[4.135]
{ يآ أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين } مبالغين فى القيام كثرة وكيفا مستمرين على ذلك فلا شهادة للعبد لأنه لا يكون قواما إذ لا يخرج ولا يعمل إلا بسيده { بالقسط } العدل { شهدآء لله } لوجه الله بالحق، لا لغرض دنيوى، وسواء القريب والبعيد، نفعا أو ضرا، عموما ولو خص الضر فى قوله: { ولو } كانت الشهادة { على أنفسكم } مضرة عليها، أو ولو كنتم شهداء على أنفسكم، والمراد بالشهادة بيان الحق، فتشمل الإقرار على النفس، وإن أبقى الكلام على ظاهره كان جمعا بين الحقيقة والمجاز، أو يحمل على عموم المجاز، وذلك أن شهادة المرء على نفسه غير معهودة، إلا أنه قد يقال الإقرار فى أصل اللغة شهادة، وقد جاء: تشهد عليهم ألسنتهم، أو لو شهدتم على أنفسكم، أو ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم، ولا يعلق بقوامين لأن لو قاطعه عن ذلك، لأنها تطلب فعلا، ولا بد وهى وصلية { أو الوالدين والأقربين } كالابن والأخ والعم { إن يكن } أى المشهود عليه { غنيا أو فقيرا } فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة، أو لا تجوروا ميلا وترحموا { فالله } لأن الله { أولى بهما } منكم، وأعلم بالمحق والمبطل، اختصم غنى وفقير إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يظن أن الفقير لا يظلم الغنى فأمره الله فى هذه الآية بالقيام بالقسط مع الغنى والفقير، وكأنه قيل الله أولى بالفقير والغنى، وانظر لهما، والمراد الجنس بدليل قراءة أبى : فالله أولى بهم، ولا تعرض فى الآية للشهادة لهم بل عليهم، وحملها بعض على الوجهين معا، وللآية اتصال بقصة طعمة بن أبيرق المتقدمة إذ شهد له قومه بالباطل لقرابته، وثنى الضمير مع أن العطف بأو لأنه إنما يجدر مثل ذلك، حيث تجب المطابقة، كالخبر مع المبتدأ، أو الحال مع صاحبه، والنعت مع منعوته، لا فى غير ذلك كما هنا، مع أنه يجوز عود الضمير هنا إلى الغنى والفقير، المدلول عليهما بقوله غنيا أو فقيرا، لا إلى المذكورين فى الآية، فإنه أولى بجنس الغنى والفقير، ومع أنه يجوز عوده إلى المشهود له والمشهود عليه، على أى وصف كان أو المدعى والمدعى عليه كذلك، وكل إما فقير أو غنى، أو كلاهما فقير أو كلاهما غنى، وعطف الأول بأو لأنه مقابل الأنفس، بخلاف الثانى،وذلك كما كان بعد غنيا للمقابلة، أى غنيا يرجى نفعه أو يخاف ضره، أو فقيرا يترحم عليه، ووجه الإفراد أن أو لأحد الشيئين، وقيل أو بمعنى الواو، وقيل للتفصيل { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لأن تعدلوا، أى لأن تميلوا عن الحق، أو كراهة أن تعدلوا، أى كراهة أن تعملوا بالحق، أو نهيتكم لتكونوا عادلين، من العدل ضد الجور { وإن تلووا } ألسنتكم عن تحمل شهادة الحق، أو حكومة العدل، أى الحق أو تلووها بالتحريف، وعن ابن عباس: اللى المطل فى أدائها { أو تعرضوا } عن أدائها، ولا يصح أن يراد باللى والإعراض معنى واحد، كقوله تعالى:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
[الحجر: 30، ص: 73]، ولو أجازه الفارسى لأن العطف بأو لا بالواو، وقيل إن الخطاب للحكام، وأن اللى الحكم بالباطل، وأن الإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين، وهو رواية عن ابن عباس رضى الله عنهما { فإن الله } جازاكم الله على اللى أو الإعراض، لأن الله { كان بما تعملون } من اللى والإعراض وغيرهما { خبيرا } وكان السلف يجيزون شهادة الوالد للولد، والولد للوالد، حتى ظهر من الناس ما حمل الولاة على اتهام الناس، فتركت شهادة من يتهم، وكذلك كان ابن عباس يجيز شهادة كل للآخر .
