقيب وأدخله إلى حانة. ركض كلود وديفيد ومن خلفهما الجنود إلى الشارع واقتحموا الباب. جال الضابطان بين غرف الطابق الأول، وتقدم هيكس ومن معه مباشرة إلى سلم مسيج في الجزء الخلفي من المنزل. حين وصلوا إلى بداية الدرج، قوبلوا بوابل من طلقات البنادق، وسقط رجلان منهم. كان أربعة ألمان يتمركزون على رأس الدرج.
لم يعرف الأمريكيون إن كانت رصاصاتهم هي التي طالت الألمان أولا أم حرابهم؛ لم يكونوا واعين بصعودهم إلى الأعلى حتى صاروا هناك. عندما وصل كلود وديفيد إلى بسطة الدرج، وجدوا أفراد الفرقة يمسحون حرابهم وأربع جثث رمادية متكومة في الركن.
ركض بيرت فولر وديل آبل عبر الممر الضيق، واقتحما غرفة تطل على الشارع. دوت رصاصتان، وعاد ديل بفك مهشم ودم ينبثق من جانب رقبته الأيسر. أمسكه جيرهارت وحاول أن يسد الشريان بأصابعه.
نادى كلود: «كم عددهم هناك يا بيرت؟» «لم أر. انتبه يا سيدي! لا يمكنكم عبور الباب بأكثر من رجلين في المرة!»
كان الباب لا يزال مفتوحا في نهاية الطرقة. نزل كلود الدرج حتى تمكن من رؤية أرضية الممر حتى الغرفة الأمامية. كانت مصاريع النوافذ مغلقة، وتسللت أشعة الشمس من بين الألواح. في وسط الأرضية بين الباب والنوافذ، وقفت خزانة أدراج طويلة، ولها مرآة مثبتة على قمتها. في المساحة الضيقة بين الجزء السفلي من قطعة الأثاث تلك والأرض، استطاع أن يرى زوجين من الأحذية. ربما لا يوجد في الغرفة أكثر من رجل يطلق الرصاص من خلف حصنه المتحرك، لكن ربما كان هناك آخرون أيضا مختبئون في الأركان. «أعتقد أنه لا يوجد سوى شخص واحد في الغرفة. إنه يطلق النار من خلف خزانة كبيرة في وسط الغرفة. فليأت أحدكم، علينا أن ندخل وننال منه.»
تقدم ويلي كاتز، الفتى النمساوي الذي كان يعمل بشركة التعبئة في أوماها، ووقف بجانبه. «الآن يا ويلي، سيدخل كلانا في الوقت ذاته؛ ستقفز أنت جهة اليمين، وسأقفز أنا جهة اليسار، وسيطعنه أحدنا. لا يمكنه إطلاق النار في اتجاهين في وقت واحد. هل أنت مستعد؟ حسنا، هيا!»
ظن كلود أنه اتخذ الموضع الأخطر لنفسه، لكن الألماني قد خمن على الأرجح أن الرجل المهم سيكون على اليمين. حين اندفع الأمريكيان من الباب، أطلق النار. طعنه كلود في ظهره بالحربة أسفل لوح الكتف، لكن ويلي كاتز أصيب برصاصة في رأسه دخلت من إحدى عينيه الزرقاوين. سقط جثة هامدة. أطلق الجندي الألماني الرصاص مرة أخرى وهو يخر ويصيح بلغة إنجليزية لا تتخللها لكنة أجنبية: «أيها الحقير، عد إلى شيكاجو!» ثم بدأ يختنق بالدم.
ركض الرقيب هيكس وأطلق الرصاص على الرجل المحتضر في صدغيه. لم يوقفه أحد.
كان الجندي طويلا، ويحمل العديد من الميداليات والأوسمة؛ لا بد أنه كان وسيما للغاية. كانت ملابسه ويداه بيضاء وكأنما كان ذاهبا إلى حفل راقص. وجدوا على الخزانة مبارد ومعجونا وأدوات تلميع كان يستخدمها للحفاظ على أظفاره وردية وناعمة. كان يرتدي في إصبعه الخنصر خاتما به ياقوتة جميلة. خلعه بيرت فولر وقدمه إلى كلود. هز رأسه. تلك الجملة الإنجليزية قد أوهنت ثقته وعزيمته. قدم بيرت الخاتم إلى هيكس، لكن الرقيب رمى مسدسه وانفجر قائلا: «أتظن أني سألمس أي شيء يخصه؟ تلك الفتاة الصغيرة الجميلة وقد لاقى صديقي ما هو أسوأ من الموت؛ لاقى ديل ما هو أسوأ من الموت!» أدار ظهره لرفاقه حتى لا يروه وهو يبكي.
سأل بيرت: «هل يمكنني الاحتفاظ به لنفسي يا سيدي؟»
أومأ كلود. دخل ديفيد وأخذ يفتح النوافذ. كان كلود يفكر في أن ذلك الضابط مختلف تمام الاختلاف عن السجناء البؤساء الذين كانوا يغترفونهم من الأقبية مثل الشراغف. وجد أحد الرجال ثوبا حريريا رائعا على السرير، وأشار آخر إلى حقيبة لأدوات الزينة مليئة بالمشغولات الفضية المطرقة. قال جيرهارت إنها فضيات روسية؛ لا بد إذن أن هذا الرجل قد أتى من على الجبهة الشرقية. راح بيرت فولر ونيفتي جونز يفتشان جيوب الضابط. شاهدهما كلود وعلم أنهما يقومان بالعمل المناسب. لم يلمسا الميداليات، أما علبة السجائر الذهبية والساعة البلاتينية التي لا تزال تدق في رسغه، فلم يعد بحاجة إليهما. حول رقبته سلسلة رقيقة تتدلى منها علبة صغيرة وبداخلها صورة، لم تكن الصورة لامرأة جميلة مثلما كانت آمال بيرت الرومانسية، بل صورة شاب ذي بشرة بيضاء مثل الثلج، وله عينان زرقاوان باهتتان.
اطلع عليها كلود وقال: «يبدو أنه شاعر أو شيء من هذا القبيل. ربما أخ صغير قتل في بداية الحرب.»
أخذها جيرهارت، ونظر إليها نظرة ازدراء: «ربما. فلتدعه يحتفظ بها يا بيرت.» ربت على كتف كلود كي ينبهه إلى أعمال الترصيع الموجودة على يد مسدس الضابط.
لاحظ كلود أن ديفيد ينظر إليه كأنه مسرور به للغاية، وكأنما قد حدث شيء مبهج في هذه الغرفة التي يشهد الرب أن شيئا مبهجا لم يحدث بها، والتي رأوا فيها حين استداروا سربا من الذباب الأسود يحوم شرها ومبتهجا بالبقع التي خلفتها جثة ويلي كاتز على الأرض. كثيرا ما لاحظ كلود أنه حين كانت تراود ديفيد فكرة مثيرة للاهتمام أو توخزه ذاكرته بقوة، فإن ذلك يجعله قاسيا للحظة. والآن شعر أن معنويات جيرهارت العالية كانت مرتبطة به على نحو ما. أكان هذا لأنه دخل مع ويلي؟ أكان ديفيد يشك في شجاعته؟
17
حين يصير الناجون من السرية «بي» كبارا في السن، ويتحاكون عن أيامهم السعيدة، سيقول بعضهم لبعض: «يا له من أسبوع ذلك الذي قضيناه في بوفورت!» سيغمضون أعينهم ويرون قرية صغيرة تقع عند حافة جبلية لا ترى من بين الغابة؛ إذ غطتها أشجار البلوط والكستناء والجوز الأسود، وتكنفتها أجواء الخريف؛ فالشوارع مغطاة بأوراق الأشجار، وثمة أغصان كبيرة تتشابك فوق أسطح المنازل، وآبار المياه الباردة يتخللها مذاق الطحالب وجذوع الأشجار. في تلك الشوارع، سيرون أشخاصا يسيرون جيئة وذهابا؛ سيرون أنفسهم شبابا بأجسام رشيقة قد اكتسوا باللون البني، وسيرون رفاقهم الذين ماتوا منذ زمن بعيد لكنهم لا يزالون على قيد الحياة في تلك القرية البعيدة. كم يتمنون لو أنهم يمشون ثانية على مدار الليالي والأيام في الوحل والمطر، وأن يجروا أقدامهم المتقرحة إلى تلك المساكن القديمة في بوفورت! كم يتمنون النوم في تلك الأسرة العريضة ذات المراتب المحشوة بالريش على مدار اليوم بأكمله، بينما النساء العجائز يغسلن ثيابهم ويجففنها لهم، وأن يأكلوا حساء الأرانب والبطاطس المقلية في الحديقة؛ ذلك الحساء المطهو بالنبيذ الأحمر والكستناء. آه، تلك الأيام التي خلت!
