Tasirin Lotus
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Nau'ikan
أعلن الشرطيان موافقتهما، وهكذا ركبوا السيارة حتى وصلوا إلى الجراج في باحة القصر. ضيقت فاندا عينيها في شمس الشتاء الرقيقة، وفتح الهواء العليل أنفها المسدود. وجدوا أن سور البوابة لم يمس كما لم يعثروا في الأرض أمامه إلا على كوب ورقي مجعد وعلكة وبعض أعقاب السجائر. وقفوا في حيرة من أمرهم ما عدا الشرطية التي جلست ملاصقة للسور، وأخذت تدرس الأحجار وكأنها تبحث عن نقش خاص، لم يكن ينقص إلا أن تطلب عدسة مكبرة. تغير وجه ترامبيرت المعبر عن الملل ليعبر عن الاستفزاز. «هل أنتما متأكدان أنكما سمعتما صوت إطلاق نار؟» رأت فاندا أن أندرياس أيضا لم يفهم ماذا كان يقصد. أوضح ترامبيرت: «ارتطام الطلقة بالسور؟» لكنه لم ينتظر إجابتهما، وإنما تبع إشارة زميلته التي غمزت له كي يذهب إليها. لم تتمكن فاندا من رؤية الشيء الذي رغبت أن تريه إياه؛ إذ كان كلاهما يغطي على المكان. كانت تتحدث بصوت خفيض وبدت كأنها تشرح له أمرا. أومأ برأسه. بعدها نهضت وذهبت إلى السيارة.
نادتها فاندا متسائلة: «ما الأمر؟» «أحتاج لحظة بعد.» لم تمكث الشرطية كثيرا، ولما عادت كانت تحمل في يدها أنبوبة بلاستيكية صغيرة الحجم. تبعتها فاندا وأندرياس نحو السور، فأخرجت من الأنبوب ملعقة صيدلاني. كانت أدواتها تبدو مثل تلك المستخدمة في أخذ عينات البراز. بدأت ليديا فازا في الخربشة على السور. وفي تلك اللحظة فقط تعرفت فاندا على الشيء الداكن المستدير في الجزء العلوي من قاعدة السور، لم يكن أكثر سماكة من علامة قلم رصاص عريض. وقف ترامبيرت إلى جوارها يراقب أخذ العينة بارتياب لا يخفيه، وأخذ يحك فمه. «لست متأكدة.» نظرت الشرطية إلى فاندا بعينين زرقاوين متسعتين حين بدأت تتكلم. لقد كانت جميلة حقا. وكانت بشرتها الناعمة ووجنتاها اللتان وردتهما البرودة تجعلها تبدو مسترخية، على عكس فاندا. كانت تشير بأناملها الرفيعة نحو الخط الداكن. «إن هذا هنا يبدو مثل أثر ذخيرة ذاتية التحلل، لكني قد أكون مخطئة. ليست عندنا خبرة بذلك .» نظرت فاندا متسائلة. «إنه شيء جديد، ذخيرة ذاتية التحلل، ربما لهذا السبب لم نجد أثرا للمقذوفات؛ فباستخدام ذخيرة ذاتية التحلل لا يبق أي أثر، أو إن شئنا الدقة، ليس ثمة أثر يرى بالعين المجردة، إلا إذا اصطدمت الرصاصة بشيء صلب مثل هذه هنا بالسور.» «وما هي تحديدا؟» سألت فاندا.
