Juyin Wakan Zamani daga Baudelaire Zuwa Zamani na Yanzu (Sashe na Farko): Nazarin
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Nau'ikan
وقد عالج الشاعر القصيدة نفسها بصياغة سابقة على هذه الصياغة الأخيرة بما يقرب من عشرين سنة. وكان عنوان الصياغة الأولى هو «القديسة سيسليا وهي تعزف على جناح ملاك من نور».
وقد بقيت من هذا العنوان كلمة «قديسة» وحدها، أي أنه اقتصر على أكثر الكلمات تعميما وبعدا عن التحديد. وكأن نزعة الشاعر للخلاص من الواقع أو البعد عنه قد أدركت العنوان وجردته من كل تحديد مباشر.
والقصيدة تسمي بعض الأشياء بأسمائها؛ فهنالك نافذة، وآلة موسيقية قديمة مصنوعة من خشب الصندل، ولوح زجاجي يغطي وعاء قربان مقدس، وقيثارة، وكتاب به تسابيح العذراء البتول. ولكن العلاقة بين هذه الأشياء كلها تظل علاقة غامضة محفوفة بالأسرار، بحيث لا تبدو حاضرة بالمعنى الموضوعي لهذه الكلمة. وهذه الأشياء تتداخل في بعضها البعض وترتفع الفروق الواقعية التي تميز بينها. فاللوح الزجاجي الذي يغطي الوعاء المقدس يبدو كأنه إضافة شارحة للنافذة، إذ يذكر الشاعر في بداية المقطوعة الثالثة بقوله «عند هذا اللوح»، فهل هذا اللوح هو النافذة؟ إن طبيعة الأمور لا تكاد تسمح بهذا التصور، والقيثارة التي ترد في المقطوعة الثالثة قد صيغت «من رفيف ملاك في المساء ». فهل هي استعارة عن جناح الملاك؟ ولكن الأبيات التالية توحي بأنها قيثارة أو جناح من الريش تعزف عليه اليد الرقيقة كما تعزف على آلة موسيقية. هي إذن جناح وقيثارة في وقت واحد، وليس في الأمر استعارة بل وحدة ذاتية. تلك عملية فنية عرفناها ورأينا أمثلة كثيرة منها في شعر رامبو.
الفروق الواقعية المميزة للأشياء قد ألغيت إذن في هذه القصيدة، والأشياء قد خف وزنها وراحت تتداخل في بعضها كأنما ترف في أثير أو فراغ، تصبح فيه الأجسام رموزا ولغة الحديث همسا. إن النافذة «تتكتم» الكمان الكبير، أي أن وجوده ليس وجودا في الواقع بل في اللغة وحدها. والناي (أو بالأحرى الفلوت) والماندورا (وهي آلة موسيقية أشبه بالعود) لا وجود لهما إلا في الذاكرة من ماض قديم. بل إن كتاب التسبيحات القديم لا ينتمي كذلك للحاضر؛ إذ إن أنغامه كانت «تتقطر فيما مضى.» ومع بداية المقطوعة الثالثة يشتد غياب الأشياء أو أبعادها عن الحاضر والواقع.
والشاعر يمهد لهذا بالحديث عن القيثارة التي هي في نفس الوقت جناح ملاك، أي عن هذه الوحدة الذاتية غير الواقعية التي تكلمنا عنها فيما تقدم. ثم تغيب الأشياء بعد ذلك تماما، فالقديسة تعزف بدون خشب الصندل العجوز، وبدون الكتاب القديم. فهل تعزف القديسة حقا؟ الأولى أن نقول إنها تعزف في الصمت، أليست هي موسيقية الصمت؟
وإذن فالأشياء الواقعية الحاضرة قليلة العدد، وهي إن وجدت فوجودها غير واضح ولا محدد، يتداخل في أشياء مختلفة عنه ويتحد معها وحدة «غير واقعية»، إلى أن يتسلط عليها العدم في نهاية الأمر وتختفي في ظلال الغياب والصمت. ما من حدث «موضوعي» أو فعل من أفعال القديسة يوحي بهذا الإحساس. اللغة وحدها هي التي تفعل هذا؛ فهي التي تتكفل بإلغاء وجود الأشياء في الواقع، لتحيله بعد ذلك إلى وجود في اللغة. هذه الأشياء الغائبة عن الواقع حاضرة في اللغة وحدها، وحضورها حضور روحي، تزداد قوته وأثره كلما قل نصيب الأشياء من الحضور الموضوعي والتجريبي.
