ويظهر للمطالع من هذه التفصيلات أن مركزه كان من أحرج المراكز، وموقفه من أصعب المواقف بتوغله في إيطاليا بدون أن يحفظ لنفسه خط اتصال بينه وبين قرطاجة برا أو بحرا، ولذلك كان الرومانيون معتقدين بقرب الانتصار عليه وإهلاكه مع من بقي معه من الجنود لو اتبعوا الصبر والحكمة، ولم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة كما فعل القواد السابقون في المواقع السالفة.
فانتخبوا فابيوس القائد الذي اشتهر في أول هذه الحرب بالتؤدة وعدم التهور قنصلا لسنة 217 قبل المسيح وأعادوا انتخابه في السنة التالية، وفي خلال هاتين السنتين أتى من ضروب الحكمة وفنون القتال ما جعل أنيبال في خطر عظيم وأوقعه في حيص بيص؛ إذ أحاطت به الفيالق الرومانية من جميع الجهات إحاطة السوار بالمعصم، واحتلت أغلب البلاد التي فتحها وضايقت عليه الحصار في مدينة (كابوا) وقطعت مواصلاته مع الخارج كلية، وكادت تجهز عليه قطعيا لولا ما استعمله من السياسة في إهاجة مدينة (سيراكوزة) على الرومانيين بدسائسه، واستعانته بفيليب ملك مقدونية ووالد إسكندر الأكبر مما سنذكره بعد قليل.
ولقد أتى الرومانيون في هذه الظروف الحرجة ما يجب على كل أمة اتخاذه نموذجا تنسج على منواله، وقدوة حسنة تقتدي بها في محبة الوطن العزيز وبذل الروح لا المال لإنقاذه من الخطر أو استخلاصه من مخالب الأجانب، فكل أمة سهل عليها إفداء وطنها بأرواحها حفظت استقلالها وعاشت سعيدة سعادة حقيقة، وكل أمة استسهلت تحمل سيطرة الأجنبي على إدارتها واستخفت ثقيل وطأته على هامتها؛ فقدت استقلالها لا محالة وسارت إلى طريق الموت الأدبي والمادي، حيث لا ينفعها ما ضنت به من المال ولا ما احتفظت عليه من الأرواح.
ولما كانت الأمة الرومانية قد أشربت هذه الإحساسات الوطنية والعواطف الملية سهل عليها صرف الأموال، وبذل المهج والأرواح في سبيل حماية بلادها وطرد الأجنبي من المواقع التي احتلها، فقبلت مضاعفة الضرائب بأنواعها وقدمت كل ما لدى نسائها من الحلي والمصاغ تبرعا لينفق في تعبئة الجيوش وتسليحها، وأصدر السناتو قرارا بأنه لا يجوز لأي سيدة من السيدات إحراز مصاغ من الذهب يزيد وزنه على نصف أوقية، وقدم الأغنياء كل ما عندهم من الأرقاء ليدمجوا ضمن الجند، وتبرعوا بثمنهم ومنحوا الحرية لمن يعود من الحرب منهم سالما، ومنهم من تبرع بمؤونة عدد معين من الجند مدة سنة إلى غير ذلك من أنواع المساعدات والتبرعات التي أملتها وطنيتهم على قلوبهم، حتى أمكن الحكومة جمع نحو مائتين وخمسين ألف جندي، وتشييد ما يلزم من السفن لمنع أي اتصال بين أنيبال وقرطاجة ونقل الجيوش الرومانية إلى إسبانيا لمساعدة القائد (سيبيون) على محاربة القرطاجيين هناك، ولولا وطنية الأهالي وتفضيلهم الموت على مذلة تسلط الأجنبي لما أمكن الحكومة إتيان أي عمل من ذلك.
هذا؛ ولم تفد أنيبال مساعيه في إثارة حاكم سيراكوزة بجزيرة صقلية المدعو هيبرون، فإنه لم يلب دعوته إلى محاربة الرومانيين، بل حافظ على ولائهم في أيام شدتهم محافظته عليه في أيام سعادتهم، وكذلك لم ينجح القرطاجيون في مهاجمتهم جزيرة سردينيا ليحولوا أنظار الرومانيين عن أنيبال نوعا، ويضطرونهم لإرسال بعض جيوشهم للمحافظة عليها، وأخيرا لم تفده حيلته الثالثة وهي الاستنجاد بفيليب المقدوني، فإن الرومانيين هاجموه حين استعداده لمهاجمتهم ببلاد اليريا فهزموه واضطروه إلى العودة لبلاده مخذولا، وبذلك لم يبق لأنيبال خلاص من الموقف الحرج الذي وجد فيه بسبب طيشه، وثقته الزائدة في قوة جيوشه، وتفننه في ضروب الحرب إلا الاتكال على من بقي معه من الجيوش بدون انتظار وصول مدد إليه من قرطاجة بسبب محاصرة الرومانيين لجميع الثغور كما قدمنا.
ولقد تمكن أنيبال من الخروج من مدينة (كابوا) قبل إتمام الحصار عليها، وأخذ يناوش الرومانيين كي يتبعوه في الأماكن السهلة فينقض عليهم بفرسانه المشهورة، لكن أعياه صبر الرومانيين الذين التزموا خطة التسويف في الحرب على مذهب رئيسهم فابيوس.
هذا؛ ولما مات هيبرون حاكم سيراكوزة وقتل ولده بعده أمكن أنيبال أن يهيج الأهالي ويبث فيهم روح الثورة والعصيان، فثاروا على حكامهم المسالمين لرومة وأعلنوا الحكومة الجمهورية واتحدوا مع قرطاجة ضد الرومانيين، فحاربهم القائد الروماني (مارسللوس) وانتصر عليهم بعد العناء والتعب، وافتتح مدينة سيراكوزة سنة 212 وقتل أثناء الهجوم عليها الرياضي الشهير أرخميدس (Archimède)
وطرد القرطاجيين الذين أتوا لمساعدتهم على الرومانيين، ولم تعد هذه الفتنة بأقل فائدة على أنيبال.
وفي سنة 209 أعيد انتخاب فابيوس لقيادة الجيش فاستخلص مدينة ترنته من القرطاجيين، وكانت هذه الحادثة خاتمة أعماله الحربية إذ لم ينتخب بعد ذلك إلى أن توفي سنة 205 قبل المسيح.
ولقد امتاز (كرنوليوس سيبيون) وأخوه في محاربة القرطاجيين في إسبانيا والانتصار على ازدروبال أخي أنيبال في عدة وقائع شهيرة، وكان النصر حليفهم دائما إلى سنة 212 حيث قتلا في إحدى هذه الحروب العديدة، وكان لأحدهما كورنيليوس ولد يدعى (بوبليوس) اشتهر فيما بعد باسم سيبيون الإفريقي كان خير ولد لخير والد فإنه حفظ اسم أبيه وعمه، بل فاق عليهم في الشهرة وبعد الصيت إذ كان انتهاء هذه الحرب بحسن تدبيره وبعد نظره كما سترى.
Shafi da ba'a sani ba