يعلم أنه يموت فيضيع أو يأخذ أعداؤه وهو مرض مزمن لا يرجى برؤه جبليا أو عرضيا وأكثر ما يعرض للطاعنين في السن وكذا حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال فيمسكه حذرا عن فواتها بفواته وهذا يعالج بالقناعة وحبس النفس عن الشهوات وكذا طول الأمل وخوف حدوث الفقر بالحوادث المحتملة وقلة الوثوق بمجئ الرزق في المستقبل فيحتاط بإمساك ما في يده في الحال وهذا لو فرض علمه بأنه يموت غدا مثلا ربما كان لا يبخل وقد يقوم هم الولد مقام طول الأمل فيقدر بقائه كبقاء نفسه ويبخل لأجله فورد في الحديث النبوي الولد مبخلة مجبنة محزنة بصبغة الآلة أو اسم المكان تجوزا في الجميع وعلاج طول الأمل ما يأتي في باب قصره وعلاج قلة الوثوق في باب التوكل ويعالج هم الولد بالالتفات إلى أن الذي خلقه خلق معه رزقه وكم من ولد لم يرث من أبيه مالا وحاله أحسن ممن ورث وأنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر وأن ولده إن كان تقيا سعيدا فيكفيه الله وإن كان شقيا فيستعين بماله على المعصية فيكونان قد شقيا جميعا وعن أمير المؤمنين (ع) إن لك مما في يدك من المال ما مهدت لنفسك فأثر نفسك على صلاح ولدك فإنما أنت جامع لأحد رجلين أما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت وأما رجل عمل بمعصية الله فشقي بما سعيت وليس من هذين أحد بأهل أن تؤثره على نفسك ولا تبرد له على ظهرك فارج لمن مضى رحمة الله وثق لمن بقي برزق الله وأما من طرف الافراط فهو العدوان والخروج عن القصد في النفقة اللازمة له ولعياله بحيث لا يفضل من مكسبه ما يصرفه في المحاسن التي بها تكتسب فضيلة السخاء وهذا يرفع بالتوسط في النفقات والتنزل عن المؤنة المعتادة إلى الحد اللائق وهو القصد لتبقي له بقية يمكنه بها الاتيان بهذه المزية المحمودة وربما تكون نفقته متوسطة غير بالغة حد العدوان بل مقصورة على الحد اللائق بحاله ومروته لكن مكسبه يكون قاصرا عن الزيادة فيفوته السخاء لا من حيث زيادة النفقة بل من حيث عدم زيادة الكسب عنها ويرفع هذا بمعرفة عز القناعة والتنزل عن حد القصد إليها فيجتزئ بأي طعام كان ويقلل من الإدام ما أمكن ويوطن عياله على ذلك من غير إجحاف بهم ابقاء لما يندرج به في سلك الأسخياء الذين حالهم ما عرفت وأما ايجاد المقتضي فبأمور علمية وعملية أحدها وهو مما ينفع في دفع المانع أيضا التأمل في ذم البخيل ومدح السخي عند أولي الألباب وأصحاب العقول الرزينة وما ورد فيهما في الكتاب والسنة مما ذكر وغيره قال الله (تع) لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وفي الحديث السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي والبخل شجرة تنبت في النار فلا يدخل النار إلا بخيل والتأمل في أحوال الأنبياء والأولياء من حيث اتصافهم بالسخاء وتنزههم عن البخل مع قلة ذات يدهم وضيق معاشهم أو من حيث التوسط في النفقة أو القناعة فيها ايثارا للسخاء أو اسباغا فيه واختيار التشبه بهم لا بالمتنعمين البخلاء من الكفار والحمقى فإنهم أهل التنعم الدنيوي غالبا كما هو المشاهد وثانيها التسخي بأن يكره نفسه على البذل ومفارقة المال تكلفا بل لو رماه في الماء كان أولى به من وجه من إمساكه مع الحب له ومن لطايف الحيل فيه خداع النفس بالصيت وحسن الاسم والاشتهار بالسخاء وتوقع المكافاة بالمدح وغيره فيبذل على قصد الرياء حتى تسامح نفسه بالبذل طمعا في حشمة الجود فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب خبث الرياء ثم إزالة الرياء بعد الاعتياد بالجود بما يأتي في باب الاخلاص ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما قد يسلى الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير لا ليخلي واللعب ولكن لينتقل عن الثدي إليه ثم ينقل عنه إلى غيره فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض ويدفع بعضها ببعض ومثاله ما يقال إن الميت يستحيل جميع أجزائه دودا ثم يأكل بعض الديدان بعضا حتى يقل عددها وتكبر الباقيات ثم يأكل بعضها البعض حتى يرجع إلى اثنين قويين عظيمين ثم لا يزالان يتقابلان إلى أن يغلب أحدهما الآخر فيأكله ويسمن به ثم لا يزال يبقى وحده جائعا إلى أن يموت وثالثها كثرة ذكر الموت فإنه مما يقصر الأمل ويوحش عن الدنيا والاعتبار بالسالفين وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم وعدم انتفاع أولادهم به خصوصا إذا كانوا من أقرانه وأوليائه فإنه أنجع ومن الحيل في تذكر الموت زيارة القبور سيما من الأحباب وهذه كما تميت البخل وتحرك إلى السخاء كذلك تميت الحرص وتحرك إلى عز القناعة والأصل فيه الصبر لتتوقف النفس من شهواتها وقصر الأمل لأن في تطويله تكثيرا للاحتمالات المفقرة الداعية إلى البخل وكلما قصر قلت والعلم بآفات المال الدينية والدنيوية وهي زيادة على ما ذكر في باب الفقر الافضاء إلى المهلكات كالكبر و الكذب والعداوة وحب الدنيا واقتحام الشبهة في المأخذ والمصرف والحاجة إلى الناس فإن الناس أحوجهم إليه والشغل عن الطاعة قبل حصوله وبعده بالكسب والحفظ والاستمناء ودفع الحساد واسترضاء الخصوم مع احتمال المشاق البدنية والنفسانية ومقاسات الأخطار والأهوال في القفار والبحار وغير ذلك مما لا يحصى والقانع في سلامة من جميع ذلك واعلم أن المصنف (ره) في باب ذمائم القلب اعتبر السخا ضدا للبخل والسرف جميعا إشارة إلى أنه الاقتصاد بينهما وقد عد في أحاديث الجنود ضدا للبخل كما قدمنا وهو المناسب للرسم فيندرج فيه كثير من المفهومات المتشاركة في مضادة البخل أعني إمساك ما يجب بذله وإن كانت متفارقة من وجوه أخر مقتضية لأن يوضع لكل منها اسم مخصوص ويحكم عليه بما يناسبه من مدح أو ذم وربما قيل في بعضها بالترادف وهي الجود والكرم والايثار والتبذير والاسراف والتسخي و المروة وبيان ذلك من الفوائد المناسبة للباب فالسخاوة تفارق الجود بأنه بذل قبل السئول بخلافها فإنها بعده فيتفارقان كليا أو قد تكون بعده فهو أخص مطلقا وقيل هو الصفة الذاتية وهي المكتسبة
Shafi 64