Tarihin Al'ummar Qibtiyya
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
Nau'ikan
أما الفريق أو إن شئت قل الحزب الأول يعني أحباء الإصلاح؛ فكانوا لا يرون بدا من إعادة المجلس نظرا لما ظهر لهم منه من النفحات الجلية المفيدة، والثمرات العديدة الحميدة. فبعد أن استمر تعطل المجلس الأول، وانحل أو كاد ينحل، وأهملت الإصلاحات والتنظيمات، وألم بالطائفة ما ألم بها من الآفات، واعتراها عندئذ ما اعتراها من العاهات؛ شق هذا الأمر على سادتنا المصلحين، فلعبت بهم عوامل الغيرة، واستفزتهم بواعث النخوة، فعقدوا النية على انتشال أمتهم من هذه الوهدة العميقة، ولكنهم كانوا يخفون آراءهم ومبادئهم تحت طي الانتظار ظنا منهم بأن الحالة ربما انصلحت من ذاتها، بدون تكبد تعب أو تجشم نصب، ولكن عيل أخيرا صبرهم، ولم يجدوا للكظم والتجلد سبيلا، فنهضوا نهضة ثالثة هي النهضة الأخيرة الشهيرة، التي كانت لها طنة ورنة دوى صداها في الآذان، ولم يسمع بمثلها في كل زمان ومكان، وقد كثر في شأنها القال والقيل، وكتبت بخصوصها المقالات الضافية، ونشرت النشرات المفحمة الشافية، ودونك أيها القارئ اللبيب تفصيل تلك النهضة الثالثة تفصيلا كاملا شاملا.
إنه بعد مضي ثماني سنوات على انتخاب المجلس في الدفعة الثانية كما مر، لم يأت بالنتيجة المقصودة بالذات من وجوده؛ نظرا لعدم رضا غبطة البطريرك عنه، وسعيه في إبطاله وانحلاله، وناهيك أن مدة أربابه كانت قد انتهت وقتئذ قانونيا، فلم يرق هذا التواني الزائد والتراخي الذي تجاوز الحد في أعين الكثير من نبلاء الأمة ونبهائها الغيورين على مصلحتها وإصلاح شئونها، فنهضوا نهضة ثالثة يطالبون بحقهم المقدس ويطلبون تجديد الانتخاب لما اتضح لهم، وظهر أمام أعينهم من الإصلاحات الخطيرة التي قام بها في الماضي خير قيام.
وفي يوم 23 بئونة سنة 1607 قبطية تجمهر منهم جمهور معتبر، مؤلف من نخبة أعيان ووجوه الملة ونبهائها، وحضروا إلى البطريكخانة لمخابرة غبطته بهذا الصدد، ولكن لما كان «سيدنا» قد أصبح يشمئز ويستنكف من اسم المجلس، دار الكلام بينهم وبين غبطته مدة من الزمن على غير جدوى.
ولم يكتف غبطته برفض طلبهم وعدم إجابة دعوتهم، بل حرر أيضا للمعية السنية ولرئاسة مجلس النظار - بناء على ما حسنه لديه الماقتون للمجلس الناقمون عليه - بما شاء من التنديد بالمجلس والطعن فيه وعدم لزومه بالأصالة. أما حضرات أرباب المجلس - أو بالحري متطلبو المجلس - ومن وافقهم على ذلك من نوابغ الأمة ونخبتها، فبالنسبة لتغيب سعادة الباشا الوكيل في أوروبا وتأكدهم من حقد البطريرك على المجلس ولعلمهم بأن البند «32» من لائحة المجلس المشرفة بالأمر العالي مصرح به «أنه عند غياب الرئيس أو وكيله في وقت لزوم الاجتماع يتولى رئاسة المجلس مؤقتا من ينتخبه الأعضاء» فقد رأوا ضرورة الاجتماع طبقا لهذه المادة وانتخاب من يلزم، وبعد أن أجري الانتخاب آل أمر الرئاسة المؤقتة إلى المرحوم الطيب الذكر سعد بك ميخائيل.
