أحلام الشباب
الذكر والأماني
وقع الأقدام
كلمة
نظر الشاعر إلى الطبيعة
رسول الأمل
الإيمان بالحياة
الذوق
رداء ولا رداء
تقديس النجاح
الحياة واليأس
أغلاط الحقائق
المثل الأعلى
الصيف
جنة الأدباء
قتلى المظاهر
عصور الانتقال
على ظهر البحر
وصف البحر
أحلام الشباب
الذكر والأماني
وقع الأقدام
كلمة
نظر الشاعر إلى الطبيعة
رسول الأمل
الإيمان بالحياة
الذوق
رداء ولا رداء
تقديس النجاح
الحياة واليأس
أغلاط الحقائق
المثل الأعلى
الصيف
جنة الأدباء
قتلى المظاهر
عصور الانتقال
على ظهر البحر
وصف البحر
الثمرات
الثمرات
تأليف
عبد الرحمن شكري
أحلام الشباب
احذر أن يكون أملك في صلاح الحب كبيرا، فإنه بقدر أملك من صلاحه يكون يأسك من فساده، وبقدر يأسك من فساده يكون جهلك جمال الحياة، فإذا أردت أن لا يغيب عنك جمال الحياة فاجعل أكثر حبك حنانا وعبادة للجمال، واحذر أن تجعله غاية، فليس الحب آفة، ولكن الاغترار به آفة الشباب.
وقصة الحب الخائب تمثل زوال آمال الشباب، فإن الشباب باب يطل على الأبد، إذا قربه صاحب النفس الظامئة إلى الكمال شم منه ريح الخلد، فأصابه داء الأبد فكان من مرضى الخلود، وإن إبلال المرء من ذلك الداء أشد على النفس منه، فإذا أصيب امرؤ بذلك الداء ثم أبرأته التجارب منه كان برؤه أوجع في النفس منه؛ لأن الحب يترك مكانه يأسا لا يمحوه شيء غير تعاقب الأيام، وقد لا يمحوه تعاقبها.
كل إنسان إذا بلغ الشباب وبلغ من التهذيب مبلغا زعم أن الحب فرض على كل مخلوق، وأن فيه برءا لما في هذا الوجود من الشر، ولا يزال يلتمس صلاح الكون بصلاح الحب، حتى إذا أكلت التجارب قلبه ونهشت لبه عاد ذلك الحب يأسا بعد أن كان أملا، فيفيق من حلم الشباب وكأنه ذلك الرجل الذي رأى أنه يعانق خيال حبيبته، فلما عانقه ذهب عن ذلك الخيال بهاؤه ورأى المسكين أنه يعانق رمة بالية.
إن عبادة الجمال تمنح المرء سعة في الذهن وتطلقه من رق التعصب لجانب من جوانب الحق، فإنها تريه أن للحق جوانب كثيرة، وأن أكثر الناس لا يرون إلا جانبا من جوانبه، ولكن واسع الروح الذي امتلأ روحه من حب الجمال وإجلاله، وامتلأ ذهنه من صور الجمال والملاحة، لا يقيد رأيه بجانب واحد من جوانب الحق.
إن عبادة الجمال تطلق المرء من عقال التحيز والغباء وضيق الذهن، وتفيض على روحه نورا يضيء له أسرار الحياة، وتفتح أبواب القلب لكل طارق من حسنات الطبيعة.
ورب أمة كان أفرادها يغذون أبصارهم برؤية الجمال ويغذون قلوبهم بعبادته، فكان للجمال بينهم سلطان على التناسل، فكانت تولد لهم أبناء حسان، وقد أذكرني هذا ما تفعله نساء الفلاحين في مصر، فإنهن يضعن في غرفة الحبلى صورة السفيرة عزيزة أو صورة خضرة الشريفة، ويزعمون أن الحبلى إذا أكثرت من النظر إليها أتى الوليد حسنا، ويقلن إن نظر الحبلى إلى الصور الجميلة يكسب الجنين شيئا من الحسن.
رأيت مرة في الحلم أني أحببت فتاة روحها واسعة كبيرة، فهي كالغابة سمت فروعها وأشجارها حتى أضللنا أعاليها في أعماق السماء، وإن من النفوس نفوسا غير محدودة بحدود الفكر، نفوسا لا نهاية لها، نفوسا يضل المرء أعاليها في أعماق الأبد، هذه النفوس مثل نفس من أحببتها، ثم صحوت من النوم فلم أر حولي غير نفوس أحقر من البق.
رأيتها مرة في الحلم وفي يديها نسر ميت تقص جناحيه، فسألتها ما هذا النسر؟ قالت: هو قلبك أقص جناحيه اللذين يسعدانه على الطيران. لقد طالما سما هذا القلب إلى آمال في الحياة بعيدة كالنجوم، فما زال يعلو وجناحاه يساعدانه على الطموح حتى لمس بهما حاجب الشمس، لفحته النار فاحترق، فهوى إلى الأرض صريعا. أيها النسر، قد كان لك عن تلك الآمال مغنى ومنأى. لقد كنت في وكرك آمنا لفحات الحب، فلاحت لك الشمس بحاجب مضيء، فعزك منها ما عز اليهودي من ديناره فأصابك مصرع أهل الغرور.
رأيتها مرة وفي يديها زهرة زابلة تقطف أوراقها، فقلت لها: ما هذه الزهرة قالت: هي آمالك في الحياة قد خانها الحب كما يخون الخريف الزهور، ضننت بها على الشتاء فقطفت أوراقها واحدة فواحدة، تلك أوراق الربيع الفائت.
أيتها الزهرة، قد كانت لك في الربيع أيام كنا نستضيء فيها برونق منك غض، فالآن إذ ذهب الربيع لا معتب على الدهر فيك. هذه يد إليك حبيبة ضنت بك على غير رفيق، فنثرت أوراقك وفاء لذلك الزمن الفائت والعهد القديم. رأيتها مرة وفي يديها عقدة تحاول حلها فقلت: ما هذه العقدة؟ قالت: هي إيمانك بالحياة، عقدة لم تعقدها العزيمة فلا غرو إذا حلها اليأس.
إن بين الحب واليأس صلة، مثل الصلة التي بين الحب والأمل، فليس الأمل أقرب من اليأس إليه. الحب مثل الخمر، فالخمر حلوة مرة وكذلك الحب. أليس للخمر نشوة وللحب نشوة؟ أليس للنشوان صحو وللمحب صحو، فإذا أفاق المخمور من خماره، أحس ألما يذكره بسكرة أمس، وإذا أفاق المحب من خمار الحب بقيت في قلبه حسرة تذكره بالعهد الفائت والحب الذي مضى. الحب حيوان نصفه الأعلى حسناء كاعب، ونصفه الأسفل ثعبان.
رأيتها مرة في النوم كأنها نجمة الفجر تطل من سماء أحلامي، أو كأنها قبلة لذيذة طويلة صارخة ذات نغمة، مثل ضحك الحسان، أو كأنها قطرة من قطرات الندى، نائمة على أوراق زهرة ذابلة. أيتها القطرة الطاهرة إذا شئت كان لك من قلبي فراش، فإن قلبي زهرة الحب الذابلة الدامية. رأيتها مرة تحوك لي كفنا من الآلام وهي تنظر إلي نظرة أسف وحزن، وكأنها تقول: لا تلزمني جناية القضاء، أنا أمة القضاء، أتبع أمره ولا أرد له حكما. غير أني قد أخذت طرفة من الحكمة فتبعت قول أولئك الحكماء الذين يزعمون أن التسليم لحكم القضاء من شيمة العبيد. فينبغي أن تكون رغبة المرء وحاجته فيما يجيء به القضاء فيكون هو والقضاء سيان، لا لأنه قدير كالقضاء ولكن لأنه جعل إرادة القضاء إرادته.
فقلت لها: لا معتب عليك، إني أحبك حتى ولو كنت غير فاهمة ما تقولين، فضحكت كما تضحك الشمس فوق القبور، وكانت قد فرغت من نسيج ذلك الكفن، فوضعتني فيه وقبلتني - قبل أن تطويه - قبلة جمعت بين حلاوة النعيم ومرارة الشقاء، فكانت كالحياة حلوة مرة.
تركتني يا حبيبتي بين ضحكة قاسية ودمعة قاسية، أردد نفسا أعمق من الأبد، أدفع الشكوى في نحر الهواء، لا أنيس لي غير سكون الفضاء وأنين الصدى، وذلك القلب الواهن الخفوق الذي أذوته الحوادث العاصفة كما يذوي الحر أوراق الغصون.
لم أنس إذ قبلتني وأنت في ساعدي فامتصصت روحي في قبلتك، كما يمتص الرضيع اللبن من ثدي أمه، ونظرت إلي وقد انعقدت في وجهك ابتسامة كلها حنان ودعابة، فوقعت لحاظك المصقولة علي وقوع قطرات الرحمة على النفس الصادية المجدبة، وفي عينيك هالة يرقص الحسن فيها، كما يرقص القمر على صفحة الماء، ثم تزايلت في الفضاء وقد بسط الليل أجنحته السوداء وصبغ الهواء بمداده، فبقيت - كما قال رختر: أنا والليل، ثم سمعت في القلب ضربات لم أدر أدقات الساعة أم نبضات قلب الدهر، أم هي ضحكاته من غرور الإنسان، أم هي تنعى إلى المرء نفسه، أم هي تذكرة بالموت وحث على التقوى ...؟
يا عدو الرحمة ما وقعت لحاظك علي إلا لتهيج للقلب شجوا، قد وأدت الحب في ريعان شبابه، ووقفت ترقص على قبره مرحا ودلالا، لا عتاب، أنت الذي أسلفتني الأمل وأنت الذي سلبتنيه، والأمل كالحرباء كثير الألوان.
الذكر والأماني
الذكر والأماني صنوان، لزا في قرن. غير أن باعث الذكر التعلق بما مضى، وباعث الأماني الرغبة فيما يستقبل، ومن أجل ذلك كانت الأماني أقرب إلى خاطر اليافع وأحب إليه من الذكر؛ لأن عيشه مقتبل، ولم يزعجه - مما تقع به الحوادث الكارثة - ما يخفض من غلواء طموحه وتعلقه برغائبه. أما الشيخ الهرم فقد لقي من الطارقات ما تركه فقير الأماني غني الذكر، والأماني إذا استثيرت كانت كالنار يتبع شبوبها خمودها، وإنما يستثيرها الطموح.
إن كل أصناف النعيم الزائل تثير الذكر الغر فينبعث اللسان بالكلم الرقيق، فهو تارة يناجي الزمان الخالي وينشد فيه لذاته، وتارة يتوجع من فقدانها، وتارة يسألها الرجوع إلى ما عهد منها، ألا يجول بخلدك إذا قرأت قول ابن زريق:
بالله يا منزل القصر الذي درست
آياته وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه؟
أن تلك الليالي وذلك الزمان الذي عمرته لذاته، قد صار جزءا من نفسه وشيئا من حبة قلبه، فهو لا يستطيع أن يكون بمنأى عنه، وليس هو براغب في ذلك، ولكنه لو رغب ما وجد إلى رغبته سبيلا، وكيف يمل صحبته وهو خلاصة حياته وأحق شيء منها أن يفدى من سلطان النسيان.
على أن الذكرى لا تكون إلا بعد سطوة من سطوات النسيان، فإذا كان النعيم الخالي حاضر الذكرى في ذهن المرء، لم تكن ذكراه خليقة أن تدعى ذكرى، وفي مثل ما نعني يقول الشريف الرضي:
وقال تذكر هذا بعد فرقتنا
فقلت ما كنت أنساه لأذكره
وهناك نوع آخر من الذكر لا يكون إلا إذا كان المرء في حال بينها وبين تلك الحال التي وقع له فيها النعيم الزائل صلة، فإذا أسعده في ليلة الاثنين مثلا ذكر هذه الليلة حين تعود في كل أسبوع، وفي مثل ما نعني يقول ابن المعتز:
يا ليلة نسي الزمان بها
أحداثه كوني بلا فجر
باح الظلام ببدرها ووشت
فيها الصبا بمواقع القطر
ثم انقضت والقلب يتبعها
في حيث ما وقعت من الدهر «يعني بقوله: وشت فيها الصبا بمواقع القطر؛ أن القطر إذا وقع على الأزهار ذات الرائحة الطيبة أخرج تلك الرائحة، فتأتي ريح الصبا تحملها إلى كل مكان، فكأنها تشي بالأزهار وتبيح سرها المعطار.»
الذكر نوعان: ذكر النعيم الزائل، وذكر الشقاء الزائل. أما ذكر النعيم الزائل فإنه يبعث ابتهاجا في النفس؛ لأن ذلك النعيم كان من نصيبها، ويبعث أسفا لأنه لم يدم لها، ويختلف مقدار الابتهاج ومقدار الأسف. أما ذكر الشقاء الزائل فإنه يبعث الابتهاج للخلوص منه، والأسف لأنه حدث والخوف من أن يعود.
الذكر أشباح وأرواح تعمر الخاطر الخرب فتثأر لذلك العهد الميت. أيها الزمان الخالي، أشد ما نعاني من ذلك الحجاب المنوع الذي تضعه بيننا وبين لذاتنا البائدة، وأحبابنا الألى ذهبت بهم حوادث الأيام كل مذهب، ولكنك لا تعلم أيها الغصوب أنك تحجب عنا أجزاءنا وأشياء من حنيات قلوبنا. على أننا نستعين بالذكر والأماني في إزاحة حجابك، وهي قديرة على إسعادنا.
متى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
الطموح يثير الأماني، وقد تثيرها الأشياء التي تذكر المرء رغبته كما قال الشاعر:
ولما نزلنا منزلا طله الندى
أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
إن الذكر تثير الأماني، والأماني تثير الذكر؛ لأنك إذا ذكرت النعيم الزائل وددت أن تقع على مثله، فتهيئ لنفسك أسباب الطموح والبلوغ إليه. ثم إذا كنت تناجي الأماني كانت تلك المناجاة عاملا في تذكيرك بمثل أمانيك؛ أي بالنعيم الزائل.
إذا عمرت الذكر والأماني نواحي الخاطر كان كأنه معبد مقدس يبعث الإجلال والوقار والخشوع في النفس. أليس الذكر موصولا بالنعيم البائد وهو ميت، وأي نفس لا تخفض من جماحها وخلاعتها عند ذكر الموت؟
إن الإنسان إذا مات أقيم له تمثال يجعله متردد الحضور في الذهن كلما رآه الرائي، وكذلك الحادث إذا مات كان الذكر تمثاله الذي يستجلبه من قبر النسيان.
قال الشاعر شلي:
النعيم إذا مضى استحال إلى ألم
يعني: أن الذكر يبعث الحسرة على فواته، ولكنها حسرة لذيذة رقيقة معسولة، تتمشى في الخاطر كما يتمشى النسيم البليل على وجه التعب.
ولم أجد أحدا شعر بتلك الصلة المتينة التي بين الذكر والأماني مثل ما شعر بها الشاعر العربي عنترة؛ حيث يقول:
ألا قاتل الله الطلول البواليا
وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وقولك للشيء الذي لا تناله
إذا أبصرته العين يا ليت ذا ليا
لم يحمد الشاعر الطلول؛ لأنها تذكره بمن كان يعمرها، وبتلك الليالي والأيام التي قضاها في أحسن حال حين كان الخطب مأمون الطروق، مخفوض الجناح، ولم يحمد ذكرى السنين التي مضت؛ لأنها كانت لباس لذاته أيام كان وفاء الأصحاب والأحباب يسعده، أيام كان النعيم مضروبة قبابه عليه، أيام كان الحسود متعبا من حمل ثقل الحسد. ثم إن الشاعر لم يحمد في البيت الثاني الأماني لأنه يحسبها خدعة وعناء، ولكن من النفوس نفوسا تسكن إليها، وتتخذها علالة. أما جمع الشاعر بين الذكر والأماني فسببه عرفان أن الأماني تثير الذكر، والذكر يثير الأماني.
وقع الأقدام
وقع الأقدام هو شعر (بكسر الشين) الأرجل، فإن فيه من بلاغة التعبير ولطف التفهيم ما في نبضات القلب، ووقع الأقدام هو للأرجل بمنزلة تلك النبضات للقلب، فتارة يخفق القلب فرحا وتارة يأسا أو أسفا أو أملا، وكذلك الخطى؛ تارة تنم عن جزع وتارة تنم عن فرح أو أمل أو ندم أو جبن. أليست خطى الجبان في الميدان دليلا عليه؟ أليست خطى العاشق قصيدة من قصائد النسيب؟ أليست خطى الجازع تبين عن جزعه؟
أرقت ليلة فجلست قرب النافذة وجعلت أتسمع وقعات أقدام المارة، وكنت أجد في سماعها لذة تلهيني عن الأرق، وكانت تحدثني أحاديث شتى عن يأس اتخذ الليل لباسا يضرب برجليه الأرض كأنه يريد أن تسكت وقعات خطى ضجيج اليأس في صدره، وعن العربيد الذي تحكي وقعات أقدامه أنشودة هوجاء مثل أناشيد الريح وقد أمالت الأغصان، والمجنون الذي تحكي وقعات أقدامه نبضات قلب المحموم، أو كأنها غلام أخرق، يضرب بالطبل، والآمل الطموح الذي يكاد لا يلمس الأرض، فتحكي خطاه خطى الراقص المرح.
والشاعر صاحب الخيال المستفز يكاد يسمع صدى وقعات أقدامه في عالم الخيال، ويخشى أن يخرق صداها قبة السماء، وصاحب الخيلاء الذي يحسب أنه يتصدق على الناس بخيلائه، والزمن الذي يسعى برجل عرجاء فلا تسبقه الريح، والأيام التي تحكي وقعات أقدامها دقات الساعة، وخطى الغيد تتلو على سمعك لحنا مهذبا شجيا كأنه أوزان الغزل والنسيب. أوما سمعت أيها القارئ وقع أقدام الموت في دار جارك، وقد حل به القدر المتاح فحكى لك قصيدة في الرثاء؟ أو أنين الريح، فقل لمن يرى ظلام الموت ولا يرى جماله: إن هذا الظلام الذي تراه هو لون أستاره، ودون هذه الأستار الجمال الجم؟
إن هذا الكون العظيم ليتلو على المرء في كل حادث من حوادثه الصامتة الناطقة نغمة من نغماته، هذا الكون قلب عظيم، نبضاته وقع أقدام الحوادث، كل نبضة منها تبلغ أقصى نواحيه فتخفق لها جوانبه كما تخفق الضلوع، والوجود دائرة ليس لها محيط، فإذا لمست أية نقطة منه كان لك أن تقول إنك لمست مركز الدائرة.
