كان يمتلك أوبرليس مزرعة جميلة، ويعيش في بيت أبيض كبير مقام على التل، يتضمن بستانا جميلا وصفوفا من خلايا النحل وحظائر ومخازن حبوب وعنابر دواجن. كان يربي الديوك الرومية والحمام البهلوان، وكان عدد كبير من الإوز والبط يسبح في برك الماشية الخاصة به. اعتاد أن يفتخر بأن لديه ستة أولاد «مثل الإمبراطور الألماني». كان يفتخر جيرانه بمنزله، وكانوا يرونه للغرباء. كانوا يذكرون كيف أن أوبرليس أتى إلى مقاطعة فرانكفورت فقيرا وجمع ثروته بالكد والذكاء. لقد عبر المحيط مرتين كي يزور وطنه الأصلي؛ ولما كان يعود إلى منزله في البراري فإنه يحضر هدايا للجميع؛ للمحامي ومدير البنك الخاصين به، والتجار الذين يتعامل معهم في فرانكفورت وفيكونت. كل واحد من جيرانه كان يحتفظ في صالونه بقطعة منسوجة أو منحوتة خشبية أو لعبة ميكانيكية رائعة أحضرها له أوبرليس من ألمانيا. كان أوبرليس يكبر يودر في العمر، وكانت لحيته القصيرة بيضاء ومجعدة مثل شعر رأسه، وعلى الرغم من قصر قامته، فإن وجهه الأحمر المنتفخ وعينيه الشديدتي الزرقة وبعض التبختر البادي على هيئته أعطته هالة من الأهمية. كان يحب التباهي، وكان سريع الغضب، ولكن حتى اندلاع الحرب في أوروبا، لم يدخل أحد قط في مشكلة معه. ولكن بعد اندلاعها، كان دائم الانتقاد والشكوى؛ كان يرى أن كل شيء كان أفضل في بلده الأم.
أتى السيد ويلر إلى المدينة وهو على استعداد لتقديم يد المساعدة إلى يودر إن احتاج إليها. إنهما كانا يعملان في حقولهما المتاخم بعضها لبعض طيلة ثلاثين سنة حتى الآن. فوجئ عندما وقع جاره في مشكلة. لم يكن متكبرا مثل أوبرليس، ولكنه كان رجلا ضخما وهادئا بوجه جاد وملامح كبيرة، وفم متحفظ لا يفتح إلا نادرا. بدا وجهه كأنه قطع من حجر رملي أحمر؛ إذ بدت عليه علامات الانزعاج والضيق الشديدين. جلس ويلر وأوبرليس على كرسيين خشبيين خارج حدود مكتب القاضي.
الآن، توقف القاضي عن الكتابة، وقال إنه سينظر في التهم الموجهة إلى ترويلس أوبرليس. أدلى العديد من الجيران بشهادتهم بالتناوب؛ كانت شكاويهم متضاربة وشبه مضحكة. قال أحد الشهود إن أوبرليس قال إن الولايات المتحدة ستهزم، وإن هذا سيكون شيئا جيدا؛ فرغم أن أمريكا بلد عظيم فإنها يديرها حمقى، وأفضل ما يمكن أن يحدث لها هو أن تحكمها ألمانيا. وأضاف أن أوبرليس منذ أن كون ثروته في هذا البلد ...
هنا قاطعه القاضي. «أرجو أن تكتفي بالعبارات التي أدلى بها المدعى عليه في حضورك، والتي تعتبرها دليلا على عدم ولائه.» لما كان الشاهد يدلي بشهادته، خلع القاضي نظارته ووضعها على المكتب، وبدأ يلمع عدستيها بمنديل حريري ثم جربهما، ثم مسحهما مرة أخرى كأنه كان يريد أن يرى بوضوح.
