أفصحت الألسن بثنائه ويقنص بذلك قلوب السامعين فيسري من الواحد إلى العشرة ومن العشرة إلى الألف ويطير في الآفاق في أيسر وقت بخلاف المال فإنه لا يستنمي إلا بتعب شديد ومخاطرات كثيرة وربما يتوي فيها الأصل والفرع وأما رابعا فلأن المميل يطلب ملك الأرقاء والعبيد ببذل ما في يده والوجيه استرقاق الأحرار وملك رقابهم بملك قلوبهم والاستيلاء على ما في أيديهم بل مالك العبد لا يملكه إلا قهرا أو العبد متاب بطبعه ولو خلي ورأيه لا نسل عن الطاعة فهو وإن كان مخدوما مطاعا إلا أنه بالكره بخلاف الوجيه فإنه مخدوم مطاع بالطوع والإرادة مع الفرح وصدق الشوق بقدر ما يعتقدون فيه من الجميل وإن لم يكن كما لا في نفس الأمر والوجوه الأخيرة جارية في قسم المحبوب لذاته أيضا وهو المذموم مطلقا مثله من المال وأما المحبوب للغرض فينساق فيه التفصيل الجاري في نظيره أيضا وينقسم انقسامه إلى الأحكام وذلك أن الانسان لا بد له من طعام ومسكن ومصالح أخر لا يستقيم أمره إلا بها ولا تستقيم هي إلا بالمال فتحصيل شئ منه وحبه يصرف في تقويم هذه الضروريات مما لا ضير فيه بل ربما يستحب أو يجب مهما كان غير متخطي فيه عن قانون الشرع كان يتوصل إلى تحصيله بالاستراق والتلصص والخيانة أو يحمله حبه على البخل وحبس الحقوق فيحرم حينئذ وهكذا بعينه في الجاه وحبه وتحصيله فحرام إن كان التوصل إلى تحصيله أو ابقائه بارتكاب ذنب كالكذب في الأقوال والأفعال وهو الخداع باظهار أنه عالم أو ورع أو شريف ليعظم محله في القلوب بذلك وهو بخلافه ومن الخداع بيع العبادة وهو الرياء وهو في الأفعال والتورع في التروك وهذا هو الفرق فجعلها وسيلة الدنيا خيانة على الدين كما في حديث أمير المؤمنين (ع) في وصف حملة العلوم يستعمل آلة الدين للدنيا وإلا فمباح سواء كان باظهار ما فيه من المحامد كقول يوسف (ع) لما تعرف إلى الملك اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم وليس في الآية لفظ رب كما يوجد في النسخ فإن لم يكن سهوا فدعاء بما فيه إشارة إلى استدعاء نبي الله أو بكتمان ما فيه من المساوي كالذي يستر عيوبه عن الناس من غير أن يتجمل إليهم بالتورع فإنه ليس فيه تلبيس وقد ورد الأمر باخفاء العيوب والنهي عن التهتك كما مرت الإشارة إليه وسواء كان على وفق حاله بحسب شرفه ومروته أم لا فإن ذلك كله داخل في المباح إلا قدرا يعين على الطاعة أو ضرورات المعيشة مع الخلق كاستمالة قلب خادم يتعهد الخدمة فيتفرغ للتوجه إلى العبادة والمطالعة أو رفيق يعاون على بعض الخيرات التي لا يتخرج هو وحده عليها أو سلطان يدفع عنه الشر ويتقوى به على الخير فإن حب هذا القدر من الجاه متجاوز عن مرتبة الإباحة مستحب أو واجب بحسب قلة الاحتياج وكثرته وقوة النفس وضعفها وفيه آفات دينية ودنيوية كالنفاق ففي الحديث النبوي حب الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل واضطراب القلب لشغله برعاية القلوب لئلا تنفر عنه مع تخالف ميولها بحيث تتعذر مراضاتها جميعا وكثرة تقلبها ومن ثم سمي القلب قلبا وعدم ثباتها على حال واحدة حتى قيل إن الأمر المبتني على قلوب الناس أشبه شئ بما يبنى على أمواج البحر فالمشفق من تغير