79

أحد الخطابات، الذي كان مرسلا من رئيس الفريق الطبي في المدرسة التبشيرية التي تدرس فيها كارولين رويس، كان يعلم السيد رويس بأن ابنته مريضة مرضا شديدا، وأنها ترقد الآن في المستشفى التبشيري. كان سيتعين إرسالها إلى جزء آخر من البلاد مناسب أكثر لصحتها من أجل الراحة والعلاج، وما كانت لتستعيد صحتها بحيث تستطيع الرجوع إلى مهام عملها قبل عام أو أكثر. وإذا استطاع أحد من أفراد عائلتها أن يأتي كي يعتني بها، فسيزيل عن عاتق المسئولين في المدرسة حملا ثقيلا. وورد خطاب آخر من أحد المعلمين وخطاب ثالث غير مترابط من كارولين نفسها. وبعدما انتهى كلود من قراءة الخطابات، دفع السيد رويس علبة السيجار نحوه، وبدأ يتحدث بيأس عن بعثات التبشير.

قال شاكيا: «يمكنني الذهاب إليها، ولكن ما الفائدة من ذلك؟ أنا لست متعاطفا مع أفكارها، ولن أكسب سوى إزعاجها. أنت تعرف أنها عقدت النية على عدم الرجوع إلى الوطن. أعارض فكرة محاولة أحد أن يفرض طريقة تفكيره أو دينه على غيره. لست من ذلك النوع من البشر.» وجلس ينظر إلى سيجاره. وبعد فترة صمت طويلة، انفجر فجأة قائلا: «سمعت أذناي كلمة الصين كثيرا. يبدو أنه مكان بعيد يمكن الذهاب إليه للبحث عن المتاعب، أليس كذلك؟ ليس للمرء تحكم كبير في حياته يا كلود. إذا لم يتعذب بالفقر أو المرض، فإنه يتعذب بسبب بلد على الخريطة. كانت الأمور ستسير على ما يرام لولا سفرها إلى الصين ولولا بعض الأمور الأخرى ... لو كان على كاري التدريس من أجل التكفل بملابسها والمساعدة في سداد ديوني مثل بنات هاريسون العجوز، لكان ذلك سببا كافيا لمكوثها في الوطن. ولكن لا بد دائما أن يحدث شيء. لا أعلم هل أري إنيد هذه الخطابات أم لا.» «أوه، يجب أن تعرف بشأن هذه الخطابات يا سيد رويس. وإذا رأت ضرورة في الذهاب إلى كاري، فلا يصح أن أتدخل في الأمر.»

هز السيد رويس رأسه. «لا أعلم. لا أرى أنه من العدل أن تتسبب الصين في تكدير صفو حياتك أنت أيضا.»

لما وصل كلود إلى المنزل، قال وهو يسلم إنيد الخطابات: «انزعج والدك انزعاجا كبيرا بسبب هذا الأمر. لم ألاحظ عليه علامات التقدم في العمر كما لاحظتها اليوم .»

أخذت إنيد تطالع محتواها وهي تجلس على مكتبها الصغير المرتب، بينما تظاهر كلود بقراءة الجريدة.

لما انتهت قالت: «من الواضح أنني الشخص الذي يجب عليه الذهاب إلى هناك.» «هل تعتقدين أن على أحد أن يسافر إلى هناك؟ لا أرى ذلك ضروريا.»

ردت إنيد بحماسة: «عدم ذهاب أي منا سيبدو أمرا غريبا جدا.» «كيف سيبدو كذلك؟» «عجبا، سيبدو الأمر لزملائها كأن عائلتها ليس عندهم قلب.» «أوه، هل هذا كل ما في الأمر؟!» ابتسم كلود ابتسامة ماكرة، ورفع الجريدة مرة أخرى. «لا أعرف كيف سيرى الناس هنا سفرك وتركك لزوجك.» «يا لوضاعة ما تقول يا كلود!» نهضت بحدة ثم ترددت وتحيرت. «يعرفني الناس هنا جيدا. يبدو لي أنك قلق بشأن ما ستقوله والدتك.» ولما لم يرفع نظره عن الجريدة، دخلت هي إلى المطبخ.

جلس كلود ساكنا يستمع إلى حركات إنيد السريعة وهي تشغل الموقد لتحضر العشاء. بدأ الظلام يتسلل إلى الغرفة. في الخارج، تلاشت الحدود الفاصلة بين الحقول، وأصبحت كحقل واحد مع حلول المساء. كانت الأشجار الصغيرة في الفناء تنحني وتتمايل بشدة بسبب ريح شمالية قاسية. عادة ما كان يعتقد زهوا أن الشتاء يختفي على أعتاب منزله؛ إذ كان يخلو المنزل من الأركان الباردة والصالات المعرضة للهواء. لقد كان هذا هو عامهما الثاني في هذا المكان. عندما كان يقود سيارته إلى منزل أبيه، كانت فكرة بعده عن منزله لبعض الوقت تثير إحساسا بالبهجة بداخله، ولكنه كان لا يريد تركه الآن. كان هناك شيء يلين بداخله. كان يتساءل هل من فرصة للمحاولة مرة أخرى وتحسين الأوضاع بينهما أم لا. كانت إنيد تغني في المطبخ بصوت خفيض ووحيد بعض الشيء. نهض وذهب لالتقاط معطف ودلو الحلب. لما مر على زوجته بجوار النافذة، توقف ولف ذراعه حولها على نحو غريب.

نظرت إليه. «هذا جيد. لقد بدأت تستحسن الأمر، أليس كذلك؟ كنت أعتقد أن هذا سيحدث. يا إلهي، يا له من معطف كريه الرائحة يا كلود! يجب أن آتي لك بمعطف آخر.»

كان كلود يعرف تلك النبرة. وإنيد لا تشك في صواب قراراتها البتة. لما تأخذ قرارها، فلا شيء يجعلها تحيد عنه. مشى في الممر المؤدي إلى الحظيرة ويداه في جيبي سرواله، ودلوه البراق معلق على ذراعه. المحاولة مرة أخرى، فيم تعاد المحاولة؟ هل يمكن أن يتخلصا من الرتابة، البخل العاطفي، الكذب ...؟ حياته كانت تخنقه، ولم يمتلك الجرأة للفكاك منها. فلتذهب! فلتذهب حين تشاء! ... يا لبشاعة العالم الذي نعيش فيه! أم إنه كان بشعا بالنسبة إليه فقط؟ كل ما كانت تلمسه يده يفسد ... دائما ما كان يحدث ذلك.

Shafi da ba'a sani ba