يوصف به الله سبحانه وهو الذي سميناه استغناء والاستغناء عن الشئ بعدم الالتفات إليه خير من الاستغناء به لأنه أقرب إلى التجرد وأشبه بالربوبية في التنبيه على غوائل الغنى بذكر فوائد الفقر وطي فوائده اقتفاء لما ورد عن الشارع الحكيم صلوات الله عليه من رعاية المصلحة الغالبة في ذم المال لأن إثمه أكبر من نفعه وقد تقدمت الإشارة في نظيره مما سلف إلى أن من أسرار الشريعة المقدسة أن كل ما يقوى إليه المحرك الطبيعي وتكثر فيه الرغبة النفسانية ويكون الافراط فيه مفسدة تتوارد الأوامر الشرعية بخلافه ليكون الباعث النفساني معارضا بالمانع الشرعي فيتقاومان ويحصل الاعتدال المطلوب نظير ما ورد في فضل الجوع والأمر به كما يأتي فإن ذلك كله راجع بالحقيقة إلى النهي عن الامتلاء والتخمة لا أمر بالكف عن تناول الرزق المباح بقدر ما يحفظ البدن عن الانتهاك ويتقوى به على العبادة والتردد في الكسب وقضاء حوائج المؤمنين وكذا ما ورد في فضل الصمت فإنه نهي عن الهذر لا أمر باهمال القوة الناطقة التي بها يمتاز عن الحيوانات العجم ولقد أحسن وأجاد من قال إن مثل المال مثل حية فيها سم وترياق فسمها آفاتها المذكورة وترياقها فوائدها الدنيوية والدينية كالخلاص عن مهانة السئول و ذل النفس واكتساب العز والمجد بين الخلق وكثرة الأعوان والإخوان والوقار والكرامة في القلوب والمروة وصيانة العرض والاقتدار على الخيرات زيادة على ما يوجب الثواب لترك الدنيا كالحج وبناء المساجد و المرابط ونحوها من الأوقاف المستجلبة لدعوات الصالحين في أزمنة متمادية ومن ثم سمى الله المال خيرا في عدة مواضع من القرآن وعن النبي صلى الله عليه وآله نعم المال الصالح للرجل الصالح ومما يشهد لما ذكرناه احتجاج أبي عبد الله (ع) على الصوفية لما دخلوا عليه قال ثم علم الله نبيه كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده صلى الله عليه وآله أوقية من الذهب فكره أن تبيت عنده فتصدق بها وأصبح فجاءه سائل وليس عنده ما يعطيه فلامه السائل و أغنم هو وكان رحيما رفيقا فأدب الله نبيه بأمره فقال ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا يقول إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال قال ثم من علمتم من بعده في فضله وزهده سلمان الفارسي (رض) و أبو ذر (ره) فأما سلمان فكان إذا أخذ عطائه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطائه من قابل فقيل له يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا فكان جوابه أن قال ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم على الفناء أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صار ألا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بالقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم الحديث والموفق يتحفظ عن سم المال وينتفع بترياقه ويحفظ لكل مقام مرتبة استحقاقه وفي الحديث القدسي إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وهذا من الأمر بين الأمرين والحمد لله وحق الفقر أن لا يكره لأنه الأصلح وفي الحديث إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وفيه يا معاشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا بل يتقلد الفقير المنة من الله تقلد المحجوم المنة من الحاجم لما يرجوه من فعله المؤلم من الصلاح ويستر فقره بالتجمل والتعفف ولا يظهر الشكوى وقد مدح الله قوما بذلك بقوله يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وعن النبي صلى الله عليه وآله إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه فمن ستره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم ولا يتواضع للغني لغناه بل يترفع عليه فعن أمير المؤمنين (ع) ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله عز وجل وأقله أن لا يرغب في مجالسته لأن ذلك من مبادي الطمع ولا يتوانى بسبب الفقر في العبادة فإنه من علامات ضعف اليقين ولا يدخر شيئا مما يسوقه الله إليه بل يأخذ قدر الحاجة ويتصدق بالفاضل وإن كان قليلا فإن ذلك جهد المقل و فضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى وفي الحديث النبوي درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم قيل وكيف ذلك يا رسول الله قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف يتصدق بها وأخرج رجل درهما من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب مائة ألف ويستقرض حيث يستقرض تعويلا على الله تحسينا للظن به لا تعويلا على السلطان سواء كان له رزق راتب له أم لا ويكشف الحال للمقرض عند الاقتراض إن لم يكن مكشوف الحال عنده حرزا من الغرور ليقدم على اقراضه على بصيرة ولا يخدع بالمواعيد الغير المرجوة فإنه كذب ولا يسأل أحدا إلا الله سيما البخلاء ومستحدثي النعمة وفي الحديث لأن أدخل يدي في فم التنين أحب إلي من أن أسأل من لم يكن ثم كان وقد كثر النهي عن السئول في الأخبار وذلك لتضمنه عدة من المفاسد أحدها الشكاية منه تعالى بذكر قصور نعمته عليه كما أن العبد المملوك لو سأل كان سؤاله تشنيعا على سيده وشكاية عنه وثانيها اذلال النفس المؤمنة لغيره (تع) وليس للمؤمن أن يذل نفسه إلا لله فعن أبي عبد الله (ع) إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ألم تسمع لقول الله عز وجل ولله العزة ولرسوله و للمؤمنين الحديث وثالثها إيذاء المسؤول فربما لا تطيب نفسه بالبذل لكن يعطي حياء من السائل أو الحاضرين وهو الريا فيحرم المبذول على السائل فمن ثم حرم السئول إلا لضرورة مهلكة كالجوع في المخمصة أو ممرضة كالبرد في الشتاء لفاقد الدثار غالبا فيجوز حينئذ لمن عجز عن الكسب دون القادر البطال أو للحاجة الخفيفة
Shafi 59