وأنت أيها القارئ، فيك تلتقي الحوادث الماضية من قديم الزمن، فيك تلتقي الدول والأمم، فيك يلتقي الشرق والغرب، فيك تلتقي الأنظمة والآراء، فهي طرق كثيرة تؤدي إليك. أنت أيضا مركز دائرة الوجود. أنت لولا الحوادث الماضية من سياسية واجتماعية وطبيعية، لولا الحوادث التي حدثت في هذا الوجود الذي لا حد له لما كنت كما أنت الآن.
أما سمعت أيها القارئ خطى الغيب يطرق من وراء حجاب فراعك سماعها، ولجأت إلى عمل ساعتك كي يلهيك عن سماع ذلك الطارق المهيب. الأقل لمحتقر الحياة الراغب عن عمل يومه، المشرئب بعنقه ليسمع وقع أقدام الغيب، أيها الراغب عن ساعتك ويومك وحاجة عمرك لم تتعرف ما لم يأتك به الغيب، أليس ذلك السحاب الذي وراءه الغيب والقدر إذا قاربك كان هو الغيب والقدر؟ لم يروعك المجهول من الحوادث. أليس المعروف منها أدعى إلى الروع من المجهول؟
إني ليخيل لي في بعض أحلام اليقظة أن الآخرة في مكان قريب من هذه الدنيا. فأكاد أسمع ضجيج أهلها، ووقع أقدامهم، فأرمي الفضاء باللحظات، كالمشوق الذي يحسب أن حبيبه على كثب، فأحسب أني أرى الآخرة بلحظاتي، فلا أرى غير هذا الناس.
ألم تنصت إلى الربيع القادم وقد بلغ الشتاء مبلغه؟
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فسمعت وقع أقدامه وكأنه حسناء في ساقيها الخلاخيل، تسمع رنة أجراسها في تغريد العصافير، والصباح ألم تسمع وقع أقدامه؟ إنما الصباح أخو الربيع الأصغر قد عني به الربيع فعلق في ساقيه من خلاخيله تحببا إليه. ألم تسمع رنات أجراسها وقد صدحت الطيور في الفجر، وقد هب النائم من مضجعه، ورأى مطلع الشمس فحسب أن الكون يخلق مرة جديدة.
زرت المقابر في ليلة من ليالي الشتاء، فخيل لي أني أسمع أقدام الموتى، فصرت أتلفت لأرى تلك الأقدام التي أسمع وقعاتها، ثم عوى الريح في زوايا القبور فحسبته أنين الموتى، فجعل الخيال المشبوب يملي علي وأنا أكتب:
ألا إن للموتى لصوتا كأنه
خرير المياه الجاريات على الصلد
ويحكي حفيف الغصن في لين وقعه
وطورا كأصداء الطبول على بعد
ويعول أحيانا كأعوال ثاكل
رمتها صروف الدهر في الولد الفرد
إنه ليخيل لي أن الأطفال يسمعون وقع أقدام الملائكة. ألم تر طفلا يصغي إليها فحسبته يصغي إلى غير شيء؟
ألم تسمع وقع أقدام الأفلاك في دوراتها؟ هل سما بك الخيال مرة بين الشمس والقمر والنجوم، فسمعت تلك النغمات الفضية التي تطلقها خطى الأفلاك في دوراتها؟ أم هل غبت مرة عن هذا الكون وجعلت ترخي للتفكير عنانه، حتى حسبت أنك كائن في غير هذا الكون، وقد خيل لك الوجود الذي لا جد له وهو يخطو في الفضاء فسمعت وقع أقدامه؟ آه! ما ألذ تلك السويعات التي يطلق المرء فيها من رق هذا الوجود، فيصير وجودا كائنا بذاته!
كلمة
في الضحك والبكاء
قال الشاعر بيرون:
المرء أرجوحة بين البكاء والضحك
وإنما المرء ضحكة ودمعة، والحياة دمعتان، دمعة تراق عند البكاء، ودمعة تراق عند الضحك، والعاقل من جعل حياته ضحكة واحدة أو دمعة واحدة يريقها عند الضحك ويضن بها على البكاء، فيسكن البيت الضاحك المشمس، ويرغب في الصديق الضاحك.
الضحك عدو الهم، وكما أن القنبلة تبعث الوجل في قلب الجيش؛ كذلك الضحكات تفزع الهموم.
وأوجع البكاء بكاء الرجل. أما بكاء الغلام فقد لا يحز في قلبه، فإنه دامع العين ضاحك القلب. حدثني صديق قال: «بكيت مرة وأنا صغير، ولكني كنت مشغولا عن بكائي بالتفكير في غير شيء، ولقد بلغ بي ذلك التفكير الطائش منزلة لم أكن أعرف فيها أني أبكي.» أما الرجل فإنه إذا بكت عينه بكت عواطفه وبكى قلبه.
كل شيء في الوجود يضحك، فالرعد يضحك، والريح الهوجاء إذا أتت ضحكت، والخرير يضحك، والضوء يضحك، واللون يضحك، والحسن يضحك، والصديق يضحك، والزهر يضحك ، والربيع يضحك، فقد قال البحتري:
وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
والمشيب يضحك، فقد قال دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
والأرض تضحك، فقد قال الشاعر:
تضحك الأرض من بكاء السماء
وإني أكاد أقول: إن الضحك بكاء والبكاء ضحك. ألم يضحك الإنسان في الشقاء؟ ألم يبك في النعيم؟ أما ضحكه من الشقاء فادعه - إذا شئت - الضحك المر، أو الضحك الباكي، أو الضحك الحزين، أو الضحك العابس، أو البكاء المتنكر، وأما بكاؤه من النعيم فادعه - إذا شئت - البكاء المشرق، أو البكاء الضاحك، أو البكاء العذب.
وللمعاني والأحوال ضحكات؛ فلليأس ضحكة، وللحقد ضحكة، وللأمل ضحكة، وللظفر ضحكة، وللحب ضحكة، ومن العظماء من نبه ذكر ضحكته وذاع صيتها، فإنهم يقولون في ضحكة الاحتقار: ضحكة مثل ضحكة بيرون، وفي ضحكة الأمل والاستبشار: ضحكة مثل ضحكة جيتي.
الغناء ضحك والموسيقى ضحك، غير أنه ضحك موزون مهذب شجي.
وإن لأحوال الحياة ضحكات، فالنعيم يضحك لأنه يخدعنا، والشقاء يضحك لأنه يشمت بنا، كذلك للحرارة ضحك وللبرودة ضحك، غير أن ضحك الحرارة مثل ضحك الشبان، وضحك البرودة مثل ضحك الشيب. ضحك الأطفال مثل تغريد العصافير، وضحك النساء مثل صوت الحلي، وضحك الرجال مثل صوت الرعدة، فالأول ينم عما يكنه من الطهارة، والثاني ينم عما يكنه من الرقة واللطف والحنان، والثالث ينم عما يكنه من الثبات والعزم. الرجال يلتذون الضحك أكثر من الأطفال لأنهم زاولوا مصائب الحياة، وكما أن الراحة أحسن ما تكون بعد التعب؛ كذلك الضحك أعذب ما يكون بعد مزاولة أمور الحياة، والرجال أقرب إلى الضحك من النساء لغلظ إحساسهم ورقة إحساسهن، فإن رقة الإحساس ثغرة يهجم الهم منها على الإنسان.
الضحك العذب خير من البكاء، وكذلك الضحك المر أفضل من البكاء المر؛ لأن في عنصر الأول شيئا من احتقار المصائب، وهذا أليق بالعزيز النفس وبه أبر، وإن في الناس من يضحك فتحسبه يبكي، ومن يبكي فتحسبه يضحك، وهذا أشقى الناس؛ لأنه لا يقدر أن يخلط نفسه بنفوسهم وشعوره بشعورهم، وإن من الناس من يستجلب منظره لآخر الضحك. كما قال المتنبي في كافور:
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
ومن رحمة الله؛ أن المرء مهما كرثه الشقاء قادر على الضحك، فإذا تكلف الضحك خرج ضحكه سقيما فاتر الصوت مكذوبا، ولكنه إذا لج في هذا الضحك المكذوب الحزين انقلب ضحكا مجنونا غالبا لا سبب ولا حد له. هذا من رحمة الله بالناس.
نظر الشاعر إلى الطبيعة
في النعيم والشقاء
إذا كان لك من المقدار سلطانه الذي يصول به لم تقدر أن تمنع الشاعر من أن يفرغ ما يثور به صدره. أتحسب أن الغريد إذا ضمته أسلاك القفص كانت مانعة إياه الغناء العذب، أو أن الشقاء إذا حنيت عليه أضالع الأديب أسكته. إن البلبل إذا أطلق نغماته وهو آخذ بأطراف النعيم بين الأشجار والأنهار كساها الجلال جلبابه، ونشرت حولها الطلاقة هالتها. أما إذا جاد بها وهو في سجنه كانت كأنها لابسة حدادا، أو كأنها صوت المريض المودع عواده، فتثير عواطف الرحمة والخشوع، ويكون جمالها في هذه الحال مثل جمال السحب التي طرزت أطرافها أشعة الشمس الذهبية، فكأنها البرد الأسود المزركش، الذي يجمع بين اللون العابس واللون الضاحك.
قد ضمن المتنبي في نفسه من المرارة وسوء الظن بالناس ما يضمره كل من قصر عن إدراك آماله وأطماعه، ولكن تلك المرارة لم تكن داعية إلى إضعاف لذة التغريد، فإن من قيد البحث بنفوس الشعراء علم أن المرارة لا تمحو تلك اللذة، وإنما تكسبها ألما لذيذا، ولو أننا أردنا أن نصف جمال شعر الأديب البائس لما وصفناه بأبلغ من قولنا: الجمال الحزين أو البهاء العابس، فإنك إذا رأيت حسناء بلغ منها المرض مبلغا عرفت أن ماء الحسن جائل في أنحائها، ولكن الألم يكسبها رقة ولطفا غير رقتها ولطفها. كذلك نغمات الشاعر الذي تملكه الشقاء.
أليس عجيبا أن ذلك الشاعر الأبي ذا الأماني الضخمة الذي يقول:
وكل ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعره في مفرقي
يعرف كيف يتودد ويتحبب إلى الأسد حيث يقول:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم
فتسكن نفسي أم مهان فمسلم
ورائي وقدامي عداة كثيرة
أحاذر من لص ومنك ومنهم
فهل لك في حلفي على ما أريده
فإني بأسباب المعيشة أعلم
إذن لأتاك الرزق من كل وجهة
وأثريت مما تغنمين وأغنم
ألا يجول بخاطرك أيها القارئ أن قائل هذه الأبيات قد استعار براعة السياسي المدرب والسفير الحكيم رسول الصلح؟
إذا سمع الشاعر الحزين غريدا يرسل النغمات العذاب التي يخفق لها القلب خفوق الثوب في مهب الريح، زعم أنه ينوح من أجل شقائه، وإذا رأى الورد يقطر بالندى حسب أنه يبكي عليه، وإذا رأى النهر يتدفق قال: إن خريره من أنينه وماءه من بكائه، وإذا سمع الريح الهوجاء قال: إنها خلست هياجها وقلقها من هياجه وقلقه، وإذا عانق النسيم أوراق الغصن الزاهي حسب أنه استعار حنينه، وإذا رأى السحب ترخي على السماء سترا قال: إنها مقدودة من همومه وأحزانه. أما القطر فهو من آماقه والظلام حداد الليالي عليه، والنجوم جمرات أشجانه وأشواقه، ثم لا يبقي شيئا من أعضاء الطبيعة حتى يجعله من خدامه وأتباعه، مثل ذلك قول الشاعر الأندلسي:
علي وإلا ما بكاء الغمائم
وفي وإلا ما نواح الحمائم
وعني تطير الريح صرخة طالب
لثأر ويبدي البرق صفحة صارم
يا ابن آدم، أكثر أنانيتك وإعلاءك لشأن نفسك وإعجابك بها، وما أكثر غرورك وأنت الضئيل الحقير. إن للطبيعة وأجزائها لشئونا إذا استعرضتها لحق الهزال شأنك. تقول إن الطير يبكي على مصرعك وهو يتغنى بالغزل الرقيق، وتقول إن السحب مقدودة من همومك، وهي تملأ وجه السماء لترضع بناتها الأزهار من لبانها، فإذا شئت رأيت أن أجزاء الطبيعة ملؤها الجلال والحب والحسن والرقة، فكيف ترضى لنفسك أن تكون ملؤها الدناءة والقساوة والطمع، إذا كنت لا تستمد شرف النفس وجلالها من الطبيعة فدع هذه العروس مطمئنة في خدرها، ولا تفسد هواءها بأنفاسك الخبيثة ونظراتك اللئيمة، ولا تدنس أرضها المقدسة بقدمك التي لا تسعى إلا إلى إرضاء شرهك أو بغضك أو دناءة نفسك، فأنت كالحشرات التي ترود في جنباتها.
لقد كان القدماء أصدق منا نظرا في الأمور؛ لأنهم لم تتملكهم الأنانية كما تملكتنا، فزعمنا أن الطبيعة ليس لها حياة مثلنا. ألا يرى المرء في كل ورقة من أوراقها من المعاني أشياء كثيرة؟ أليس ذلك لأن لها حياة أجل من حياتنا التي ليس فيها من المعاني سوى الإحساس بعبثها؟ وسبب ذلك أن حياتها - بالرغم من تغاير أطوارها - مطمئنة، وأما حياتنا فهي أسيرة البغض والحسد واللؤم. انظر إلى الطبيعة ترى الأرض تعانق الضياء، والضياء يغازل الماء، والغصن يميل على الغصن، والموجة تتسرب في خلال الموجة. فهما أولى ببيت إسماعيل باشا صبري:
كأن صديقا في خلال صديقه
تسرب أثناء العناق وغابا
ثم انظر إلى الناس تر كل فرد يرمي الآخر بعين من تلك العيون التي يقول فيها أبو تمام:
يرمونني بعيون حشوها شزر
نواطق عن قلوب حشوها مرض
أو التي يقول فيها البحتري:
وفي عينيك ترجمة أراها
تدل على الضغائن والحقود
لقد صدق البحتري، فإن العين لا تخفى معانيها، فهي تارة حشوها أمل وتارة يأس، وتارة حشوها حب، وتارة حشوها بغض، وغير ذلك من المعاني.
قلنا: إن القدماء كانوا أحسن منا نظرا في الأمور؛ لأنهم كانوا إذا نظروا إلى الطبيعة نظروا إلى حي جليل ملؤه المعاني البليغة، ومن أجل ذلك كانت تبعث في نفوسهم الإجلال والخشوع، أو الصبابة والاستعبار والحب، وكل هذه معان من معاني العبادة. فما أخلقهم بعرفان ما نجهله من أسرار العقيدة الصحيحة!
وقد اختلف الشعراء في نظرهم إلى الطبيعة، فكان الشاعر شلي يرى أنها وعاء للحب والعواطف الرقيقة.
أما وردز وارث فقد كان ينظر منها إلى تغير حالاتها واختلاف أنواعها، حاسبا أن ذلك صادر عن حسن تفكير. أما هومير الشاعر اليوناني فقد كان يرى في جلالها ما هو جدير بالتقديس والعبادة.
وكان ولتر سكوت يرى في حياتها استقلالا عن حياتنا، وإنك لتجده في شعره يلحقها بغيرها من الأشياء ذات الحياة، وقد سلك البارودي في هذا الباب مسلكا حسنا حيث قال:
وإن مررت على الروحاء فامر لها
أخلاف سارية هتانة الديم
من الغزار اللواتي في حوالبها
ري النواهل من زرع ومن نعم
ألا ترى أنه جمع بين الزرع والنعم جاعلا شرب الحيوان مثل شرب النبات، وفي ذلك من شرف الخيال ما يستعصي على أولئك الشعراء الذين يتضاءلون أمام العظماء تضاؤل أعقاب لفائف التبغ في عين الشمس.
رسول الأمل
يقول الناس: إن رغبة المرء في الحياة تعظم إذا عظم النعيم وتقل إذا تضاءل، زاعمين أن النعيم هو الذي يربط المرء بالحياة ويرغبه في البقاء، ولكن هذا وهم، فإنه يربط المرء بالحياة روابط تختلف حسب اختلاف أزمان الحياة وأحوالها. ففي الصبا يربط المرء بالحياة روابط الأماني، فإذا تملكه الشقاء كان غير مباليه طموحا إلى ما يستقبل وانتظارا لمؤاتاة النعيم، وفي الرجولة يربط المرء بالحياة روابط السعي والعمل وانتظار نتيجة مساعيه والتذاذها، وإن المساعي لتكاد تشغل الرجل عن لذات الحياة، وهي التي تلتمس في الأهل والأصحاب والشعر والجمال والغناء. فيكون حاله مثل حال الرجل الذي يسرع في طريق ينبت على جانبيه الغرس الكريم والثمر الطيب والزهر البهي، فإن سائقا من الأمل يعجله عن أن ينعم بها رغبة أن يصل إلى ما هو خير منها. حتى إذا بلغ من الطريق غايتها لم ير غير أرض خلاء، ولو أحسن الإنسان نظره في أمور الحياة علم أن أفضل لذاتها ما يكتسب من الأهل والأصحاب والشعر والجمال والغناء، وغير ذلك من الموارد ذات اللذات الشريفة التي تعلو بالنفس عن الفناء في عبادة درن الحياة.
إني لست ناصحا للرجل أن يهجر مساعيه، وإنما أريد منه أن يقصر من غلواء اندفاعه فيها، حتى يقدر أن ينعم بلذات الحياة. أما إذا بلغ المرء من حياته منزلة الشيخ كان التذكر هو الذي يجعل له في الحياة رغبة؛ لأن كل شيء مضى منها قد صار جزءا من نفسه.
