إن الزمن في عصرنا هذا يعدو عدوا بعد أن كان يمشي برجل عرجاء في العصور الغابرة؛ لأن الحركة الحيوية الآن أسرع منها في القرون الغابرة. فإذا تفهمنا الصواب علمنا أن يوما من أيامنا أكبر من يوم من أيام آبائنا؛ لأننا نعمل في يومنا ما لم يعمله الأولون في أيامهم. كم خطرة من خطرات النعيم والشقاء تمر علينا لا كما تمر الريح المكسال، بل كما يمر السهم يشق الهواء شقا، وكم خطرة دونها خطرات منتجات خواطر أخر. هذه حياتنا، حياة كأنها محمومة من أجل أن نبضاتها سريعة، وإذا شئت أيضا قلت: إن يوما من أيام آبائنا الأولين أكبر من يوم من أيامنا؛ لأننا نعمل أكثر مما كانوا يعملون في يومهم، وكثرة العمل تلهي المرء عن أن يحس طول الوقت. فإذا نظرت إلى هذين الرأيين نظرا صادقا علمت شبه المكث بالمرور.
لم يخطر بذهني وأنا أكتب هذين البيتين هذه المعاني، بل كنت أنظمهما وفي الذهن معنى أقرب غورا، وإنما ذكرت هذين البيتين لأقول إن المرء قد يقول قولا غير فاهم منه إلا جانبا من جوانبه.
ومن دلائل روح الوجود أن المرء قد تتملكه الفكرة في إظهارها الهلاك فيريد أن يغلب نفسه عليها فلا يقدر.
وما معنى النهضات والاضطرابات واندفاع الناس بدافع عنيف من دوافع الآراء والعقائد. هذه الحجج ليست أحلاما، ولكنها أيضا ليست بالتفكير الذي جعله الماديون من إفراز الروح.
كلما قرب المعنى إلى الصواب بعد عن أذهان الجمهور، فإذا أردت للمعنى أن يكبر بأن يردده الناس صغر بأن يصير لفظا ميتا، فإن في هذا الموت حياته بين الناس، وهذا سبب أن النظريات والكلمات العامة التي تملأ أفواه الناس أكثرها فاسد عليل المعنى، وجمهور الناس كالنساء.
فإذا شئت أن ترضي النساء فلا تسمعهن غير ما يردن أن يسمعن، فالحقائق عند العامة مثل الدنانير إذا مزج عنصرها الكريم بعنصر غير كريم (كالنحاس ) كانت أبقى على الزمن منها وهي من الذهب المحض، وكذلك الحقيقة إذا مزجت بشيء من الخطأ كانت أبقى على الزمن، وإن من المفكرين من يذهله خوفه من الناس عن رأيه حتى يدخل عليه - وهو لا يدري - من الخطأ ما يجانس بينه وبين أفكارهم ... اثنان قد ينظران إلى الحقيقة من وجهين كل يزعم أن أخاه مخطئ وهو مخطئ في زعمه مصيب في نظره إلى الحقيقة من ذلك الوجه، فلا غرو إذا وجدت معنيين متضادين وكلاهما مصيب راجح، ومثل ذلك أن يقول قائل: إن سبب احتقار المرء الحياة أن الحزن من ضياع شيء كان مالكه، والخوف من ضياع شيء هو مالكه سيان؛ أي أن الخوف من زوال النعيم يفسد النعيم ويذهب به، وقد يناقضه آخر فيقول: إن نعيم الحياة مستجلب من خوف الإنسان من زوال النعيم؛ لأن ذلك الخوف يدفعه إلى التذاذ النعيم أكثر من التذاذه إياه لو كان ذلك الخوف من فقدانه غير متملكه. فالأول يقول إن ذلك الخوف يفسد النعيم، والثاني يقول إنه يزيده ويصلحه، وكلا الرأيين مصيب، وإنما تأثير الخوف يختلف مثل اختلاف طبائع الناس ... إذا تعرفت الصواب علمت أن كل مجادل في أكثر الأحايين غير فاهم ما يعنيه مجادله، فيجتهد كل واحد في أن يبين عن فساد رأي لم يره مناظره، وربما كان صاحب الرأي غير فاهم رأيه فهما كاملا، وإني أكاد أقول بأنه يستحيل على المرء أن يفهم رأيه فهما كاملا، فإنه ليس بغريب أن يخفى عنه أكثر جوانبه.