[4.136]
{ يآ أيها الذين ءامنوا } بألسنتهم فقط { ءامنوا } بقلوبكم أو يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم دوموا على الإيمان، أو زيدوا منه، فإن الإيمان يزيد وينقص، أو يا أيها الذين آمنوا من اليهود والنصارى ببعض الكتب والأشياء آمنوا بالكل، فإن اليهود آمنوا بالتوراة وموسى، لا بالإنجيل وعيسى والنصارى العكس، وقيل يا أيها الذين آمنوا إجمالا آمنوا تفصيلا، وقيل يا أيها الذين آمنوا بالعزى واللات آمنوا بالله وهو ضعيف { بالله ورسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { والكتاب الذى نزل على رسوله } أى القرآن { والكتاب الذى أنزل } على الرسل { من قبل } الكتب التى من الله كلها، فأل للاستغراق، وخص القرآن لفضله على غيره، فإنه يذكر الخاص بعد العام، والعام بعد الخاص لمزية فى الخاص، قال ابن سلام وأصحابه كأسد وأسيد، بنى كعب، وثعلبة بن قيس، وابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين: نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سوى ذلك، بمعنى أنهم لم يثبت عندهم أن ما سوى ذلك من الله، فنزل: يا أيها الذين آمنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتب التى أنزل من قبل { ومن يكفر } من الأشقياء { بالله وملائكته } والكفر بالملائكة كفر بغيرهم { وكتبه رسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } عن الحق، لا يكاد يرجع إليه، أو من شأن الكفر ولو من غير الشقى البعد عن الحق، أو بعيد الوقوع، والواو بمعنى، أو؛ لأن الضلال البعيد يحصل ولو بواحد من ذلك فقط، أو من واقعة على الأنواع كلها، كأنه قيل: ومن يكفر بالله فقد ضل الخ، ومن يكفر بملائكته فقد ضل الخ، وهكذا فالحاصل أن كل كافر من هؤلاء ضل ضلالا بعيدا، أو المراد المجموع، فيحصل أن الكفر ببعض ما من ذلك ضلال بعيد، وقيل الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفى بانتفاء البعض، وليس هذا من جعل الواو بمعنى أو.
[4.137-138]
{ إن الذين ءامنوا } إن اليهود الذين أمنوا بموسى { ثم كفروا } أشركوا بعبادة العجل { ثم ءامنوا } بعد رجوع موسى من الميقات { ثم كفروا } أشركوا بإنكار نبوءة عيسى والإنجيل { ثم ازدادوا كفرا } شركا بإنكار نبوءة محمد ورسالته صلى الله عليه وسلم والقرآن { لم يكن الله ليغفر لهم } شركهم وذنوبهم { ولا ليهديهم سبيلا } إلى الحق، وقيل: آمنوا بموسى وكفروا بعده، وآمنوا بعزير وكفروا بعيسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالذات هؤلاء الأخيرون المنكرون لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كفروا ورضوا بكفر هؤلاء الكفرة، فكأنه فعل هؤلاء الأخيرون كفرهم وكفر من قبلهم، أو المراد من آمن ثم ارتد، ثم آمن ثم ارتد وأصر، وتمادى على الشرك لا تقبل توبته ولو تاب،كما روى عن على: أنه يقتل ولا تقبل توبته، وأن الآية دلت أنه لا تتمحض توبته عن الشرك، فلا بد أن يموت بعد هذا التلاعب بالدين وفى قلبه شرك والصحيح، وهو مذهب الجمهور، أنه تقبل توبته فلا يقتل، وأنه يمكن أن تكون نصوحا، وأن الآية استعباد لأن تنصح توبتهم وأنه لو نصحت لقبلت، ويقال إن ذلك المروى عن على لا يصح عنه أو مؤول، قلت وجه تأويله أن يريد أنه لا يوفق للتوبة النصوح، أو نزلت فى قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يتوبون، وليس منهم أبو جهل وأبو لهب والوليد كما توهم بعض، لأنه لا نعلم أن هؤلاء آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، أو معنى ازدياد الكفر الإصرار عليه إلى الموت أو في المنافقين، وآمنوا بألسنتهم، ثم كفروا نطقوا بالكفر الذى أضمروه سرا وظهر بعد، ثم تداركوه بالإيمان من ألسنتهم سترا على أنفسهم، ثم نطقوا بالكفر الذى فى قلوبهم، وليس المراد خصوص ما ذكر بل مجرد التكرار حتى ختموا أمرهم بازدياد الكفر وماتوا عليه، وقيل: المراد طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك الصحابة، يظهرون الإيمان بحضرتهم ثم يقولون عرضت لنا شبهة فيكفرون، ثم يظهرون الإيمان ثم يقولون عرضت لنا شبهة فيكفرون إلى الموت ويناسب التفسير بالمنافقين قوله تعالى:
{ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } عذاب النار فى الآخرة، وضع بشر مكان أنذر تهكم بهم، لعلاقة التضاد أو الإطلاق والتقييد ، فإن التبشير إخبار بقيد كونه سارا ضد الإنذار، وذلك مجاز مرسل تهكمى، أو استعارة تهكمية لعلاقة الشبه إذ كل منهما إخبار بجزاء.
[4.139-140]
Shafi da ba'a sani ba