رعاية الأطفال والسفهاء والمجانين وغيرهم
أُدْخِلت ولاية الأيتام والسفهاء والمجانين ومصالحهم وأموالهم وكفلاؤهم في ولاية القضاء، لماذا؟ لأن ذلك يحتاج إلى مزيد عناية بحسب ولاية القضاء، فأما إذا رأى الإمام أن يخص من هو كافٍ للقيام به، فله ذلك ولا فرق في ذلك بين من له وصيٌ خاص وبين من لا وصي له، فالأمر كله يعود في النهاية عند التقصير إلى الحاكم أو إلى القاضي كما هو معلوم.
فإذا كان الوصي قائمًا بما عليه من نظر في مصالح اليتيم والسفيه والمجنون، استمر الحاكم أو السلطان على إجازة قيامهم به، ولم يتعرض له، وإن كان مقصرًا أو متهمًا، أسند معه غيره، وإن كان مستحقًا للعزل عزل.
واسمع إلى ما يقوله بدر الدين بن جماعة الشافعي في هذا الباب، وهو يتكلم عن حق الجنود، إذا تُوُفوا في المعركة أو استشهدوا يقول: إذا مات بعض المرتزقة من الأجناد -المرتزقة أي: الذين يأخذون رزقًا من بيت المال، وليس بالمصطلح المعاصر (مرتزقة) إنما هؤلاء هم الذين يأخذون جزءًا من بيت المال، والغزاة الذين يستحقون الزكاة قال العلماء: هم الذي لا ديوان لهم، أي: لا يأخذون شيئًا من بيت المال، لكن هناك نوعٌ من الجنود يأخذون من بيت المال نصيبًا- فقال: وإذا مات بعض المرتزقة من الأجناد استمر عطاؤه على بناته وزوجاته إلى أن يتزوجن من يكفيهن، وعلى صغار أولاده الذكور إلى أن يبلغوا، ويستقلوا بالكسب، أو يرغبوا في أهلية الجهاد -أي: يسجلوا مع المجاهدين- وعلى الأعمى والزَّمِن منهم أبدًا قدر الكفاية -أي: إلى أن يموت- كل ذلك لترغيب أهل الجهاد وتوفير خواطرهم عليه وتطييب قلوبهم على عيالهم بعدهم، فهذا كلام ابن جماعة.
إذا رأيتم نظام التقاعد أو نحوه أو نظام إصابات العمل فستجدون أنها لم تبلغ حتى هذا التعبير الذي عبر به ابن جماعة من الشافعية ﵀، ورحم علماءنا جميعًا.
كذلك -أيضًا- قد نقف عند رعاية الطفولة، فهي تشمل تلك الجهود الاجتماعية والاقتصادية ونواحي النشاط الأخرى التي تعمل على رفع مستوى الرخاء للطفل، كفردٍ له مكانته وكيانه، وكعضو في المجتمع الكبير.
واهتم الإسلام بالطفل -كما هو معلوم- وحدد معاني العناية بالجنين قبل ولادته، كما عنى بحقوقه بعد ولادته، كما اهتم بحضانته وتربيته الخ.
وقد كان عمر ﵁ لا يفرض لمولودٍ شيئًا حتى يُفْطَم، إلى أن سمع ذات ليلة امرأة تُكْرِه ولدها على الفطام وهو يبكي، فسألها عنه فقالت وهي لا تعرفه: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يُفْطَم، وأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له، فقال: يا ويل عمر! كم احتمل من وزرٍ وهو لا يعلم! ثم أمر مناديه، فنادى: لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنه يفرض لكل مولودٍ في الإسلام.
ثم إنه كَتَب إلى أهل العوالي وكان يُجري عليهم القوت -لاحظوا التجربة التي أجراها حتى يعرف كم تستحق كل عائلة، وهي التجربة التي وعدنا ببيانها- فأمر بجريبٍ من الطعام فطُحِن -جريب أي: مقدار من الكيل- ثم خُبِزَ ثم فُرِدَ بزيتٍِ، ثم دعا بثلاثين رجلًا، فأكلوا منه غداءهم حتى أصدرهم، ثم فعل في العشاء مثل ذلك، فقال: إذًا يكفي الرجل جريبان من كل شهر، والتجارب قابلة للتجديد وقابلة للتطوير، لكن لاحظوا مدى حرصه على العدل، ثم انظروا أيضًا إلى واقعيته في طريقة تحقيق الحق للناس.
وكان يرزق -أي: يصرف للرجل وللمرأة وللمملوك- جريبين جريبين في كل شهر، وكان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له: رفع الله عنك جريبك، أي: قطع الله رزقك.
وتقدير العطاء كذلك -وهذا قد يكون من اللطائف- فالكفاية قال العلماء معتبرة للإنسان بحسب ما يلي:
أولًا: عدة من يعوله من الذراري والممالك، يُحصَى البيت، ليُعرَف كم فيه ممن يعولهم هذا الرجل، أو كم يسكن في هذا البيت.
الثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر إنه يُعْطَى بدل بنزين، فمادامت أن الخيل والظهر محسوبة فإذا كان إنسان ليس عنده ظهر، وعنده سيارة، فقد يُعْطَى بدل وقود.
الثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: اختلاف الأسعار، فلاحِظ أن التقادير جميلة، فالعلماء ما تركوا شيئًا.
فباختصار هي:
أولًاَ: عدة من يعوله من الذراري والمماليك.
ثانيًا: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
ثالثًا: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: فارق الأسعار، فقد كان عندهم تضخم، وكان عندهم انخفاض، فيقدر كفايته في نفقته وكسوته في عامه كله، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم يُعرَض حالُه في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زِيْدَ وإن نقصت نُقِصَ.
وعلى قيم اليتيم أن يراعي حاله وصلاحه، ويكون تحت إشراف القاضي كما هو معلوم، ويعمل على تنمية مال اليتيم وزيادته، وكذلك -أيضًا- يوضع مال اليتيم في خزائن أمينة يؤمن عليها من الضياع.
5 / 14