Tazkiyat an-Nafs
تزكية النفوس
Mai Buga Littafi
دار العقيدة للتراث
Inda aka buga
الإسكندرية
Nau'ikan
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
نسأل الله تعالى حسن الخاتمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فمن أكثر من خمسة عشر عامًا، ومع تباشير الصحوة الإسلامية وفقنى الله ﷿ لجمع كتاب مختصر فى الرقائق وأسميته " دقائق الأخبار فى رقائق الأخبار ".
وطبع هذا الكتاب أكثر من طبعة غير محققة ثم استأذننى الأخ شرف حجازى فى طبع الكتاب بعد أن حققه بعض الإخوة الأفاضل فأذنت له ومضى على ذلك مدة، ثم نزل الكتاب باسم " تزكية النفوس " وبتحقيق الأخ: " ماجد أبو الليل " وانتشر الكتاب بفضل الله ﷿ وفوجئت بطبعات بيروتية باسم دار القلم ليس لها خطام ولا زمام، فلا أدرى هل كان هذا باتفاق مع المحقق أو على الطريقة البيروتية فى الطباعة وعلى كل حال ليس ذلك بإذن
1 / 3
المؤلف، ولما كان الكتاب من أول ما كتبته مع قلة المراجع وقلة العلم والخبرة اشتمل الكتاب على بعض الأحاديث الضعيفة فأردت أن أبرىء ساحتى من هذه الأحاديث وأن أتعامل معها كما تعاملت مع " البحر الرائق" و" مختصر بغية الإنسان" وغيرهما من حذف الضعيف وإعادة تحقيق الكتاب وتجهيزه لطبعة اقتصادية، وتسهيل الحصول عليه لإخواننا من المبتدئين فى طلب العلم.
وزدت فى هذه الطبعة بعض الزيادات واستبدلت بعض الأحاديث الضعيفة بأحاديث صحيحة وربما استبدلت بعض الصحيح الذى ليس فى الصحيحين بما يغنى عنه من أحاديث الصحيحين ولا شك أن مؤلف الكتاب أولى بتحقيقه والناظر فى الجهد المبذول سوف يجد بإذن الله تعالى فائدة جديدة، وكم من كتاب حققه أكثر من محقق واستفاد الناس من مجهود كل محقق، وقد حافظت على اسم الكتاب دفعًا للتدليس وحتى لايشتريه أحد وهو يملكه ظنًا منه أنه مصنف جديد.
أما عن موضوع الكتاب فهو كتاب مختصر عن تزكية النفوس، ويقصد بتزكية النفوس تطهيرها وتطييبها، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: ٩ - ١٠).
وهى دعوة النبى ﷺ: (اللهم آت نفسى تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) (١).
فيبدأ الكتاب بمعرفة ما يقبل به العلم من شرطى الإخلاص والمتابعة ثم فضل العلم والعلماء، ثم بيان أحوال القلوب وأقسامها وعلامات مرضها وسقمها، وأسباب صحتها وأسباب سقمها فإن الناس لا يحتاجون إلى الوصية
_________
(١) رواه مسلم (١٧/ ٤١) الذكر بزيادة فى أوله وآخره، وأحمد (٤/ ٣٧١) و(٦/ ٢٠٩).
1 / 4
بأجسادهم لحفظ حياتها ودفع هلاكها، فكلهم يأكل ما يفيده ويترك ما يتحقق مضرته، ولكنهم يتناولون السموم الضارة المهلكة لقلوبهم، ويزهدون فى الأغذية النافعة لها، حتى صارت الأجسام لها قبورٌ إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
ثم ذكرت بابًا فى محاسبة النفس، وبابًا فى الزهد وأضرار حب الدنيا، وللأسف قسم هذا الموضوع فى جميع الطبعات السابقة مع أنه موضوع واحد فالتأم شمله بفضل الله ﷿ فى هذه الطبعة.
ثم ذكرت عدة عبادات من أحب العبادات إلى الله ﷿ لا تصلح القلوب إلا بها كالصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والتوكل والرضا، وختمت هذه الجولة الطيبة فى الرقائق وما تزكو به النفس بالتوبة التى هى وظيفة العمر والسبب الموصل إلى محبة الله ﷿: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: من الآية٢٢٢).
فنسأل الله أن يوفقنا لتوبة نصوح وأن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يتجاوز عما فيها من نقص وزلل، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
المؤلف
1 / 5
١ - الإخلاص والمتابعة
شرطان لقبول العمل
لا يقبل الله ﷿ عملًا من الأعمال حتى يتوفر فيه شرطان فالأول: هو الإخلاص وهو شرط الباطن، والثانى: هو متابعة سنة الرسول ﷺ وهو شرط الظاهر، ودل على هذا المعنى كتاب الله المنزل وسنة النبى المرسل ﷺ.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الملك: من الآية٢).
قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل.
وقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف من الآية: ١١٠).
فالعمل الصالح هو الموافق للسنة وعدم الشرك هو الإخلاص.
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ (النساء: من الآية ١٢٥).
فإسلام الوجه هو الإخلاص، والإحسان هو متابعة سنة النبى ﷺ.
1 / 6
أ - الإخلاص
الإخلاص: هو تجريد قصد التقرب إلى الله ﷿ عن جميع الشوائب.
وقيل: هو إفراد الله ﷿ بالقصد فى الطاعات.
وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله ﷺ، وقد أمرنا الله ﷿ به فقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ (البينة: من الآية ٥).
وعن أبى أمامة ﵁ قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت رجل غزا يلتمس الأجرَ والذكْر ماله؟ فقال رسول الله ﷺ: (لا شىء له)، بأعادها ثلاث مرات ويقول رسول الله ﷺ: (لاشىء له)، ثم قال: (إن الله ﷿ لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغى به وجهه) (١).
وعن أبى سعيد الخدرى ﵁ عن النبى ﷺ أنه قال فى حجة الوداع: (نضر الله امرءًا سمع مقالتى فوعاها، فرب حامل لفقه ليس بفقيه، ثلاث لايغل عليهن قلب امرىء مؤمن: إخلاص العمل لله،
_________
(١) رواه النسائى (٦/ ٢٥) الجهاد، وحسنه العراقى فى تخريج الإحياء (٤/ ٢٨)، وقال المنذرى فى الترغيب (١/ ٢٤): إسناده جيد، وحسنه الألبانى فى الصحيحة رقم (٥٢).
1 / 7
والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم) (١).
والمعنى: أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب، فمن تخلق بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر.
ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله ﷿:
﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: الآية ٨٣). وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: " يانفس أخلصى تتخلصى ".
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه، منغمس فى شهواته، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل: " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا "، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل، صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور.
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصًا، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة، وبالجملة غير الله، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة،
_________
(١) رواه الترمذى (١٠/ ١٢٦) العلم، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (١/ ٨٤) المقدمة، والدارمى (١/ ٧٦)،والبغوى فى شرح السنة (١/ ٢٣٦)، وأحمد (٤/ ٨٠،٨٢)، وصححه الألبانى.
1 / 8
فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ، وصلاة وغير ذلك إلا نادرًا.
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ.
كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائمًا فى الصف الأول، فتأخر يومًا عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ (الزمر: من الآيتين ٤٧،٤٨).
وبقوله ﷿: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: الآية ١٠٣ - ١٠٤).
1 / 9
بعض الآثار عن الإخلاص
قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ".
قال السوسى: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات.
قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ".
وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ".
وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".
1 / 10
فضل النيّة
عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ".
وقال بعض السلف: " رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية ".
وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ".
وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلًا عند إحرامه يقول: اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هى: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها فى شىء من العبادات وإنما يشرع فى الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارنًا، وهو الذى يسمى بالإهلال.
1 / 11
ب - متابعة السنّة
والشرط الثانى لقبول العمل أن يكون العمل مطابقًا لسنة النبى ﷺ لحديث عاشئة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفى رواية لمسلم: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (١).
فهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، فكما أن حديث: " الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال فى باطنها فهو ميزان للأعمال فى ظاهرها فكما أن كل عمل لايراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو ردعلى عامله فقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارة إلى أن أعمال العاملين كلها ينبغى أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشريعة موافقًا لها فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك فهو مردود.
أوجب الله ﷿ علينا طاعة رسوله ﷺ قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية ٧)
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: الآية ٣٦)
_________
(١) رواه البخارى (٥/ ٣٠١) الصلح، ومسلم (١٢/ ١٦) الأقضية، والرد هنا بمعنى المردود أى فهو باطل غير معتد به.
1 / 12
وجعل الله ﷿ اتباع سنة رسول الله ﷺ علامة على محبته فقال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: من الآية ٣١)
قال الحسن البصرى: ادعى ناس محبة الله ﷿ فابتلاهم بهذه الآية: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ ... الآية.
كما أوصى النبى ﷺ بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين فقال ﷺ: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " (١).
قال الزهرى: الاعتصام بالسنة نجاة لأن السنة كما قال مالك: مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وقال سفيان: لايقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة.
وعن ابن شوذب قال: إن من نعمة الله على الشاب إذا نَسُكَ أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها.