فور أن شرع النقيب ماكسي والجرحى في رحلة العودة إلى المؤخرة يحملهم فيها السجناء، استعدت السرية بكاملها للنوم، ونامت لمدة اثنتي عشرة ساعة، نام الجميع ما عدا الرقيب هيكس الذي جلس في المنزل الواقع في الشارع المتفرع من الميدان بجانب جثة صديقه.
في اليوم التالي، استعاد الأمريكيون نشاطهم كأنهم خلقوا لتوهم من جديد في عالم جديد. استعاد أهل البلدة أيضا نشاطهم ... أحسوا بالبهجة والتغيير؛ فأخيرا قد وجدوا ما يتطلعون إليه! فثمة علم جديد مرصع صار يرفرف في الميدان بجوار علمهم الثلاثي الألوان. عند غروب الشمس، اصطف الجنود خلفه، وتغنوا بالنشيد الوطني «ذا ستار سبرانجيلد بانر» («الراية الموشحة بالنجوم») وهم حاسرو الرءوس. وقف كبار السن يشاهدونهم من مداخل الأبواب. كان الأمريكيون هم أول من تغنى بالأغنية الوطنية الفرنسية «لا مادلون» في بوفورت. إن حقيقة عدم سماع القرية بهذا النشيد مطلقا، وتحلق الأطفال حول الجنود يتوسلون إليهم بأن يغنوه مجددا، فيطلبون بالفرنسية: «هلا غنيتم مادلون!» قد جعلت الجنود يدركون مدى الانعزال الشديد الذي اختبره أهل هذه البلدة. كان الاحتلال الألماني بمثابة حاجز من الصمم لم يخترقه سوى أناشيدهم العسكرية المتغطرسة.
قبل أن يغادر كلود السرير بعد أول مدة نوم طويلة، وصل رسول من العقيد سكوت يخبره أنه قائد السرية لحين صدور تعليمات أخرى. دفن الألمان قتيلهم وحفروا مقابر للأمريكان قبل أن يرسلوا إلى المؤخرة. أقام كلود وديفيد على أطراف البلدة مع السيدة التي قدمت للنقيب ماكسي أول معلومات حين دخلوا عليها بيتها صباح أمس. حين كانا يتناولان إفطارهما في الضحى، أخبرتهما صاحبة البيت أن العجوز التي أصيبت بالرصاص في الميدان والفتاة الصغيرة ستدفنان بعد ظهر اليوم. قرر كلود أنه يمكن إقامة جنازة الأمريكيين أيضا في الوقت نفسه. فكر أنه يمكن أن يطلب من القس تلاوة بعض الصلوات على المقابر؛ ومن ثم انطلق هو وديفيد تحت أشعة شمس الخريف البراقة وحفيف أوراق الأشجار للعثور على بيت القس. كان يقع في الكنيسة التالية التي توجد خلفها حديقة عالية الأسوار. فوق الجرس الموضوع على الجدار الخارجي، وجدا بطاقة مكتوبا عليها «اسحب بقوة».
خرج القس بنفسه إليهما؛ رجل عجوز يبدو عليه الوهن كجرس بابه. وقف متشحا بقلنسوته السوداء وقد وضع يديه على صدره كي لا يصافحهما، بدا طاعنا في السن بالفعل، وكسيرا يائسا، وكأنه سئم هذا العالم وهجره. لم ير كلود في فرنسا وجها حزينا كوجه هذا الرجل. نعم، سيتلو الصلوات. الأفضل أن يدفنوا حسب التعاليم المسيحية؛ ويا لهم من بؤساء سيدفنون بعيدا جدا عن أوطانهم! سأله ديفيد إن كان الحكم الألماني قد مارس القمع الشديد ضدهم أم لا، ولكن العجوز لم يعطه إجابة واضحة، وبدأت يداه ترتجفان بشدة من فوق ثيابه؛ مما دفعهما إلى الابتعاد كي لا يحرجاه.
قال كلود: «يبدو أنه مشوش الذهن قليلا، ألا تعتقد ذلك؟» «أعتقد أن الحرب أنهكت قواه. كيف يحتفل بالقداس ويداه ترتجفان بهذه الشدة؟» حين عبرا درج الكنيسة، لمس ديفيد ذراع كلود وأشار إلى الميدان. «انظر، أصبح لكل جندي من المشاة فتاة بالفعل! يتباهى بعضهم بقبعات العمل غير العسكري! ظننت أنهم تخلصوا منها جميعا!»
ومن لم يرتدوا قبعاتهم، وقفوا ممسكين بخوذاتهم تحت الإبط في تودد كبير، وراحوا يتحدثون إلى الفتيات اللاتي بدا أن لديهن جميعا مهام يقضينها بالخارج. بعضهن سمح للجنود بأن يحملوا سلالهن. وكان أحد الجنود يحمل فتاة صغيرة على ظهره، وقد بدا عليها السرور لذلك.
بعد الجنازة، وجد كل جندي في السرية امرأة متعاطفة كي يتحدث إليها عن رفاقه الذين فقدهم. حملت جميع زهور الحدائق الموجودة في بوفورت وأكاليل الورد، ونثرت على قبور الأمريكيين. عندما أطلقت الفرقة الرصاص تشييعا لهم وانطلقت الأبواق، انتحبت الفتيات وأمهاتهن. ما كان لويلي كاتز المسكين مثلا أن يحظى بجنازة مثل هذه في جنوب أوماها.
في الليلة التالية، بدأ الجنود يعلمون الفتيات الرقص على أغنية «با سل» وأغنية «فوس ترو». كانوا قد عثروا على كمان قديم في البلدة، وراح أوسكار السويدي يعزف عليه. كانوا يرقصون كل ليلة. رأى كلود أن هناك الكثير يجري أمامه، فألقى على رجاله محاضرة في الموكب العسكري. لكنه أدرك أن توبيخ العصافير قد يكون أولى. فهذه القرية يقطنها عدة مئات من النساء، ولا أزواج إلا للجدات. جميع الرجال كانوا في الجيش، ولم يأخذوا حتى عطلة يعودون فيها إلى منازلهم منذ أن استولى الألمان على القرية. حجبت الفتيات لمدة أربع سنوات مع شباب يرغبوهن باستمرار، وكان عليهن أن يخدعنهم على الدوام. كان الوضع لا يطاق، وقد دام مدة طويلة. وجد الأمريكيون أنفسهم في موقف آدم في جنة عدن.
قال بيرت فولر لاهثا حين لحق كلود في الشرع بعد العرض العسكري: «أتعلم يا سيدي، اضطر هؤلاء الفتيات الجميلات أن يخرجن إلى الحقول ويعملن فيها ويربين الحيوانات من أجل أن يأكل هؤلاء الخنازير القذرة؟ نعم يا سيدي، اضطررن إلى العمل في الحقول تحت رقابة الألمان؛ إذ كانوا يسوقوهن في الصباح ويعودون بهن في المساء مثل المجرمين! لا شك أن علينا الآن أن نمنحهن وقتا طيبا.»
لم يكن المرء يقضي إحدى الأمسيات دون أن يقابل أزواجا من الفتية والفتيات يتسكعون في الشوارع والحواري المظلمة. فقد الفتية كل خجلهم من محاولة التحدث بالفرنسية. قالوا إنه يمكنهم العيش في فرنسا باستخدام ثلاث كلمات فقط، وكلها لحسن الحظ من المصادر، وهي:
manger
بمعنى الأكل، و
aimer
بمعنى الحب، و
payer
بمعنى الدفع، وهذه الكلمات كافية تماما. أطلقوا على بلدة بوفورت «بلدتنا»، وأطلق عليهم «أهلنا الأمريكيون». كانوا ينوون العودة بعد الحرب، والزواج من الفتيات، وإقامة محطات المياه! «تفضل لدي يا سيدي!» نادى بيل جيتس على كلود وحياه بيده الملطخة بدم الأرنب الذي يسلخه أمام باب مسكنه. ازدادت ضحايا الأرانب في البلدة هذا الأسبوع!»
