له سرا ثم يذكرها فتمحي فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحي وتكتب له رياء وأما الثاني فإن المصائب على تكثر أنواعها ينظمها قسمان أحدهما ما هو من فعل الآدميين مثل قطع الطرف وقتل الولد ونحوهما مع تمكن المصاب من مكافآت الجاني بالاقتصاص وهذا ممكن المجازات والآخر ما كان من فعل الله تعالى مثل موت الأحباب وعروض الأمراض أو فعل غيره ممن لا يمكن مجازاته ويشترك القسمان في الصعوبة على النفس وكراهة الطبع لهما اضطرارا فليس المراد بالصبر فيهما أن لا يكون في نفس المصاب كراهية المصيبة فإن ذلك غير داخل تحت الاختيار بل الذي يكلف به الصابر أن يتحمل في المصيبة ويستعين بالله في تعزيته وتثبيت نفسه كما حكاه الله عن يعقوب (ع) لما أصيب بذهاب ولده فصبر جميل والله المستعان وذلك يختلف باختلاف القسمين فالتجمل في ممكن المجازات بترك المكافات والاعراض عنها قولا وفعلا افحاما للقوة الغضبية قال الله (تع) فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وينبغي تقييده بما إذا كان الفايت مما لا يستدرك كما مثلنا وهو المحكي في شأن النزول أما في مثل الأموال المغصوبة ونحوها مما يستدرك فائته فلا ضير في المكافاة بأخذ العين أو العوض ما لم يستلزم نقصا في المروة وفي عبارة المتن ما لا يخفى وفي غيره بترك الجزع كلطم الوجه وشق الجيب كما ذكر وترك الشكاية إلى غير الله كأن يقول ابتليت بما لم يبتل به أحد وأصابني ما لم يصب أحدا كما في الحديث قال وليس الشكوى أن يقول سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا وسئل أبو جعفر عليه السلام عن الصبر الجميل فقال ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس وكتمان المصيبة ففي الحديث النبوي من اجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكوا وجعك ولا تذكر مصيبتك واستمرار العادة من دون تغيير في اللباس والطعام والفراش ونحوها هذه كلها أمور اختيارية يحسن التكليف بها أما الشكاية إلى الله وسؤاله الرفع فيما يرجى رفعه كالأمراض فحسن كما حكى الله عن يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله و عن أيوب الممدوح بالصبر قوله إني مسني الشيطان بنصب وعذاب وقوله رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ونقل المصنف طاب ثراه في الحاشية عن بعض أهل المعرفة أن من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته قال بعضهم إنما جوعني لأبكي فالعارف وإن وجد القوة الصبرية فليقر إلى موطن الضعف والعبودية وحسن الأدب فإن القوة لله جميعا فيسأل ربه رفع البلاء عنه أو عصمته منه إن توهم وقوعه وهذا لا يناقض الرضا بالقضاء ويسأل الله في رفع المقضي عنه فيكون راضيا صابرا وأنشد بعضهم ويحسن إظهار التجلد للعدى * ويقبح إلا العجز عند الأحبة وفي الفارسية در پيش حسود خود پسندي خوشتر * وز عجز وفروتني بلندي خوشتر وانجا كه زند دوست سرا پرده ء ناز * بيچاره كي ونياز مندي خوشتر انتهى وأما مثل التألم القلبي وجريان الدمع من غير رفع صوت فلا يدخل تحت الاختيار ولا ينافيه لأنه من مقتضيات الطبيعة البشرية وبكى يعقوب (ع) حتى ابيضت عيناه من الحزن وفي الحديث أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فوضعه في حجره فقال له يا بني إني لا أملك لك من الله شيئا وذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله يبكي أما نهيتنا عن البكاء فقال إنما نهيت عن صوتين أحمقين صوت عند نعمة لعب ولهو ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان وإنما هذه رحمة من لا يرحم لا يرحم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل ميتاء وأن آخرنا سيلحق آخرنا أولنا لحزنا عليك حزنا أشد من هذا وأنا بك لمحزونون العين تدمع و القلب تحزن ولا نقول ما يسخط الرب بل ذلك ليس مناف لمقام الرضاء الذي هو فوق الصبر فإن المقدم على الفصد والحجامة راض بهما وهو متألم بسببهما لا محالة كما يأتي ومما تقدم في حد الصبر وغيره ينكشف أن الصبر مما لا بد منه للمؤمن في جميع الأحوال والأوقات لأن الهوى مركوز في جبلة الانسان باق ببقائه مستصحب له بامتداد زمن الحياة لا مخلص منه إلا بالموت فعلى الحازم الموفق أن يتبادر بالموت الإرادي قبل الموت الطبيعي إلى مرتبة الفناء في الله كما ورد الأمر به في قوله صلى الله عليه وآله موتوا قبل أن تموتوا ليتخلص من غائلة الهوى وذلك بافحامها والتمرن على معصيتها والاصرار على مراغمتها حتى تضمحل وتتلاشى وتنقاد تحت حكم باعث الدين انقياد الميت في يد الغسال ومن ثم قيل كمال الصبر ترك كل حركة مذمومة بدنية ونفسانية فإن الحركات المذمومة إنما تصدر عن الهوى والميت لا حراك به وغاية هذا الكمال ترك جميع ما يشغل عنه (تع) ولو من المباحات التي ليست مذمومة في ظاهر الشريعة والطريق إليه تقوية باعث الدين وتضعيف باعث الهوى بالمجاهدة والرياضة وذكر قلة قدر الشدة وقصر وقتها و اضرار الجزع من سقوط الوقار وذهاب الهيبة وفوات الأجر المستحق بالصبر مع حصول وزر الجزع كل ذلك من غير فائدة وورد أن أمير المؤمنين (ع) عزى مصابا فقال إن جزعت فحق الرحم قضيت وإن صبرت فحق الله أديت على أنك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مأزور وأن يكثر فكرته فيما ورد في فضل الصبر وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة وأن يعلم أن ثواب الصبر على مصيبة أكثر مما فات وأنه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة الدنيا وحصل له ما يبقى له بعد موته أبد الأبدين ومن أسلم خسيسا في نفيس فلا ينبغي أن يحزن لفوات الخسيس في الحال وأن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجا حتى يدرك لذة الظفر به فيستجري عليه ويقوى منته في مصارعته فإن الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقة تؤكد القوى التي تصدر منها تلك الأعمال كما مر ومن عود نفسه مخالفة الهوى غلبه مهما أراد ثم إن الثبات في المصيبة تختلف أسماؤه باختلاف أحوال المصائب في الاحتمال فإن كان مبتديا في الرياضة لا يحتملها إلا بتعب قوي فتصبر وإن كان مستكملا في الجملة محتملا لها بيسير تعب فصبر وإن كان مترقيا عن مقام الصبر ذا جهدا لاحتمالها من غير تعب أصلا والجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة فرضي كما يحكي عن سهل التستري أنه كان يطب المرضى وهو مريض فقيل له لم لا تعالج نفسك فقال يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع وإن كان محتملا لها بتلذذ واستطابة فشكر فإن الشكور يتنعم بالمصيبة لما يرجوه بسببها من تكفير الخطيئة وادخار المثوبة كما يحكى عن رابعة العدوية أنها عثرت فانقطع ظفرها وسال الدم فضحكت فقيل لها أما
Shafi 44