مثل هذه النفس مثل الطفل ذي الخلق الجامح، لا يهدأ حتى تضع في فمه قطعة من الحلوى، وكذلك النفس لا تروضها بأحسن من أن تغذيها بالأمل، ولو كان ممنوعا مصدره مخلوفا أكثره. غير أن أبهى وأعظم ما يكون الأمل إذا كان المرء في حال من أحوال الشقاء، فهو كما قال البحتري:
كالكوكب الدري أخلص ضوءه
حلك الدجى حتى تألق وانجلى
قال الفيلسوف باكون: «الأمل يطيل الحياة إذا لم يكن مخلوفا في كل حادثة.» على أنه مثل الجلد إذا كنت في حال لا يتسع لها قدره أمكنك أن تطيله، وهو مثل الحبل الذي يربط السفينة إلى جانب المرفأ، والنجم الذي يهتدي به السائح، والأثر الذي يقفوه العربي، والسراب الخلوب، والدرع الحصين.
ويقول العامة: إن أولاد يعقوب لما رموا أخاهم السيد يوسف في الجب بعث الله له ملكا من الملائكة الكرام يتلقاه في أسفل الجب، وإني لأحسب أن ذلك الملك هو الأمل.
لم يجتمع في شيء من الأضداد ما اجتمع في الأمل، فهو جليل حقير، كبير صغير، قوي ضعيف، قادر عاجز، بل هو الطبيب الذي عنده لكل داء دواء، بل هو الحديقة التي تنبت أنواعا شتى من الأزهار والفواكه، بل هو البرق في السحاب، بل هو مقذاف في يد الغريق، والأمل مثل حجر الفيلسوف الذي يغير عناصر الأشياء، فإذا مس الحديد صار ذهبا، وكذلك الأمل إذا مس الشقاء جعله نعيما، وهو مثل المصباح ذي الدهن المعجون بالطيب يبعث نورا يستضيء به العقل، وحرا تصطلي به الضلوع الباردة من اليأس، ورائحة زكية تسري في أنف الناشق التعب، فكأنها أنفاس المسيح التي كان يحيي بها الموتى.
ولكن خليقا بالمرء أن يحذر الأمل من حيث يأمنه؛ لأنه إذا علق آماله بالمستحيل كان مثل الرجل الذي بنى بيتا على أساس ضعيف، فلما احتواه البيت تهدم فوقه فصار قبره.
على أن تأثير اليأس في النفوس يختلف حسب اختلاف طبائعها، فإنه يبعث الألم والشقاء في بعضها ويبعث الراحة والكسل في بعض.
إن بعض الناس ينصب لنفسه الأماني وهو يعرف أنها علالة، حتى إذا أخذت بلبه خادع نفسه، وجعل يتطلب تحقيقها ويذل عقله لسلطانها، فهو في هذه الحال مثل الوثني الذي ينصب صنما من عمله ثم يعيده، أو كالأمة التي تضع فوقها ملكا من صنعها حتى إذا استبد وطغى استذلت أنفسها له زاعمة أن له حق الاستبداد بها. على أنه لو لم يكن في الأماني إلا أنها إذا تعلل بها المرء الذي نزل به الشقاء خلقت لشقائه أجنحة يطير بها، لكفاها ذلك مقرظا لها.
إن الإنسان ليستضيف الشقاء بأن يأمل السعادة الكاملة؛ لأن مساعيه المهزومة تفتح عليه أبوابا وتجلب إليه ضروبا من الهموم، وإن رجاء المرء السعادة الكاملة مثل رجاء الغلام أن يقفز فوق ظله إذا رآه منبسطا أمامه.
على أن سعادة الإنسان موقوفة على سياسة الإنسان للأحوال التي تحوطه، قال أنطونينس: «إذا أردت أن تعيش سعيدا فكن أكثر شبها بالمصارع منك بالراقص، فإن ثبات الأول ينفعك من حيث تضرك خفة الثاني ورشاقة وقفته.» ولكني أقول: إن المرء في حاجة إلى الوقفتين - وقفة المصارع ووقفة الراقص - فينبغي له أن يتعرف الحال التي هو فيها ثم يلتمس الوقفة التي تنصره عليها.
الإيمان بالحياة
في ليلة من ليالي الدهر أذكرها، ما وقعت علي مثلها، وعادت بذكرى ذلك الإحساس الذي جعلني أكتب هذا. قمت من النوم فزعا وإشفاقا على تلك الشعلة التي يخشى خمودها، تلك الحياة التي نجلها ولو كان ملؤها الشقاء. فكم من حزين لم يدع له الدهر نعيما إلا سلبه، يتعلق منها بخيط الأماني، ولو سألت رجلا جمع في شخصه ثلاثة فكان المقعد الأصم الأعمى عما يرى في الحياة من النعيم لقال بأن فضيلة البقاء في البقاء؛ لأن في الحياة لذة ليست من تلك اللذات التي تملأ أوقاتها، بل هي حقيقة في نفسها كائنة بنفسها.
سمعت في تلك الليلة صوت النادبات عن قرب فامتلكني الفزع، فجعلت أرفه عني بالتفكير؛ لأن فيه حياة أحسن من الحياة؛ بل هو الحياة. ثم تدليت من النافذة فأخذت وجه السماء بنظرة حائرة، فإذا هو وجه سقيم مثل وجه المرآة إذا نظر إليها الحزين.
وقد يأخذ علينا هذا من يقول إن الطبيعة هي التي تطبع على المرء صورتها الحسنة أو القبيحة، فتعين إحساسه أن يكون ابتهاجا أو امتعاضا، ولقد كاد يكون هذا القول حقا في جميع حالاته لولا أن الإحساس درجات، وقد يبلغ بالمرء درجة يمتلكه فيها فيقيس به الأشياء ويحكم عليها بحكمه، وقد يسلك الإحساس بالمرء مسلك الحزن، حتى ينتهي به إلى هذه الدرجة فيريه الحسن من الطبيعة قبيحا.
من سودت نار الجوى عيشه
يسود في عينه ضوء الضحى
وإذا سلك الإحساس بالمرء مسلك الاستبشار أراه كل شيء من الطبيعة حسنا.
على أن جمال الطبيعة قائم بذاته مهما اختلفت هيئاته وتباينت صوره، فليس الليل المقمر أو الروض الأخضر أو اليوم الأزهر بمغط على بهاء وجلال الليل الخداري والدجن المستقر، وجعلت هذه الأفكار تتردد في ذهن.
كتردد الآمال في
خلد الطموح الممتري
فأحدثت عندي اندفاعا إلى معرفة المجهول من أمر الحياة الذي هو مفتاح أسرارها، والذي نحوم حوله ولكنا لا نصل إلى مركز الدائرة منه، ولكن أين أنا منه وقد أخطأه الباحثون والعلماء؟ وسألت نفسي عن تلك الحياة الجديدة التي أحسست بها فعلمت أن ذلك الإحساس هو البرء من الداء، فإنا نقضي أكثر العمر في غربة عن أنفسنا، فلا نرجع إليها حتى يردنا إحساس بكارث دخل علينا أو على غيرنا. نحن نعلم أننا أحياء ولكننا لا نؤمن بالحياة. ثم إننا نخادع أنفسنا ونزعم أننا نؤمن بها؛ لأننا نحسب أن معنى الحياة التنفس، ولو أنصفنا الحق لعلمنا أنه الشعور بأعباء الحياة وما تتطلبه من القلق، من أجل اختلال شئونها وما يحث عليه ذلك القلق من الدأب في إصلاحها.
إني نظرت في أحوال هذا الجيل الذي نعيش فيه، فوجدت أن سالف الدهر على ما به من ظلمة الجهل وما تضمره من الشر، أحب إلي من هذا الدهر الذي يدعونه عصر العلم والسكينة؛ لأن الأولين كانوا إذا عرفوا شيئا آمنوا به، ولكنا نعرف ولا نعتقد، وربما قال قائل: إن العلم بالشيء هو الاعتقاد به، ولكنا لا نقف معه في هذا الوادي؛ لأن العلم بالشيء لا يصير اعتقادا إلا إذا امتلأ من الإحساس.
ثم إني نظرت في فقدان ذلك الإحساس فعلمت أن سببه اندفاع الأولين في سبيله، فقد بلغ منهم الإحساس مبلغا، وتملكهم الاعتقاد فعظم إيمانهم بما رأوه حقا، وإن لم يكن كذلك فنازعوا البقاء من خالفهم في عقيدتهم، فإن من سنن الحياة أن يتبع الشيء نقيضه فتلتقي الأطراف عند ابتعادها، ونحن لا نريد لأنفسنا حالا مثل حالهم ولا نرغب فيها، ولكنا نريد أن يكون اعتقادنا بقدر ما عندنا من العلم، ولو صح لنا ذلك لكنا في حياة هي الحياة التي خلقنا الله لنسعد بها، فإذا قال قائل: إن العلم ينافي الإحساس، قلنا له: إن العلم إذا كان العلم لا يكون إلا إذا دخل التفكير شيء من الإحساس، فكيف ينافي الإحساس وجود العلم إذا كان العلم لا يستقيم إلا به، ونستخرج من ذلك أنه إذا كان القليل من الإحساس يستعين به التفكير في إيجاد العلم، فإن الكثير منه يمكن العلم من النفس حتى يصير اعتقادا، وإن الذي غرر بالمعترض حتى زعم ما زعم هو أنه نظر في حال الأولين ثم في حالنا فوجد عندهم جهلا وإحساسا كثيرا (وإذا شئت قلت بدل الجهل: قليلا من العلم) ووجد عندنا علما وإحساسا قليلا (وإذا شئت قلت بدل العلم: جهلا أقل من جهلهم).
ولو أنصف لعلم أن ذلك رد فعل حدث من اندفاعهم في طرف، واندفاعنا في ضده.
إن من مناظر الحياة التي يسخر منها الساخر، ويضحك الضاحك، ويبكي الباكي، ويحزن الحزين، أن نرى في منزلة بين الشك واليقين، بين الإنكار والاعتقاد. إنني أنظر في تاريخ كل اضطراب كان باعثه الإيمان بالحياة فأتناسى كل ما علق به من الشر؛ لأن باعثه الإيمان بالحياة، وأرى إعراض الناس عن فهم معاني الحياة سكونا إلى المظاهر ورغبة فيها، ومن الواضح الثابت أن الإنسان إذا تنعم بالحياة وكثرت موارد خيراتها صعب عليه أن يؤمن بها أو يسعى في تحسينها، ولقد أعجبتني كلمة في هذا الباب لنابليون الأول، وهي أن كل التعاليم القائمة تقع كالبناء المتهدم عند ذكر الإيمان ...
ثم إن الإيمان بالحياة يبعث النشاط في قلب الأمل، والإقدام في قلب الجبان، ويمهد مسالك السعي، ويوطئ مراقي الفضل، ويمكن الثقة بالله وبالناس من قلب الإنسان.
قد يتدفق التفكير بالحقائق التي تجعل الحياة طيبة إذا اندفع في سبيل الإيمان بالحياة التي خلقنا لنسعد بها حسب استطاعتنا، لكنه قد يتجهم ويمكن اليأس من القلوب إذا اندفع في غير ذلك السبيل السوي.
كان لي منذ زمن إلى مذهب «اللاأدرية» فإن فيه راحة للبال من الوساوس التي تعتور الإنسان، واستقرارا بعد ذلك القلق الذي يتملك الإنسان في سبيل البحث عن أسرار الحياة ومعانيها وأولها وآخرها، ولكن فيه مع ذلك قتلا للإحساس ومحوا لمبالاة ما يقع في الحياة. على أن ذلك الإحساس وتلك المبالاة اللذين يبعثان القلق هما معنى الرغبة في الحياة، فإذا قتلا ضعف أملنا وإيماننا بالحياة وحسبناها خدعة، فتنقبض قوانا المندفعة في مقاومة الصعاب، وإذا صح ذلك عندنا صح أيضا أن الإنسان خلق كي لا يستقر إلا على قلق؛ لأن ذلك القلق هو الباعث على الحركة التي تسير بالوجود إلى منازل مختلفة، وربما كان منها ما هو من منازل الإصلاح.
ولكن أحمد مواقف اللاأدرية، شعور الإنسان بضعفه أمام القوة العظمى، فإن في ذلك الشعور معرفة لقوانا ولما هي قادرة عليه، فيكون سعينا على علم وتبصر، ولقد قال الفيلسوف سقراط كلمة في هذا المعنى - وأظنها وردت في جمهورية أفلاطون: «الناس كلهم جهلاء، ولكني أمتاز عنهم بعرفاني أني جاهل وجهلهم أنهم جاهلون.»
قال إسماعيل باشا صبري:
وإن تبك ميتا ضمه القبر فادخر
لميت على قيد الحياة دموعا
لكأن ذلك الميت الذي على قيد الحياة الرجل الذي لا يبالي شئون هذا الوجود، ولا يتألم من اختلالها، فهو لا يبذل جهدا في إصلاحها، وتلك أنانية وبخل ولؤم.
وإذا كان الأمل أعظم ما يتملكه الإنسان في هذه الحياة، فلم لا نأخذ بقول إميل زولا: «يجب أن نثق بالطبيعة الإنسانية، وليست هي التي زعم جان جاك روسو أنها خالصة من الشوائب، ولكنها هي التي يجب أن نرجي ما يستقبل من أمرها، وأن نثق بها، بالرغم مما يشوبها من الدناءة والقسوة والقبح، ويجب أن نعلق آمالنا بإجهادنا لقوانا، وما وراء ذلك من العمل، وأن نعتقد أن سعينا موصول بغاية حميدة، ولو أننا لا نعيش حتى نرى ذلك.»
الذوق
جاء في قصة دون كيشوت للكاتب الإسباني الشهير سرفانتس أن رجلا اشترى زقا من الخمر المعتقة، ودعا أصحابه ليذيقهم لذاذتها، ويسمع منهم كلمات الثناء عليها، فلما ذاقها أحدهم صمت قليلا ثم قال: لقد كانت تلك بالغة غاية اللذاذة، لولا أن مذاقها يشوبه مذاق الحديد، وذاقها آخر فصمت مثل الأول ثم قال: لقد كانت تكون بالغة غاية اللذاذة لولا ما يشوب مذاقها من مذاق الجلد، فجعل الحاضرون يسخرون منهما ويتهمونهما بسقم في الذوق، فلما أفرغ الزق وجدوا فيه قفلا من الحديد ربطت به قطعة من الجلد، فجعلوا يعجبون من سلامة ذوقيهما، وعرفانهما دقائق الأمور.
وإنما أوردنا هذه القصة لنضرب مثلا للأذواق، وكيف أن الصحيح منها ما كان قديرا على تتبع الأجزاء الدقيقة. فلو عرض عليك كتاب وسئلت رأيك فيه وكنت نافذا إلى حسناته، كان خليقا بك أن لا تحيد عن الرأي الرجيح. ثم إنك لا تكون صادق الحكم في آداب اللغة العربية مثلا إلا إذا درست آداب العصور التي تعاقبت عليها، فإذا درست آداب عصر واحد كان رأيك أبعد ما يكون من الصواب، ومثلك مثل الحكم الذي إذا سمع شهود الإثبات أفاد من المتهم، قبل أن يسمع شهود النفي. فإذا أردت أن لا تضل أصالة الرأي، كان خليقا بك أن تعرف أنحاء الأمر الذي أنت حاكم فيه، فإذا أردت أن تكون ناقدا لفن التصوير ولم تدرس إلا صور الأوائل مثل روفائيل وتشيان خفيت عنك حسنات المصورين أصحاب المذاهب المخالفة لمذاهب الأوائل.
والأذواق تتفق في أشياء وتختلف في أخرى، من حيث الاستملاح والاستهجان، فما اجتمعت عليه الأذواق فهو ذوق عام، وما اختلفت عليه فهو ذوق خاص، ولكل امرئ من هذا نصيب حسب أهوائه وطبائعه وما تغذى به إحساسه، وما وقعت عليه حواسه، ولا يجحد أحد أن في دائرة الذوق ما يتفق عليه الكثير، ولولا ذلك ما كان بين الناس صلات؛ لأنها لا تكون إلا بمقدار من التعارف، والتعارف لا يكون إلا بمقدار من التشابه في الأذواق، ولقد رأيت الناس يعرضون ما يعالجونه من المسائل العقلية على عواطفهم، جاعلين لها سلطانا على قوة المحاجة، ويحكمونها في أشياء لا تقوى على أن تحسن مناصحتهم فيها، وتبدي لهم عن الرأي الرجيح، ورأيتهم يهملون ملكة انتقاد النفس، فلا يتعهدونها بما يصلح من شأنها ويعمل في إنمائها، حتى تضعف فتضعف قوة الحكم على الحقائق بقدر ضعفها، ورأيت أناسا رفضوا ما تصدره عواطفهم من سنن وعادات، وأساءوا الظن بها اتكالا على قوة المحاجة وما رأوا فيها من الحكمة والتدبير، ولكن فاتهم أن للعواطف مجالا في كثير من الأمور.
وما تقول في رجل يرى زوجه فيريد أن يعرف نصيبها من الجمال فيقول في نفسه: إن طول أنفها خمسة أشبار ونصف، وهكذا يريد أن يعرف مقدار تناسب أعضائها، والتناسب معنى من معاني الجمال، فكأنما هو موظف من موظفي مصلحة المساحة وقد أمر أن يقيس قطعة من الأرض.
فليس جمال المعاني ومعاني الجمال مما يحكم فيه قوى العقل غالبة للعواطف، ولا هو نظرية تحل بالتفكير فيها، حتى إنه قيل: إذا لم يكن ناقد الشعر ذا عواطف مشبوبة كان خليقا به أن يجد لنفسه مهنة أخرى.
