كلا منهما من تبعه وخرجوا من الطريقة الساذجة التي مشى عليها الصحابة والتابعون وأعانهم على ذلك أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية فخاض فيها الفريقان وطفقوا في الابرام والنقض وابطال بعضهم مذهب بعض فأخذوا ذلك فتاوسموه الكلام إما لأن مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه أو أكثرها نزاعا وجدلا ويحكي أنه قتل فيها خلق كثيرا وأولها كما يحكي عن بعض الصحابة قال حضرت ذات يوم مجلس عمر فسأله رجل يا أمير المؤمنين أخبرني عن كلام الله مخلوق أم لا فتعجب عمر وأخذ بيد السائل حتى جاء به إلى أمير المؤمنين (ع) وقال يا أبا الحسن أما تسمع مقالة هذا الرجل فلما سمعها تغير وجهه ثم أقبل إلى عمر وقال إنها فتنة يكون لها شأن تثور في مستقبل الزمان أما أني لو كنت مكانك لقطعت وريديه أو لأنه يورث قدرة على الكلام والزام الخصوم كالمنطق أو لأنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يحصل بالتأمل والمطالعة أو لأنه أكثر العلوم خلافا فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين و الرد عليهم أو لأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام أو لأنه أشد العلوم تأثيرا في القلب وتغلغلا فيه فسمي الكلام من الكلم وهو الجرح أو لأنهم كانوا يعنونون مباحثه في المدونات بقولهم الكلام في كذا والكلام في كذا وظهر بعد ذلك من الصدور والأمراء من سمع هذه المقالات وقواعد العقايد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فعلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام فانكب الناس إلى علم الكلام وأكثروا فيها التصانيف ورتبوا فيها فيها طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات والمقالات وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن الستة وقمع البدعة ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه لما تولد من فتح بابه من التنعضات والخصومات الناشئة من اللداد المفضية إلى تخريب البلاد ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب المجتهدين فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافية وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذاهب وتمهيد أصول الفتاوي وأكثروا فيها الفتاوى والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا إليه ولم يسكتوا عن التعلل والاعتذار بأن ما اشتغلوا به علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى القيام بفرض الكفاية تقربا إلى رب العالمين والفطن يعلم أنه لو كان غرضهم ذلك لقدموا عليه فرض العين ترى الواحد منهم إذا سألته عن شئ من فقه الظهار أو اللعان أو السبق ليرد عليك من التفريعات الدقيقة أشياء كثيرة تنقضي الدهور ولا يتفق الاحتياج إلى شئ منها وإذا سألته عن معنى من معاني الاخلاص والتوكل والرضا ونحوهما مما يجب على كل مكلف في كل حال يتوقف في الجواب ويتلجلج في الكلام بل كثيرا من فروض الكفايات فكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة والاحتياج إليه فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه أكثر وقوعا منه إلى هذه التعمقات والفروض التي يتعبون ليلا ونهارا في حفظها ودرسها والبحث عنها ثم لا ترى أحدا يشتغل بالطب و يتهافتون على الفقه الذي شأنه ما عرفت والبلد مشحون من الفقهاء وليس الباعث إلا أن الطب لا يتيسر الوصول به إلى ما يتوصل إليه بالفقه والله المستعان انتهى وليس الغرض اخراج علم الشرايع والفتاوي من الفقه وسلب صدق هذا الاسم المحمود عليه في الشرع عليه بل الفرق بين ما سبيله الكتاب والسنة على الوجه المتقدم وما سبيله الآراء والظنون التي يستمد بها المتعمقون والاجماعات التي حالها ما عرفت والأول معدود من الفقه وإن كان أحط أقسامه و تخصيص هذا الاسم به في عرف الآخرين من قبيل تخصيص اسم الحكمة بالطب الذي هو من فروع أدنى أقسامها أعني الطبيعي كما مر بخلاف الثاني وهذا التفصيل بعينه يجري في المجادلة فإن كانت بالتي هي أحسن دخلت تحت الاستثناء في قوله عز وجل ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن والأمر في قوله (تع) وجادلهم بالتي هي أحسن وإلا فهي المجادلة المذمومة نظير القسم المذموم من فقه الفتاوي وهما مما يقسي القلب ويبعد عن الله عز وجل فإن المتمرن فيهما يعتاد الاستعانة بقوة الشيطنة والخروج عن حد الحكمة والاعتدال في القوة الفكرية إلى افراط الجربزة وجحود ما تستيقن به نفسه وخلط الباطل بالحق إلى غير ذلك من الذمايم تقويا بذلك على ما هو بصدده من الفوز بالغلبة وادراك لذة الظفرة فيقسو قلبه عن قبول الحق إلى أن يعود كالسباع التي همها في الاعتداء ولذتها في الضراوة على من اعترضها وذلك من أقوى الأسباب في البعد عن الله سبحانه والحرمان عن نور الهداية لأنه من أشد أمراض القلوب وفي الحديث لا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب على أنه لا بد أن يعترض المتكلم في فنه الشكوك والشبه وربما يتشبث بدهنه شئ منها إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب عنها دقيقا يقصر عن ادراكه فيخرج إلى الشك من اليقين وينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين وعن أمير المؤمنين عليه السلام من طلب الدين بالجدل تزندق وفي حديث آخر الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشك وإنما رخص في التكلم لضرورة دفع شبه المعاندين كما في حديث الشامي الذي جاء إلى أبي عبد الله (ع) وقال إني رجل صاحب كلام وفقه وفرايض وقد جئت لمناظرة أصحابك فكلمه أبو عبد الله (ع) ثم التفت إلى يونس بن يعقوب فقال يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته فقال يونس فيا لها من حسرة فقلت جعلت فداك إني سمعتك تنهي عن الكلام وتقول ويل لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله (ع) إنما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون ثم قال أخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله قال فأدخلت حمران بن أعين والأحول وهشام بن سالم وقيس الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين (ع) فلما
Shafi 9