على وفق مذاهبه وتحقيقاته فلما جاء المتأخرون وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومن بعده فحسبوا ذلك شهرة بين العلماء وما فطنوا أن مرجعها إلى الشيخ وأن الشهرة إنما حصلت بمتابعته وتخطى ذلك قوم وسموها اجماعا وفي الكلام إيماء إلى أن الشهرة بين الأولين من أصحاب الأئمة صلى الله عليه وآله وأرباب النصوص ليست حالها على هذا المنوال وهو كذلك لأن المفهوم من سيرهم وأحوالهم بالتتبع أنهم كانوا يتثبتون كثيرا ويراجعون المعصوم في جلائل الأمور ودقائقها ولا يتسارعون إلى الحكم والفتوى في المسائل إلا بثبت مركون إليه ودليل مقبول يسوغ التعويل عليه فاشتهار الحكم بينهم مما يستبعد جدا أن يقع جزافا بل الذي يقوى في النفس أنهم أخذوه عن الحجة بإحدى الطرق المعتبرة ومع ذلك كله فلا تنهض حجة فيما لا يتسامح فيه و المستيقن لا يفارق الاحتياط في العمل ما أمكن على أن البحث عنها قليل الجدوى إذ معرفة المشهور بينهم في آحاد المسائل التي يختلف فيها الآن مما كاد يلحق بالمحالات لأن كتبهم في الفتاوى المجردة قليلة جدا وإنما يوجد نبذ منها متفرقة في أسفار الناقلين كما في كتاب الكافي وغيره كالفقيه والتهذيب ولا يبعد أن تكون الإشارة إلى هذا فإن روى صاحب العوالي مرفوعا عن زرارة بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) فقلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ فقال (ع) يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر فقلت يا سيدي أنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم فقال (ع) خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت إنهما معا عدلان مرضيان موثقان فقال انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم قلت ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع فقال إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط فقلت إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع فقال (ع) إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر قال وفي رواية أنه (ع) قال إذن فارجه حتى تلقي إمامك وتسئله وهي صريحة في التعويل على الشهرة فكيف ينفى الاعتداد بها بقسميها قلت المعول عليه في الحديث إنما هو اشتهار الرواية بين أصحابه دون اشتهار القول المجرد عن البرهان بين القائلين به وكذا لا نعتد باجماع يدعى في محل الخلاف كما كثر من ابن إدريس والمحقق الثاني وبعض من تقدمهما فإنه ليس إلا زورا إذ المجمع عليه لا ريب فيه كما تقدم في المقبولة وفي معناها مرسلة الإحتجاج فكيف يشتبه بالمتنازع فيه وقد يوجه للذب عن هؤلاء الأجلة قدس الله أرواحهم بوجوه مثل أن مرادهم الشهرة كما سبق سواء ألحقناها به في الحجية أم لا أو تأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الاجماع وإن بعد كجعل الحكم من باب التخيير أو عدم اعتداد مدعيه بخلاف معلوم النسب أو اطلاعه في عصره على الخلاف وهو الذي ارتضاه المصنف (ره) في المفاتيح وغيره ويرد عليها جميعا عدم الاطراد لما اتفق منهم كثيرا من ادعائه على ما لم يبلغ حد الشهرة وفي مواضع لا تكاد تنالها أيدي التأويل وقدحهم في الاجماع تارة بخلاف معلوم النسب وعدم اعتدادهم بمخالفة مجهوله أخرى على أنه لا فرق بين معلومه ومجهوله إذ المقدمة التي بنوا عليها أمر الاجماع وهو قبح الاجتماع على الخطأ على تقدير تسليمها تهدم في الصورتين كما بيناه في شرح المفاتيح وربما يكون المدعي هو الناقل للخلاف أو هو المخالف وربما تتعارض الدعويان مع اتحاد المدعي والحق أنه وإن تقاصر كل منها عن شمول هذه الاجماعات إلا أنها غير خارجة عن مجموعها كما لا يخفى على المتتبع وأكثر الاجماعات المنقولة في المسائل النظرية من هذا القبيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل مقدمة في تقسيم العلم بوجه آخر غير ما تقدم في ضمن تقسيم الحكمة وبيان مرتبة كل قسم وآداب العالم والمتعلم فهي يسيرة الألفاظ كثيرة الفوائد والتنوين للتحقير أو التعظيم العلم هو حصول الصورة في الذهن أو الصورة الحاصلة فيه أو انتقاشها بها وهذا الحد ينطبق طردا وعكسا على جميع أنواعه بتصوراتها وتصديقاتها وهي وإن كانت كثيرة إلا أن مجامعها علمان علم الدنيا وعلم الآخرة وعلم الدنيا ما يرتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب وعلم الآخرة علمان أحدهما علم يقصد لذاته وهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو إما تحقيقي أو تقليدي فالتحقيقي نور يظهر في القلب عند تطهيره وتذكيته من ذمائمه فينشرح للحق فيشاهد بذلك النور و والانشراح الغيب ففي الحديث النبوي ليس العلم بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه وفيه ما من عبد إلا ولقلبه عينان وهما غيب يدرك بهما الغيب فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه فيرى ما هو غايب عن بصره فعند ذلك ينكشف عليه أمور كان يسمع من قبل أسماءها ويتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فيتضح له جميع ذلك حتى تحصل له المعرفة التامة بذات الله وبصفاته وأفعاله و حكمته ومعنى النبوة والإمامة والوحي وكيفية وصوله إلى النبي وحديث الملك مع الإمام ومعنى الآخرة والجنة و النار وما يتعلق بهما إلى غير ذلك فإن للناس في تصور حقايق هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات متفاوتة ودرجات متفاضلة فنعني بالعلم المقصود لذاته أن يرتفع الغطاء حتى يتضح جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا شك فيه كما في حديث أمير المؤمنين (ع) لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا ولم أعبد ربا لم أره لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقايق الايمان وذلك بتفريغ القلب عن الشواغل وتخليته عن الهموم المختلفة المتنوعة وجعلها كلها هما واحدا كما يأتي فيتسع بذلك وينفسح فيحتمل البلاء لسعته وفي الحديث أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل ويحفظ السر وهو ما ظفر به من مكنون العلم الصعب المستصعب الذي لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للايمان ولقد بولغ في الحث على كتمان الأسرار والمنع عن الافشاء والإذاعة والهتك بما لا مزيد عليه أما لغموض الأمر وقصور الأفهام العامية عن ادراكه و افشاء مثل هذا وضع للحكمة في غير موضعها كتعليق الدر في أعناق الخنازير وفي الحديث لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ومشغلة لأذهانهم بما لا يرجع إلى طائل وذلك مثل حقيقة الروح التي هي من عالم الملكوت والنفوس الناقصة التي لم يتجاوز عالم الملك بمعزل عن ادراكها
Shafi 7