فالعواطف هي أكثر الأشياء سلطانا على الأذواق، فإذا كانت العواطف سقيمة كانت الأذواق كذلك، ولا شيء يفسد العواطف مثل مزاولة المرذول، فإن المرء لا يزال حتى يراه لأسباب الفضل جامعا ولأصناف الحسن شاملا، وحتى لا يرى الفضل إلا فيه، فإنك لتنشد الأزهري في أزهره والشاب في دار تمثيله ما يسمع الصم، فلا يسوءك إلا أنك طربت ولم يطرب، وعرضت بضاعة لو صادفت ذا ذوق صحيح ما ردها عليك ولكن:
تعرض الأشياء في أوطانها
آفة الجوهر أن لا يعرفا
وإذا بالأول ينشدك من حواشيه ومتونه ما يزيده في فتونه، وإذا بالثاني يتغنى بشعر ملؤه الوهن والغميزة، فأنشدهما قول البحتري:
إن الخطوب طوينني ونشرنني
عبث الوليد بجانب القرطاس
وقل لهما انظرا كيف جعل الخطوب لا تعرف ما هي فاعلة به كما يعبث الطفل بجانب الورقة، فتارة يطويها وتارة ينشرها، وأنشد قول الشريف:
ينأى ويدنو على خضراء مورقة
لعب النعامي بأوراق وأغصان «النعامي ريح» فإنه جعل مرح الإنسان في النعيم، مثل لعب الريح بالأغصان والأوراق، فلا تجد منه بعد ذلك إلا ازورارا مثل ازورار التقي عن مظان الريبة.
اجتمع أعاظم المصورين وصنع كل صورة أملاها عليه ذوقه، زعم أنها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها وجدت اختلافا عظيما ينبئ عن مثله في أذواق هؤلاء المصورين، وربما كان بين تلك الرسوم ما يستسمجه بعضهم. على أنك لو قلت لهم: ما هي أصول الجمال؟ لقالوا: كذا وكذا، واتفقوا على أشياء عامة، حتى إذا عرضوا عليك ما يستملحونه من معاني الجمال عجبت لاختلافهم فيما يعرضونه عليك، ومن أجل ذلك قال العلامة داود هيوم: الأذواق تتفق في الأصول العامة وتختلف في الأمثلة الخاصة والأفكار. بعكس ذلك تتناكر في النظريات العامة، حتى إذا ولج بها البحث إلى الدقائق أدت بها إلى التعارف.
على أنه مهما تباينت الأذواق، فإن لذلك التباين حدا إذا تعداه امرؤ عد سقيم الذوق. فإذا تمارى اثنان في تفضيل ابن المعتز على البحتري، كان أحدهما مصيبا والآخر مخطئا، ولكن خطأ المخطئ لا يعزى إلى سقم ذوقه. أما إذا ولج امرؤ في تفضيل ابن الفارض على البحتري فلا نجد له شيئا أحسن من أن نرجو له مغفرة واسعة.
ولقد وضع أناس الأخلاق في دائرة الذوق؛ لأن الناس متفقون على أصول عامة، مثل بغض الشر وحب الخير، ولكنك إذا أردت أن تقسم الأفعال إلى خير وشر وجدت اختلافا كبيرا في تقسيم الأمم لها. ألا ترى أن العرب لم تكن ترى حرجا في الإغارة، وأن الإسباني كان لا يجد حرجا في أن يجعل السيف سلاحه الذي يقتل به عدوه، ولكنه يأبى أن يجعل السم سلاحه خيفة أن تنسب إليه فظاظة في الخلق. أما العادات فهي بنات الأذواق، فإذا كثرت العادات وقيدت المدني نمت كثرتها وتقييدها إياه على سقم في ذوقه، ومن الذي ينعم بالحمل الثقيل.
رداء ولا رداء
إذا كنا نحمد العري من أجل أنه يسلك الناس في صعيد واحد غير رافع للغني شأنا، ولا خافض للفقير جناحا، فخليق بنا أن نحمد الكساء من أجل أنه باعث الحياء في الصدر، والحياء غذاء الضمير، ولا خلاق لقوم لم تصح ضمائرهم. يا عجبا للمرء! إن أجل شيء فيه مستجلب من كسائه، ذلك الكساء الذي كان شعرا على ناقة أو ذنبا لبعير لوث البعر ذنبه. ألا قل لمن لا يرفع للمادة شأنا ولا يقيم لها وزنا: لقد طوح بك الضلال. أما رأيت كيف أنها تحيي الحياء فتحيا بحياته الضمائر والأخلاق، ولو أنك رميتها بنظر صادق لعلمت أنها الوجود وروح الوجود، فإذا زعمت أنها روح الوجود فقل مع «بركلي» أن ليس في الوجود مادة، فإذا ظنوا بك الظنون فقل: كل عقل تظن به الظنون.
يقسم الناس الوجود إلى مادة وقوة، أو إلى جسم وروح، فيخطئون في بعض ما يعنون؛ لأن القوة في المادة والمادة في القوة، وهما شيئان لا يفترقان أبدا، ومن أجل ذلك أنظر إلى ما يدعوه الناس جمادا غير ذي حياة فلا أراه كذلك: تلك الفاكهة العفنة لولا أن فيها من القوة شيئا لما قدرت أن تعفن، وذلك الغصن الذاوي كيف يذوي إذا لم يكن فيه من القوة ما يذويه، فإذا فهمت ذلك عرفت أن كل شيء في الوجود حي، وأن الفناء معنى من معاني البقاء؛ لأنه انتقال من حياة إلى حياة ومن هيئة إلى هيئة. قال بركلي أن ليس في الوجود مادة فصدق. وقال علماء الفسيلوجيا: ليس في الوجود ما يسمى عقلا أو روحا، لم يكذبوا.
هنا يقف الضئيل موقف التعجب والإنكار، ثم يقول ضدان لا يتفقان، وقد وهم في ذلك، فليس بين القولين مغايرة، فالأول ينظر إلى صفات في أجزاء الوجود غير التي ينظر إليها الآخرون. فإذا أردت أن توفق بين القولين فقل: المادة هي القوة والقوة هي المادة، فإذا بلغت هذا المبلغ من العرفان فهمت قول قاسم بك أمين: «العقل والإدراك والنفس ألفاظ لا تدل على أشياء حقيقية، بل وضعت لملكات كان يتوهم وجودها بالذات في زمن كان العلم فيه قاصرا يستمد مادته من الخيال، ثم استعملها علماء هذا العصر بحكم العادة ولسهولة التعبير وتقريب المعاني إلى الفهم، والحقيقة أن البحث العلمي لم يجد في الحياة الفسيولوجية إلا خلايا متنوعة قابلة للنمو بذاتها ومتأثرة باشتراك خلايا أخر.»
كان الإنسان في بدء وحشيته يمشي مكشوف الجسم فاقد الحياء، ولكن حب التزين كان آخذا من لبه مأخذا غريبا، فاتخذ اللباس حلية، وما زال يخلع زيا ويلبس آخر حتى ظهرت فطنته، فاتخذ من اللباس وقاء من الحر والبرد. فكان هذا اللباس موري الحياء في قلبه، فستر جسمه وغطى على ما يتخلق به من خصال السوء، فكأني به وقد تعلم الحياء تعلم الرياء أيضا، فكان أكثر أهل الحياء من أهل الرياء، لأن الحياء المقبوح يزعهم عن ارتياد الريب أمام الناس ولا يزعهم عن مواقعة الرذيلة في السر.
كان أقوى الناس جسما في الزمن الخالي أقدرهم على جمع المال فكان أحسنهم لباسا، والقوة معبود الناس، فكانوا يجلون لباس القوي من أجل قوته، فما زالت بهم الحال حتى أجلوا المرء من أجل لباسه. أليس اللباس الحسن دليلا على الغنى والمال؟ هو العبد المطواع والرسول اللبيب إذا سرحته سعى بينك وبين الناس بأحسن ما تحب، وهو الحجة البيضاء والرأي الرجيح.
وبار تميما بالغنى إن للغنى
لسانا به المرء الهيوبة ينطق
وهو مغط على عيوبك ورافع عن حسناتك الخمول، وهو إذا شئت الداء العياء والسم المميت.
لقد حبب الجاه إلينا اللباس فأحببنا الزينة حبا في الجاه. إن الرجل إذا خلع ثياب زينته خلع فيها روحه فلا راجعها حتى يلبس ثيابه، ولقد صارت قيمة الرجل ما يتحلى به، وإذا كنت في ريب من ذلك فانظر إلى المثري يرفل في زينته وأطل عليه وهو في الحمام تر أنه خلع عظمته ومجده حين خلع ثيابه.
قال شكسبير: ثياب المرء دليل عليه. لقد صدق شكسبير إلا أنها كادت لا تكون ذلك الدليل. أما رأيت إنسانا ضفا عليه الحرير ورف تحسبه من الملائكة وهو من الشياطين؟
اثنان أحدهما حسن البزة والثاني رثها، قد هم الأول أن يبصق في وجه الثاني، غير أنه رأى ثيابهما تخفى فجأة، أتحسب أيها القارئ أنه فاعل ما هم به من البصق؟ كلا إنه ليخجل أن يبصق على جسم مثل جسمه. فالعري منزل الرفيع من سمائه ورافع الوضيع من حضيضه، فهو من هذا الوجه مثل الموت. ائت بفلاح من صميم الريف، وقف به عند دكان أستين أمام تلك التماثيل ذات الثياب الجدد، فإنك ترى صاحبك يكاد يحييها؛ لأنه يحسب أن حياة المرء في ثيابه. قاتل الله الثياب، لقد كدنا نكون في حياتنا أمواتا، وكادت ثيابنا تكون لنا في ذلك الممات أكفانا.
ينثر الزارع في أرضه الحب ثم يقيم عندها قطعة من الخشب ويضع عليها ثيابا بالية، فإذا مر بها الطير كانت له تلك الثياب البالية وازعا عن التقاط الحب، لكأن ذلك العصفور أعقل من المتمولين الذين يلتقطون قوت الفقير، لا يزعهم عنه تلك الخرق البالية التي تكاد لا تكسو جسمه. أتحسب أن الممثل يفخر بأزياء الملوك والأمراء؟ أليست عظمة الإنسان أيضا مستعارة من ثيابه المستعارة؟ ترى الفقير لابسا ثوبا يطل عليك الفقر من كل خرق من خروقه.
هذه أبواب الحاجة تنفذ منها إلى الأبصار. أيها الغني إنك لتحسب أن كل خرق في ثوب الفقير جرح رغيب في عرضه، وإنك لواهم، فإنه أقرب إلى طبيعة الإنسان منك أنت تعيش في ثيابك وهو يعيش في نفسه.
تقديس النجاح
إن الأمة في عصور قوتها مثل الأفراد في سنا نجاحهم. في الحياة تحكم على الأعمال بنتائجها لا بالدوافع التي دفعت إليها، ومن أجل ذلك تجد أفراد الأمة القوية يقدسون النجاح تقديسا كثيرا، وهذا أثر من آثار عبادة القوة؛ لأن العمل إذا كانت نتيجته النجاح كان محببا إلى الناس، وإذا كانت نتيجته الفشل كان مبغضا إليهم، ولا أظن أنهم مخطئون في ذلك. نعم ينبغي للمرء أن يذكر دائما أن الدوافع المختلفة التي تدفع إلى الأعمال توجد اختلافا في قيمة الأعمال، ولكن الذي يعين قيمة العمل هو النجاح، ولا أعني به ذلك النجاح السريع الذي يعقبه الفشل الطويل والمبني على أساس من الغش والكذب، وإنما أعني ذلك النجاح الذي يتخذ له الأفراد والجماعات عدته، والمبني على أساس صحيح متين من القوة.
فإذا نظرت إلى الأمم في حين ضعفها وجدتها تحكم على الأعمال بالدوافع التي دفعت إليها لا بنتائجها، وهذا - ولا شك - إحساس بالعجز؛ لأن الأفراد إذا خافوا أن يحكموا على أعمالهم بنتائجها كانت ثقتهم بأنفسهم قليلة، كأنهم لا يستحقون أن تكون نتائج أعمالهم النجاح، ومن أجل ذلك تجد أفراد الأمة الضعيفة يكادون يقدسون الفشل في المطلب الجليل، خصوصا إذا كان نصيبهم؛ لأن كل إنسان يجل النجاح ويقدسه إذا كان النجاح نصيبه، ولكن سواء كان النجاح نصيب المفكر أم كان نصيبه الفشل ينبغي له أن يتذكر دائما أن قيمة النجاح الصحيح أكبر قيمة في الحياة؛ لأنه مبني على قوانين وقوى مثل القوانين والقوى التي بني عليها هذا الوجود.
العامة يكثرون من ترديد هذه الكلمة «الأعمال بالنيات.» وهذه حقيقة، ولكنهم يخطئون فهمها ويخطئون في استعمالها. فليس معناها أن النية التي دفعت إلى العمل هي وحدها التي تعين قيمته، وليس معناها أن هذه النية أهم من العزيمة والصبر، والجلد والعلم، والخبرة والدهاء، والاعتماد على النفس، وغيرها من القوى التي اشتركت في تحقيق النجاح واستجلابه.
ومن الغريب أن بعض المفكرين يتابعون العامة في الحكم على الأعمال بالدوافع التي دفعت إليها لا بنتائجها، والسبب في ذلك إما أنهم يخطئون معنى النجاح الصحيح وما يستلزمه من القوى الكثيرة، وإما أنهم يرون أن بعض العاملين ينجحون بالرغم من كونهم أهملوا بعض الفضائل المدنية. نعم إن هذه الفضائل تردع عوامل الاعتداء التي في صدر الإنسان وتعده لأن يتبع سنن الجماعات وأنظمتها، ولكن الذي نسيه هؤلاء المفكرون أن النجاح أساسه القوة، والقوة مصادرها كثيرة من فضائل شخصية أو مدنية، والنجاح يتطلب قوى وملكات وفضائل خاصة، ولا يستقيم لأحد إلا بها.
إن أفراد الأمة القوية يتعلقون بوسائل النجاح ولا يحجمون عن العمل خشية الفشل. أما أفراد الأمة الضعيفة، فإنهم يحجمون عن العمل خشية الفشل؛ لأنهم لا يتعلقون بوسائل النجاح فيكون خوفهم من الفشل داعية الفشل، ويرجع ذلك إلى إهمال وسائل النجاح، ولقد يفشل الرجل العظيم وينجح الرجل الضئيل، لكن هذا العظيم - على عظمته - نسي حقيقة كبيرة، وهي أن الإنسان لا بد أن يؤهل نفسه للنجاح في الحياة؛ كي ينتفع بمواهبه وينفع بها غيره، وقد تجني على المرء تربيته، فإنها قد تعده للفشل في الحياة، خصوصا إذا كانت في نفسه صفات من الصفات التي تجعل نجاحه مستحيلا، مثل ضعف ثقته بنفسه، وتوكله على غيره، والحياء المفرط الذي هو في الحقيقة دليل من دلائل الضعف.
وقد يتساءل العاجز عن الصفات والقوى التي يستجلب بها النجاح، هل هي أجل ما يطمح إليه الإنسان وأشرف ما تتصف به النفوس؟ أم هناك فضائل وقوى أعظم منها وأجل؟ ولو بحث هذا السائل لوجد أن الصفات والقوى والملكات التي نجلها في نفوس الناجحين ونعدها ثمينة نادرة مثل الذكاء أو قوة المنطق والتفكير أو رقة الشعور وجلال العواطف هي رخيصة جدا في نفوس العاجزين أهل الفشل، وهذا ليس بغريب، فإن المفكر الذي جرع كأس التجارب يجد أن الملكات والقوى النادرة لا قيمة لها في نفسها، بل قيمتها في استخراجها واستعمالها، وما ينشأ عنها من المؤثرات. كما أن الجواهر الكريمة أو المعادن النفيسة لا قيمة لها ما دامت في بطن الأرض، بل قيمتها إذا استخرجت وصادفت رغبة فيها. أما إذا لم يوجد من يرغب فيها لم تكن لها قيمة، فينبغي للمرء أن لا يحتقر تلك الملكات التي تقدر النجاح في الحياة، فإن ذمه إياها وهو لا يملكها يكون مثل ذمه عنقود العنب لأنه لم تصل إليه يده.
ثم إن النجاح في الحياة تختلف مظاهره، فقد يفشل المرء فيما يرضاه الناس له من الحياة وينجح فيما يرضاه لنفسه، إلا أن نجاح المرء في الحياة يقاس بمقدار قواه، سواء كانت مادية أو عقلية أو روحية.
يحسب بعض الناس أن في تقديس النجاح ظلما وقسوة وغبنا، وأنك لا تجد أحدا يقول بذلك إلا إذا خشي الفشل. أما إذا كان من الرجال الذين لا يطغيهم النجاح ولا يكرثهم الفشل، فإنه يجد من ثقته بنفسه وبعمله ما يعينه على استجلاب النجاح، وتحمل الفشل، ومن أجل ذلك تجد الأمم التي تقدس النجاح أكثر جرأة من الأمم الضعيفة التي تخشى أن تحكم على أعمالها بنتائجها لا بالدوافع التي دفعت إليها.
غير أنه قد يخشى على الأمة الضعيفة إذا جعل أفرادها يقدسون النجاح أن يتعلقوا بمظاهر النجاح دون النجاح، والتعلق بمظاهر النجاح ليس دليلا على القوة بل على الضعف.
غير أن التظاهر بالنجاح الكاذب يكون في الجماعات التي تحكم على الأفعال بالدوافع التي دفعت إليها، كما يكون في الجماعات التي تحكم على الأفعال بنتائجها، غير أن الجماعات التي تقدس النجاح يعلمها تقديس النجاح التمييز بين النجاح الصحيح الذي يتخذ له المرء عدته من القوى المختلفة، وبين النجاح الكاذب الذي ليس له نفع ولا بقاء.
إن أجل ما تمتاز به الجماعات الغربية على الجماعات الشرقية أن الأمم الغربية أكثر تقديسا للنجاح، وهذا جعلهم أكثر تعلقا بالفضائل الشخصية، مثل الاعتماد على النفس والعزيمة والصبر والشجاعة، وغيرها من الفضائل الشخصية، التي هي أهم من الفضائل المدنية، والتي هي وسائل النجاح وعدته.