أجابت ليديا فازا: «إنها جزيئات نانو. إن مقذوفات الذخيرة ذاتية التحلل تتفتت إلى غبار ناعم غير مرئي وتتوزع، وهي تترك آثار روابط كربونية لا يمكن إثباتها إلا باستخدام طرق معينة. إن كانت هذه العلامة بسبب ذخيرة ذاتية التحلل فسنتمكن من إثبات ذلك باستخدام هذه العينة.» «هل تبحثون مثلا عن الفوليرينات؟» كانت فاندا قد تحولت كلها إلى آذان مصغية، فإلى جوار الجرافيت، والماس، كانت الفوليرينات تمثل رابطة الكربون الطبيعية الثالثة، لقد كان العلماء واثقين حتى في عقد الستينيات من وجودها، رغم أنها لم تكتشف إلا في منتصف الثمانينيات عن طريق الصدفة. «نعم، بالضبط.» نظرت إلى فاندا بانتباه وسألت: «هل أنت مطلعة على هذه الأمور؟» ضحكت فاندا قائلة: «عملي بالكامل يعتمد على هذه الأمور، أنا متخصصة في علم السميات، لكني لم أكن أعلم أن أحدا يمكنه أن يطلق النار مستخدما «كرات بوكي».» إن «كرات بوكي» بقطرها الذي لا يتجاوز النانومتر تمثل أصغر الفوليرينات على الإطلاق. قام المعماري ريتشارد باكمينستر فولر (ويدعى اختصارا بوكي) بتسميتها في براءة الاختراع؛ لأنها كانت تذكره بالقبات الكروية الجيوديسية التي اشتهر بتشييدها، ولأنها تحتوي على ستين ذرة كربونية اعتبرت إنها بمثابة كرات القدم في عالم النانو، لأنها كانت مثل كرات القدم، مركبة من اثني عشر خماسيا، وعشرين سداسيا تضمن لها استدارة الشكل. كانت الوليد الجديد في عالم صناعة الشرائح. أما أخواتها الطولية، أنابيب النانو، فوصلت إلى قوة شد عالية من شأنها أن تسعد الأجيال الجديدة من لاعبي التنس بهذه الكرات العجيبة، فلماذا إذن لا تقتحم هذه الأقزام تكنولوجيا السلاح؟ «ومن يطلق النار مستخدما شيئا كهذا؟» سأل أندرياس.
أجابت الشرطية: «هذه الذخيرة ليست متوفرة في السوق بعد. يتم تطويرها للاستخدام في الأسلحة ذات العيار الصغير، وهي قاصرة على استخدام الجيش والمخابرات. أنا أعلم بهذا الآن فقط بسبب حضوري دورة تدريبية.» زمجر ترامبيرت بنفاد صبر، فنظرت إليه زميلته بهدوء وقالت: «ربما أيضا أكون قد جانبني الصواب تماما، إلا أن زميلي يرى أن تحليل البقايا ليس خطأ. إن حالفنا الحظ فسيثير الأمر اهتمام معمل متخصص في كارلسروه.» دست ليديا فازا أنبوب العينة في جيبها. «هذا ما لدينا!» استدارت للذهاب وكان ترامبيرت قد سبق إلى السيارة.
قال أندرياس: «شكرا على مجهودك.» «سنتصل بكم.» ثم مدت يدها لتصافحهما مودعة، واستطردت: «لكن لا تعقدوا آمالا عريضة.»
الفصل التاسع والثلاثون
نجمة وألعاب نارية
قبل عيد الميلاد بقليل سقطت الثلوج مجددا، وظلت تهطل بلا انقطاع حتى اليوم التالي، وتحت غطاء الثلج الأبيض اختفت ألوان الهضاب المحيطة بدرجاتها القاتمة. كانت الحافلات تنزلق إلى سفح منحدرات اللان ولا تعاود الصعود؛ إذ انهارت شبكة المواصلات العامة تماما لوقت قصير، ولأول مرة أخذت فاندا الطريق المار عبر الغابة سيرا على قدميها صاعدة أورتينبيرج حتى المستشفى. كانت السماء لا تزال ملبدة بغيوم رمادية مثقلة هطلت منها أيضا ثلوج كثيفة في الأيام التالية. صارت المدينة أكثر هدوءا مما جعل فاندا تتساءل إن كان السبب هو سفر معظم الطلبة في وقت عطلة عيد الميلاد، فبدت المدينة وكأنها خاوية على عروشها، أم أن ذلك يرجع إلى أن سقوط الثلوج خفف من ضوضائها؟ وحين فتحت ستائر نافذتها في أول يوم جمعة بإجازة عيد الميلاد، نظرت إلى سماء زرقاء فاتح لونها صافية بلا غيوم. انخفضت درجة الحرارة إلى عشر درجات تحت الصفر. خرجت فاندا قرب الظهيرة وسارت فقط بمحاذاة النهر، تتبع المشاة المتعطشين لضوء الشمس الذين خرجوا يتنزهون ومعهم المعاطف الجديدة أو الفراء أو الشيلان أو القلنسوات أو حتى كلبهم العجوز. في ضوء الشمس لمعت المروج الناعسة على ضفة نهر اللان، المغطاة بطبقة سميكة من الثلج. كانت تتخير لنفسها في كل يوم طريقا جديدا لتكتشف المكان الذي تعيش فيه. أما فترة ما قبل الظهيرة فكانت تكرسها لشقتها : تنظف، تصنف، ترتب وتتخلص مما لا لزوم له. كانت تفكر في شروحات توماس حول العلاقات التجارية بين الفوضى والنظام، وتتساءل عن الثمن الذي تدفعه الآن من أجل التخلص من الفوضى الضاربة في شقتها. ظلت تلمع خشب مكتب والدها ذي الأرفف بالزيت حتى صار له بريق مائل للحمرة، لكنها حتى اللحظة لم تخطر ببالها فكرة تمكنها من فتح قفل الدرج المغلق. ولأول مرة بدأت تشعر بالرضا عندما تعود من نزهاتها إلى الشقة.
