فالاشتغال به تضييع زمان بغير فائدة فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وهو محال وربما يقرر الاستدلال لهم بوجه آخر وهو أن الأخلاق ملكات طبيعية ولا شئ من الطبيعيات بممكنة التغيير أما الصغرى فمعلومة بما يشاهد من أن المزاج الصفراوي يغلب فيه الطيش و الغضب والدموي الشهوة والفرح والسوداوي البخل والامساك والبلغمي البله وسلامة الصدر وبعض الناس مجبولون على الجربزة والدهاء مع قلة ممارستهم لمداق الأمور وبعضهم على البلادة والحمق مع كثرة كدهم وولوعهم في التحصيل وهكذا وأما الكبر فبالضرورة فإن الجسم الثقيل كالماء يميل بطبعه إلى المركز و الخفيف كالهواء إلى المحيط ولا مطمع للمعالج في صرفهما إلى العكس ومما يؤكد هذا الحسبان ما رواه القوم عن النبي صلى الله عليه وآله إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوه فإنه سيعود إلى ما جبل عليه وعنه صلى الله عليه وآله الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا و بإزاء هذا التفريط افراط من ذهب إلى أنه لا شئ من الأخلاق بطبيعي وأن الانسان مجبول على فطرة ساذجة عن جميع الأخلاق والملكات بالفعل صالحة لجميعها بالقوة ثم إنه يختار ما يختار ما يختار منها بيسر أو بعسر على وفق اقتضاء مزاجه الخاص فهي بأسرها اعراض صالحة للتغيير قابلة للإزالة واستدلوا أيضا بوجهين أنه لولا ذلك لبطلت المواعظ والوصايا والتأديبات وغيرها ولما قال النبي صلى الله عليه وآله حسنوا أخلاقكم ب ما يشاهد من تبدل الأخلاق في حق الأشرار الملازمين لمجالسة الأخيار والأحداث الذين يهتم بتأديبهم وتهذيبهم سيما المنقولين قبل ظهور قوة التمييز فيهم من بلدهم إلى بلد آخر وإن كانوا متفاوتين في سرعة القبول وبطئه وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وهو في الحيوانات العجم مما لا يكاد ينكر فإن الحيوان الوحشي ربما يؤدب فيصير إنسيا والمحيط خبرا بما أشرنا إليه غير مرة من مبادي الأخلاق ومعنى تهذيبها يتسهل عليه الوقوف على حقيقة الحق في الباب وتمييز القشر من اللباب ولنستأنف البيان مختصرا فاعلم أن الأخلاق على تباينها وتقابلها تنقسم بحسب المبدأ إلى قسمين طبيعية حاصلة بمقتضى الطبع من دون تعمل واختيار وعادية حاصلة بمقتضى العادات العارضة من تكرار ممارسة الحركات البدنية والنفسية أما الأخلاق العادية فلا ريب في امكان تغييرها لأنها مسببة عن العادات وهي أعراض قابلة للزوال وزوال السبب ملزوم لزوال المسبب وإن كانت أفرادها متفاوتة في عسر التغيير ويسره بسبب كثرة الرسوخ في النفس وقلته ففائدة الاشتغال بتحسين الأخلاق فيها ظاهرة وأما الأخلاق الطبيعية فتنقسم إلى نوعية وهي ما يشترك فيه أبناء النوع في الجملة وشخصية وهي ما يختص بكل فرد بحسب اقتضاء مزاجه الخاص أما النوعية كالشهوة و الغضب فلا نمنع تعذر إزالتها لكن ليس المراد من تهذيبها إزالتها بالكلية كيف والخمود والجبن اللذان هما النقصان فيهما معدودان من الرذايل ولو هما لاختل النظام وانقطع النوع بل المراد تطويعهما لحكم العقل و الشرع وجعلهما منقادين تحت أمرهما وذلك ليس بممتنع وأما الشخصية فالمعلوم باستقراء أحوال الناس أنهم بحسب الجبلة الأولى