_________
(١) رواه أحمد (٤/ ١٢٦، ١٢٧)، وأبو داود (١٢/ ٣٥٩، ٣٦٠) السنة، والترمذى (١٠/ ١٤٤) العلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (٤٣) المقدمة، والدارمى (١/ ٤٤، ٤٥) اتباع السنة، والبغوى فى شرح السنة (١/ ٢٠٥) وقال: هذا حديث حسن.
1 / 13
٢ - فضل العلم والعلماء
والعلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضى الله عنهم.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بلتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
فضائله فى القرآن كثيرة، منها قوله ﷿: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة من الآية: ١١).
وقوله ﷿: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر من الآية: ٩).
وأما الأخبار، فقول رسول الله ﷺ: " من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين (١)، وقوله ﷺ: " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة " (٢).
وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقى وهو المشي
_________
(١) رواه البخارى (١/ ١٦٤) العلم، ومسلم (١٣/ ٦٧) الإمارة، ورواه الترمذى (١٠/ ١١٤) عن ابن عباس وقال: حديث حسن صحيح.
قال ابن الأثير: الفقه: الفهم والدراية والعلم فى الأصل وقد جعله العرف خاصًا بعلم الشريعة.
(٢) رواه مسلم (١٧/ ٢١، ٢٢) الذكر والدعاء، والترمذى (١٠/ ١١٥) وأبواب العلم، وقال: هذا حديث حسن، وأبو داود (١٠/ ٧٣) العلم، وابن ماجه (٢٢٥) المقدمة.
1 / 14
بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثلُ حفظهِ ومدارسته.
وقوله ﷺ: " سهل الله له به طريقًا إلى الجنة " قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذى طلبه وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريقٌ يوصل إلى الجنة، كما قال بعض السلف: " هل من طالب علمٍ فيعان عليه"، وقد يراد به طريق الجنة يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده.
والعلم أيضًا يدل على الله تعالى من أقرب طريق، فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب طريق، والعلم أيضا يهتدى به فى ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نورًا، وعن عبد الله بن عمرو عن النبى ﷺ أنه قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (١).
وسُئل عبادة بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: " لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع ".
وإنما قال عبادة ﵁ هذا لأن العلم قسمان: أحدهما ما كان ثمرته فى قلب الإنسان، هو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضى لخشيته، ومهابته، وإجلاله، ومحبته، ورجائه، والتوكل عليه، فهذا هو العلم النافع كما قال ابن مسعود: " إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا
_________
(١) رواه البخارى (١/ ٢٣٤) العلم، ومسلم (١٦/ ٢٢٣، ٢٢٤) العلم.
وقال الحافظ: " لايقبض العلم انتزاعًا: أى محوًا من الصدور، وكان تحديث النبى ﷺ بذلك فى حجة الوداع.
وقال ابن المنيّر: محو العلم من الصدور جائز فى القدرة: إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه.
1 / 15
يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسَخ فيه نفع"، وقال الحسن: " العلم علمان: علم اللسان فذاك حجة على ابن آدم، كما فى الحديث " القرآن حجة لك أو عليك" (١)، وعلم فى القلب فذاك العلم النافع، فأول ما يرفع من العلم العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذى يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق ".
ومن الأدلة على فضل العلم وأهله كذلك:
قوله ﷺ: " لا حسد إلا فى اثنتين رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " (٢).
وقوله ﷺ: " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلمًا فهو يتقى فى ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأحسن المنازل عند الله، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فهو يقول: لو أن لى مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالًا ولم يؤته علمًا فهو يخبط فى ماله لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالًا ولا علما فهو يقول: لو أن لى مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما فى الوزر سواء" (٣).
_________
(١) رواه مسلم (٣/ ٩٩، ١٠٠) الطهارة، وقال النووى: فمعناه ظاهر أى تنتفع به إن تلوته وعملت به وإلا فهو حجة عليك.
(٢) رواه البخارى (١/ ١٦٥) العلم، ومسلم (٦/ ٩٧، ٩٨) صلاة المسافرين، وقال الحافظ: قوله: " لا حسد ": أى لا رخصة فى الحسد إلا فى خصلتين: أو لا يحسن الحسد إن حسن، أو أطلق الحسد مبالغة فى الحث على تحصيل الخصلتين.
(٣) رواه الترمذى (٩/ ١٩٩، ٢٠٠) أبواب الزهد، وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد (٤/ ٢٣٠،٢٣١)، وابن ماجه (٤٢٢٨) الزهد، وصححه الألبانى.
