إلى أصول هي أمهات لما عداها وفروع تنشعب وتتولد منها وأصول الأخلاق الحسنة تسمى منجيات والسيئة مهلكات وربما يسمى جميع أفراد القسمين بالاسمين والمقصود بيانه هنا هي الأخلاق السيئة ليتخلى عنها وبذلك تتبين الأخلاق الحسنة ليتحلى بها لأن الأشياء شيئان تثبتان بأضدادها والمذكور منها جملة ثمانية وعشرون بعضها أصول وبعضها فروع كحب الدنيا الذي هو الأصل الأول ورأس كل خطيئة وفي الحديث ما من عمل بعد معرفة الله ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا وأن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا فأول ما عصى الله به الكبر معصية إبليس ثم الحرص معصية آدم ثم الحسد معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ثم عد عليه السلام معاصي أخر ثم قال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقالت الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنياوان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة و من شعبه الشح المطاع وهو الحرص مع البخل المعمول بمقتضاه في منع الحقوق يقال واد شحيح إذا كان لا يسيل ماؤه وعن الفضل بن قرة قال قال لي أبو عبد الله (ع) تدري ما الشح قلت هو البخيل فقال الشح أشد من البخل أن البخيل يبخل بما في يده والشحيح يشح على بما في أيدي الناس وعلى ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام ولا يقنع بما رزقه الله والوصف للاحتراز عن أصل الغريزة إذا كانت مخالفة بالمجاهدة و التكلف وهو نظير تقييد الحسد المذموم بما يتظاهر به ومثله القول في الهوى المتبع وقد عرفت تفسير الهوى فيما تقدم والاعجاب بالنفس بحسب مزاياها كالعلم والعمل والشرف واليسار وغير ذلك مما يأتي في محله وفي الحديث النبوي ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه وهذه الثلاثة معدودة من الأمهات بعد الأول والبواقي منشعبات منها إما ابتداء أو بوسط وربما ينشعب واحد منها من أصلين أو أكثر مفردين أو بعد التركيب كالغصب والحقد بكسر الحاء وفتحها وسكون القاف وفتحهما وهو إمساك العداوة في القلب والحسد والكبر والغرور والرياء وفي حكمه السمعة وربما يعبر عنهما جميعا بالشوب والنفاق وهو التظاهر بالايمان مع خلو السر منه والبخل والسرف والحرص والاصرار على الذنب والكفران للنعمة والأمن من مكر الله واليأس من روحه وقد يعبر عنه بالقنوط كما تقدم والجحود لما لم يحط بعلمه ولما يأته تأويله والقسوة والجهل الراسخ المانع من اشراق نور العقل على القلب ويقرب منه الحمق وهو البلادة المفرطة بسبب الاعراض عن المقدمات الواضحة الموصلة إلى المقاصد الصحيحة والخرق بضم الخاء وسكون الراء و هو الخشونة وعدم التلطف واللين والعجلة وهي التسرع وعدم التأمل في الأمور والجزع والمكر والحمية الجاهلية والخلع بفتح الخاء وهو التسرع في الشهوات من غير تقيد بالعقل والشرع كالدابة التي خلعت عذارها وهامت على وجهها وغير ذلك مما عده أبو عبد الله (ع) في حديث سماعة والكاظم (ع) في وصية هشام من جنود الجهل المقابل للعقل وتطبيق كل من هذه الفروع على أصله مبين في تضاعيف الأبواب الآتية والتطهير عن كل منها إنما يتأتى بتحصيل ضده المحمود كالعفة والشجاعة والحكمة بالمعنى الخاص المتقدم التي هي أوساط السنة الأول وتسمى الملكة الحاصلة من اجتماع هذه الملكات الثلث بالعدالة من قولهم هذا عدل ذاك أي مساو له فإن العادل متساو شرهه وخموده وتهوره وجبنه وجربزته وبلهه بمعنى أنه منفك عنهما جميعا على حد واحد ونسبته إليها متساوية ومن هنا اعتبر الملكة في رسم العدالة من اعتبرها وإن لم يرو بهذا اللفظ في الروايات والزهد الرافع لحب الدنيا والكرم الرافع للشح المطاع و البصيرة للأخيرتين من الأمهات والرضا والعفو والتسليم والتواضع والانتباه التي هي بإزاء الخمسة الأول من المنشعبات واحد بواحد على الترتيب والاخلاص الذي هو بإزاء الشوب واستواء السر والعلانية الذي هو بإزاء النفاق ولقد كان يمكن الاكتفاء عنه بما قبله ومن ثم وقع مخطوطا عليه في بعض النسخ و السخاء الذي هو بإزاء البخل والسرف وهو دون الكرم والتوكل والتوبة والشكر والخوف والرجاء و التصديق والرأفة والعلم والفهم والرفق والتؤدة بضم التاء وفتح الهمزة والدال بمعنى التثبت والتروي والصبر وسلامة الصدر والانصاف والحياء التي هي بإزاء بقية تلك الفروع وقد عدت جميعا في الحديثين المذكورين من جنود العقل وذلك التحصيل لا يتأتى إلا بأن يتذكر آفات تلك الرذايل وهي ما يترتب عليها من المفاسد الدينية والدنيوية اللازمة والتعدية وما ورد في الكتاب والسنة وآثار المقتدين من ذمها والنهي عنها ومدح أضدادها المحمودة والأمر بها وتكلف النفس المقصود تطهيرها بالمجاهدة والرياضة المتخلية عن كل واحد منها بالجمل على الطرف المقابل له فإن المعالجة إنما هي بالضد وذلك بالالحاح في تمرينها بالأفعال المناسبة للطرف المطلوب المستجلبة له بالاعتياد فإن الشرة في الشهوة البطنية والفرجية مثلا إذا راض نفسه بالجوع والصوم حتى اعتادهما زال عنه الشرة ووقفت على حد الاعتدال المطلوب وكذا اليائس من رحمة الله بسبب غلبة الخوف عليه إذا أمعن في تتبع ما يشاهد من آثار الرحمة البالغة وما ورد في الكتاب والسنة في سعتها وشمولها مما استراح إليه الآمنون خفت عنه دواعي الخوف وتحركت فيه دواعي الرجاء وكذا العكس وذلك لأن كل فعل يباشره الانسان من عمل أو قول أو فكر أو ذكر يحصل منه أثر في نفسه وكلما تكرر ذلك الفعل قوى ذلك الأثر وترسخ في النفس إلى أن يصير ملكة يصدر عنها الأفعال بسهولة ومن ثم قيل إن العادات طبايع ثانية كالدابة الجموح إذا بولغ في رياضتها وتأديبها على خلاف ما هي عليه من الشراسة تغير خلقها وعادت سلسة منقادة فيما يطلب منها من الحركات والسكنات وهذا هو تهذيب الأخلاق المأمور به سمعا وعقلا وليس من الأمور المستحيلة مطلقا كما زعمه بعض البطالين حسبانا منهم أن الطباع لا تتغير واستدل لهم أبو حامد في الاحياء وتبعه المصنف في المحجة والحقايق بوجهين أ أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر فكما لا يقدر القصير أن يجعل نفسه طويلا والقبيح جميلا فكذلك الخلق الباطن ب أن حسن الخلق إنما يحصل بقمع الغضب والشهوة وهذا أمر ممتنع لأنهما من مقتضيات الطبع لا ينفك عنهما الآدمي
Shafi 41