شاهد ثان سمع أوبرليس وهو يقول إنه يتمنى أن تغرق الغواصات الألمانية بعض سفن نقل الجنود؛ إذ هذا من شأنه أن يخيف الأمريكان، ويعلمهم البقاء في منازلهم والاهتمام بشئونهم الخاصة. شكا شاهد ثالث أن الرجل العجوز في عصر أيام الأحد كان يجلس في الشرفة الأمامية الخاصة به ويعزف أغنية «حراس نهر الراين» على ترومبون منزلق الأمر الذي كان يتسبب في انزعاج كبير لجيرانه. هنا، ضرب نات ويلر ركبته وانطلق في قهقهة عالية، وسرى ضحك مكتوم في قاعة المحكمة. بدت وجنتا المدعى عليه المنتفختان الحمراوان كأن الخالق خلقهما بهذا الشكل كي تنفخ في هذه الآلة ذات الصوت المدوي.
لما سئل المتهم العجوز هل لديه ما يقوله بشأن هذه الاتهامات، نهض ورفع كتفيه ورمق قاعة المحكمة بنظرة تحد. وأعلن بصوت عال: «يمكنكم الاستيلاء على أملاكي وسجني، ولكني لن أقول شيئا، ولن أرجع عن شيء قلته.»
نظر القاضي إلى محبرته مبتسما. «أنت لا تفهم طبيعة تلك المناسبة يا سيد أوبرليس. لم يطلب منك التراجع عما قلته. كل المطلوب منك أن تتوقف عن التصريحات التي تعبر عن عدم الولاء؛ وهذا من أجل حمايتك وراحتك تماما، مثل أنه من أجل مراعاة مشاعر جيرانك. سأنظر الآن الاتهامات الموجهة إلى السيد يودر.»
صرح شاهد أنه سمع السيد يودر يتمنى الهلاك للولايات المتحدة بعد أن أصبحت تمشي في ذيل إنجلترا. لما قال الشاهد ليودر إن رصاصة في صدر القيصر من شأنها أن تنهي الحرب، رد يودر أن الأقربين أولى بالمعروف، وتمنى أن لو يطلق أحد رصاصة على صدر الرئيس الأمريكي.
لما نودي على يودر، نهض ووقف مثل الصخرة أمام القاضي. «ليس لدي أقوال. الاتهامات صحيحة. ظننت أن هذا بلد يمكن للمرء فيه أن يعبر عن رأيه.» «نعم، بإمكان المرء أن يعبر عن رأيه، ولكن حتى هنا لا بد أن يتحمل العواقب. اجلس من فضلك.» أسند القاضي ظهره إلى كرسيه، وبدأ كلامه بهدوء وهو ينظر إلى المتهمين الماثلين أمامه: «السيد أوبرليس والسيد يودر، يعلم كلاكما، وكذلك يعلم أصدقاؤكما وجيرانكما، لماذا تمثلان أمامي. لم تراعيا عنصر الملاءمة الذي يجب مراعاته في كل مناحي الحياة تقريبا؛ فالعديد من القوانين المدنية قائمة عليه. غركما شعور ما - نبيل في حد ذاته - وحملكما على الإدلاء بتصريحات مبالغ فيها، أنا واثق أن لا أحد منكما قصدها بمعناها الحرفي. لا يستطيع أحد أن يطلب منكما أن تتوقفا عن حب البلد الذي ولدتما فيه، ولكن بما أنكما تنعمان في خيرات هذا البلد، فلا يصح أن تشوها سمعة حكومته لتمجيد حكومة بلد آخر. اعترف كلاكما بأنه تلفظ بعبارات أرى أنها دليل على عدم الولاء. سأفرض على كل منكما غرامة قيمتها ثلاثمائة دولار، وهي غرامة خفيفة للغاية في مثل تلك الظروف. وإذا تكرر الأمر مرة أخرى وتوجب علي أن أوقع عقوبة، فستكون أشد كثيرا.»
بعد انتهاء المحاكمة، انضم السيد ويلر إلى جاره عند الباب ونزلا إلى الطابق السفلي معا.
Shafi da ba'a sani ba