قال ديفيد لكلود ذات صباح بينما كانا يحلقان: «أتعلم يا ويلر، أعتقد أن ماكسي سيعود إلى هنا بأسرع ما يمكن إذا علم عن هذه الرحلات في الغابة بحثا عن عيش الغراب.» «ربما.» «ألن توقفهم؟» «كلا!» أجاب كلود بسرعة وهو يهندم جانبي فمه بوجه عابس. «إذا تقدمت الفتيات أو أهلهن إلي بالشكوى فسأتدخل. لكني لن أفعل شيئا فيما عدا ذلك. لقد فكرت في الأمر جيدا .»
ضحك ديفيد بهدوء، قال: «أجل، الفتيات ... حسنا، من الجيد أن الجنود يعجبهم مذاق عيش الغراب. إنه لا يوجد في وطنهم، أليس كذلك؟»
بعد ثمانية أيام، أتت التعليمات للأمريكان بالمسير، وعندها خيم الحزن على كل منزل. في آخر ليلة لهم في البلدة، تلقى الجنود دعوات ملحة على حفل راقص في الميدان. شاركهم كلود بضع لحظات ثم جلس مشاهدا. رقص ديفيد كل الرقصات، لكن هيكس لم ير في أي مكان. لم يشارك المسكين في أي شيء. ذهب كلود إلى الكنيسة ليرى ما إن كان يجلس مبتئسا في المقبرة أم لا.
بينما كان كلود يتمشى هناك، توقف كي ينظر إلى قبر يقف منعزلا خلف سياج من تمر حنة ذابل الأوراق، وعليه علم صغير لفرنسا. كانت المرأة العجوز التي أقاما معها قد أخبرتهما بقصة هذا القبر.
إنه قبر ابنة أخي القس. كانت أجمل فتاة في بوفورت، على ما يبدو، وجمعتها علاقة حب بضابط ألماني، وجلبت العار على البلدة. كان شابا من بافاريا، ومكث مع المرأة العجوز ذاتها التي حكت القصة، وقالت إنه كان فتى لطيفا ووسيما ورقيقا اعتاد أن يقضي نصف الليل مستيقظا في الحديقة ورأسه بين يديه يعاني من الحنين إلى وطنه ولوعة الحب. قالت المرأة العجوز إنه لم يبرح السعي وراء ماري لويس، لم يلح عليها قط لكنه ظل هناك، يظهر دوما أمامها حيث تكون. كانت الفتاة تكره الألمان مثل البقية، فازدرته. أرسل إلى جبهة القتال. وعاد بعد ذلك مريضا وقد أوشك على أن يصبح أصم بعد إحدى المجازر التي وقعت في فردان، ومكث مدة طويلة. في ذلك الربيع، انتشرت قصة أن امرأة قابلته ليلا في المقبرة الألمانية. كان الألمان قد استولوا على قطعة الأرض الواقعة خلف الكنيسة كي يقيموا عليها مقبرتهم، وتلك الأرض متاخمة لسور حديقة القس. عندما كانت النساء يخرجن إلى الحقول من أجل زراعة المحاصيل، كانت ماري لويس أن تنسل من بينهن وتقابل ضابطها البافاري في الغابة. كانت الفتيات قد تثبتن حينذاك من فعلتها تلك؛ فعاملنها بازدراء. لكن أيا منهن لم تجرؤ على قول أي شيء للقس. وفي أحد الأيام، عندما كانت مع الضابط الألماني في الغابة، اختطفت مسدسه من الأرض وأطلقت الرصاص على نفسها. قالت صاحبة البيت إنها كانت امرأة فرنسية من صميم قلبها.
توجه كلود بالسؤال إلى ديفيد في وقت لاحق: «وماذا عن الضابط الألماني؟» ذلك أن القصة قد صارت معقدة للغاية حتى إنه لم يستطع تتبعها. «أقر فعلتها على الفور. أخذ المسدس ذاته، وأطلق الرصاص على نفسه في صدغيه. سمع خادمه الذي كان يقف على طرف الغابة لمراقبة المكان الرصاصة الأولى وجرى تجاههما. رأى الضابط يأخذ المسدس الذي كان الدخان يخرج من فوهته ويصوبه على نفسه. لم يصدق القائد أن أحدا من ضباطه كان يكن كل تلك المشاعر. أجرى تحقيقا، وجر والدة الفتاة وخالها إلى المحكمة، وحاول أن يثبت أنهما تآمرا معها لإغراء الضابط الألماني وقتله. استجوب الخادم كي يقص القصة بكاملها عن كيفية بدء المقابلات بينهما ومكانها. على الرغم من عدم دقة التفاصيل التي سردها، فإنه لم يتزحزح عن شهادته بأنه رأى الملازم مولر يطلق النار على نفسه بيده، ولم يتمكن القائد من إثبات التهمة عليهما. لم يعرف القس العجوز أي شيء عن القصة حتى سمعها تنتشر في أرجاء المحكمة العسكرية. كانت ماري لويس تعيش في بيته منذ أن كانت طفلة، وكانت بمثابة ابنته. أصيب بسكتة دماغية أو شيء من هذا القبيل، وأصبح من حينها على تلك الحال. أصدقاء الفتاة سامحنها، وعندما دفنت وحدها بجانب السياج، بدأن يأخذن الزهور إلى قبرها. وضع القائد إعلانا على السياج يمنع أي أحد من تزيين قبرها. يبدو أنه لم يحدث في وقت الاحتلال الألماني ما يثير المشاعر أكثر من حكاية المسكينة ماري لويس.»
كان كلود يفكر أنها تثير مشاعر أي أحد. فها هو قبرها الصغير يقبع وحيدا ويظلله سياج الشجيرات. في نهاية حديقة القس، قبعت المقبرة الألمانية بصلبانها الأسمنتية الثقيلة التي حمل بعضها نقوشا طويلة لأبيات من شعرائهم ومقاطع من تراتيل قديمة. ربما كان قبر الملازم مولر في مكان ما في تلك المقبرة. غريب أن قصتهما برزت في عالم غارق في المعاناة. تلك مأساة لم يحدث أن فكر فيها من قبل، لكنها تكررت لا بد مرات ومرات في تلك البقعة المحتلة. لن ينسى أبدا يدي القس وعينيه الناطقتين بالوهن والمعاناة.
رأى كلود ديفيد يعبر الطريق من أمام الكنيسة، فعاد كي يقابله. «مرحبا! ظننت أنك هيكس في البداية. ظننت أنه سيكون هنا.» جلس ديفيد على الدرج وأشعل سيجارة. «وأنا أيضا، أتيت بحثا عنه.» «حسنا، أعتقد أنه وجد كتفا يبكي عليها. أتدرك يا كلود أنه لا يوجد غيرنا في السرية لم يخطب من قبل؟ بعض المتزوجين خطبوا مرتين. من الجيد أننا ننسحب، وإلا فقد كنا سنجد أمامنا إعلانات زواج وحفلات تعميد علينا أن نعتني بها.» تمتم كلود: «على أي حال، تعجبني نساء هذا البلد بقدر ما رأيت منهن.» بينما جلسا يدخنان في صمت، عاد عقله إلى المشهد الهادئ الذي شاهده على درج تلك الكنيسة الأخرى في أول ليلة له في فرنسا؛ تلك الفتاة القروية في ضوء القمر تنحني على جنديها المريض.
عندما سارا مرة أخرى إلى الميدان فوق الأوراق الذابلة، وجدا حفل الرقص بدأ ينتهي. كان أوسكار يعزف لحن «الوطن، ما أحلى الوطن!» لرقصة الفالس الأخيرة.
قال ديفيد: «القبلة الأخيرة. حسنا، سنغادر غدا، ومن غير المرجح أن نعود إلى هنا.»