خليق بنا أن نعترف بالأثر الذي للدوافع والنيات في تمييز الأعمال، ولكن ينبغي أن نذكر أن القضاء والمقادير لا يهمها الدوافع ولا تعترف بها، بل يهمها النتائج وتعترف بها، نحن نغاير المقادير ونختلف عنها في شيء، وهو أن النيات والدوافع تهمنا، فينبغي أن لا نغالط أنفسنا، ونخفي عنا قيمتها، ولكن ينبغي أيضا أن لا نغالط أنفسنا ونخفي عنها أن النتائج قيمتها هي القيمة الكبرى، وإذا كانت المقادير والوجود كله يقدس النجاح في كل مظهر من مظاهر الحياة، فلم لا نقدس النجاح في حياتنا وأعمالنا؟
الحياة واليأس
الآملون فريقان: فريق أملهم غفلة عن ثقل الحياة وعظمها وبلادة وغباء، وفريق يعدون الأمل واجبا عليهم وفرضا فرضته الطبيعة، وأنا من الفريق الثاني، ومن أجل ذلك لم يكن أملي مستطيلا مستمرا مستأنفا؛ لأن النفوس تعجز عن أن تجعل الفرض كذلك.
يحسب كثير من الناس أنهم يعدون الأمل واجبا، وهم مخطئون، فإن أمل الجمهور غفلة، وهم غافلون عن أن أملهم غفلة لأنهم غافلون عن غفلتهم، ومن أجل ذلك لا يفهمون سبب شكوى الأديب من عظم الحياة، ويحسبون أن ذلك ضعف فيه، ولو أنهم أفاقوا من غفلتهم ورأوا عظم الحياة كانوا كمن أقام طويلا في حجرة مظلمة ثم خرج منها ونظر في عين الشمس فتأذت عينه بتلك النظرة، فالأديب يشكو الضياء لأنه ينظر في عين الشمس، وهم لا يفهمون شكواه لأنهم في حجرة مظلمة، ولكنهم يقولون له: أنت جنيت على نفسك، لم تنظر في عين الشمس؟ ويحهم إذن؛ كيف يعرف سر الحياة إذا بقي في تلك الحجرة المظلمة؟ ولكنهم يقولون: هذا غرور منك، والغرور مدعاة الأذى، إذا كان الطموح إلى منازل العرفان غرورا فلا خير في الحياة.
الحياة مثل حمل ثقيل من الذهب على كتف رجل ضعيف، إذا وضعت هذا الحمل على ظهر حمار من أهل الغفلة والضمير النائم لم يحس عظمه، ولكنك إذا وضعته على كتف الأديب أحس عظمه وجلالته. إن جلالة الحياة هي التي تفزعني وتلجئني إلى اليأس في بعض الأحايين، تلجئني إلى اليأس لأني أرى الناس غافلين عنها، وإنما يلهيهم اهتمامهم بصغيرات الأمور.
ترى الصانع يسيل عرقا من فرط إجهاده قواه، فكأنه قصر من الثلج من قصور الشتاء التي يبنيها الروس، وقد رماها الصيف بلفحات حره، وإنك لتكاد تسمع نبضات عروقه البارزة، فكأنها تريد أن تفتق جلده، فتسعد ذلك العرق السيال الذي يشهد بما يعانيه من الجهد والبلاء، وهو تارة يترنم بأغاني الوله وأشعار الغرام، وتارة يطلق من شفتيه صفيرا يحسبه السامع صادرا من قلب ملأ السرور نواحيه وتملكته القناعة والرضاء بقسمة المقدور، ولو فتح له صدر ذلك العابث بالأغاني لوجد أحزانا تنتاب، وهواجس تعتور، وعواطف تتواثب، فما ميدان القتال بأعظم هياجا من قلب ذلك الصانع.
كذلك الغني ذو الأبهة والجلال؛ تراه في عربته الفاخرة، وعلى لباسه رواء يضارع ذلك البشر الذي يجول في أنحاء وجهه فيحسده الرائي، ولو علم الرائي أن سكينة ذلك المثري مكذوبة، وأن بين جنبيه قلبا يعاني من آلام المعيشة قدر ما يعانيه الفقير في كسر بيته المتهدم، وربما كان الفقير يفضله في أنه لا يبالي النعيم إذا أدبر مثل مبالاته إياه، لو علم الرائي ذلك لخفض من غلواء بغضه وحسده.
إن خاطرا واحدا يمر على ذهن الإنسان قدير على أن يفسد عليه نعيم يومه، وإن حادثا من صروف الدهر لكفيل بإتلاف حلاوة المعيشة، فكيف لا يتمكن اليأس من نفوسنا إذا كانت هذه حياتنا.
على أن الإنسان مودع فيه ميل طبيعي إلى الحزن تغطي عليه الغفلة عن شئون الحياة واختلالها كما يغطي الرماد وجه النار الكامنة، فإذا صحا من تلك الغفلة هاج به اليأس هياج الأسود في أقفاصها، وانتزع منه السكينة والاطمئنان، وكاد يطفئ مصباح الأمل الذي تستضيء به النفس حتى يرى الحياة عبثا، لا مفرقا بين حالات الغنى والفقر، ولا بين المساعي المختلفة والأشغال المتنوعة؛ لأنه يحسب أن كل ما يقضي الوقت في معالجته عبث، ثم يعتريه الملل والضجر راغبا في عيشة أرقى من هذه العيشة التي يطوف ما يطوف في أنحائها ولا يعرف الغاية التي يسعى إليها.
كلما بلغ الإنسان مبلغا من العرفان الصحيح بأحوال هذه الحياة، وكانت عواطفه مهيجة من أجل اختلال شئونها، كان قريبا من منازل اليأس.
استعرض النفوس البشرية وارفع عنها ذلك الحجاب الذي وضعه عليها التحفظ والاحتجاز والنفاق والحياء، تجد فيها من الدناءة والقسوة والقبح ما يجعل الشك في اليقين، والقلق في الاطمئنان، واليأس في الأمل.
هذا كارليل، الفيلسوف الكثير الثقة بالنفس البشرية، ذو الأمل الضخم الذي أخرج إلينا عقيدة «الأمل والعمل»، كان على ذلك ينتفض مذعورا في مجلسه، ثم تثور به السوداء فيقول: لا أدري كيف عشت هذه السنين وأنا لا أعرف ما أنا يريد بقوله «أنا» النفس البشرية. ألا ترى أن الإنسان إذا بحث في دناءة النفس وقسوتها وقبحها، وكيف أن بعض هذه الأوصاف تأخذها بالوراثة وبعضها بتأثير البيئة الفاسدة وبعضها بسبب نظام التربية الفاسدة، فيعترضه في بحثه مسائل منها معنى الحياة والسبب الذي من أجله خلقنا والغاية التي نسعى إليها، كل هذه مسائل لا يقع عليها الإدراك مهما أكثر الناس من القول فيها.
من أجل ذلك كان اليأس قريبا من نفوس الشعراء؛ لأن عواطفهم أبدا مهيجة مشبوبة، وإنك ترى الواحد منهم يطنب في تقريظ الطلاقة والبشر والابتهاج والفرح، فإذا خلا إلى نفسه، فأرسل ما يثور فيها ترفيها لها، وجدت ذلك الثائر يأسا صريحا. هذا وردز ورث - شاعر الطبيعة الذي جعلها كتابه - إذا قرأت شعره حسبته الماء الزلال تحني عليه الأزهار، ولكنه إذا أفرغ ما يثور به صدره حسبت أن هذا الوجود لا صلاح له.
وهذا بيرنز الشاعر الذي قال فيه كارليل: إن المصائب كانت تصب فوقه فينثرها عنه كما ينثر الجواد الماء عن شعره، هذا الذي - إذا شئت - كان لي من أغانيه غذاء يفضل الغذاء - تلك الأغاني التي لو كانت معي في الصحراء ما أحسست بشؤم الحياة - هو بيرنز الذي يقول: «خلق الإنسان ليحزن.» وهذا بيرون الذي يقول فيه كارليل: لا تحسبوا أنكم تقرءون أشعار بيرون وإنما تقرءون أحزانه، كان لا يستقر في مكان من ملله الحياة، وكان أعظم لذاته أن ينفرد في الأرض الخلاء فيصرخ كي يسمع صدى صوته إذا رددته الجبال، فهو كما قال الحسن بن هانئ:
يرى الناس أعباء على جفن عينه
وإن حل في وادي أخ وحميم
فود بجدع الأنف لو أن ظهرها
من الناس أعرى من سراة أديم
فإنه هو الذي يقول في قصة دون جوان: «لا أرى شيئا يمنعنا من إتيان جريمة التناسل، غير الجوع والفاقة.» ذهب في هذا القول مذهب أبي العلاء المعري؛ إذ يقول «هذا جناء أبي علي.» لأشد ما عانت تلك النفوس العظيمة من اليأس؛ إذ كانت ترى في التناسل جريمة شنعاء ووزرا بليغا .
قال أحد جبابرة ملوك الرومان: وددت لو أن للناس جسما واحدا فأقطع رقبته بضربة واحدة من سيفي، فما أشبه ودادته بودادة أبي نواس! فإن كليهما يود فناء العالم، ولكن الأول يخرج من ودادته سليم الأنف، لا مثل خروج أبي نواس مجدوعها، قلنا: إن أصل تهيج البأس في نفوس المفكرين الإحساس بدناءة النفوس، واختلال شئون الحياة، ولكن أصل اليأس في أكثر الأحايين وقوع الحوادث بما يزعج النفس المطمئنة، فإذا لم تكن لها إرادة عظيمة تأسر بها عواطفها غلبها اليأس، ولليأس أصل آخر يرجع إلى ضعف في همة المرء وتقصيره عن عمل ما تفرضه عليه منزلته في الحياة، فإذا أحس بخذلان قواه وما يكون وراء ذلك من الأضرار بسعادته، تملكه الحزن ودب إليه اليأس من كل جانب.
أغلاط الحقائق
كلمة ما سارت في أذن إلا وخزتها، غير أذن من عرف أن كل حقيقة ناقصة حتى تقرن بأمثالها، ومن أجل ذلك كان في كل صواب شيء من الخطأ وفي كل خطأ شيء من الصواب. قال فيكتور هيجو: «كل أغلوطة لها جانبان؛ جانب مشرق وهو الخطأ، وجانب مظلم وهو الصواب.» وسبب هذا أن الإنسان الفرد غير مستقل بذاته، ومن كان هكذا كان كل معنى ينتجه ذهنه جزءا من معنى، وكل حقيقة يقع عليها جزءا من حقيقة، ومن أجل ذلك كان كل شيء في الوجود مرآة لكل شيء وتفسيرا له.
كل رأي في أول أمره يطرق طروق الضعيف الغريب. فمن الناس من يستقبله بالإجلال، وهو الذي يرغب في حلاوة الجديد، ومنهم من يستقبله بالإعراض عنه والخوف منه خاشيا أن يكون ضيفه مجرما متنكرا. فإذا طال مكث الضيف بيننا لقيناه غير مأخذنا، فنعدم إذ عدمنا حلاوة الجدة، ذلك الخوف الذي استحوذ علينا من طلعته، فإن الضيف يكون قد نبذ من عاداته ما نبغض، وتلبس بما نحب، وكذلك المعنى إذا طال عليه القدم فارق غرابته بأن يفارق أكثره، لا شيء أكثر إفسادا لمعنى جديد مثل معنى قديم.
الخطأ يتسرب إلى المعنى الجديد من التناقل؛ لأنه إذا أراد امرؤ أن يفهمك شيئا لم تفهم كل ما يريد أن يفهمك، فالتفاهم الكامل لا يوجد بين عقلين متشابهين، ولكنه يوجد بين عقلين كل منهما هو الآخر، فالتفاهم الكامل من أجل ذلك مستحيل.
كيف يفهم الإنسان؟ ولم يلق المعنى على اثنين متشابهين في مقدار ذكائهما فيفهمان فهما مختلفا بعض الاختلاف؟ أما الفهم فسببه وقوع ما يعرض عليك على معان كنت قد اجتنيتها أو معان خرجت من توالد المعاني التي كنت قد اجتنيتها. فإذا تعارف المعروض والمجتبى تعارفا قليلا أو كثيرا فهمت المعروض بمقدار ذلك التعارف، فإذا تناكرا كل التناكر لم تقدر أن تفهمه، ومن هذا تعرف سبب اختلاف فهم اثنين لمعنى واحد، فإذا شئت أن تضرب مثلا من الألوان فقل: إن تعارف المعروض والمجتبى في ذهن الأول مثل تمازج الأصفر والأخضر، وإن تعارفهما في ذهن الثاني مثل تمازج الأصفر والأسود، وتستخرج من ذلك أن الحقيقة الواحدة هي حقائق متشابهة، فالحقيقة الواحدة في ذهني غيرها في ذهنك، بل هما حقيقتان متشابهتان، المرء ليس بفاهم كل ما تريد أن تفهمه.
والمعاني التي يخرجها التفكير خارجة بسبب توالد المعاني التي في ذهن المفكر، وهي كما علمت ناقصة، فيخرج المعنى المولود ناقصا، والتفكير نوعان: تفكير يقدر المفكر أن يعرف كيف خطا وسار، وتفكير لا يقدر المفكر أن يتتبع خطواته، وهذا النوع الثاني هو الذي يدعونه الإلهام، فقد يقول المرء كلمة لا يعرف معناها، غير أن يرى نفسه مدفوعا إلى قولها. فإذا وقعت في أذن غيره كانت مفتاح لبه، وربما خطر في ذهن أحدنا خاطر لا يعرف كيف خطر، فيجتهد في أن ينساه حتى إذا قرأ في بعض الكتب وجده مشروحا.
وروي أن بشارا الشاعر سمع أحد الناس يفسر بيتا من أبياته فأعجبه تفسيره، فقال لراويته: «ارو هذا المعنى لهذا البيت، فوالله ما عنيته.» هذه أشياء بالغة بنا أن نعتقد أن تلك النفس المودعة في كل فرد هي زي من أزياء روح الوجود، ومظهر من مظاهرها، ولا يروعك أيها القارئ قائل يقول: لو كانت نفوس الأفراد مظاهر من مظاهر روح الوجود لكانت كل واحدة أحنى على أختها منها وأحب لها ... أليس في نفس الإنسان صفات متضادة كل واحدة تهم بقتل الأخرى؟ وأضرب مثلا من أمثال ما روي عن بشار فأقول: إني نظمت منذ سنين هذين البيتين:
ما أشبه الحزن بالسرور
وأشبه المكث بالمرور
وما أخال الحياة إلا
كجولة الفكر في الضمير
أما شبه الحزن بالسرور فكبير من أجل أن كليهما ميزان للبقاء ومقياس للعمر؛ لأن تقسيم الزمن من صنعنا نحن نقسمه إلى دقائق وساعات، وليست الدقائق والساعات إلا ضحكات القلب وعبراته، فطول الزمن وقصره غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها، ولكنه موقوف على إحساسنا بالحياة التي تنبض في عروقنا، وشعورنا بما يملأ صحيفة العمر من الحزن والسرور. قال إدسون: «أنكر ملك من ملوك مصر آية الإسراء قائلا: إن مسافة ما بين أول الإسراء وآخره شاسعة، والزمن الذي وقع الإسراء فيه قصير، فأتاه حكيم من قومه، وقال له: إني جاعل بينك وبين الشك سترا من الحجة. قال ما حجتك؟ قال: ائت بإناء كبير، فأتى به فملأه ماء وقال للملك: اخلع عمامتك وأدخل رأسك في الماء، ففعل الملك ذلك فحسب أنه غريق تقاذفته الأمواج حتى رمت به على شاطئ قريب، فجعل يمشي على تلك الأرض حتى لقيه أناس فاستجداهم فرحموه في غربته، وأخذوه وآووه وزوجوه من قومهم فتاة، فلبث معها سنين، وولدت له أبناء حسان الوجوه، ثم خرج يمشي على شاطئ البحر فتذكر ما كان فيه من العز والسلطان، فأسف على حياته الماضية، وذكر أن ضياع سلطانه كان من أجل إنكاره آية الإسراء، فقال: صل لله ركعتين عسى أن يقبل منك التوبة ويرجعك إلى ما كنت فيه من جلالة الملك، فخلع ثيابه ونزل في البحر ليغتسل ويتوضأ، ولكنه لما رفع رأسه وجد نفسه في وسط أتباعه وعساكره والحكيم بجانبه والإناء أمامه. فسأل الملك أتباعه، كم سنة غبت عنكم، فتعجبوا من قوله وقالوا: إنك ما لبثت أن وضعت رأسك في الإناء حتى رفعته ولم تغب عنا، فنظر الملك إلى الحكيم وقال: صدقت؛ هذه أبيض الحجج، وإنما ذكرت هذه القصة لتعرف أن طول الزمن وقصره غير موقوف على طلوع الشمس وغروبها.»
إن الزمن في عصرنا هذا يعدو عدوا بعد أن كان يمشي برجل عرجاء في العصور الغابرة؛ لأن الحركة الحيوية الآن أسرع منها في القرون الغابرة. فإذا تفهمنا الصواب علمنا أن يوما من أيامنا أكبر من يوم من أيام آبائنا؛ لأننا نعمل في يومنا ما لم يعمله الأولون في أيامهم. كم خطرة من خطرات النعيم والشقاء تمر علينا لا كما تمر الريح المكسال، بل كما يمر السهم يشق الهواء شقا، وكم خطرة دونها خطرات منتجات خواطر أخر. هذه حياتنا، حياة كأنها محمومة من أجل أن نبضاتها سريعة، وإذا شئت أيضا قلت: إن يوما من أيام آبائنا الأولين أكبر من يوم من أيامنا؛ لأننا نعمل أكثر مما كانوا يعملون في يومهم، وكثرة العمل تلهي المرء عن أن يحس طول الوقت. فإذا نظرت إلى هذين الرأيين نظرا صادقا علمت شبه المكث بالمرور.
لم يخطر بذهني وأنا أكتب هذين البيتين هذه المعاني، بل كنت أنظمهما وفي الذهن معنى أقرب غورا، وإنما ذكرت هذين البيتين لأقول إن المرء قد يقول قولا غير فاهم منه إلا جانبا من جوانبه.
