Tarihin Al'ummar Qibtiyya
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
Nau'ikan
إن رغبة أمير البلاد في راحة وتقدم رعيته اقتضت أن يكون لهذه الطائفة القبطية مجلسا ينظر في شئونها، ويدير مصالحها؛ أسوة بغيرها من الطوائف، بناء على طلب وجوه وأعيان تلك الأمة؛ ولذا أصدر أمره الكريم بانتخاب اثني عشر عضوا ومثلهم نوابا لإدارة حركة هذا المجلس، وقد أرسل سعادة إلياس بك إدوار مشيرا إلى مندوب الحكومة لحضور هذا الاحتفال بمثابة مندوب من قبل حكومة الجناب العالي، فما عليكم أيها السادة الحضور إلا أن تنتخبوا من تجدوا فيه الجدارة والأهلية بكل سكينة وحرية. فريثما تلا سعادة المحافظ هذه العبارة الموجزة المعجزة ضج الحضور بالدعاء لسمو الخديوي المعظم والثناء على همة حكومته السنية الساهرة على راحة رعاياها المخلصين لها، والمحافظين على ولائها سرا وجهرا، ثم شرعوا في الانتخاب وأمارات الانشراح والارتياح تلوح على محياهم إلى أن تم هذا الانتخاب على أعظم نسق وأحكم أسلوب، ثم تليت أسماء المنتخبين على مسامع الحاضرين فقابلوها بالتصفيق والتهليل.
وعند الختام هتف الكل صارخين مبتهلين من صميم أفئدتهم: «ليعش أفندينا ليدم خديوينا.» ثم قفلوا راجعين وقد أخذ البشر والحبور من قلوبهم كل مأخذ مؤملين أن يكون ذلك الانتخاب خاتمة تلك الأتعاب، ونتيجة هاتيك الأنصاب. ولما عرضت صورة هذا الانتخاب على الأعتاب الخديوية صدر الأمر الكريم بتأييدها وتثبيتها، وبعدئذ دعي غبطة البطريرك للترؤس على المجلس فأبى وحرر من الإسكندرية لحضرات الأعضاء يقول لهم إنه لا يرغب وجود المجلس، ولا يروم الترؤس عليه على الإطلاق، فقضت حينئذ الضرورة - والضرورات تبيح المحظورات - أن اجتمع المجلس وقرر نزعه من الرئاسة ومن إدارة شئون الطائفة أيضا، وانتخاب وكيل يقوم مقامه، فصدرت الإرادة السنية بالتصديق على ذلك، وكذا اجتمع أيضا المجلس الملي مع الروحي الذي تشكل مؤقتا وقرر أنه: «بناء على إصرار البطريرك وعناده وعدم انقياده لأوامر الحكومة، وحيث ثبت أن المغري له على إتيان هذا العصيان هو مطران الإسكندرية، فمراعاة لاستتباب الراحة العمومية وعدم تكدير النظام العام، وخدش الآداب القومية، ومنع الشقاقات الداخلية؛ تقرر إبعاد أنبا كيرلس البطريرك إلى دير البرموس ببرية شهاة، وهو الدير الذي كان راهبا فيه لإقامته به وعدم مبارحته إياه إلا بأمر الحكومة السنية، وكذا إبعاد مطران الإسكندرية إلى دير أنبا بولا بالجبل الشرقي.» وقد صدر الأمر السامي مؤيدا ذلك بتاريخ أول سبتمبر سنة 1892، وقد تم ذلك كله فصفا الجو بعد أن كان معكرا مكفهرا، وعاد الصفو والسكون بعد أن كان نائيا ومغادرا، فطفق المجلس يدير الأعمال ويدير الأشغال بكل همة ونشاط، حتى إنه في خلال ستة أشهر أصدر تقريرا بين فيه ما آتاه في خلال هذه المدة القصيرة من الإصلاحات الخطيرة، وكان رئيسه وقتئذ الأب الفاضل والحبر الموقر الكامل نيافة الأنبا إثناسيوس أسقف كرسي صنبو المترشح لهذا المنصب السامي والمركز الرفيع، بناء على طلب أعضاء المجلس الموقر بعد تصديق الحكومة السنية.
ولكن لم تلبث المسألة أن انقلبت انقلابا غير منتظر؛ وبيان ذلك أن الوزارة المصرية تغيرت وقامت بعدها وزارة جديدة هي الوزارة الرياضية، فانتهز أعداء الإصلاح هذه الفرصة المناسبة وطفقوا يعرضون العرائض ويقدمون الطلبات، ملتمسين العفو عن غبطة البطريرك وإعادته إلى رتبته، فبعد أن تفاوض دولة الوزير الخطير مع أغلب نخب هذه الطائفة وفي جملتهم أرباب المجلس أجاب أخيرا طلبهم، فصدر الأمر الكريم بإرجاعه إلى منصبه، وكذا إرجاع المطران الإسكندري إلى مركزه بشرط أن لا يعودا إلى مثل هذا العصيان والطغيان.