18
عندما جلس الجنود على جانب الطريق لأكل بسكويت جاف وقت الظهيرة، تذمروا قائلين: «إما أن نجد وليمة أو نقع في مجاعة.» قطعوا ثمانية عشر ميلا ذلك الصباح، وكان لا يزال أمامهم سبعة أميال أخرى. أتتهم التعليمات بقطع الخمسة والعشرين ميلا في ثماني ساعات. لم يسقط منهم أحد حتى الآن، لكن بعضهم بدا عليه الإنهاك الشديد. قال نيفتي جونز إنه يوشك على الموت. كان الرقيب هيكس يحاجج أصحاب القلوب الضعيفة. كان يعرف أنه إذا سقط رجل، فسيتبعه عشرة. «ما دمت أستطيع فأنت تستطيع. الأمر أصعب على رجل سمين مثلي. ليست تلك بالمسيرة التي تتذمر بشأنها. ويحي، لقد تحدثت في أراس إلى جندي بريطاني صغير من كتائب الزملاء تلك التي تعرضت لمجزرة في سوم. زحفت كتيبته خمسة وعشرين ميلا في ست ساعات في حرارة شهر يوليو ليلقوا حتفهم. كانوا جميعا لا يزالون طلابا بالمدارس، ولا يزيد طول الواحد منهم عن خمس أقدام وثلاث بوصات، حتى إنهم لقبوا ب «الأقزام». عليكم الإشادة بهم أيها الرفاق.»
تمتم جونز وهو يداوي قدميه المتقرحتين: «سأشيد بأي شخص على أي شيء، لكني لا أستطيع مواصلة المشي على قدمي هاتين.» «حسنا أنت! سنحملك على الحصان الوحيد في السرية. أما الضباط فيمكنهم السير!»
عندما وصلوا إلى حدود الكتيبة، وجدوا طعاما جاهزا من أجلهم، لكن لم يرده سوى قلة منهم. شربوا واستلقوا بين الشجيرات. ذهب كلود من فوره إلى مقر القيادة، ووجد باركلي أوينز، من سلاح المهندسين، يجلس مع العقيد الذي كان يدخن ويدرس خرائطه كالمعتاد. «سررت برؤيتك يا ويلر. يجدر برجالك أن يكونوا في حال جيدة بعد الاستراحة لمدة أسبوع. دعهم يناموا الآن. سيكون علينا التحرك من هنا قبل منتصف الليل لمساعدة اثنتين من كتائب تكساس في خندق مولتك. استولى الجنود على الخندق بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة في الأرواح وهم منهكون تماما؛ فلن يستطيعوا الصمود إذا شن العدو هجمة مضادة. وتلك نقطة مهمة سيحاول العدو استردادها. أريد أن أصل إلى الموقع قبل طلوع الفجر؛ كي لا يعرف العدو بقدوم قوات جديدة. بصفتك الضابط الأعلى رتبة، فأنت المسئول عن السرية.» «حسنا يا سيدي. سأبذل قصارى جهدي.» «أنا متأكد من ذلك. سيذهب معنا فريقان من المدفعية الثقيلة، وستأتي في الغد إحدى كتائب ميزوري لدعمنا. كنت أنوي إبقاءك هنا من قبل، لكني لم أتلق التعليمات بالمساعدة سوى أمس. ربما نحتاج إلى التقدم تحت نيران القذائف. ظل العدو يضع الكثير من الأشياء الكبيرة هناك؛ يريد أن يعزل ذلك الخندق.»
دخل كلود وديفيد إلى حفرة أحدثتها إحدى القذائف مؤخرا تحت الأجمة نصف المحترقة، وناما. استيقظا في الغسق على صوت نيران مدفعية ثقيلة قادم من جهة الشمال.
في الساعة العاشرة، بدأت الكتيبة، بعد تناول وجبة ساخنة، في الزحف عبر أرض وعرة للغاية. لا بد أن المدافع ظلت تدك الطريق من المدى ذاته مدة طويلة؛ إذ بدت الأرض كأنها عجنت حتى أصبحت لينة مثل العجين على الرغم من عدم سقوط المطر لمدة أسبوع. كان باركلي أوينز وفريقه من المهندسين يصنعون طريقا من الألواح تسهيلا لعبور الطعام والذخائر. كانت القذائف الكبيرة تنطلق على فترات من اثنتي عشرة دقيقة. وكانت هذه الفواصل الزمنية منتظمة للغاية، حتى إنهم تمكنوا من التقدم من دون التعرض لضرر. بينما كانت السرية «بي» تتقدم في منطقة القذائف، لحق بهم العقيد سكوت وهو يسير على قدميه، وخادمه يسحب حصانه.
سأل: «أتعرف أي شيء عن ذلك الضوء الذي تراه هناك يا ويلر؟ حسنا، لا ينبغي أن يوجد هناك. تعال وانظر.»
لم يكن مصدر الضوء سوى رأس عود ثقاب في الأرض، ولم ينتبه له كلود من قبل. تبع العقيد، وعندما وصلا إلى مصدر الشرارة وجدا ثلاثة جنود من السرية «إيه» رابضين في إحدى حفر القذائف، وتغطيهم بها قطعة من لوح حديدي.
نادى العقيد بحدة: «أطفئوا النار. ما الأمر أيها النقيب بريس؟»
نهض شاب بسرعة. «إننا بانتظار الماء يا سيدي. إنها آتية على البغال في صناديق النفط، ولا أريد الافتراق عنها. الأرض وعرة هنا، وربما يضل السائقون الطريق.» «لا تنتظر أكثر من عشرين دقيقة. يجب أن تنهض وتأخذ موقعك في الوقت المناسب، هذا هو المهم سواء وجدت المياه أو لم توجد.»
بينما كان العقيد وكلود يسرعان في العودة للحاق بالسرية، دوت خمس قذائف فوقهما في تتابع سريع. صاح الخادم: «أسرع يا سيدي. إنهم يقتربون من مكاننا، وقصروا مدى القذف.»
تمتم العقيد: «كان ذلك الضوء كافيا لأن يدلهم على مكاننا.»
استمرت وعورة الأرض لميل آخر تقريبا، ثم وصلوا إلى مقر القيادة خلف الخندق الثامن من نظام الخنادق الكبير. كان مقر القيادة منزل مزرعة قديما عززه الألمان بالخرسانة المسلحة، وطلوه من الداخل والخارج حتى بلغ سمك الجدران ست أقدام، وصارت مضادة للقذائف بدرجة كبيرة مثل حصن صغير. أرسل العقيد خادمه كي يسأل عن السرية «إيه». أتى ملازم شاب إلى باب منزل المزرعة. «السرية جاهزة لاتخاذ موقعها يا سيدي. أحضرت الجنود.» «أين النقيب بريس أيها الملازم؟» «قتل ومعه كل من ملازمينا الأوائل أيها العقيد. قتلوا في تلك الحفرة. سقطت قذيفة عليهم بعد أقل من خمس دقائق من حديثك معهم.» «هذا مؤسف. هل توجد أي خسائر أخرى؟» «نعم يا سيدي. ضربت عربة طهي في الوقت ذاته؛ إنها العربة الأولى القادمة على طريق جولياس سيزار الجديد. قتل السائق واضطررنا إلى إطلاق الرصاص على الخيول. كاد النقيب أوينز أن يحرق بالحساء.»
نادى العقيد على الضباط واحدا تلو الآخر، وتناقش معهم بشأن مواقعهم.
عندما أتى الدور على كلود، قال: «ويلر، هل تعرف الخريطة؟ لاحظت تلك الحلقة الحادة في الخندق الأمامي في النقطة «إتش 2»، أعتقد أنهم يسمونها «رأس الخنزير». إنها أشبه برأس حربة تمتد تجاه خطوط العدو، وستكون نقطة يصعب الحفاظ عليها. فهل تعتقد أنه يمكنك الاعتماد على كتيبتك في حال حدوث هجوم مضاد إذا وضعتهم فيها؟»
قال كلود إنه يعتقد ذلك. «إنها أصعب نقطة على خط المواجهة، ويمكنك أن تخبر رجالك بأني أثني عليهم عندما أضعهم في تلك النقطة.» «حسنا يا سيدي. سيقدرون ذلك.»