ومن دلائل روح الوجود أن المرء قد تتملكه الفكرة في إظهارها الهلاك فيريد أن يغلب نفسه عليها فلا يقدر.
وما معنى النهضات والاضطرابات واندفاع الناس بدافع عنيف من دوافع الآراء والعقائد. هذه الحجج ليست أحلاما، ولكنها أيضا ليست بالتفكير الذي جعله الماديون من إفراز الروح.
كلما قرب المعنى إلى الصواب بعد عن أذهان الجمهور، فإذا أردت للمعنى أن يكبر بأن يردده الناس صغر بأن يصير لفظا ميتا، فإن في هذا الموت حياته بين الناس، وهذا سبب أن النظريات والكلمات العامة التي تملأ أفواه الناس أكثرها فاسد عليل المعنى، وجمهور الناس كالنساء.
فإذا شئت أن ترضي النساء فلا تسمعهن غير ما يردن أن يسمعن، فالحقائق عند العامة مثل الدنانير إذا مزج عنصرها الكريم بعنصر غير كريم (كالنحاس ) كانت أبقى على الزمن منها وهي من الذهب المحض، وكذلك الحقيقة إذا مزجت بشيء من الخطأ كانت أبقى على الزمن، وإن من المفكرين من يذهله خوفه من الناس عن رأيه حتى يدخل عليه - وهو لا يدري - من الخطأ ما يجانس بينه وبين أفكارهم ... اثنان قد ينظران إلى الحقيقة من وجهين كل يزعم أن أخاه مخطئ وهو مخطئ في زعمه مصيب في نظره إلى الحقيقة من ذلك الوجه، فلا غرو إذا وجدت معنيين متضادين وكلاهما مصيب راجح، ومثل ذلك أن يقول قائل: إن سبب احتقار المرء الحياة أن الحزن من ضياع شيء كان مالكه، والخوف من ضياع شيء هو مالكه سيان؛ أي أن الخوف من زوال النعيم يفسد النعيم ويذهب به، وقد يناقضه آخر فيقول: إن نعيم الحياة مستجلب من خوف الإنسان من زوال النعيم؛ لأن ذلك الخوف يدفعه إلى التذاذ النعيم أكثر من التذاذه إياه لو كان ذلك الخوف من فقدانه غير متملكه. فالأول يقول إن ذلك الخوف يفسد النعيم، والثاني يقول إنه يزيده ويصلحه، وكلا الرأيين مصيب، وإنما تأثير الخوف يختلف مثل اختلاف طبائع الناس ... إذا تعرفت الصواب علمت أن كل مجادل في أكثر الأحايين غير فاهم ما يعنيه مجادله، فيجتهد كل واحد في أن يبين عن فساد رأي لم يره مناظره، وربما كان صاحب الرأي غير فاهم رأيه فهما كاملا، وإني أكاد أقول بأنه يستحيل على المرء أن يفهم رأيه فهما كاملا، فإنه ليس بغريب أن يخفى عنه أكثر جوانبه.
فالحقيقة الواحدة لها أزياء كثيرة تختلف مثل اختلاف نظر المرء إلى الحياة. أليس في الناس عابد الخرافات والأوهام وعابد المحاجة والفهم؟ أليس في الناس المادي والشاعر عابد الجمال؟ أليس في الناس - غير هؤلاء - فرق كثيرة، كل واحدة تنظر إلى الوجود نظرة تصبغ أشعتها صبغة في النفوس؟ لا عجب إذا لبست الحقيقة الواحدة من الأزياء المختلفة ما يجعلها حقائق كثيرة، وإنما ينسج تلك الأزياء أساليب التفهيم والإعراب عما في النفوس، ومن أسباب اختلاف أزياء الحقيقة أن الإنسان قد يبلغ منتهى الإجادة بأن يضع المعنى في أسلوب صادق كاذب، ومثل ذلك قول جويتي: «إن الإنسان لا يسمع غير ما يفهم.» هذا هو الأسلوب الصادق الكاذب، هو في الحقيقة نوع من أنواع المبالغة، وعلى ذكر المبالغة أقول: إن أكثر أمور الحياة مبني عليها، ولكنها أنواع بعضها يصلح الحقائق كالذي يعتمد عليه الشاعر في تفسير الحقائق النائبة الغامضة. فوظيفة المبالغة التي يعتمد عليها الشاعر مثل وظيفة المنظار المكبر، غير أن المغالاة تلحق بالصواب شيئا من الخطأ، وسببها الإلحاح في الدفاع عن رأي كثر منكروه أو جاهلوه ... خرج جان جاك روسو إلى الحياة في بيئة كل شيء فيها متكلف، وكان التصنع يجول مجالا عجيبا في أحوالها، ونسي الناس قوانين الطبيعة وما ينتجه العقل من تفسيرها، فكانت حياتهم جريمة كبيرة.
قال روسو بوجوب الرجوع إلى العقل فيما يسنه من أوامر الطبيعة. قال بوجوب ترك المرذول الذي تسنه السلطة والخضوع لهذه السلطة، ولكنه دار بعينه فرأى أناسا بعيدين عن هذه الحقيقة، وأن صوت المغالاة أقدر على إيقاظهم من صوت الحق، فكانت المغالاة موقظة لقومه من غفلتهم، ولكنها كانت مفسدة أكثر مبادئه. غالى روسو في تقريظ الطبيعة حتى قال: إن كل شيء يخرج منها حميد، ونسي أن آباءنا الذين كانوا أقرب إليها منا قد ضرهم قربهم منها في كثير من الأحوال. من أين تأتي المرء تلك الدوافع التي تدفعه إلى الشر؟ أليس من الطبيعة؟
انظر إلى عيشة الأولين ترها قطعة من الدم ... أرأيت كيف أن المغالاة تفسد الحق؟ انظر إلى بودلير الشاعر الفرنسي تر رأيه نقيض رأي روسو، ولكنه مثل روسو، من أجل أن المغالاة أفسدت رأيه، وإذا شئت فقل: جعلته حقيقة مغلوطة. قال بودلير: انظر إلى الأطفال الصغار تر فيهم من الأنانية والقسوة والزهو، وما يثبت أن الطبيعة ليست كما قال جان جاك روسو «خالصة من الشوائب»، ولكن بلغت ببودلير المبالغة مبلغا بعيدا، حتى قال: «إن كل شيء يصدر من الطبيعة خبيث، وإنه ينبغي أن نعصي كل أمر أو نصيحة لها.»
زعم أن الطبيعة قبيحة ، فينبغي أن نحيلها بما تمليه علينا الفنون، واستشهد في إثبات قبح الطبيعة بأن المرأة من نساء المتوحشين ترى من العار أن تخرج إلى الأسواق غير موشومة الجسم، وأن أهل المدنية كذلك قد اتخذوا من الفنون سلاحا يحاربون به الطبيعة، وقد نسي بودلير أن ذلك السلاح الذي نحارب به قبح الطبيعة مأخوذ من الطبيعة.
من الحقائق التي هي أغلاط أيضا نظرية في علم الحساب، وهي أن ثلاثة رجال هم أبدا ثلاثة رجال، أعطهم عملا يعملونه، وسل علماء الاقتصاد هل هناك ربح ناتج من اشتراكهم في العمل، ومن تفرد كل واحد منهم بفرع من فروع العمل، فيقول علماء الاقتصاد: نعم، هناك ربح في أن يتقن كل واحد ما يتفرد به من فروع العمل، فثلاثة رجال في حين انفرادهم هم خمسة رجال أو ستة رجال في حين اشتراكهم في العمل وتفرغ كل منهم لفرع منه. ثم واجه بهذا القول علماء الحساب، يقولون لك: إن ثلاثة رجال هم أبدا ثلاثة رجال. ثم واجه بهذا القول العلامة راسكن يقل لك: إن ثلاثة رجال في حين اشتراكهم وتفرد كل واحد منهم بفرع من فروع العمل أقل من رجل واحد؛ لأن ما يخسره العامل من ذكائه وملكات عقله بسبب انفراده بفرع واحد من فروع العمل «مثل صنع رأس دبوس» أكثر مما يكسبه المتمول من المال ...
يقول علماء السياسة بصيانة حقوق الفئة الكبرى من الأمة من غير إضاعة حقوق الفئة الصغرى، ولكن إذا تضاءلت مصالح الفئة الكبرى ومصالح الفئة الصغرى ولم يكن حفظ مصالح الفئتين فهم يقولون بإضاعة الفئة الصغرى حفظا لحقوق الفئة الكبرى. هذا عدل وهو غير عدل، هذا صواب وهو غير صواب، هذا خطأ وهو ليس بخطأ ... ماذا تقدر أن تقول غير ذلك؟
الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة أنه يغيظني ضيق الفكر الذي يبديه كثير من الناس في النظر إلى الحقائق، هم يظنون أن الشيء إذا كان صوابا فليس به شيء من الخطأ، وسبب ذلك صلابة في الرأي خارجة من قلة اختبارهم أمور الحياة اختبار المفكر الباحث، ومثل هؤلاء أناس يقولون: إن الشيء إذا كان شرا فليس به شيء من الخير، وإنه إذا كان خيرا فليس به شيء من الشر. لكن أمور الحياة ليست كذلك، وكما أن السم - وهو شر - جزء من الدواء - وهو خير - كذلك أمور الحياة تمتزج الأضداد فيها، هذا مفتاح الحياة، ومن عرف الحياة كان أكبر من الحياة، فإن عرفانه الحياة يملأ صدره حزما وبصيرته صفاء.
المثل الأعلى
كلما بلغ الإنسان مبلغا من العلم زعم أنه وصل إلى الصميم من دائرة العرفان، حتى إذا تعداه البحث إلى ما هو ألصق بالحقيقة منه زعم في الثانية ما زعم في الأولى، ولا يزال يأخذ الجديد من الأمر مأخذ الأشرف؛ لأنه مما تكون له مهابة في النفس وحلاوة تعلو به عن حقيقة قدره، ولئن تكثرنا بما انتهينا إليه وانتهى إلينا من صنوف العلم وأبوابه فلا نزال نخبط منه في طريق عذراء ونركب مركبا غير ذلول، وإنما نعني ما يرجع منه إلى معنى الحياة وما ينبغي أن تكون عليه.
فأسأل النابغة القدير والحكيم الأديب عن مبلغ علمه وما وصل إليه من الحقائق، ثم اعرضها على غيرها تر أن منها ما يكذب بعضه بعضا، فتكاد تحسب أن الحق موصول بضده ومردود إليه، وأنه يختلف كما تختلف الغرائز، وتكاد تحسب أن الحق في الشرق غيره في الغرب، وأنه في الشمال غيره في الجنوب.
انظر إلى مسألة من تلك المسائل التي لاكها البحث ثم نبذها على غير جدوى، اللهم إلا صيحات تتبعها نزعات، ونزعات ترددها أفواه الباحثين وقلوبهم، تجد أنها قد مضى عليها الدهر وتوارثتها الأيام وتلقفتها العلماء، وهم مختلفون في أنحائها كما كانوا، والزمان على غير هذا الوضع.
ثم دع هذه وانظر إلى أخرى استقر الباحثون في أصولها وأخذوها مأخذ الحقيقة، وعاشوا بها زمانا حتى كان أناس غيرهم، فوجدوا فيها من الباطل ما لم يجده الأولون.
وانظر إلى أخرى كانت حقا معظما عند قوم، فصارت باطلا مخذولا عند آخرين، ثم عادت كما كانت في أول أمرها، تجد ما يمكن الشك من قلب الباحث ويضع أمر هذا الوجود موضع الريبة، لولا أننا نتهم أنفسنا بالتشبع إلى ما نتبجح به من مذاهب العلم ووسائل العرفان ووسائط التهذيب؛ لأن الفساد يكمن في خلالها، ثم يسطو على الرأي فيجعل السقيم صحيحا والصحيح سقيما.
وقد أصبح العالم بين الناس من لم ينته إليه من العرفان إلا ما كان نائبا عن النفس، وما تحتوي من عواطف وآمال وأغراض.
على أننا لو أنصفنا أنفسنا لعلمنا أن الإدراك لم يقع على كثير مما نزعم أننا ندركه، وأنه موصول بما تمليه النفس من الآمال والرغائب.
ولو أننا تعرفنا الصواب من حيث ينبغي ذلك لحمدنا مغبة البحث بعد هذه الأجيال الطوال، ولكن صرف الناس عن ذلك أنهم أخذوا المادة مأخذ العنصر الأشرف، فصاروا يتعرفون حالاتها، وسبب ذلك أنهم خرجوا إلى الوجود وهم يجهلونه، فلفتت أنظارهم المادة ومناظر أعضائها، فاختطفت بهجتها النواظر واجتذبت القلوب، فكانوا كلما بحثوا عن شيء أو نظروا إلى أمر أتبعوا خواطرهم ما وراء ذلك، من الربح المادي والفائدة التي زعموا أنها كفيلة بتهذيب حياتهم وتنظيمها.
ولكن للبحث طريقا أشرف غاية، وهو أن ينظر المفكر إلى ما وراء ذلك من الصلة التي تجعل بينه وبين الخلق الحميد سببا يكون مصدره النفس، ولا يستقيم ذلك إلا إذا نظرنا نظرا صادقا في تاريخ النفس، وأحوالها وأطوارها، وما يصدر عنها من الإحساسات التي تملأ صحيفة العمر أقوالا وأعمالا، ثم نأخذ من هذه ما هو كفيل بتهذيب نظام الحياة.
فمن تلك العواطف التي يجب أن نعرف تأثيرها في الحياة وننتفع بذلك عاطفة إجلال العظيم الجليل الحسن من أمور الحياة، التي تكفل تهذيب نظام الحكومة، ونظام الأهل ونظام الصداقة، ونظام الحب، ونظام العلم ونظام العمل، وغيرها مما يتشعب منها ويتصل بها.
وتذكر الآن معاني تلك العاطفة وهيئاتها التي تتلبس بها، ومنازلها من النفس ومآخذها من القلب، فإن لها من اللباس وهي في صدر الشاعر غير ما لها وهي في صدر الحكيم؛ لأن كل واحد ينظر إليها، ومن وراء ذلك شيء يعين وجهة النظر.
إن حب الحسن الطيب آخذ من قلب الشاعر مأخذا بليغا؛ لأنه ممتزج بيقينه، والنابغة الحكيم لا يرى اليقين إلا فيما كان مصدره الرغبة في الحق، والعالم المهذب لا يرى استقامة إلا بما كان مرجعه إلى توقير الحميد من الخلق والجليل من الأمر، فإذا أخرجنا هذه المعاني من أزيائها ازددنا يقينا في أن المثل الأعلى جماع تلك المعاني؛ لأن الحب والإجلال والتوقير هي المعاني التي تضمرها مراتب العبادة، ولكن العظمة والحق والحسن أشياء مقرونة في قرن. فإذا نظرنا إلى الوجود علمنا أن كل أجزائه أزياء لتلك القوى الخفية التي ملؤها الحق والحسن والعظمة، والتي لا نشعر بها إلا من حيث اتصالها بالحواس والإحساسات.
بين الأمر الحسن الجليل وبين القلب صلة أصلها تلك النغمة التي يحدثها وقوع القلب على ذلك الأمر، وهذه الصلة تختلف باختلاف العوامل التي تدفع القلب إليه.
وليست تلك الصلة إلا ذلك الشعور الذي يدعونه حبا وتوقيرا أو إجلالا أو عبادة، وإنما هذه المعاني مراتب من مراتبه تختلف باختلاف العوامل التي تميل بالقلب إلى الأمر الجليل. فإذا كانت الصلة شريفة السبب عالية النسب كان ذلك الشعور خليقا بأن يدعى بما هو أكثر دلالة على الفناء في شخص المعبود.
ولا تحسب أن مظاهر الروح تختفي في عصر من العصور، فلم يكتمها أن ذاعت المذاهب التي تفسر الكون تفسيرا ماديا، كأنما الكون لعبة في يد الفلاسفة، يحلها ويربطها الواحد منهم لابنه ويريه خفاياها وسر تركيبها وصنعها، فإن هؤلاء الفلاسفة قد رفعوا شأن المادة وبينوا أن لها نظاما وسننا، وأن العقل البشري مظهر من مظاهرها ونتيجة من نتائجها، وهذا صواب، ولكنه لا ينفي عنها وحدة وروحا، وقد فاتهم أن العقائد وغيرها من مظاهر الروح التي تغري المرء بالسمو إلى مراتب المثل الأعلى سنة أيضا من سننها، وأن طموح النفس إلى الجميل والجليل وكفاحها في سبيل ذلك المثل مظهر من مظاهر سنة النشوء والرقي. فمن الناس اليوم من يتخذ الاشتراكية عقيدة، ومنهم من يتخذ التهذيب وتكميل الفرد دينا، والسبب في ذلك أن النفس لا بد أن تبلغ الرضا بما يستنبطه العقل من معاني الحياة وأسبابها، وإن استعصى ذلك، ولا بد أن تصيب مخرجا لها ومجالا لقواها في الحياة.
الصيف
هو برء من العشا
وشفاء من الكبر
لكأن نفس المرء تعظم في الصيف حتى تملأ الفضاء، وتختفي في الشتاء اختفاء الأزهار، وكما يخيل للمرء أن سماء الصيف أسمى وأبعد من سماء الشتاء، كذلك يخيل له أن سماء نفسه في الصيف أسمى وأبعد شأوا، ويخيل له أنه إذا مد يده قبس الحياة من الضياء والنسيم، ويحس كأنه ينتشي من حرارة الشمس كما ينتشي الزهر منها، وكأن المرء يعيش أياما كثيرة بالصبر والاحتمال حتى تتاح له ساعة تحسر له الطبيعة فيها عن جمالها، وإن من عاش السنين ولم يرو من محاسنها كان كأن لم يعش.