بعد ذلك كانت تراجع الأشياء التي أنجزتها في الصباح. لقد كان ترتيبا رائعا متوازنا لساعات اليوم دون إزعاج من أحد. وهكذا مرت أيام العطلة سريعة دون أن تقابل أحدا كذلك؛ إذ سافرت زابينة إلى عائلتها على الشاطئ، ويوهانيس يتزلج على منحدرات آسبن، أما بيترا فلا يعلم مكانها إلا الله، وأندرياس يمضي أيام الإجازة لدى والدته في ميونخ. إلا أن فاندا لم تكن بمفردها كلية، لقد تركت زابينة جوسي عندها، فكانت تقتسم مع الفأرة البسكويت الذي خبزته سريعا ليلة عيد الميلاد المجيد، وأخذتها في حضنها لتتفرجا معا على الأفلام متوسطة القيمة التي يعرضها التليفزيون. لقد نجحت بالفعل أن تركب جهاز التليفزيون ذي الشاشة إل سي دي، وأن تضبط درجة الصوت في جهاز استقبال القنوات الفضائية لتختار واحدة من سبعين قناة تستقبلها بصورة واضحة، لكنها لم تتمكن من فعل أكثر من ذلك. أعارها أندرياس بعض أقراص دي في دي، لكن كان يتعين عليها أن تصلها بالكمبيوتر المحمول الخاص بها، وكان ذلك من شأنه أن يكلفها كثيرا من الوقت للبحث عن منافذ الكمبيوتر التي لن تجدها في النهاية. وكانت تعلم أن كتيب التعليمات لم يكن لينجح إن قيمه تقني متخصص فقررت ألا تعتمد عليه، لهذا كان عليها أن تكتفي بالقدر الذي تقدمه القنوات العامة المفتوحة والخاصة لمشاهديها، خصوصا أن هذا الأمر لا يمثل مشكلة لجوسي، التي بعد أن تنظف الصحون من بسكويت فاندا تستقر في الوادي ما بين نهديها، راغبة ألا يزعجها أحد.
الاسترخاء أمام التليفزيون بصحبة ضيفتها الجذابة كانت المكافأة التي تهديها فاندا لنفسها لقاء أعمال تنظيف الشقة التي تجريها يوما بعد يوم، وبهذا الإيقاع عاد إليها هدوؤها الداخلي، وبدأت ذكرى الأحداث المهددة تذهب بالتدريج. أما الهجوم الذي تعرضت له بجوار القصر فاعتبرته عمل مجنون تصادف أن اعترضت طريقه، كما اعتبرت القبر الرقمي دعابة مروعة أرسلها شخص لا تعرفه. لم تستطع أن تتصور أن شخصا يمكن أن يكرهها إلى الحد الذي يجعله يتمنى لها الموت. فكرت أن تسأل في مركز البيانات بالجامعة، لكنها تراجعت لما وجدت المسألة ثقيلة على نفسها. شيء واحد فقط كان يغضبها، ألا وهو أن النتائج المنتظرة من خبير الفيروسات لم تصل بعد.
Shafi da ba'a sani ba