قطع العقيد عقب سيجار جديدا. «ذلك أفضل لو تعلمون! إن تركوا مجالا لدخول مدافع الألمان، فسيسقط خط المواجهة بالكامل. سأعطيك فريقين من المدفعية الجورجية الآلية لتضعهما في تلك النقطة التي يسمونها «أنف الخنزير». عندما تصل كتائب ميزوري في الغد فسيأتون دعما لك، لكن حتى ذلك الحين فعليكم أن تحرسوا تلك النقطة بأنفسكم. لدي عدد كبير من الخنادق التي ينبغي الحفاظ عليها، ولا أستطيع أن أمنحك مزيدا من الجنود.»
كان جنود تكساس الذين أتت الكتيبة لمساعدتهم يقتاتون منذ ستين ساعة على جرايات الطوارئ وعلى ما يمكن أن يجدوه مع قتلى الألمان. نسفت مؤنهم في الطريق، ولم يصل إليهم أي شيء. عندما اصطحب العقيد كلود وجيرهارت لتفقد الحلقة التي ستتمركز فيها السرية «بي»، وجدوا مكانا أشبه بمقلب نفايات منه بالخندق. لم يقو الرجال الذين اتخذوا المواقع على الوقوف. قتل جميع ضباطهم، وتولى القيادة أحد الرقباء. قدم الرقيب اعتذاره بشأن وضع الحلقة. «أعتذر عن ترك تلك الفوضى لكم كي تنظفوها يا سيدي، لكننا في وضع سيئ هنا. العدو يقصفنا كل ليلة منذ أن أخرجناه من المنطقة. لم يسعني أن أطلب شيئا من الجنود سوى الصمود.» «حسن إذن. لقد تغلبت عليه بسرعة بفضل جنودك! سيقدم لك رجالي بعض الطعام وأنت عائد.»
مر بهم أفراد فريق الدفاع عن «رأس الخنزير» المنهكين يتعثرون في الظلام متجهين إلى خنادق عمليات الاتصال. وعندما خرج آخر جندي منهم، أرسل العقيد إلى باركلي أوينز. حاول كلود وديفيد أن يتلمسا طريقهما ويتعرفا على حالة المكان. كانت رائحة المكان هي أقذر ما اشتماه حتى الآن، لكن الحشرات الطائرة كانت أكثر إثارة للتقزز منها؛ فحين لمسا جثة عن غير قصد، تطايرت سحب من الذباب الرطب الطنان في وجوههما، ودخل في عيونهما وأنفيهما. وتحت أقدامهما، كانت الأرض كأنها أفاع عاصرة تتلوى من تحتهما بأجسامها الناعمة وقد غطاها ساتر خفيف. عندما وصلا إلى منطقة «الأنف»، وجدا كومة من الجثث، ربما اثتني عشرة أو أكثر، ملقاة إحداها فوق الأخرى كأجولة الدقيق، ويصعب تمييزها في الظلام. بينما وقف الضابطان في ذلك المكان، بدأ يصدر من تلك الكومة أصوات قرقرة وارتشاح، سمعت من جثة واحدة في البداية ثم من أخرى؛ كانت تلك أصوات الغازات والانتفاخ في أحشاء هذه الجثث الآخذة في الميوعة. بدا أنهم كانوا يتذمرون بعضهم إلى بعض بهذه الأصوات.
عاد الشابان إلى العقيد الذي كان واقفا عند مدخل خندق الاتصالات، وأخبراه أنه لا توجد معلومات كثيرة يمكن إبلاغها، باستثناء الحاجة الشديدة إلى فرقة الدفن.
هز العقيد رأسه وقال: «توقعت ذلك!» عندما وصل باركلي أوينز، سأله عما يمكن فعله قبل أن يطلع الفجر. تلمس مهندس المشاة طريقه مثلما فعل كلود وجيرهارت من قبل؛ سمعاه يسعل ويهش الذباب. غير أنه حين عاد كانت البهجة بادية على وجهه أكثر من الإحباط.
أعلن قائلا: «أعطني عصابة من الجنود لإخراج القتلى ، وسأصلح هذه الحلقة بكمية كبيرة من الجير الحي والخرسانة في غضون أربع ساعات.» «لدينا كمية كبيرة من الجير، ولكن من أين نأتي بالخرسانة؟» «ترك الألمان نحو خمسين جوالا في القبو تحت مقر القيادة. يمكنني أن أنجز عملا أفضل بالطبع إذا حظيت ببضع ساعات إضافية حتى تجف الخرسانة.» «فلتبدأ أيها النقيب.» أخبر العقيد كلود وديفيد أن يحضرا جنودهما إلى خندق الاتصالات قبل أن يطلع النهار ويخبراهم بالاستعداد. «امنحوا أوينز الوقت كي ينتهي من الخرسانة، لكن تيقظوا ولا يباغتكم العدو.»
بدأ القصف مرة أخرى عند مطلع الفجر، وكان أعنف على الخنادق الخلفية والأميال الثلاثة التي تقع وراءها. من الجلي أن العدو كان متيقنا من الهدف الذي حظي به في خندق مولتك، فأراد قطع الإمدادات والتعزيزات المحتملة. لم تصل كتيبة ميزوري ذلك اليوم، لكن رسولا قد وصل من عقيدها قبل الظهر ليخبرهم بأن الكتيبة تختبئ في الغابة. ظلت خمس طائرات ألمانية تحوم فوق الغابة منذ الفجر، وترسل الإشارات إلى مقرات قيادة العدو في دوفين ريدج؛ وكانت كتيبة ميزوري واثقة من أنها لم تكتشف بسبب بقائهم بالقرب من الأجمات. سيصلون في المساء. فرجال خطوط الاتصالات كانوا يتبعون الرسول، وسيكون العقيد سكوت على اتصال هاتفي بهم في غضون نصف الساعة.
عندما وصلت السرية «بي» إلى «رأس الخنزير» في الساعة الواحدة بعد الظهر، كان يمكنهم القول بصدق إن الرائحة السائدة حينذاك كانت رائحة الجير الحي. بني المتراس متساويا، ورممت منصات إطلاق النار جزئيا، مع تجهيز مواضع جيدة للمدافع الرشاشة في منطقة «الأنف». كان لا يزال هناك تذكارات غير سارة ستكتشف إذا بحث أحد عنها. في منطقة «الأنف» وجدوا حذاء عالقا بقوة من جانب الخندق. شرح النقيب أوفنز أن الأرض تبدو جوفاء هنا، ومن المرجح أن هذا الحذاء يؤدي إلى مخبأ دفنت فيه الكثير من جثث الألمان معا. ولما كان في عجلة من أمره، رأى أنه من الأفضل عدم البحث عن المشكلات. في أحد منحنيات الحلقة فوق الجدار الأرضي مباشرة وتحت أكياس الرمل، برزت يد سوداء أصابعها الخمس متباعد بعضها عن بعض، وبدت كجذور حشائش ضارة منتفخة. قال هيكس إن هذا الشيء مقزز، وبعد الظهيرة جعل نيفتي جونز وأوسكار ينبشان بعض التراب ويضعانه في كومة فوق اليد. لكنهم تعرضوا للقصف ليلا، فتساقط التراب من فوقها.
قال جونز عندما أيقظ الرقيب: «انظر، أول شيء أراه عند انبلاج الصبح تلك الأصابع الكبيرة التي تهتز مع النسيم. إنه يريد الهواء، ذلك الوغد الألماني؛ لا يريد أن يبقى تحت التراب.»
نهض هيكس ودفن اليد مرة أخرى بنفسه، لكنه عندما أتى مع كلود من أجل التفتيش قبل الإفطار، وجد الأصابع الخمس بارزة مرة أخرى. انتفخ جبين الرقيب واحمر وجهه، وأقسم إن وجد الرجل الذي يحيك تلك الدعابات القذرة، فسيجعله يأكل تلك اليد.