ولما أصبح المجلس في حالة منتظمة عقدوا النية على أن يجمعوا جمعية عمومية مؤلفة من نخبة الطائفة بالدار البطريركية، تكون بمثابة لجنة عمومية يرأسها غبطة البطريرك لتجديد الانتخاب بطريقة منتظمة محكمة لا تقبل نقضا ولا إبراما، وكانوا يظنون أن البطريرك يتعطف ويتنازل لإجابة دعوتهم في هذه الدفعة، ولكن خاب ظنهم وساء فألهم؛ إذ إن غبطته حفظه الله ريثما علم أنهم عزموا على ذلك وشرعوا في توزيع رقاع الدعوة، بادر بتحرير رسالة لسعادة محافظ مصر الأكرم، يقول له فيها بأن هذا الاجتماع سيتأتى منه ما يخل بالنظام العام، ويطلب من سعادته إرسال بعض أنفار البوليس حفظا ووقاية له من غدر أبنائه «تأمل! تأمل!» وبما أن واجبات المحافظ تقضي عليه بإجابة مثل هذه الطلبات؛ فقد أرسل رأسا إلى غبطته عددا من أنفار البوليس. أما حضرات أرباب المجلس المحترمون الموقرون فحفظا للكمال وحسما للقيل والقال، امتنعوا هم وإخوانهم المصلحون عن الاجتماع بالأصالة، فلم يقتنع غبطة الأب البطريرك الصالح والراعي الغيور بكل ذلك، بل زاد الطين بلة ووسع الخرق على الراتق؛ إذ لم يكتف برفض طلبهم وتوغير الصدور عليهم، والاستنجاد برجال البوليس على منعهم، بل حرر أيضا إلى جميع المطارنة والأساقفة ورؤساء الأديرة يطلب إليهم الحضور إلى الدار البطريركية. ولم يكن جل قصده من هذا الاجتماع تعديل بعض مواد اللائحة - كما ادعى أولا - بل لكي يستعين بهم على محو آثار المجلس وإطفاء أنواره، فلما اجتمع بهم جميعا طلب إليهم أن يؤازروه ويشاطروه في تنفيذ أغراضه السيئة، فلم يسعهم إلا الرضوخ والإذعان، فحرروا القرار الحكمي المشهور ضد إيجاد المجلس، وسموه بالقرار الإكليريكي، وليس في هذا القرار ما يهم ذكره؛ إذ كله يفيد أن العادة لم تكن جارية في انتخاب مجالس، وأن المجلس مخالف للدين إلى غير ذلك من الخرافات والخزعبلات الصبيانية، ويسرنا هنا أن نقول بملء السرور والانشراح إن البعض من المخلصين الصادقين الذين يقولون الحق وينادون بالصدق على رءوس الأشهاد، غير خاشين في تقرير الحقيقة على علاتها لومة لائم من نفس الإكليروس الذين استحضرهم جنابه، رفضوا موافقته على تحرير هذا القرار مثل جناب القمص الموقر الأغومانوس فيلثاوس وحضرة الفاضل القمص بطرس رئيس كنيسة الملاك بالدير البحري. أما الباقي فأمضوا على هذا القرار - وربما كان أغلبهم يجهل ما فيه - وذلك مرضاة لخاطر رئيسهم وأبيهم؛ مفضلين بيع الذمة والدين والشرف - إن كان عندهم دين أو شرف - على رفض طلبه، غير عالمين أنهم سيقفون يوما ما أمام عرش الديان ويسألون عما جنت أيديهم يوم لا تنفعهم شفاعة غبطته ولا هم يعافون، ولسوف يعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.
وفي اليوم التالي لإنهاء هذا القرار الملفق توجه حضرة البطريرك يصحبه بعض الآباء الرؤساء إلى الإسكندرية؛ ليعرض على المسامع الكريمة والأعتاب الخديوية الفخيمة مرغوباته المعلومة «لأن الخديوي المرحوم توفيق باشا كان مشرق الثغر وقتئذ»، ولكن لما كان سمو الأمير رحمه الله أسمى معرفة من أن يجهل كنه هذه المسألة التي صدرت عنها أوامر خديوية سابقة؛ لم يعر هذه الطلبات جانب الالتفات، ولم يكترث بتلك الترجيات العديمة الثمرة، بل كان مضمون نطقه الشريف وجوب العمل بمقتضى الأوامر الخديوية الماضية .