منزلته في القلوب قد أوقع نفسه في شغل شاغل التثبيت جاهه وحفظه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء لأنه محسود مقصود بالايذاء من أكفائه وغيرهم وكل ذلك اشتغال عن الله وغموم عاجلة منغصة للذته في الدنيا قبل الآخرة وسببه هو سبب حب المال و هو أحد أمرين جلي وخفي أما الأول فهو طول الأمل وخوف الآفة فإن الانسان وإن كان مكتفيا في الحال إلا أنه يخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف بنوائب الزمان في المدد المتطاولة التي يقدر لنفسه الحياة فيها فيحتاج إلى غيره فإذا خطر له هذا الخاطر هاج الخوف من قلبه ولا يدفع هذا الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفرغ إليه إن أصاب هذا المال حائجه فهو أبدا لتقديره طول الحياة وهجوم الحاجات وتطرق الآفات إلى الأموال في وجل ولا موقف له عند مقدار مخصوص من المال حتى لو ملك واديين من ذهب لأحب أن يكون معهما ثالث كما في الحديث وفي آخر منهومان لا يشبعان منهوم بالعلم ومنهوم بالمال وهذه العلة بعينها مطردة في حب الجاه وقيام المنزلة في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه ويحتاج إلى الاستعانة بهم وهذا هو السبب في حب المال والجاه المقصودين لغيرهما وأما الثاني فهو استدعاء الطبع الكمال وهذا هو السبب في القسم المحبوب بالذات منهما وذلك لتحقق الطبع الربوبي المقتضي للكمال في الانسان كالسبعي و البهيمي والشيطاني فكما أن السبعي فيه يستدعي رغبته في الظفر والغلبة والبهيمي الأكل والنكاح والشيطاني الجربزة والخديعة وإن كانت الطباع متفاوتة في هذه المقتضيات كذلك يستدعي الطبع الربوبي الرغبة في مقتضاه وهو الكمال المطلق وإذ يمتنع عليه درك منتهى الكمال لا يسقط شوقه إلى القدر الممكن منه فهو طالب له ملتذ بقدر ما يناله منه لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال فيحب الاستيلاء على الموجودات لأنه غاية ما له القدرة عليه من كمال الربوبية وتختلف مراتبه باختلاف أحوال الموجودات وأبلغها الاستيلاء بالاسترقاق والتملك إن أمكن كما في الأجساد الأرضية وهي البسيطة بما عليها من المعدن والنبات و الحيوان وغيرها وهي متفاوتة في مراتب العزة والنفاسة ونقيضهما تفاوتا عريضا وتختلف درجات الشوق إلى تملكها والإحاطة بها بحسب ذلك ثم الاستيلاء بالاستمالة كما في القلوب فإنها ضرب من ضروب التملك به يسترق الأحرار كما عرفت وكلما كان الحر أجل قدرا وأوقع محلا كانت العناية باستمالة قلبه أكثر ثم بالاطلاع والإحاطة العلمية كما في السماويات من الأجرام والأوضاع وعالم الملكوت وما فيه من أسرار القدرة وكذا ذات الله وصفاته وعجايب عالم الملك من الجبال والبحار بما فيها وغير ذلك فإن النفس تلتذ بالعلم بها لأن المعلوم المحاط به كالداخل تحت القدرة والعالم كالمستولي عليه والاستيلاء كيف كان كمال محبوب بالطبع وعلاجه عدة أمور علمية وعملية فالعلمية ذكر آفات الدنيا وكثرة تقلبها بأهلها لا سيما ذوي الجاه فإن أعظمهم الملوك وهم أشفق الناس قلبا وأكثرهم قلقا وأقلهم أمنا لأنهم مقصودون بالأذى من إخوتهم وأولادهم وأخص خواصهم وأقاربهم فضلا عن الأباعد
Shafi 50