أرسل العقيد في طلب كلود وجيرهارت كي يفطرا معه. كان يتحدث في الهاتف مع ضباط كتيبة ميزوري، ووافقهم على أنه ينبغي عليهم البقاء في الغابة في الوقت الحالي. ذلك أن استمرار طيران العدو فوق الغابة دليل على قلقه من القوة الحقيقية لخندق مولتك. ربما اكتشفت فرق الاستطلاع الجوي جنود تكساس وهم عائدون، وإلا فما الذي حملهم على الانتظار؟
بينما كان العقيد والضباط يتناولون الإفطار، أحضر عريف حمامتين اصطادهما عند الفجر. كانت إحداهما تحمل رسالة تحت جناحها. فرد العقيد قصاصة ورق وسلمها إلى جيرهارت. «نعم يا سيدي، إنها بالألمانية، لكنها عبارة مشفرة. إنها من أناشيد الروضة الألمانية. لا بد أن طائرات الاستطلاع أنزلت فرق كشافة عند خطوطنا الخلفية وهم يرسلون التقارير. يمكنهم بالطبع أن يعرفوا عنا أكثر مما تعرفه جنود القوات الجوية. هل تريد هذين الطائرين يا ديك؟»
ابتسم الفتى وقال: «بالطبع يا سيدي! ربما تسنح لي الفرصة وأطهوهما في وقت لاحق.»
بعد الإفطار، ذهب العقيد كي يتفقد السرية «بي» في منطقة «رأس الخنزير». سر كثيرا بالمواقع المتميزة للمدافع الرشاشة عند منطقة «الأنف». قال للجنود: «أتوقع أن تحظوا بيوم هادئ، لكني لا أعدكم بليل هادئ. عليكم أن تصمدوا في هذا المكان؛ إذا استولى الألمان على تلك الحلقة فقد نالوا منا، وأنتم تفهمون ذلك.»
مر عليهم النهار هادئا بالفعل. لعب بعض الجنود لعبة البطاقات، وقرأ أوسكار في كتابه المقدس. بدأ المساء هادئا أيضا. لكن في الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة، هب الجنود؛ إذ نبههم إنذار الغاز. استمرت قذائف الغاز تقصف فوقهم لمدة نصف الساعة بالضبط. بعد ذلك اندفعت الشظايا لا بالدوي الطنان المتواصل الذي يصدر عن القذائف الفردية، بل بدوي قذائف المدفعية الثقيلة السريعة الذي يصم الآذان. وكأن مائة عاصفة كهربائية قد استعرت في لحظة واحدة في الجو وعلى الأرض. كانت كرات النار تتدحرج في كل مكان. كان المدى بعيدا بعض الشيء عن «رأس الخنزير»، فلم يصبهم أشده، لكن على مسافة ثلاثين ياردة في الخلف تمزق كل شيء. لم يتخيل كلود أن يبقى أحد على قيد الحياة في الخطوط الخلفية. ذلك أن قذيفة واحدة قتلت ستة من رجاله في مؤخرة الحلقة، حيث كانوا يجرفون للحفاظ على خندق الاتصالات خاليا. كانت أعمال الحفر المتقنة التي قام بها النقيب أوينز تتعرض لقصف شديد.
كان كلود وجيرهارت يتشاوران عندما بدأ الدخان والظلام ينقشعان مع بصيص النور الذي يعلن عن بزوغ الفجر. هرع إليهم رسول من العقيد؛ لم تظهر كتيبة ميزوري حتى الآن، وانقطع الاتصال الهاتفي معهم. كان يخشى أن يكونوا قد ضلوا الطريق تحت القصف. «يأمرك العقيد بأن ترسل رجلين كي يحضروهم؛ رجلين يتحملان المسئولية إذا فروا مذعورين.»
عندما أعلن الرسول هذه التعليمات، نظر جيرهارت وهيكس أحدهما إلى الآخر سريعا وتطوعا بالذهاب.
تردد كلود. لم ينتظر هيكس وديفيد موافقة أخرى؛ ومن ثم ركضا في خندق الاتصالات واختفيا.
وقف كلود وسط الدخان الذي كان لونه الرمادي يزداد قتامة، وأخذ يراقبهما وفي قلبه أشد شعور باليأس قد اختبره. إن رجلا يدع صديقه المقرب وأفضل ضابط لديه أن يتخذا تلك المخاطرة، لهو رجل مرتبك لا يصلح لقيادة آخرين. فها هو يقف محتميا بينما يجري صديقاه تحت ستار من الفولاذ المشتعل باتجاه آخر مكان كانت فيه الكتيبة قبل انقطاع الاتصال بها. لو كان يعرفهم لما أضاعوا الوقت في تتبع متاهة الخنادق؛ هم على الأرجح لا يزالون في العراء حتى الآن يركضون مباشرة تحت وابل القصف من العدو، ويقفزون من فوق قمم الخنادق.
استدار كلود وعاد إلى الحلقة. حسنا، مهما حدث فقد عمل مع رجال شجعان. إن معرفة هؤلاء الرجال جعلته راضيا عن أنه قد عاش في هذا العالم. كثيرا ما كان الجنود يتوسلون إلى الإله بالنذور السرية حين يقعون في ضائقة، وها هو قد وجد نفسه يقدم هذه النذور؛ إذا أعاد الرب ديفيد فليأخذ المقابل من كلود. إنه مستعد لدفع المقابل. أيتقبل الرب منه؟
مرت ساعة. الانتظار صعب على الأعصاب. أتى عند مدخل خندق الاتصالات قطار محمل بالذخيرة والقهوة للحلقة. رأى الرجال أن مقر القيادة قد صار في وضع جيد؛ إذ يوصل إليهم طعاما ساخنا تحت وابل القصف هذا. وصلت رسالة إلى يد العقيد مفادها: «كونوا مستعدين عندما يتوقف وابل القصف.»
أخذ كلود تلك الرسالة، وأراها لرماة المدافع الرشاشة في منطقة «الأنف». حين التفت، وجد هيكس أمامه وقد خلع زيه حتى قميصه وسرواله، وكان مبتلا كأنه خارج من نهر ومغطى ببقع الدم. كانت يده ملفوفة في قطعة قماش. وضع فمه على أذن كلود وصاح: «عثرنا عليهم. كانوا قد ضلوا الطريق. إنهم قادمون. أرسل الخبر إلى العقيد.» «أين جيرهارت؟» «إنه آت؛ سيحضرهم إلى هنا. يا إلهي، توقف القصف!»
توقف القصف فجأة على نحو أصابهم بالذهول. شهق الرجال الموجودون في الحلقة، وجثوا كأنهم كانوا يسقطون من ارتفاع. كان الهواء الأسود الممتلئ بالدخان والخانق برائحة الغازات والبارود المحترق، ساكنا كالموت. وكان الصمت كمخدر قوي.
ركض كلود عائدا إلى «الأنف» ليتأكد من استعداد فرق المدفعية. «استيقظوا أيها الفتيان! ألا تعلمون سبب وجودنا هنا!»
عاد بيرت فولر الذي كان في نقطة المراقبة إلى الخندق بجانبه. «إنهم قادمون يا سيدي.»
أعطى كلود الإشارة إلى المدافع الرشاشة. وأطلقت النيران بطول الحلقة. وفي لحظة هب نسيم فانجرفت سحب الدخان الكثيفة إلى الخلف. صعد على قاعدة المدفع وحدق النظر. رأى العدو يقترب من يسار «رأس الخنزير» في صفوف طويلة متموجة يتسع عرضها لثمانية جنود تتجه نحو الخندق الرئيسي. فجأة توقف التقدم. اختفت صفوف الجنود الراكضة خلف مرتفع في الأرض على مسافة خمسين ياردة إلى الأمام، ولم تظهر ثانية على الفور. خطر لكلود أنهم ينتظرون شيئا ما؛ يجدر به أن يكون ذكيا بما يكفي لمعرفة ما ينتظرونه، لكنه لم يكن كذلك. أتى إليه عامل الخطوط الهاتفية الخاصة بالعقيد. «يوجد بمقر القيادة رسول من كتيبة ميزوري. سيصلون في غضون عشرين دقيقة. سيرسلهم العقيد إلى هنا في الحال. وحتى ذلك الحين، عليكم أن تصمدوا.» «سنصمد. الألمان يتصرفون على نحو غريب. لا أفهم أساليبهم.»