فالحقيقة الواحدة لها أزياء كثيرة تختلف مثل اختلاف نظر المرء إلى الحياة. أليس في الناس عابد الخرافات والأوهام وعابد المحاجة والفهم؟ أليس في الناس المادي والشاعر عابد الجمال؟ أليس في الناس - غير هؤلاء - فرق كثيرة، كل واحدة تنظر إلى الوجود نظرة تصبغ أشعتها صبغة في النفوس؟ لا عجب إذا لبست الحقيقة الواحدة من الأزياء المختلفة ما يجعلها حقائق كثيرة، وإنما ينسج تلك الأزياء أساليب التفهيم والإعراب عما في النفوس، ومن أسباب اختلاف أزياء الحقيقة أن الإنسان قد يبلغ منتهى الإجادة بأن يضع المعنى في أسلوب صادق كاذب، ومثل ذلك قول جويتي: «إن الإنسان لا يسمع غير ما يفهم.» هذا هو الأسلوب الصادق الكاذب، هو في الحقيقة نوع من أنواع المبالغة، وعلى ذكر المبالغة أقول: إن أكثر أمور الحياة مبني عليها، ولكنها أنواع بعضها يصلح الحقائق كالذي يعتمد عليه الشاعر في تفسير الحقائق النائبة الغامضة. فوظيفة المبالغة التي يعتمد عليها الشاعر مثل وظيفة المنظار المكبر، غير أن المغالاة تلحق بالصواب شيئا من الخطأ، وسببها الإلحاح في الدفاع عن رأي كثر منكروه أو جاهلوه ... خرج جان جاك روسو إلى الحياة في بيئة كل شيء فيها متكلف، وكان التصنع يجول مجالا عجيبا في أحوالها، ونسي الناس قوانين الطبيعة وما ينتجه العقل من تفسيرها، فكانت حياتهم جريمة كبيرة.
قال روسو بوجوب الرجوع إلى العقل فيما يسنه من أوامر الطبيعة. قال بوجوب ترك المرذول الذي تسنه السلطة والخضوع لهذه السلطة، ولكنه دار بعينه فرأى أناسا بعيدين عن هذه الحقيقة، وأن صوت المغالاة أقدر على إيقاظهم من صوت الحق، فكانت المغالاة موقظة لقومه من غفلتهم، ولكنها كانت مفسدة أكثر مبادئه. غالى روسو في تقريظ الطبيعة حتى قال: إن كل شيء يخرج منها حميد، ونسي أن آباءنا الذين كانوا أقرب إليها منا قد ضرهم قربهم منها في كثير من الأحوال. من أين تأتي المرء تلك الدوافع التي تدفعه إلى الشر؟ أليس من الطبيعة؟
انظر إلى عيشة الأولين ترها قطعة من الدم ... أرأيت كيف أن المغالاة تفسد الحق؟ انظر إلى بودلير الشاعر الفرنسي تر رأيه نقيض رأي روسو، ولكنه مثل روسو، من أجل أن المغالاة أفسدت رأيه، وإذا شئت فقل: جعلته حقيقة مغلوطة. قال بودلير: انظر إلى الأطفال الصغار تر فيهم من الأنانية والقسوة والزهو، وما يثبت أن الطبيعة ليست كما قال جان جاك روسو «خالصة من الشوائب»، ولكن بلغت ببودلير المبالغة مبلغا بعيدا، حتى قال: «إن كل شيء يصدر من الطبيعة خبيث، وإنه ينبغي أن نعصي كل أمر أو نصيحة لها.»
زعم أن الطبيعة قبيحة ، فينبغي أن نحيلها بما تمليه علينا الفنون، واستشهد في إثبات قبح الطبيعة بأن المرأة من نساء المتوحشين ترى من العار أن تخرج إلى الأسواق غير موشومة الجسم، وأن أهل المدنية كذلك قد اتخذوا من الفنون سلاحا يحاربون به الطبيعة، وقد نسي بودلير أن ذلك السلاح الذي نحارب به قبح الطبيعة مأخوذ من الطبيعة.
Shafi da ba'a sani ba