وفي هذه الأثناء تشرف جملة من أرباب المجلس بالمثول بين يدي سموه، وسمعوا بآذانهم النطق الكريم بما يفيد تأييد استمرار المجلس؛ طبقا للأوامر العلية واستحسان مصالحة جناب البطريرك على هذه الصفة، فقدموا جميعا واجبات الشكر، وفرائض الإخلاص والعبودية للحضرة الفخيمة الخديوية، وانصرفوا وكلهم ألسنة تلهج بالثناء وتكرر عبارات المديح والدعاء.
ولما عاد سعادة الباشا من أوروبا ورأى ما رأى وعلم ما علم، اقتضت حكمته وسياسته أن يوفق بين الطرفين المتنازعين؛ لعلمه بأن هذه أنجع وسيلة وأنفع طريقة تؤدي إلى رفع شأن الملة، وإتمام الإصلاح المقصود بالذات، فتمكن بما جبل عليه من الحزم والعزم والهمة والحكمة إلى إزالة الخلاف والشقاق، وإعادة الائتلاف والوفاق. وفي يوم 22 بابة سنة 1608 اجتمع أرباب المجلس يتقدمهم سعادة الباشا المومأ إليه بالدار البطريركية، وعقدوا جلسة حضرها غبطة البطريرك وترأس عليها، وبهذه الجلسة نفسها أعلن الصلح والصفاء بين غبطته وأبناء أمته، ولكن لما كان هذا الإخماد وقتيا ظاهريا فقط، لم يلبث أن تبدل ثانيا؛ إذ عاد جناب البطريرك إلى نفرته وبغضته للمجلس وعدم ميله إليه بالمرة، وقد بذل حينئذ وجهاء الطائفة ونبهاؤها وفي مقدمتهم «جمعية التوفيق» الموقرة الغيورة التي كانت برزت وقتئذ تختال في حلل العدالة، وترفل في ثياب الحرية، وتجر مطارف الغيرة والمروءة، فحلت محل جمعية الإصلاح التي مر ذكرها في تاريخ النهضة الأولى وقامت مقامها، ولكن لم يجد ذلك كله نفعا، بل ذهبت تلك المساعي جميعها هباء منثورا؛ لأن غبطته ومن كان على شاكلته من زعماء الفساد ونصراء الخراب والدمار قد اجتمعوا وصمموا على رفض قبول المجلس رفضا قطعيا. وناهيك ما نشرته جمعية التوفيق المذكورة في تلك الأثناء من النشرات المفحمة والمقالات المردعة المقنعة، التي كان الغرض من نشرها على أبناء الأمة رفع القناع ونزع النقاب عن محيا الحقيقة؛ تنويرا للأذهان وتقريرا للحقائق، ولكنها لم تكن إلا لتزيد هؤلاء الأغبياء تكبرا وتجبرا؛ فقد أبوا إلا تكدير صفو راحة أمتهم وعدم الانقياد لصوت الحق الصادح.
ولما تفاقم الخطب وتعاظم الكرب عرضت هذه المسألة أخيرا على الحكومة السنية عقب وفاة الخديوي المرحوم توفيق باشا، فلما وقف سمو الأمير الخطير، والمولى الحازم البصير خديوينا العباس - حفظه الله - على كنه هذه المسألة وماهيتها من بدايتها إلى نهايتها؛ تفضل بصدور أمره الكريم، القاضي بإعادة تجديد انتخاب المجلس بحضور مندوب من قبل الحكومة، وقد تم ذلك الانتخاب فعلا بالدار البطريركية بطريقة علنية رسمية، بحضور الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء الأمة بالعاصمة، وعدد عديد أيضا من جهات الأرياف الذين وفدوا إليها لهذه الغاية نفسها.
ولما انتظم عقد هذا الاحتفال الحافل قام سعادة المحافظ، وأفصح للحضور عن الغرض من الاجتماع فقال ما مؤداه:
Shafi da ba'a sani ba