ولما عاد البطريرك الموقر مصحوبا بالصحة والسلامة إلى مركز وظيفته تنبهت عندئذ الأفكار، وتوجهت الأنظار، وشخصت الأبصار إلى ما عساه يحصل بعد هذا التقلب العجيب والتغير الغريب؛ فكان بعضهم يظن أن غبطته لا بد وأن يذعن لمقترحات أبناء طائفته ويرضخ لأوامر حكومته. وكان يتوهم البعض الآخر أنه لا يحيد عن جادته ولا يقلع عن خطته، بناء على ما ظهر من التشبث والاستبداد الذي كان سببا في احتدام هذا الخصام وإضرام نار ذاك الخلاف، وهكذا كنت ترى القوم ما بين مصدق ومكذب ومحقق ومرتاب، تاركين القول الفصل والحكم القطعي في هذه المسألة لمجريات الأحوال وصروف الظروف؛ لعلمهم أن المستقبل أبو العجائب والغرائب، فلربما يأتي بما لم يكن في الحسبان؛ إذ ليس على الدهر شيء بعيد الاحتمال والإمكان.
وأول حركة أمل الجميع منها كل بركة، وأيدت قول القائلين بأن غبطة البطريرك سينقاد انقيادا مرضيا، هو ما رآه رجال المجلس ورئيسهم الموقر أنبا إثناسيوس ورجال جمعية التوفيق الموقرة من إكرام غبطته لهم وإحسان وفادتهم، فضلا عن مصالحتهم ومصافحتهم علانية على مرأى ومسمع من الجميع؛ الأمر الذي أحيا ميت آمالهم وانتشلهم من وهدة يأسهم وقنوطهم، فخرجوا من عنده فرحين مسرورين مستبشرين مبتهلين إلى بارئ النسم ورب الجود والكرم أن يديم الحال على هذا المنوال، ولا يصرم حبل تلك الأماني والآمال على ممر الأحقاب والأجيال.
ولكن لما كانت سنة الدهر الغدر وطبيعة الزمن الاعتساف والجور، أبى إلا حرمان أحباء الإصلاح من نوال هذه الأمنية والحصول على تلك البغية؛ إذ قام بعدئذ غبطة البطريرك وحزبه ثانيا ينادون بالويل والثبور، طالبين محو آثار المجلس الملي الغيور الذي لم يجترم جرما ولم يقترف إثما، بل لا ذنب له إلا غيرته على المصالح الملية والصوالح الطائفية، ولا عيب فيه سوى اهتمامه برفع منار الطائفة وإعلاء شأنها عمل تقتضيه المروءة وتستلزمه الذمة، ولكن أين من يتدبر ويتبصر وقد عميت الأبصار وطمست البصائر، ويا ليت إفساد هؤلاء المفسدين كان قاصرا على السعي في إحباط أعمال المجلس وإثباط عزائم رجال التوفيق والإصلاح، بل قد تطاولوا تطاولا زائدا، وحادوا عن جادة الصواب والاعتدال جدا؛ إذ قاموا ينادون بعدم لزوم الوعظ في الكنائس ، كما أنبأت الجرائد المحلية وكما جاء ذلك مفصلا في رسالة «البراهين القوية» التي أصدرتها جمعية التوفيق الأسيوطية؛ إذ لما رأى إخواننا الأقباط الأسيوطيون - وما أدراك من هم - هذا الأمر المعيب المشين، قاموا جميعا ينادون برفض هذا الاقتراح الذميم المشئوم، ويشددون النكير على من ارتأى هذا الرأي الوخيم النتائج، فتليت الخطابات الطنانة الرنانة، ونشرت النشرات العديدة المفيدة التي أدهشت بحسن رقتها ودقتها العقول، ونخص بالذكر منها رسالة الجمعية الأسيوطية التي ألمعنا عنها؛ فإنها أكدت القول وأيدت الموضوع بالبراهين العقلية والنقلية التي أسكتت الخصم، ووضعت في فم المعارض حجرا ضخما حتى جعلته أبكم أصم غارقا في بحر الوهم الخضم.
فانظر وتأمل أيها القارئ النبيل إلى هاتيك الأعمال، ثم احكم بما يتراءى لك؛ فإن الله تعالى لا يحب الإفك ولا يرضى بالضلال. ومما يدل على خبث نية هؤلاء المفسدين أيضا تحرير القرار الإكليريكي الشهير، الذي أتت جمعية التوفيق المركزية الموقرة على دحض ونقض ما انطوى واحتوى عليه من الأراجيف والتمويهات والترهات والتلفيقات في رسالتها «دفع الوهم عن بسيط الفهم»، ومن الغريب أن هذا القرار قد عمل عقب إرجاع غبطة البطريرك من الإبعاد، فكان باكورة إصلاحاته ونفحاته التي عمت وشملت أبناء طائفته صغيرهم وكبيرهم خطيرهم وحقيرهم. فانظر وتأمل!
وبعد مضي أمد ليس بمديد، صدر الأمر العالي الناطق بإعادة السلطة الإدارية إليه، التي كانت قد نزعت من غبطته عدلا وإنصافا، ولا تسل عما أظهره حزبه يومئذ من التظاهرات الصبيانية والإجراءات التغفلية، على أن نص الأمر الكريم يدل دلالة صريحة واضحة على إرجاع تلك السلطة إليه بشرط تعيين أربعة من أبناء الطائفة لمشاركته في تلك الأشغال الإدارية مؤقتا لحين تجديد الانتخاب، وهذه - كما لا يخفى على كل من لم يكن مصابا بمرض الغرض أو ألقى السمع وكان شهيدا - هي بعينها غاية وبغية رجال التوفيق والإصلاح قاطبة، وهو وجود المجلس الملي على كل حال إن عاجلا أو آجلا، وها هي لم تزل عاملة على إنجاز هذا التجديد المنتظر الذي ترجو وتؤمل أن يكون قريبا إن شاء الله تعالى.
الفصل التاسع عشر
رغائب الحزب التوفيقي ومآرب الحزب الإكليريكي
Shafi da ba'a sani ba