17

منذ الزيارة الأولى تلك، بالتأكيد لم يذهب كلود إلى منزل آل إرليش بالقدر الذي تمناه، وإنما ذهب بالقدر الذي كانت تسمح به جرأته. يبدو أن بعضا من طلاب الجامعة كانوا يذهبون هناك في الوقت الذي يريدونه وكأنهم أفراد من العائلة، ولكن مظهرهم كان أفضل من مظهره ، وصحبتهم أفضل من صحبته. بالتأكيد كان باومجارتنر الطويل القامة صديقا مقربا من تلك العائلة، وقد كان فتى أخرق ذا يدين حمراوين كبيرتين ويلبس حذاء به بقع ملونة، ولكنه على الأقل كان يستطيع التحدث بالألمانية مع الأم، ويعرف كيفية العزف على البيانو، ويبدو أنه كان يعرف الكثير عن الموسيقى.

لم يرد كلود أن يبدو مملا. فعندما كان يغادر المكتبة في بعض الأحيان في المساء كي يدخن سيجارا، كان يمشي متباطئا بالقرب من منزل آل إرليش، وينظر إلى النوافذ المضيئة لغرفة الجلوس، ويتساءل عما يدور بالداخل. وقبل أن يذهب إلى هناك لزيارتهم، كان يفكر في أشياء يتحدث عنها. وبالطبع كان يساعده في ذلك إذا كانت هناك مباراة كرة قدم أو مسرحية جيدة في المسرح.

تقريبا من دون أن يدرك ما كان يفعله، حاول أن يفكر مليا في الأشياء ويبرر آراءه لنفسه؛ حتى يجد ما يقوله عندما يسأله أولاد إرليش عنها. لقد نشأ على قناعة أنه ليس من مقامه أن يبرر آراءه، تماما كما يجب عليه الاهتمام بملبسه أو ألا يضبطه أحد وهو يحاول جاهدا فعل شيء ما. كان إرنست هو الشخص الوحيد الذي يعرفه، والذي كان يحاول أن يذكر بوضوح سبب اعتقاده بشأن هذا أو ذاك؛ ولذا كان يعتقد الناس في المكان الذي يعيش فيه أنه مغرور وغريب جدا. لم يكن من طابع الأمريكيين أن يبرروا آراءهم؛ ليس عليك أن تفعل ذلك! في المزرعة، يمكن أن تعبر عن رأيك بشأن أي شيء؛ تقول مثلا إن روزفلت محق أو مجنون. لكن لا يفترض أن تقول المزيد ما لم تكن خطيبا سياسيا؛ أي إذا حاولت أن تقول المزيد، فهذا لأنك تحب أن تسمع نفسك وأنت تتحدث. وما دمت لم تقل شيئا قط، فأنت لم تنم عادة التفكير لديك. وإذا أحسست بقدر كبير من الملل، كان عليك أن تذهب إلى المدينة وتشتري شيئا جديدا.

لكن كل الناس الذين قابلهم في منزل إرليش كان يمكنهم التحدث. إذا سألوه عن مسرحية أو كتاب وقال إنه «ليس جيدا »، فسيسألونه على الفور عن السبب. ظن أفراد آل إرليش أنه شخص هادئ، ولكن كلود يظن نفسه مذهلا في بعض الأحيان. هل يمكن لكلود أن يعبر عن آرائه بهذا الأسلوب الفظ؟ لاحظ في نفسه أنه كان يستخدم كلمات لم تمر من بين شفتيه من قبل، ولم يصادفها عقله في غير الأعمال المطبوعة. عندما كان يدرك فجأة أنه يستخدم كلمة ما للمرة الأولى، وربما يخطئ في نطقها، كان يرتبك بشدة وكأنه يحاول أن يشتري بعملة مزيفة من الرصاص؛ إذ كان يحمر وجهه ويتلعثم، ويترك أحدا غيره يكمل الجملة له.