وبينما كان يتحدث، اتضح كل شيء. انشقت «أنف الخنزير» بانفجار فتق الأرض، وتصاعد في بركان من الدخان واللهب. طرح كلود ورسول العقيد أرضا على وجهيهما. عندما نهضا على قدميهما، وجدا «الأنف» قد تحول إلى حفرة من الدخان مليئة بالقتلى والمحتضرين. قتل فريق المدفعية الجورجي بأكمله.
كان هذا هو سبب انتظار الألمان خلف المرتفع. صنع المنجم الموجود أسفل «الأنف» منذ وقت طويل بصورة عشوائية على الأرجح، عندما استولى الألمان الهمجيون على خندق مولتك عدة أشهر من دون مضايقات. وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة الماضية ظلوا يدخلون متفجراتهم؛ إذ خمنوا أن أقوى حامية ستتمركز هناك.
ها هم أولاء كانوا يأتون مسرعين. صار الوضع متوقفا على البنادق. كان الرجال الذين صعقوا من الصدمة قد نهضوا على أقدامهم مرة أخرى. نظروا إلى قائدهم متسائلين وكأن الموقف برمته قد تغير. شعر كلود أن عزيمتهم تخور أمام عينيه. في غضون لحظات سيصبح الألمان الهمجيون فوق رءوسهم ويقتحمون المكان. جرى بطول الخندق وهو يشير من فوق أكياس الرمال ويصيح: «القرار قراركم، القرار قراركم!»
انتظم رماة البنادق في الصفوف مرة أخرى وبدءوا إطلاق الرصاص، لكن كلود شعر أن الجنود أصابهم الوهن والتردد، وأن عقولهم كانت تفكر بالفعل في الانسحاب. إذا كان لهم أن يفعلوا شيئا، فلا بد أن يكون سريعا، ولا بد أن يكون التصويب بالبنادق دقيقا. لا شيء سيجدي نفعا سوى نيران مدمرة ... قفز إلى قاعدة المدفع ومنها إلى الحاجز. حدث شيء في التو واللحظة؛ صار يسيطر على رجاله. «ثابت، ثابت!» نادى فرق البنادق الموجودة خلفه أن تطلق الرصاص بمدى ثابت، ورأى أن الطلقات نجحت في إصابة العدو. فعلى طول صفوف الألمان، كان الجنود يتعثرون ويسقطون. انحرفوا قليلا تجاه اليسار؛ فنادى فرق البنادق أن يتبعوهم، وأخذ يوجههم بصوته ويديه. لم يكن الأمر يقتصر على أنه يستطيع تصويب المدى وتوجيه إطلاق الرصاص من هذا المكان، بل بات الجنود خلفه كالصخر. ذلك الصف من الوجوه بالأسفل؛ هيكس وجونز وفولر وأندرسون وأوسكار ... لم تحد أعينهم عنه قط. مع هؤلاء الرجال، يمكنه القيام بأي شيء.
انحرف الجناح الأيمن في صف الألمان بمقدار لا يزيد عن عشرين ياردة من منطقة «الأنف» المحطمة؛ في محاولة للاحتماء تحت تلك الكومة من الحطام والجثث. أحبط التركيز السريع من فرق البنادق محاولة الاحتماء، وعاد الانتفاخ مجددا باتجاه اليسار. لم يجذب ظهور كلود على الحاجز انتباه العدو في البداية، لكن الطلقات بدأت تتناثر حوله، واصطدمت رصاصتان في خوذته المصنوعة من القصدير، وأصابت واحدة كتفه. تقاطر الدم على معطفه، لكنه لم يشعر بأي ضعف. لم يكن يشعر إلا بشيء واحد، وهو أنه يقود رجالا رائعين. عندما يأتي ديفيد بالدعم، ربما يجدهم موتى، لكنه سيجدهم جميعا هناك. صمدوا في أماكنهم إلى أن حملوا إلى مقابرهم. كانوا بشرا، لكن لا يقهرون.
كان يفكر أن العشرين دقيقة التي قالها بها العقيد قد أوشكت على الانتهاء. لم يستطع أن يحول بصره عن خط القتال الأمامي مدة طويلة تمكنه من النظر في ساعة يده. رآه الرجال من خلفه وهو يترنح كأنه فقد توازنه ويحاول أن يستعيده. بعد ذلك سقط على وجهه خارج المتراس. أمسكه هيكس من قدمه وسحبه إلى الداخل. وفي اللحظة ذاتها رأوا كتيبة ميزوري تصيح عند خندق الاتصالات. رموا المدافع الرشاشة على أكياس الرمال، واشتبكوا في القتال من دون إصدار أي حركة غير ضرورية.
كل من هيكس وبيرت فولر وأوسكار حملوا كلود واتجهوا به إلى «الأنف» بعيدا عن كتيبة الدعم التي كانت تتدفق إليهم. لم يكن ينزف دما غزيرا. ابتسم إليهم كأنه يريد التحدث، وكانت عيناه تحملان نظرة فارغة واهنة، مزق بيرت قميصه وفتحه، ووجد ثلاثة ثقوب قد اخترقها الرصاص. حين نظروا إلى كلود مرة أخرى، وجدوا الابتسامة قد اختفت من شفتيه، وخبت نظرة عينيه. مسح هيكس العرق والدخان من وجه قائده. قال: «الشكر للرب أنني لم أخبره. الشكر للرب على ذلك!»
كان بيرت وأوسكار يعرفان ما يرمي إليه هيكس. لقد مزق جيرهارت إلى أشلاء بجانبه عندما انطلقا تحت وابل القصف كي يبحثا عن كتيبة ميزوري. كان يركضان معا عبر الخلاء غير قادرين على الرؤية بوضوح بسبب الدخان. تعثرا في جزء من الأسلاك الشائكة كان متروكا فوق خندق كبير. انعطف ديفيد إلى اليمين، ولوح إلى هيكس بأن يتبعه. لم يكن يفصل بينهما أكثر من عشر ياردات عندما سقطت القذيفة. عندئذ ركض الرقيب هيكس بمفرده.
19
تغرب الشمس وتختفي تدريجيا في البحر، وثمة سفينة تتحرك ببطء على المخانق مع حركة المد. تعج الأسطح برجال يرتدون الزي البني. تجمعوا على الأجزاء العلوية من السفينة كالنحل في وقت التطريد. بدا عليهم الهدوء والاسترخاء. بينما كانوا يشاهدون اقتراب الشاطئ، بدا بعضهم غارقا في التفكير، وبعضهم مبتهجا، وبعضهم مغتما، وبدا العديد غير مبال. لم يعودوا هم الرجال أنفسهم الذين غادروا الوطن.
كان الرقيب هيكس يقف عند مؤخرة السفينة يدخن ويفكر ويراقب توهج غروب الشمس الأحمر وهو يلوح فوق المياه التي تعلوها السحب. مرت مدة تزيد على السنة منذ أن أبحر إلى فرنسا. تغير العالم في تلك المدة، وهو أيضا تغير.
شق بيرت فولر طريقه إلى الرقيب. «يقول الطبيب إن العقيد ماكسي يحتضر، لن يعيش حتى ينزل من السفينة، فضلا عن أن يحضر العرض العسكري في نيويورك غدا.»
هز هيكس كتفيه كأن الالتهاب الرئوي الذي أصاب ماكسي لا يعنيه في شيء. «حسنا، ينبغي أن نقلق! لقد فقدنا ضباطا أفضل منه هناك.» «لم أقل إننا لم نفقد أفضل منه. لكن الأمر يبدو سيئا للغاية، حين يكون قويا جدا على التفاخر والمباهاة. لقد ظل يرسل برقيات بشأن هذا العرض العسكري لمدة أسابيع.» «أها!» رفع هيكس حاجبيه ورمقه بنظرة ازدراء بطرف عينه. أخذ يغمغم بالحديث وينظر شزرا إلى المياه المتلألئة: «صار العقيد ماكسي على أي حال! أعتقد أنه ترقى على أكتاف ما فعله كلود وجيرهارت!» كان هيكس وبيرت فولر يساعدان في الحفاظ على قلعة إرينبرايتشتاين العريقة. كانا يساند أحدهما الآخر على الدوام، وعادة ما يتشاجران ويتأفف أحدهما من الآخر عندما يكونان خارج الخدمة. بالرغم من ذلك، فإنهما يدعم أحدهما الآخر. إنهما آخر ما تبقى من مجموعتهما. أما نيفتي جونز وأوسكار، فالرب وحده يعلم سبب ذهابهما إلى البحر الأسود.