نرى الأزهار في الصيف ناعسة كأنما أنامها طرف الشمس باقتدار لحظاته. إن محاسن الطبيعة تسحر النفس حتى تتضاءل بلاغة الرائي وحتى يعرف من نفسه العي والعجز، فإنها تبيح من جمالها ما يبيح الوارث المسرف من ماله وما تبيح الخليعة من محاسنها، فيحس المرء لذة في رؤية أشعة الشمس نائمة منطرحة على الأرض كلذته في رؤية الحسناء المنطرحة على فراشها، ويشم النسيم كأن النسيم يحمل نفحات أشعة الشمس المذهبة، وكأن الشمس زهرة تبيحه عطرها، وكأنما حفيف الغصون ذكرى الماضي، أو كأنما هو صوت ينادي المرء من عالم آخر، أو هامس يهمس في أعماق نفسه، وكأنما تلك الغصون قلب دائم الخفقان.
في الصيف يحس المرء كأنه طائر يهم بالطيران فيتشبث بالأشجار خشية أن يطير.
هل في ضمير ذلك الغدير الذي كان لنا زمنا ينبوع الحياة ذكرى الأوجه التي تقاربت على وجهه، وتحابت ونظرت فيه لترى خيالاتها يقبل بعضها بعضا؟ هل في ضمير ذلك الغدير ذكرى تلك الأوجه والأيام؟ فكم رأينا عنده أشعة الشمس تنفذ من خلال الأشجار كأنها فراش على وجه الغدير، وكانت تضيء كما تضيء الذكرى في ليل النسيان فتجلو وجوه السنين الماضية، وكأن تغريد العصافير تغريد الأمل في النفس !
وفي بعض الأحايين كانت تغرد العصافير وهي مختبئة في الأشجار كأنها أفواه الأشجار الصادحة:
فشدو الطير صوت فم الربيع
إن أعظم لذة يقتبسها المرء من الأزهار والغدران والنسيم هي لذة الأحلام، فيحلم بحياة سعيدة كحياة الأزهار، حياة يشم منها نفحة الزهر ويسمع منها تغريد العصافير ويرى منها أشعة الشمس، والأزهار هي عيون الطبيعة يذوب أمامها روح الرائي كما يذيبه سحر عيون الغيد، وإنما يشجونا الصيف لأن أنفاسه مثل أنفاس العاشق. أما الخريف فإنه يبعث إلى التفكير؛ لأن أزهاره تتناثر كما تتناثر لذاتنا البائدة وأيامنا الخالية وأحبابنا الذين طوحت بهم عواصف الأقدار.
في الصيف أحسب الشمس بابا يلج المرء منه إلى الفردوس، وأحسب الروض ثغرة يطل المرء منها على الخلد، وأرى الماء في الغدير فأحسبه ماء الحياة الذي أسمع عنه في قصص العجائز، وكأن الخلد في جرعة منه، وكأنما الضوء تبر منثور أو غدران صافية الأديم، والضوء شعر الطبيعة، موقعه من البصر موقع الألحان من القلب، ويعجبني سطوع الشمس على الوجه الجميل؛ لأنه يذكرني سطوعها على الفاكهة والزهر.
في الصيف يخيل للمرء أن للدهر صوتا وفما، وأن لكل شيء منطقا وكأنما روحه قد ألهمت لغات الكائنات.
الصيف حلم جميل من أحلام الطبيعة، تحسب في الصيف أن صانعا صبغ الوجود صبغة جديدة، فتلمس الزهر ثم تنظر في يدك لترى أثر طلاء لونه الجديد، ويخيل لك في الصيف أن الروح بركة صافية تنطبع فيها صور الحياة كما تنطبع صور الروض في غدرانها، وأن ألوان الصيف كئوس مثل كئوس الرحيق ينتشي المرء منها كما ينتشي من الخمر المعتقة. أما في الشتاء فإن جفاء الطبيعة وجيع مثل جفاء الأحباب، والجمال ضياء السعادة وزهرها، فإنه ينسي المرء الشقاء والشر حتى يحسبهما حلما من أحلام النوم، فيكاد لا يرى للشقاء والشر سبيلا إلى هذه الطبيعة التي يبصر جمالها كأنما هي منى النفس التي تنشدها.
وإن المرء لينظر إلى محاسن الطبيعة في الصيف كأنه نقل إلى عالم مسحور كان يحلم بمحاسنه، فالصيف هو شهوات السمع والبصر، بل هو شهوات النفس والحس تصغي الأذن فيه إلى شدو الطيور قبل أن تتغنى، وتتطلع العين إلى الزهر قبل أن تراه، وينشق الأنف نفحاته قبل أن يحملها النسيم إليه، تلك النفحات التي تكاد تصبغ النسيم بلون الزهر، وتكاد كل نفحة تكون زهرة تلمسها اليد، وكما أن السماء ترتسم على صفحة البحر، كذلك تريق السماء لونها على الزهر. فإذا كانت السماء مشمسة كان الزهر مثلها، وإذا كانت داجية كان داجيا، وإذا كانت مقمرة كان الزهر مقمرا.
تفلت النفس من رق مشاغل الحياة كي تلتذ الصيف، فهي كالعصفور الذي يفلت من يد الصبي الذي يعذبه فلا يفلت من الخيط الذي قيده به، فإذا طار وقع على قرب فلا يلتذ أنه طليق، ويخشى في كل طرفة أن يأسره معذبه، فآه لو كانت الحياة فرحة وعرسا أو حلما لذيذا من أحلام الصيف والسعادة، ولكن مشاغل الحياة لها في عنق النفس قيد من خيوطها مثل خيط الطفل في عنق الطائر.
ويخيل لك في الصيف أن عصافيره المغردة خارجة من صدرك، وأنها أشجانك وأماني نفسك، ويخيل لك أنك ترى في أنغام الطيور شيئا من السماء والماء والأزهار ونفحاتها، والرياح ونسماتها، والشمس وأشعتها، وكأن سمو الطيور موقظ في نفسك الرغبة في السمو، فتود النفس لو تسمو كالطيور حتى تسامر النجوم التي هي طيور السماء، ثم تتعداها إلى ما وراءها وتظل النفس تسمو إلى الأبد.
جنة الأدباء
كنت يوما أقرأ رسالة الغفران التي صنفها المعري، فجلبت لي النوم قراءتها، فرأيت في الحلم جنة مثل الجنة التي يصفها وفيها الأدباء والشعراء.
رأيت أديبا لا أعرفه يتلو على طلابه درسا في خيال الشاعر وسنن الطبيعة، فسمعته يقول: إن التماس معرفة سنن الطبيعة يكسب الشاعر دقة في التمييز، ويجلب له حسن الذوق في اختيار المعاني والتفريق بين الخيال السقيم والخيال الصحيح، وهو أيضا ينمي صحة المنطق في أشعاره ويكون باعثا لأن يخفض الشاعر من غلواء المغالاة بأن يعلمه جلالة البساطة، فإن مظاهر الطبيعة تفتح للشاعر بابا من الخيال يغنيه عن تطلب الأوهام التي تسلك في باب المغالاة والتماس معرفة سنن الطبيعة، ينمي عاطفة تقديس مظاهر الوجود، وذلك يفيض على القلب طهارة، ويجعل في الروح سعة لأن تفهم أسرار الحياة ومعانيها، وهو أيضا يزيد خيال الشاعر صحة، فيكون سموه مثل سمو النسر يعلو، ولكنه إذا رمى الأرض بلحاظه أصابها بها، فهو بعيد السمو بعيد النظر، فيجمع الشاعر الذي يلتمس عرفان سنن الطبيعة، بين سعة الخيال وصحة المعنى، ويكون خياله مكتسبا من صدق النظرة، لا مثل خيال معالج المغالاة، فإن خيال هذا مكتسب من كذب النظرة. أليست المغالاة نظرة كاذبة ولكنه لا يسلك في باب المغالاة المذمومة ما يقوله الشاعر عن لسان من بدهه خطب أو كرثه حزن، أو ما يقوله أيضا عن لسان عامي النفس، فإن هؤلاء يلجئون إلى المغالاة بحكم الطبيعة للتعبير عن عواطفهم وآرائهم.
ثم أبصرت أبا زيد السروجي يلقي درسا في المترادف، ويقول: كلما عظم التفكير بين الأدباء قل المترادف، والسبب في ذلك أن كل مترادف يأخذ معنى لم يكن له قبل؛ لأن ذلك من دواعي التدقيق في البحث وراء المتشابه والمتناكر من المعاني، وخير للمترادف أن يسد حاجة من حاجات التفكير بدل أن يعيش مقبورا في كتب اللغة، وسيكون للمترادف نفع جليل، فيجد ما كان غير محدود من المعاني، ويلبس المعاني الجديدة ثيابا جديدة، ويزيل ذلك الإبهام الذي يجعل المتناكر من المعاني متشابها والمتغاير متعارفا، ويعوق الأديب عن التفكير الصحيح.
ثم أبصرت صديقا من الأدباء المعروفين أعهد فيه الشذوذ يلقي على الطلاب درسا في فلسفة الشذوذ، فسمعته يقول: الشذوذ عنوان العبقرية ودليل على سعة في الروح، فإن ضيق الروح لا يرى الصواب إلا فيما تسنه العادات، ولكن واسع الروح يرى أن الصواب كثير المنازل، ويعرف من منازله ما لا يعرف قتيل العادات، والشذوذ أيضا دليل على شجاعة المرء، فإن الجبان يخشى أن يرتاد مظان الشذوذ جبنا، فلو أنه كان عزيز النفس لرأى أن في بعض الشذوذ خلاصا من الضعة وانتصارا لجلالة النفس والضمير الحر، فإذا رأيت أمة ذليلة كثر بينها أهل الشذوذ الذين يجرءون، ويقدمون الذين لا يبيعون جلالة النفس بالخفض والجاه، الذين ينصرون ضمائرهم بإعزاز أنفسهم، الذين يعرفون أن العادات مظاهر الحق والباطل، ولباس الصدق والكذب، الذين لا يخشون الداء والفقر والجوع والسب والاحتقار والخمول في نصرة الحق، إذا رأيت أمة ذليلة كثر بينها هؤلاء فاعلم أنها أمة عزيزة.
ثم أخرج من ثيابه رغيفا فجعل يأكله، فكدت أبكي فرحا من جرأة هذا الجريء، ثم قلت له: أصحيح أنك تحتقر الحياء؟ فقال: إني أريد أن أرفع عن النفوس حجابا من الحياء الكاذب فأجلوها مكشوفة الجسم، ولكني أجلوها في زي طفل صغير، والطفل إذا كشف جسمه ملأنا ضحكا ولم يملأنا غضبا، ثم رفع يديه وقال: أيتها الآذان العفيفة، إني لا أتلو عليك غير ما يحدثك به ذلك الهاتف الذي يهتف من أعماق الروح، فإذا أبت لك اللجاجة أن تنزلني منزلة الطبيب الذي يصلح سقم المريض فيعطيه من الصحة والعافية، ويأخذ من دراهمه فأنزليني منزلة الطبيب الذي يأخذ من صحة المريض ويعطيه أجرة إتلاف جثته. أليس هو خيرا من ذلك الطبيب الذي يتقاضى المريض أجرة إتلاف جسمه وجعله رمة بالية؟!
فتركته وجعلت أمشي، حتى رأيت فلانا الشاعر يلقي على تلاميذه درسا في مستقبل الشعر، فسمعته يقول: الشعر عند كثيرين من شعراء اليوم مثل إناء حلية يضعونه في بيوتهم زينة لها، أو كفاكهة الجص التي ليس لها نفع، ولكنه عند العبقريين إناء منفعة يستعملونه في الحوائج. أليس إناء الحاجة خيرا من إناء الحلية؟ وسكت قليلا ثم قال: ألم تسمع في قصص العجائز أن ساحرا أسر فتاة حسناء وحبسها في قصره وأعطاها مفاتيحه، ولكنه حرم عليها أن تقرب غرفة من غرفه، وأنها ترقبت غيابه؛ حتى إذا غاب عن القصر فتحت تلك الغرفة، فرأت فيها من بنات الملوك عددا كبيرا، وكان قد أحبهن ذلك الساحر فأسرهن واحدة فواحدة، ولما ملهن سحرهن وجعلهن في الغرفة، فعلمت الفتاة أنها لا محالة سائرة إلى حيث سرن ... إلى آخر هذه القصة. إنه ليجول في خاطري أن تلك الفتاة هي الشعر في هذا العصر، وأن ذلك الساحر هو غول التقليد والعجز والجبن الذي حرم على الشعراء أن يقربوا المعاني الكريمة التي سحرها وحبسها. انظر إلى الشعراء كيف يبغضون كل من كان حر الذهن حر الرأي، فإذا سلك بينهم طريقا عذراء قالوا: ما هو إلا خابط ليل قد أضل طريقه، قلت: صدقت. قال: ولكن الشعر حر يأبى أن لا يرى جوانب الحياة، وينظر في تلك الغرفة المحرمة ليرى ما بها من المعاني الكريمة الأبكار.
ثم مررت بالسيد عصفور يلقي على سامعيه درسا في فن الغناء، فسمعته يذكر للغناء تعريفا بليغا كان بودي أن أذكره، ولكن منع من ذلك أنه يقال ولا يكتب؛ لأن كله صياح.
ثم رأيت على قرب تماثيل عارية فقربت من بعضها، وكان تمثال عطارد، فقلت له: ما تستحي أن تخرج إلى الناس عاري الجسم؟ فقال: على رسلك، أما والله لقد كدتم تنسون أن الإنسان خلق عريانا، وصرتم تعيشون في ثيابكم بدل أن تعيشوا في أنفسكم، ولم يبق بينكم غير هذه التماثيل توقظكم رؤيتها من غفلة المدنية وذل العادة، وتخرج من قلبكم ذلك الجبن الذي مكنه الجهل منها، فكيف تستحون من رؤية أجسامكم وأنتم لا تستحون من مواقعة الرذائل؟ فقلت: أعوذ بالله، هذه بقية من بقايا الوثنية. فقال: يا قتلى المظاهر وأهل الرياء! إنما الحياء هو إباء المرء أن يعاقر الرذيلة، وأما ذلك الحياء الذي يمنع المرء عن التماس ما يفك عنه قيود العادة فهو مثل الحمرة التي تصبغ بها الهلوك وجهها لتخفي ما بقي من الحياء الصادق، وكان تمثال الزهرة قريبا منا، فلما سمعت حديثنا قالت: ليس الجمال ضعفا، ولكنه قوة للأمم تزيدها رغبة في الحياة، فتلتمس أسبابها وتستفز قواها رغبة في التمتع به، وإنما الضعف يتسرب إلى الأمم من رغبتها عن بعض أنواع الجمال، وليس التعلق بجمال الأجسام وجمال الفنون عائقا عن الرغبة في جمال الخلق وجمال العلم وجمال القوة، فإن أنواع الجمال مثل أصابع اليد يعين بعضها بعضا، وليس جمال المادة وجمال أشكالها بمخفوض الشأن إذا عد أنواع الجمال، فلولا جمالها لكانت الحياة حملا ثقيلا، فالجمال أجل نعمة أنزلها الله على الناس، ثم إن بين جمال الخلق وجمال الجسم صلة، والدليل على ذلك أن رؤية الجمال تهيج في القلب عواطف الرحمة والكرم والرفق.
إن لذتنا في الجمال تفك عنا أغلال العادة لنعيش معها، فلذة الجمال هي نشوة الحرية، ولكن جلال الجمال صحو من تلك النشوة. ثم تضاحكت وقالت: هيهات أن تأخذوا من الفكر الحر ولو أفقتم من غفلة العجز لعلمتم أن أغلاط كتاب الشرق التي سببها التقليد والجبن. كانت تقول ذلك وهي تسخر، فغضبت ورفعت هراوتي لأضربها بها فانتبهت من النوم فزعا من أجل ألم شديد في قدمي اليمنى، فعلمت أني ضربت بها الحائط وأنها كانت هراوتي التي رفعتها في الحلم لأضرب بها الزهرة ربة الجمال.
قتلى المظاهر
قال المتنبي:
خير الطيور على القصور وشرها
يأوي الخراب ويسكن الناووسا
وكذلك الصفات، أحسنها ما كان حلية النفس العظيمة، وأقبحها ما تخلقت به النفس الضئيلة، وكما أن الظلام مأوى الذنوب، كذلك النفس الضئيلة مأوى المظاهر؛ لأنها وسيلة العاجز وحيلة الضعيف، ومن انقطعت دون الفضل أسبابه مت إليها بأسباب أوهى من حبال الشمس، وهي خدعة يزيفها الناقد.
بين الفضل الصحيح وذلك الفضل الذي تخلقه المظاهر مثل ما بين العين الباصرة والعين المصنوعة من الزجاج، أو مثل ما بين العروس الحسناء وعروس الحلوى التي تصنع في المواسم. إن الدهان الذي تصبغ به العجوز وجهها لا يخفي قبحه، كذلك المظاهر لا تخفي حقارة النفس.
فاحذر أن يعرف الناس منك رغبتك في إلباس نفسك زيا ليس من أزيائها، فإن لك إقرارا منك بصغر شأنك وضآلة همتك، فتصير متهم الفضل محذور القول. إنك إذا لم تكن فاضلا فإن عرفانك الفضل في غيرك غاية الفضل، وإذا كنت فاضلا تنقص من فضلك بأن تزيده من حلي النفاق والرياء.
لو بز هذي النفوس عطاؤها
لرأيت أقبح ما رآه الناظر
لتضاءلت نفس التقي ودونها
منع الوقار موارد ومصادر
إن النفاق يسر كل رذيلة
شنعاء يبديها الغوي السادر
يا عجبا لقتيل المظاهر! هل أبصر أحد بالعمى أم سمع أحد بالصمم! أم صلح أحد بالداء؟ حتى يريد أن يسود بالمظاهر. يا عجبا لمن يعرف أن المظاهر خدعة، ثم يجد نفسه لها أهلا! يا عجبا لمن يفر من النقص إلى المظاهر! أيفر من النقص إلى النقص وهو في الحالة الأولى أفضل منه في الثانية، إني ما رأيت أمة ابتليت بأعظم من المظاهر، فإنها تميت القلب وتقتل الحياء الوازع عن مواقعة الرذيلة، وتلهي عن تطلب الفضل الصحيح ضنا بالسعي وخشية العثار.
وإن من قتلى المظاهر الفقير الذي يحتذي الغني في أساليب معيشته، والغني الذي يحتذي الفقير في مثل ما يحتذيه الفقير، وبين هذا وذاك رجل ينفق في غذاء جسمه ما لا ينفقه في غذاء عقله.