فيها على أقسام قسم يوجد فيهم أخلاق محمودة فاضلة وهم قليلون وقسم يوجد فيهم أخلاق مذمومة وهم كثيرون وقسم لا يوجد فيهم شئ منهما وإنما يكتسبونها بعد التمييز بالعادات وهم الأكثرون وهؤلاء فاقدون للأخلاق الشخصية وإنما أخلاقهم كلها عادية وقد عرفت فائدة تهذيب الأخلاق فيها وأما القسم الأول ففائدته فيهم تقوية الملكات المحمودة وزيادة الخير وأما المجبولون على الملكات المذمومة فلا تنازع أنه في إزالتها عنهم لكن لا نسلم انتفاء الفائدة في حقهم إذ لو لم تجاهد وتدافع أخلاقهم المذمومة تكون الأفعال الصادرة عنهم جارية بحسب اقتضائها فتتعاضد العادة والطبيعة جميعا وتقوى الذميمة جدا بخلاف ما إذا جوهدت بالمخالفة واجراء العادة على ما يضادها فإن العادة حينئذ تعاوق الطبيعة وتمانعها وينتقص الشر فإن الصفراوي الغضوب مثلا لو خلي وطبعه لتكرر منه الغضب لوجود المقتضي وفقد المانع كما هو المفروض فتصير الذميمة الطبيعية عادية ويعظم الخطب أما لو تأدب بالرياضة والتهذيب على خلاف مقتضى الطبع فإن المانع يضعف أثر المقتضي فالفائدة في هذا القسم موجودة أيضا وهي تنقيص الشر ولو فرض أن أفرادا نادرة من الذمايم الطبيعية الشديدة الرسوخ يتعذر الخلوص عن مقتضاها في بعض الأفراد النادرة من الناس لم يكن ذلك قادحا فيما يشتمل على مصلحة الأكثرين كما أن تعذر معالجة بعض الأمراض في بعض المرضى ليس قادحا في علم الطب ولا مقتضيا لبطلانه إذ يكفي في صحته امكان معالجة بعض الأمراض في بعض المرضى ولا يتوقف على امكان معالجة جميعها في جميعهم فإن قلت فعلى هذا لا يحسن تكليف كل فرد من أفراد الانسان بتهذيب كل فرد من أفراد الأخلاق إذ يحتمل كونه مما يتعذر تهذيبه قلت كل فرد من أفراد الأخلاق لا قطع عليه بأنه مما يتعذر تهذيبه فهو في مرتبة الاحتمال والأفراد الغالبة ممكنة التهذيب فيقوي الحاقه بها فيحسن التكليف وبما قررناه ظهر لك حال أدلة الطرفين وهو من الأمر بين الأمرين والرذايل يجر بعضها بعضا فإن الشره في شهوة البطن مثلا يؤدي غالبا إلى الشبق وتشتد الحاجة إلى المال لتقويم المأكول والمنكوح ويحصل الحرص والبخل وإلى الجاه لتحصيل المال وحفظه ويتولد منه العجب والكبر والحقد والحسد والغضب والغرور والرياء والنفاق وغير ذلك وكما أن جرائم الجوارح قلما يتفق أن يخرج شئ منها إلى الوجود إلا مكتنفا بأمثاله من الذنوب فإن الزنا مثلا لا يكاد يقع غالبا إلا مسبوقا بالنظر والمراودة والملامسة والمضاجعة والتقبيل ونحوها من اللوازم العادية كما ورد في حديث أمير المؤمنين (ع) أنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى ولذلك يجلد حد المفتري كذلك ذمائم القلب وكذا الفضايل كما روي في تفسير قوله (تع) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر من أن كل شكل يدعو إلى شكله ويصرف عن ضده ولنأت بجملة وافية من أصول المطهرات إذا أتقنها الطالب علما وعملا كفى ما عداها انشاء الله تعالى وذلك في بضعة عشر بابا أولها باب الصبر وهو لغة الحبس واصطلاحا ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى وهو من الخواص الانسانية لا يتصور في البهائم لانحصار باعثها في باعث الهوى ولا في
Shafi 42