مكث بيرت وهيكس عاما في وادي الراين لم يفترقا خلاله سوى مرة واحدة عندما أخذ هيكس إجازة لمدة أسبوعين بسبب السفر المرهق والمتواصل، وذهب إلى البندقية. لم يكن لديه جواز سفر مناسب، وقد توسل إليه القناصل والمسئولون الذين ناشدهم بشأن الصعوبات التي واجهته أن يقنع بمكان أقرب. لكنه قال إنه سيذهب إلى مدينة البندقية لأنه دائما ما كان يسمع عنها. سر بيرت فولر بعودته إلى مدينة كوبلنز، وأقام «حفلة نبيذ» احتفاء بعودته. إنهما ينويان أن يعتني أحدهما بالآخر. وعلى الرغم أن بيرت يعيش على نهر بلات، وهيكس على نهر يبج بلو، فإن طرق السيارات بين هذين النهرين ممتازة.
ظل بيرت على سجيته اللطيفة التي كان عليها منذ غادر مطبخ أمه، وكانت أكبر مشكلاته تكرار محاولات الخطبة. أما هيكس، فقد ارتسم على وجهه المستدير المكتنز تعبير سخرية طفيف لم يكن ملائما لوجهه البتة. جرحت أحداث الحرب مشاعره، رغم أنه لم يكن يريد شيئا لنفسه على الإطلاق. وعلى حد قوله، فإن منح الأوسمة ووضعها على رءوس غير المستحقين في الجيش، وتألق سعف النخيل والصلبان على الصدور الخاطئة، جعله يغير مفاهيمه عن القيم.
إن أشد ما كان هيكس يرغب فيه في هذا العالم أن يدير مرآب وورشة إصلاح مع صديقه القديم ديل آبل. قضت بوفورت على كل ذلك. بالرغم من ذلك، فهو يخطط لإنشاء متجر لإحياء ذكرى صديقه، ويضع اسميهما: «هيكس وآبل» على بابه. إنه يريد أن يشمر عن ساعديه ويقضي بقية حياته في فحص الأجزاء الداخلية المنطقية والجميلة في السيارات.
مع دخول السفينة إلى نهر الشمال، انطلقت صافرات الإنذار وصافرات البخار بطول الواجهة المائية في تحية حارة إلى الجنود العائدين. استعد الرجال وراحوا يبتسم بعضهم إلى بعض، بينما بدا السأم على بعضهم. أشعل هيكس سيجارة ببطء وأخذ ينظر إلى عقبها بتعبير سيحير أصدقاءه عندما يصل إلى أرض الوطن.
لا تزال قصة كلود ويلر مستمرة من حيث بدأت، على ضفاف نهير لافلي كريك. فبالنسبة إلى العجوزين اللتين لا تزالان تعملان في المنزل الملحق بالمزرعة، ذكراه حاضرة على الدوام تتجاوز كل ما سواها لتقبع عند آخر حدود الوعي، كشمس الغروب وهي ترى في الأفق.
تلقت السيدة ويلر خبر وفاته أحد الأيام بعد الظهيرة وهي في غرفة الجلوس؛ تلك الغرفة التي ودعها فيها. كانت عاكفة على القراءة عندما رن جرس الهاتف. «هل هذه مزرعة ويلر؟ معكم مكتب البرقيات من فرانكفورت. تلقينا رسالة من وزارة الحرب ...» تردد الصوت قليلا ثم قال: «هل السيد ويلر موجود؟» «لا، ولكن يمكنك أن تقرأ علي الرسالة.»
قالت السيدة ويلر: «شكرا لك»، ووضعت سماعة الهاتف. تلمست طريقها إلى كرسيها بهدوء. جلست ساعة بمفردها، لم يكن في الغرفة خلالها سواه، لم يكن فيها سواه هو والخريطة التي ترتسم فيها نهاية طريقه. في مكان ما بين تلك الأسماء المحيرة، وجد مكانه.
ظلت خطابات كلود تصلها على مدار أسابيع بعد ذلك، ثم توالت الخطابات إليها من رفاقه والعقيد الذي كان تحت إمرته؛ كي تخبرها بكل شيء.
في الشهور المظلمة التالية حين بدت الطبيعة البشرية للسيدة ويلر أقبح كثيرا من ذي قبل، كانت تلك الخطابات سلوى لها. بينما كانت تقرأ في الصحف، راحت تفكر في عبور البحر الأحمر الذي ورد ذكره في الكتاب المقدس؛ بدا كأن طوفان الخسة والجشع قد انحسر بما يكفي لأن يتمكن الفتية من عبوره، لكنه اجتاح بعد ذلك كل ما تبقى في الوطن وابتلعه. حين كانت ترى أن شيئا لم يأت من ذلك كله سوى الشر، كانت تقرأ خطابات كلود مرة أخرى وتؤكد لنفسها أنه رأى النداء واضحا والقضية جليلة. لم تلطخ إيمانه الصافي ذرة شك واحدة قط. إنها تخمن الكثير جدا مما لم يكتبه. إنها تعلم ما تقرؤه بين ثنايا تلك الومضات السريعة من الحماسة؛ كيف أنه وجد حياته على نحو كامل لا بد قبل أن يتحرر منها في مكان بعيد؛ هو الذي كان يخشى من أن يتعرض للخداع! لقد مات وهو يؤمن بأن بلده أفضل مما هي عليه، وأن فرنسا هي أفضل بلد على الإطلاق. وتلك معتقدات جميلة من الجيد أن يموت المرء مقتنعا بها. ربما كان من الجيد أيضا أن يرى المرء تلك الرؤيا ثم لا يرى شيئا بعدها. كانت تخشى تلك اليقظة، حتى إنها تشك أحيانا فيما إن كان قد استطاعت تحمل تلك الخيبة المؤسفة الأخيرة. واحدا تلو الآخر، يغادر أبطال تلك الحرب ورجال الجندية الباسلة العالم الذي عادوا إليه، قبل الأوان. طيارون تروى أفعالهم في الحكايات، وضباط تلهب أسماؤهم الشجاعة في دماء الشباب، ناجون من مخاطر مروعة، يموتون واحدا تلو الآخر بأيديهم بهدوء. البعض يفعلها في منازل إقامة مغمورة الذكر، والبعض في مكاتبه حيث يبدو أنهم يقومون بأعمالهم مثل البقية. البعض ينزلق من جانب سفينة ويختفي في البحر. عندما تسمع والدة كلود عن تلك الحكايات، تجفل وتضغط بيدها على صدرها وكأنه بين أحضانها. تشعر أن الرب قد أنقذه من آلام مروعة ونهايات مفجعة. فمن خلال ما قرأته، صارت تعتقد أن الذين يقتلون أنفسهم كانوا جميعا مثله؛ أولئك الذين يسرفون في الأمل، ولكي يتمكنوا من القيام مما قاموا به كان عليهم أن يسرفوا في الأمل، وأن يؤمنوا بشغف. وفي النهاية وجدوا أنهم قد أفرطوا في الأمل والإيمان. لكن الشخص الذي تعرفه، والذي لا يطيق الوهم ... هو في أمان.
في بعض الأحيان عندما تكون ماهيلي بمفردها مع السيدة ويلر، تناديها بلقب «الأم» فتقول: «الآن أيتها الأم فلتصعدي إلى الطابق العلوي وتستلقي كي تستريحي». وحينها تعرف السيدة ويلر أنها تفكر في كلود وتتحدث بالنيابة عنه. عندما تعملان على طاولة أو تنحنيان على الفرن، ثمة شيء يذكرهما به ويفكران فيه معا كأنهما شخص واحد؛ تربت ماهيلي على ظهرها وتقول: «لا عليك أيتها الأم، سترين ولدك هناك.» دائما ما تشعر السيدة ويلر أن الرب قريب، ورغم أن ماهيلي لا تهتم بأي معرفة عن الفضاء فيما بين النجوم فالرب أقرب إليها؛ فهي تستشعر وجوده فوقها مباشرة، حتى إنه ليس أعلى كثيرا من موقد المطبخ.
Shafi da ba'a sani ba