وإن من المناظر التي يبكي منها الضاحك أن ترى الرجل يمشي مجيلا بصره في أنحاء لباسه، كما تجيل الحسناء في الحمام طرفها في أنحاء جسدها العاري، ثم ينظر في حذائه وهو يكاد يغسل عنه الغبار بدموعه، كأنما عرضه فيه فهو يخشى عليه أن يلوث، يمشي ذلك المسكين فرحا برواء لباسه وهو يكاد يأكل أصبعه من الجوع.
أما مثل الفقير المحتذي الغني فمثل الغراب الذي أراد أن يحتذي الطاووس فاستعار ريشه، فكان ذلك داعيا إلى سخر الطواويس منه، أو مثل الفراش الذي لا يزال يتهافت على الضوء حتى يهلك.
ومن قتلى المظاهر الرجل الذي ينصح ابنه فيغريه بالفضيلة لأنها جالبة تقريظ الناس، ولو عرف هذا الرجل أن نصيحته هذه داعية إلى التلبس بالمظاهر وتلمس التقريظ حتى من الرذيلة، لأشفق على ابنه وقلل من ذكر تقريظ الناس، ومثل هذا الرجل آخر يقول لابنه: افعل هذا لأنه يقربك من رضاي، واجتنب هذا فإنه يدنيك من غضبي، فيحسب الغلام أن الشيء شر؛ لأنه يغضب أباه، أو خير؛ لأنه يرضيه، فإذا غفل أبوه أو مات وراودت الغلام نفسه أن يأتي شرا لم يعتصم منها.
ومن الذين استعبدتهم المظاهر الرجل الذي يعلق بطرف لسانه شيئا من الحكم السائرة، ثم يبتغي المجالس وهو لا يعرف أهلها، فيطلق عليهم من حكمه ما ينفخ أوداجه من ثنائهم عليه، وإنما مثل هذا الطفيلي مثل أم العروس الحسناء، إذا كمنت تحت سرير بنتها ليلة الزفاف، ولو لم يكن في ذلك التقصي إلا أنه عدو الحياء لكفى، فكيف به وهو دناءة ولؤم؟!
وممن ينتظم في هذا السلك الرجل الذي آتاه الله بسطة في العلم أو في المال فأبغض الإنسان، ولو كان مثل جوناثان سويفت يبغض فردا ويحب نوعا لرحمناه، والبغض مظهر من مظاهر حب الذات، وخير البغض ما كان حبا معكوسا، وخير المبغضين من أبغض الرذيلة حبا في الفضيلة، وفي مثل ما نعني قال العلامة صمويل جونسون: «إني أحب الرجل الذي يجيد البغض، وكما أن النحلة لا تضع الحرير، والدودة لا تمج العسل، والماء لا يقدح شررا، والنار لا ترشح ماء، كذلك ليس من طبع العظيم أن يبغض.» فإنه واجد صلة بينه وبين كل شيء؛ لأنه حلقة من حلقات سلسلة الوجود، بل هو المنزلة التي يهبط إليها السامي ويعلو إليها الوضيع، هو أخو الطفل والغلام واليافع والرجل والشيخ، وهو صاحب التقي والفاجر واللص والورع، وهو الذي لا يأنف من أن يحنو على المسيء ويرحم المخطئ.
وليس مدعي الفقر في باب المظاهر بأحقر من مدعي الغنى، ولا مدعي الفضل بشر من مدعي النقص، ولا محب الخمول بخير من محب الشهرة، وإن من قتلى المظاهر من جعل مهنته فتقا لحيلة لاجتلاب الشهرة، ولو علم ذلك الأبله أن الأجراس التي توضع على صدور المعز لا تزيد في ألبانها لما حسب أن الشهرة جالبة للفضل.
وممن يلج هذا الباب - باب المظاهر - الرجل الذي إذا حدثك ذم نقيصة من النقائص كي يلفتك عما في نفسه منها، وإنما مثل هذا الأحمق كمثل أخيه الذي يرى في ثوبه قطعة ملوثة فيغسلها في المداد كي تخفى، فيكون ذلك داعية لإظهارها كما يكون التصنع في كتم السر داعية لإظهاره.
عصور الانتقال
سبيل الإنسان في الحياة مثل سبيل الغلام الصغير إلى المدرسة، تعترضه فيه الهواجس فيحيد عنه إلى الحارات ويضيع وقته في اللعب.
وكذلك الإنسان، قد يحيد عن الغرض الذي خلق ليسعى إليه في الحياة، ثم يضيع الحياة عبثا، وسواء كان الغرض من الحياة جليلا أو حقيرا، فلا بد للأفراد والجماعات أن تشعر في الحياة بغرض تسعى إليه، وقد تكون حياة الأفراد والجماعات مثل نهر من الماء تعترضه تيارات متضادة من الميول والآراء والمذاهب المختلفة. من أجل ذلك يضطرب سطحه ويصعب على الأفراد والجماعات في مثل هذه الحال أن تعيش حياة سعيدة، وكما أن الإنسان قد يؤدي به سعيه إلى طريق مسدود لا منفذ له، فيضطر أن يرجع إلى طريق آخر كي يصل إلى المكان المقصود، كذلك الإنسان في الحياة، وكذلك الأمم والشعوب والجماعات، قد يؤدي بها سعيها إلى طريق مسدود من طرق الحياة فتضطر أن تسلك طريقا آخر يؤدي بها إلى الغاية التي تقصدها من النجاح والقوة.
وإذا كانت أمة في عصر انتقال وتغير كانت حياتها مثل نهر تعترضه تيارات كثيرة متضادة، فحينئذ تكون حياتها الاجتماعية والفكرية متماوجة، فيقع المفكرون من أفرادها في حيرة وارتباك، وفي مثل هذه الحال يصعب عليهم أن يحكموا حكما صادقا على الحقائق، كما أنه يصعب على من كان في وسط الزحام أن يحكم حكما صادقا عما يحدث في ذلك الزحام من الشجار واللطام والخصام، فإذا أراد أن يحكم حكما صادقا ينبغي له أن يبتعد عن الزحام لكي يراه رؤية تامة صحيحة، فنحن نظن أن الحركة الفكرية في حياتنا سريعة، ولكنها في الحقيقة أبطأ من السلحفاة، فينبغي لكل منا أن يحرك هذا التفكير الحيوي بما يستطيع.
تمر العصور والقرون على الأمم والجماعات كما تمر الأيام والسنون على الأفراد، ولكن لحوادثها قيودا تقيد بها تلك الأمم والجماعات كما تقيد بها الأفراد، وإن المرء ليحاول أن يفلت من قيود الحوادث الماضية، كما يحاول الطائر أن يفلت من حبائل الصياد، وكذلك الأمم تحاول أن تتخلص من قيود الحوادث الماضية والقرون الغابرة، ولكن ذلك لا يكون إلا إذا صادفها من العوامل ما يحرك قواها الكامنة، فتستخدم تلك القوى كي تصدع عنها قيود الحوادث الماضية، وهذه القوى تختلف مصادرها من أمل أو غضب أو يأس، فإن لليأس في بعض الأحايين قوة مثل قوة الأمل.
ونحن من الأمم التي تثقل أعناقها أغلال الحوادث الماضية وقيودها، فإن القرون الغابرة وما أبقت في حياتنا من الأثر مثل ضعف العزيمة والطيش والتقلب والسأم والجهل وضآلة النفوس والجبن والتوكل إلا على عزائمنا والاعتماد إلا على أنفسنا، كل ذلك مثل حمل ثقيل لا ننهض به، يثقلنا ويكاد يفقدنا بواقي حياتنا، فكأن هذه الحياة التي نعالجها نوم مضطرب غير هادئ، وكأن حمل الحوادث الماضية وما أبقت من الأثر السيئ الكابوس الذي يضغط على صدر النائم، وليست هذه الحركة التي في حياتنا غير حركة النائم الذي أثقله الكابوس يتقلب ويتلوى من الألم. فهل رأيت أحدا حسب ذلك التقلب والتلوي نشاطا وهمة ونهوضا؟
نعم إن الكابوس لا يزال بالنائم حتى يوقظه، وكذلك الأمة من الأمم في عصر التغير والانتقال تكون كأنها تحلم بالعصور المظلمة السوداء الهائلة التي مرت عليها، فيورثه الحلم كابوسا، فما يزال يتلوى ويتقلب من ألم الذكرى حتى يوقظه التلوي والتقلب، وكذلك الأمم، ولكن الأيام السوداء - أيام التعاسة والشقاء - تبقي في نفس المرء أثرا تمحوه عوامل الرخاء شيئا فشيئا، ولكنه لا يمحى كله، بل يبقى في النفس شيء منه ما بقيت النفس، وكذلك يبقى في الأمم ما بقيت الأمم أثر من القرون الماضية، ولكن العوامل والمنازع والرغائب والآراء الجديدة تجدد قوى الأفراد كما تجدد قوى الأمم وتقلل من ذلك الأثر الذي أبقته القرون الماضية، والذي يعوق الأمم عن منازل الرقي والقوة.
وهذا الأثر الذي تبقيه القرون الماضية له مصادر كثيرة، فهو ناتج من مرور عصور مظلمة على أمة من الأمم بالذل والتعاسة والضعة، فإن الذل والضعة ينحتان في العزائم، ويمحوان الاعتماد على النفس، ويورثان النفس ضآلة والذهن جهلا، ويمحوان الفضائل الشخصية التي تؤهل الأفراد والأمم للنجاح في الحياة.
وهذا الأثر السيئ قد يكون سببه فساد الأنظمة القديمة، فإن الأنظمة تفسد الأيام والسنون صحتها كما تفسد الأيام صحة المرء وشبابه، فينبغي للأمم أن تتهيأ لقبول الأنظمة والآراء والمنازع والرغائب والآمال الجديدة، وأن لا تيأس من فساد الأنظمة والآراء والرغائب القديمة؛ لأن حياة الأمم مثل الماء؛ إذا ركد ولم يحركه ويجدده تيار جديد من الماء عطن وفسد، ولكن من أين تأتي النفوس الضعيفة تلك العوامل والدوافع التي تدفعها للتعلق بالمنازع والآراء والأنظمة الجديدة التي تجدد حياتها؟
إن النفوس - مهما كانت ضعيفة - لها أعماق لم يصل إليها باحث ولم يبلغها مفكر، وكما أن البحر العميق تنظر إليه فتحسب أنه خلو من الحياة والأحياء وهو ملآن بها، كذلك النفس تنظر إليها فتحسب أنها خالية من عوامل الحياة وهي ملأى بها. غير أن للنفس قوى تبقى ساكنة راكدة، حتى يحركها محرك من العوامل الأخرى النفسية، أو من عوامل هذا الوجود ودوافعه. فكما أن الرياح تهيج قوى البحر وأمواجه كذلك للحوادث رياح تهيج قوى النفس، إلا أن بعض الأمم مثل بعض الأفراد لا تصادف تلك الدوافع التي تهيج ما كمن من قواها. نعم إن هذه الأنظمة والآراء والمنازع الجديدة قد تغير حياة الأمة كل التغيير حتى تصير كأنها أمة أخرى، ولكن خير للأمة أن تحيا حياة ثانية وأن تتغير أحوالها من أن تنعدم وتفنى.
وإذا نظرت إلى التاريخ وجدت أن تلك الأمم التي فسدت أنظمتها القديمة ومرت عليها عصور مظلمة بالتعاسة والذل والضعة، يأتي عليها عصر تكون فيه بين عوامل التجدد والحياة، فلا تخشى من التغير وعوامل المحافظة على القديم، فتجبن عن الجديد وتحجم عن أن تجدد حياتها باقتباس المنازع والرغائب والآراء الجديدة، فإما أن تحيا حياة ثانية، وإما أن تنعدم وتفنى في شخصية غيرها من الأمم.
على ظهر البحر
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
وتمشت على الأذى مشية الثمل
من نشوة الرجاء لا من نشوة الصهباء
فكأنها وهي تناهض البحر، والبحر يناجزها طالب يناهض صعاب الأمور، أو كأنها الزاهد في نفوره ووحشته وسكونه وعزلته، أو كأنها الأمل إذا عب اليأس وطغى، أو كأنها الفرضات العذاب تحوطها الخيبة والهزيمة، أو كأنها السعي بالغا بالمرء رغيبته، أو كأنها المحب هائما على وجهه سالكا طريقا عذراء، أو كأنها الفكر في سفرته فإن للفكر سفرة مثل سفرة الفلك.
تمشت السفينة فتمشت في الصدور والقلوب، وتحركت لمشيتها الذكرى في الخاطر الخرب، وجعلنا نرمي المرفأ بلحظات كلها حسرات، وزفرات كلها آيات بينات، تنم عن ود صحيح وحب رجيح. تلك الزفرات مفاتيح القلوب، وتلك اللحظات حبات القلوب، وكأني وأنا على ظهرها قارئ طوى كتابا وفتح كتابا، وبين هذا وذاك مجال للتفكير فيما قرأ قبل استئناف القراءة، فجعلت أنشر صحف ما مضى من حياتي، فكأني مفيق من حلم لذيذ ساءه أن مضى وسره أن لا يزال يذكره فينعم بالذكرى ويشقى بها؛ لأن فيها رجعة النعيم المسلوب وحسرة على فواته، وبعد أن خلينا من الذكرى سلوتها ونعيمها بعثنا بالفكر واتخذنا منه دليلا على ما سيكون، ولو لحظت حياتك بنظر صادق علمت أن ما كان وما هو كائن وما سيكون مثل الحب والزرع والمحصود، ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، ينثر الزارع الحب فيخرج الزرع خروج الجنين من بطن أمه فإذا طاب عاد حصيدا.
أيها البحر ليتني موجة من أمواجك أهيم كما أشاء، غير مسجون الفضيلة والفؤاد واليد واللسان. إني أرى الموجة تتسرب في خلال الموجة، والريح تعانق الريح، والضياء يغازل الماء، والسماء تلحظ البحر لحظات تسكن في قلبه كأنها لحظات الحبيب في خاطر المحب، فترى في السماء نجوما وفي البحر نجوما. أيها البحر قد علمتني معنى الحب والبغض والغضب، أيها البحر أنا منك وأنت مني، فإنك مشبوب العواطف وأنا مشبوبها، فكن علي رفيقا كما يرفق القرين بالقرين. إني لأنظر إليك فأرى لكل هائجة جناحاتهم به إلى السماء، وكأن الأمواج جيش وغى، هازم ومنهزم، وكأنا من البحر على ظهر فرس جموح وقد خانتنا اللجم فصارت تطغى وتدفع بنا كل مدفع.
ثم ارتفعت الشمس وكشف الظلام عن منظر بهيج كأنه قطعة من الفردوس، فجعلنا نتساءل: أي ملك كريم حدا بنا إلى هذا النعيم! رأينا - وما أروع ما رأينا - حسنات وجنات ومنظرا هو في العين بهجة وفي القلب شجو. هنا يهب المرء نفسه للماء والهواء، هنا يهبط الشعر وتنزل الحكمة. هنا تولد النغمات وتحيا الأشجان وتجري العبرات ويجهد القلب بالخفقان. أيتها السحب ما أهيمني إلى نواحيك، وأنت أيتها الأمواج ما أشوقني إلى حياة مثل حياتك!
هنا يهبط الفكر والخشوع وتعظم النفس، حتى تصير كالسماء أعاليها وكالبحر أسافلها وكالأفق غايتها، والأفق كلما قاربته باعدك وكذلك غاية النفس.
هنا يحس الرائي كأنه يحمل في نفسه بحرا من الآمال والأشجان، وكأن البحر قلب أمواجه نبضاته ورياحه خطراته، أو كأنه مخلوق كبير، تارة يروعك بزئيره، وتارة يشجيك بخريره، وخرير البحر ذكرى سنيه الماضية، فكأن خريره هاتف يهتف في أعماق نفسه، وكأن المرء إذا امتطى البحر امتطى منه مطية الخلد، فالبحر كالنفس فإن للبحر أمواجا وللنفس أشجان، والبحر كالدهر، فإن للدهر أمواجا مثل أمواج البحر، والبحر كالحياة فإن البحر يفزع كما تفزع الحياة، ولكن قلب المرء يحس لذة فيما يهيج في نفسه الخشوع والفزع من مظاهر الجلال، سواء جلال البحر وجلال الحياة.
وصف البحر
تناءت بك الأمواج وهي نوافر
وجاءت بك الأمواج وهي ثوائر
كأن بها عجز المشيب إذا انثنت
وعزم الشباب الغر وهي بوادر
في نومه الظل البطيء مسيره
وثب وثبة اللهفان حين يكاشر
لنصب حلم خامل البطش هادئ
ضمنت وجهل شره متطاير
كأن لنا من لج مائك واعظا
بليغا له مما أثرت زواجر
لمحتك والأمواج في وثباتها
عساكر حرب قد تلتها عساكر
فبينا بريق الضوء فوقك ماؤه
وتجري عليك الريح وهي خواطر
ويتلو عليك الصائدون غناءهم
يرجعه لحن من الماء مائر
ويسمعك الملاح من شجو قلبه
أحاديث قد تاقت لهن الحرائر
إذ الجو جهم والرياح كتائب
وإذ أنت مقبوح السريرة غادر
ورب سفين يقرع النجم مجدها
تقاذفها مستوفز اللج هامر
يروعها في كل هوجاء موعد
ويسعى لها قبر من الماء سائر
فليس الغمام الغمر إلا رياحها
وما المرسلات الهوج إلا الهوامر
وما ذلك اللج الذي في سمائها
بأهدأ من لج نمته الزواخر
إذا ذكر الملاح زوجا وصبية
طغى سجن في مرجل الصدر فائر
ينفس عنه بالغناء وكفه
تقيم على جفن به الدمع حائر
وتذهل عن مهد الوليد فتاته
إذا ما رمتها بالوعيد الزماجر
وما هي إلا دولة طار شأنها
فأوحت إليها [...]
وما هي إلا صولة ثمت انجلت
وأكبر غرقاها المساعي البوائر
Shafi da ba'a sani ba