لم يستطع كلود في بعض الأحيان مقاومة الذهاب إلى منزل آل إرليش فيما بعد الظهيرة؛ وفي ذلك الوقت كان لا يوجد الأبناء في المنزل، ويمكن أن يجلس مع السيدة إرليش بمفردهما لمدة نصف الساعة. عندما كانت تتحدث معه، كانت تعلمه الكثير جدا عن الحياة. أحب أن يسمعها وهي تغني أغاني ألمانية عاطفية وهي تعمل، مثل «اغزلي، اغزلي، يا ابنتي العزيزة». لم يعرف السبب، ولكنه ببساطة أحب الأمر بشدة! في كل مرة كان يخرج من عندها، كان يشعر بالسعادة وتغمره الطيبة، وكان يفكر في الغابات التي تنتشر بها أشجار الزان والمدن المسيجة أو في كارل شورز والثورة الرومانسية.

ذهب كي يرى السيدة إرليش قبل أن يذهب إلى المنزل لقضاء الإجازة، ووجدها تعد كعك عيد الميلاد الألماني. أخذته إلى المطبخ وشرحت له التقاليد شبه المقدسة التي تحكم طريقة تحضير هذه الأكلة المعقدة. رأى كلود أن حماستها وجديتها وهي تخفق المكونات وتقلبها كانتا رائعتين بشدة. عددت له على أصابعها المكونات الكثيرة للكعك، ولكنه اعتقد أن هناك مكونات لم تذكرها؛ وهي رائحة الصداقات القديمة، ووهج الذكريات الأولى، والإيمان بالقصائد والأغاني القادرة على فعل العجائب. لا ريب أن هذه أشياء جيدة تستحق أن توضع في الكعك الصغير! بعدما تركها كلود، فعل شيئا لم يفعله أحد من عائلة ويلر؛ ذهب إلى شارع أوه وأرسل إليها باقة من أكثر الزهور حمرة. وكان يحتفظ في جيبه برسالة الشكر القصيرة التي كتبتها من أجله.

7

أوشك الظلام أن يرخي أستاره عندما وصل كلود إلى المزرعة. وبينما توقف رالف كي يركن السيارة، مشى هو بمفرده إلى المنزل. لم يسبق أن عاد من دون أن تسكنه العواطف، رغم أنه حاول مرارا وتكرارا أن يتغاضى عن مرات المغادرة والرجوع هذه التي كانت جميعها معتادة بالنسبة إليه. عندما كان يصعد إلى التل بتلك الهيئة متجها إلى البيت العالي ذي النوافذ المضيئة، دائما ما كان ينقبض قلبه. كان يحب العودة إلى المنزل ويكرهها في الوقت نفسه. كان محبطا على الدوام، ولكن دائما ما كان يستشعر صواب العودة إلى منزله. وحتى عندما كان يثبط معنوياته ويحطم كبرياءه، كان يشعر أن الصواب في أن يظل متواضعا هكذا. لم يشك في أن أسوأ الحالات المزاجية هي أصدقها، وأنه كلما نأى الإنسان عن التفكير في نفسه، زاد احتمال أن يكون مصيبا في تقديره.

لما اقترب كلود من الباب، توقف لحظة ونظر إلى الداخل من نافذة المطبخ. رأى الطاولة معدة للعشاء وماهيلي واقفة عند الموقد تقلب شيئا في قدر حديدي كبير؛ على الأرجح عصيدة دقيق الذرة؛ فهي كثيرا ما تطهو هذه الأكلة لنفسها؛ لأن أسنانها بدأت في السقوط. لقد كانت تقف محنية تمسك بإحدى يديها القدر، وتضرب باليد الأخرى المكونات الصلبة، وتومئ برأسها بنفس إيقاع هذه الحركة الدوارة. تصاعدت عواطف مضطربة داخل كلود. ودخل مسرعا واحتضنها بقوة.

تجعد وجهها وهي تبتسم الابتسامة الساذجة التي كان يعرفها جيدا. وقالت: «يا إلهي، كم أرعبتني يا سيد كلود! لو زدت قليلا لسقطت مني العصيدة كلها على الأرض. تبدو بخير، أيها الفتى اللطيف!»

Shafi da ba'a sani ba