1 / 16
فعادت السعادة بحملتها على العلم وموجبه والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته.
قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.
وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لم استهدى أدلاء
وقدر كل أمرىء ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلمٍ تعش حيًا به أبدا ً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
1 / 17
٣ - أنواع القلوب وأقسامها
قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ (الإسراء من الآية: ٣٦).
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله قال النبى ﷺ: " ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " (١).
فهو ملكُها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شىء من أعمالها حتى تصدر عن قصده نيته، وهو المسئول عنها كلها، لأن كل راعٍ مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده، أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر فى أمراضه وعلاجها أهم
_________
(١) جزء من حديث رواه البخارى (١/ ١٢٦) الإيمان، ومسلم (١١/ ٢٧، ٢٨) المساقاة والمزارعة وأول الحديث: " إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ".
قال الحافظ ابن رجب ﵀: فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح قلبه فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها واتقاء الشبهات حذرًا من الوقوع فى المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعث إلى كل المعاصى والشبهات بحسب اتباع هوى القلب (١/ ٢٨٤، ٢٨٥) جامع العلوم والحكم بتحقيق الأحمدى أبو النور.
1 / 18
ما تنسك به الناسكون.
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام: القلب الصحيح أو السليم، والقلب الميت، والقلب المريض.
١ - القلب الصحيح:
هو القلب السليم الذى لاينجو يوم القيامة إلا مَنْ أتى الله تعالى به، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: الآية: ٨٨ - ٨٩).
وقيل فى تعريفه: إنه القلب الذى سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عيودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فخلصت عبوديته لله تعالى، إرادة ومحبة، وتوكيلًا، وإنابة، وإخباتًا وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب فى الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الإنقياد والتحكيم لكل مَنْ عدا رسوله ﷺ فيعقد قلبه معه عقدًا محكمًا على الإتمام والإقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول، ولا عمل، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات: ١).
٢ - القلب الميت:
وهو ضد القلب السليم، فهو لايعرف ربه، ولا يعبده بأمره، وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته، ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لايبالى إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى
1 / 19
أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده، وأحب إليه من رضى مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده، والجهل ُ سائقه، والغفلةُ مركبهُ، فهو بالفكر فى تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سمّ، ومجالسته هلاك.
٣ - القلب المريض:
قلب له حياة وبه علة تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه، ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر، والعجب، ما هو مادة هلاكه وعطبه، فهو ممتحن من داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأدناهما إليه جوارًا.
فالقلب الأول: حىّ، مخبت، لين واع.
والثانى: يابس، ميت.
والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، إما إلى العطب أدنى.
* * *
1 / 20
علامات مرض القلب وصحته
علامات مرض القلب
قد يمرض قلب العبد، ويشتد المرض، ولا يعرف به صاحبه، بل قد يموت وصاحبه لايعرف بموته، وعلامة مرضه أو موته، أن صاحبه لا تؤلمه جراحات المعاصى، ولا يوجعه جهله بالحق، وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان حيًا تألم بورود القبائح عليه، وتألم بجهله بالحق - بحسب حياته - وقد يشعر بالمرض، ويشتد عليه مرارة الدواء، فهو يؤثر بقاء الألم على مشقة الدواء.
ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة إلى الضارة، وعدولها عن الدواء النافع إلى دائها الضار، فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى، والقلب المريض بضدّ ذلك، وأنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن.
علامات صحة القلب:
أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها، أو أبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه، كما قال ﷺ لعبد الله بن عمر: " كن فى الدنيا كأنك غريب أو
1 / 21
عابر سبيل " (١).
وكلما مرض القلب آثر الدنيا، واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
- ومن علامات صحة القلب: أنه لايزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، فيستغنى بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخدمته عن خدمة ما سواه.
- ومن علامات صحة القلب: أنه إذا فاته وِرْدهُ أو طاعة من الطاعات، وجَدَ لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
- ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب.
- قال يحيى بن معاذ: " من سر بخدمة الله سُرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه ".
- ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدًا، وأن يكون فى الله يعنى فى طاعة الله -.
- ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا كأشد الناس شحًا بماله.
- ومن علامات صحته: أن يكون إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ووجد فيها راحته، ونعيمه وقرةَ عينه، وسرور قلبه.
- ومن علامات صحته: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من
_________
(١) رواه البخارى (١١/ ٢٣٣) الرقاق، وأحمد (٢/ ٢٤، ٤١)، والترمذى (٩/ ٢٠٣) الزهد، وأبو نعيم فى الحلية (٣/ ٣٠١).
1 / 22