القصيدة إذن في مجموعها حدث في اللغة لا في الواقع، وهذا الحدث يتم في مرحلة زمنية تساعد من جانبها على إبعاد الأشياء عن الحاضر. ويكفي أن ننظر في الأبيات الأولى منها لنتأكد من هذا. فخشب الصندل العجوز يفقد ذهبه فيشيع ضوءا باهتا يوحي بالمساء. وصلاة المساء والنوم تؤكدان الشعور بهذا، ولكنه ليس مساء محددا في الزمن، يمكن أن نقول إن القديسة حاضرة فيه، وإنما هو شيء أقرب ما يكون إلى مقولة الزمن المتأخر، إن جاز هذا التعبير، أي أنسب المقولات الزمنية للتعبير عن التلاشي والغياب والغوص في قرار العدم. ويتأكد هذا الانطباع في المقطوعة الثالثة التي تتحدث في وضوح عن «رفيف المساء»، وهو شيء يفلت بدوره من كل تحديد زمني تجريبي. فإذا أضفنا لهذا أن القصيدة تذكر كلمة قديم أو عجوز أربع مرات، كما تضع الكمان والناي وكتاب التسابيح «فيما مضى»، قوي لدينا الشعور بتأخر الزمن أو بالزمن المتأخر على إطلاقه. إن «شيئية» الشيء تحطمت، والملامح الزمنية التي تتلبس به تلاشت. وفي توافق لا واقعي مع الغياب والعدم نجد ملامح الزمن - التي صارت مطلقة - تكون ماهية «القدم» و«التأخر» (انظر ما تقدم عن المساء)، وهي ماهية لا تبلغ حقيقتها إلا في مجال مجرد من الأشياء.
إن المكان الكبير «تتكتمه» النافذة أو تخفيه. والناي والعود لا وجود لهما إلا بالقدر الذي توحي به اللغة، فما الذي يدعو إلى وجودهما، ولو كان هذا الوجود في اللغة وحدها؟ إنهما آلتان موسيقيتان مثلهما في هذا مثل القيثارة الواقعية. وهذه الأشياء الخفية أو الغائبة أو اللاواقعية تحمل ماهية وتعبر عن حقيقة، هي ماهية الموسيقي وحقيقتها. ولكن ما هي طبيعة هذه الموسيقى؟ إن القديسة لا تعزف شيئا. والموسيقى صامتة؛ ولهذا فهي حقيقة أو ماهية تمثل مع حقيقة الزمن المتأخر وبعد الأشياء أو غيابها عن الواقع وجودا روحيا أو عقليا في اللغة، وفي اللغة وحدها.
وعلى الرغم من غياب الأشياء في هذه القصيدة التي تعد من أجمل وأنقى أشعار مالارميه، فإنها تثير فينا مدركات بصرية بل وقد تثير فينا أيضا مدركات سمعية، ولكنها تحول المدرك نفسه إلى شيء غريب غير مألوف، بل لعله كذلك شيء مخيف. إنها ببراءة همسها الحالم تحقق شيئا عجيبا وشاذا. فهي تحطم الأشياء أو تلغيها لترتفع بها إلى مستوى الماهيات المطلقة، وهذه الماهيات المطلقة لا يتم لها وجود إلا في اللغة، لأنها فقدت كل صلة تربطها بعالم التجربة وبفضل اللغة تتشابك هذه الماهيات في علاقات أفلتت من كل نظام واقعي.
كل هذه أمور يحتاج الإلمام بها إلى صبر وعناء طويل، ولعلها تحتاج أيضا إلى «نظارات المخ» التي تهكم بها موريس باريه (1862-1923م) في نقده لأشعار مالارميه؛ ذلك لأن هذا الشعر لم تعد له صلة بشعر التجربة أو الشعور والعاطفة، صحيح أنه شعر غريب وغير مألوف، ولكنه بأنغامه الهادئة الهامسة ينطق عن وجدان وحيد متخفف من كثافة الأشياء. هناك تتأمل الروح ذاتها وقد تحررت من ظلال الواقع، وتلعب بتوتراتها وصراعاتها المجردة فتجد في هذا اللعب، نوعا من متعة السيطرة التي يعرفها الرياضيون وهم يبنون رموزهم ويؤلفون معادلاتهم وحساباتهم.
Shafi da ba'a sani ba