وقد عاصرنا فيما مضى من عمرنا وهو دون الخمسين سنة بضعة عشر ملكا في فطرنا كل واحد منهم جالوت زمانه لم يمت أحد منهم على فراشه حتف أنفه إلا قتلا بالسيف في أسوء حال على أيدي أرذل الأرذال وهذه حال الدنيا وخساستها وأنه لو كانت تسوي عند الله جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة ماء كما في المتفق عليه فكيف يرغب العاقل فيها وفي جاهها وأنه كمال وهمي لا حقيقي وحسبانه كمالا وعقد القلب عليه من أغاليط الوهم كما يغلط في غيره من المواضع وتلتبس عليه الأشياء بأضدادها وذلك لأنه أمر معرض للزوال بما يعترضه من الآفات المذكورة وغيرها ولو فرض سلامته عنها واستمراره لصاحبه مدة الحياة فلا ريب أنه يزول بالموت وهو مترقب في كل أن لو فرض انبساطه بحيث يسجد له جميع من في الأرض فعما قليل يفنى الساجد والمسجود ويلتحقون بالأولين من الملوك والمتذللين لهم ممن طحنهم الموت وقطع دابرهم وهكذا حال المال أيضا فإن من ملك خزاين الدنيا يفارقها عن قريب و يخرج منها صفر اليد كيوم قدم إلى الدنيا بل قدمها خالي الذهن خفيف الظهر وفارقها وفي قلبه من الحسرات ما لم يعلم به إلا الله وعليه من الأوزار أضعاف ذلك فالأعراض التي هذا حالها ما أبعدها عن الكمال الربوبي ولا سيما الجاه فإن فيه التشبه بالسباع من حيث التوسع في البطش والاعتداء و الشياطين من حيث التلطف إلى القلوب والمكيدة في جبلها والبهايم من حيث التسرع في الشهوات فإنها كلها من لوازمه غالبا وهي في غاية البعد عن صفات الربوبية وأما الكمال الحقيقي المقارب لها في الثبات والسلامة عن الزوال فمعرفته (تع) ومحبته المترتبة عليها وما يعين عليهما من الآلات و المقدمات العلمية والعملية لبقائه بعد الموت وابتهاج صاحبه به إذ ذاك وفيه التشبيه بالأنبياء المتخلقين بأخلاق الله والملائكة الذين لا يستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب وقد وقعت الإشارة إلى القسمين في قوله عز وجل المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فتلخص مما ذكر أن الاستيلاء المعدود في بادي النظر كمالا ربانيا مطلقا ترجع أقسامه كلها إلى العلم والقدرة بنوعيها المالي والجاهي ليست من الكمال في شئ وإن سبق الوهم إلى ذلك وأما العلم فينقسم إلى ما يبقى وما يزول والزائل هو المتعلق بالممكنات من حيث هي هي وحكمه حكم القدرة والباقي هو المتعلق به (تع) وما يستتبعه كل شئ هالك إلا وجهه وهذا هو الكمال وما سواه جهل وضلال أو حسرة ووبال ومن عرف حق الكمال من باطله صغر الجاه في عينه إلا أنه إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب كما قال الله (تع) بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن ثمة كان العلاج بما ذكر ضعيفا في حقهم والعلاج الأقوى هو العملي والمذكور هنا أمران أحدهما القناعة فإن من قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى عنهم لم يشتغل قلبه بهم ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن ولم يبال أكانت له في قلوبهم منزلة أم لا كما لا يبالي ذلك في قلوب الذين هم في أقصى الشرق وهذا إنما ينفع علاجا في الجاه المحبوب للمال والآخر الاغتراب إلى حيث يخمل ذكره ويكف نفسه عن التعرف إلى أهله واستحداث جاه جديد أما الاعتزال عن الناس في الوطن والتنزل عن المرتبة التي كان مترتبا عليها فربما يترائى أنه مما يمكن الخلاص به عن هذا الداء الدفين و آفاته لكنه لا يخلو عن مغالطة وذلك لمعرفة الناس به وتقرر منزلته في قلوبهم فربما يكون عزوف نفسه عن مخالطتهم وميلها إلى الانقطاع عنهم بسبب أنها ظفرت بمقصودها فسكنت ولو تعيروا عما اعتقدوه فيه أو نسبوه إلى أمر غير لايق جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة الغبار عن قلوبهم وهذا علامة بقاء شئ من حب الجاه بعد في قلبه وأنه لما يفارقه المرض بالكلية فمن ثم كان الاغتراب أقوى وهذا مما ينفع في القسمين ثم إن الكلام في حب المدح ينساق مساق الكلام في الجاه لانشعابه عنه ويتبعه كراهة الذم والناس فيهما على مراتب متنزلة الأولى وهي الأولى كراهة المدح وحب الذم فيمقت المادح لأنه فتنة له ويحب الذام لأنه مهد إليه حسناته ومنتبه له على عيوبه وفي الحديث النبوي رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وفيه ويل للصايم وويل للقايم وويل لصاحب الصوف إلا من قيل يا رسول الله إلا من فقال إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحب المذمة وهذه شديدة عزيزة المنال جدا لا مطمع لنا فيها ومن ثم طواها المصنف ثم التسوية بين المدح والذم فلا تغمه المذمة ولا تسره المدحة وهذه قد يظنها بعض المجاهدين بنفسه فلا بد له من امتحانها وتعرف بعلاماتها وهي تسوية المادح والذام عنده في استثقال جلوسهما أو طوله عنده فلا يجد في نفسه استثقالا للذام أكثر مما يجده في المادح وتسويتهما في الفرح بسرورهما والغم بمصيبتهما فلا يكون فرحه بسرور المادح أو غمه بمصيبته أكثر من فرحه بسرور الذام وغمه بمصيبته ونحوه التسوية في نهضته لقضاء حوائجهما وتوحشه عن انقطاعهما عن مجلسه وعفوه عن زلتهما فمن وجد من نفسه هذه العلامات وأمثالها فهو من أهل هذه المرتبة وما أبعدها وأصعبها على القلوب وأكثر المتهذبين فرحهم بالمدح مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون وربما يشعر بعضهم بميل قلبه إلى المادح دون الذام فيعلله الشيطان بأن المادح قد أطاع الله بمدحك والذام قد عصاه بذمك فميلك إلى هذا وكراهتك لذاك من الدين وهو من الجهل المحض لأن في الناس من يعبد الله بأعظم من مدح المادح وهو لا يحبه حبه وفيهم من يعصيه بأكبر من ذم الذام ولا يكرهه كراهته وأيضا المادح الذي أطاع الله فيه قد يعصيه بمذمة غيره والذام الذي عصى الله فيه قد يطيعه بمدح غيره وهو لا يكره ولا يحب لذلك وعلامة الصدق التسوية بين مدحه ومدح الغير وذمه وذم الغير و
Shafi 51