مقدمة
القسم الأول: من سنة 754ق.م إلى سنة 510ق.م
تأسيس مدينة رومة
الملك نومابونبيليوس
الملك أنكوس مارسيوس
الملك تركان الأول
الملك سرفيوس تليوس
الملك تركان الثاني
القسم الثاني: الحكومة الجمهورية
تأسيس الجمهورية
نظامات الرومانيين الأولى
الجمهورية في عهد القناصل الأشراف
خيانة كوريولان
حكومة العشرة وحصول الشعب على المساواة في الأمور المدنية
إغارة الغاليين (الجلالقة) على رومة
حصول الشعب على المساواة في الحقوق السياسية
فتح إيطاليا
إدارة وتنظيم الأقاليم الإيطالية
الحرب البونيقية الأولى
إغارة بعض قبائل الغاليين على رومة
الحرب البونيقية الثانية
حرب مقدونية
محاربة أنتيوكوس ملك الشام
بعض حروب أخرى
محاربة مقدونية وجعلها ولاية رومانية
زوال ملك قرطاجة وخرابها
مقدمة
القسم الأول: من سنة 754ق.م إلى سنة 510ق.م
تأسيس مدينة رومة
الملك نومابونبيليوس
الملك أنكوس مارسيوس
الملك تركان الأول
الملك سرفيوس تليوس
الملك تركان الثاني
القسم الثاني: الحكومة الجمهورية
تأسيس الجمهورية
نظامات الرومانيين الأولى
الجمهورية في عهد القناصل الأشراف
خيانة كوريولان
حكومة العشرة وحصول الشعب على المساواة في الأمور المدنية
إغارة الغاليين (الجلالقة) على رومة
حصول الشعب على المساواة في الحقوق السياسية
فتح إيطاليا
إدارة وتنظيم الأقاليم الإيطالية
الحرب البونيقية الأولى
إغارة بعض قبائل الغاليين على رومة
الحرب البونيقية الثانية
حرب مقدونية
محاربة أنتيوكوس ملك الشام
بعض حروب أخرى
محاربة مقدونية وجعلها ولاية رومانية
زوال ملك قرطاجة وخرابها
تاريخ الرومانيين
تاريخ الرومانيين
تأليف
محمد فريد
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا مرية في أن مطالعة التاريخ من أهم الأمور التي تثقف العقول وتهذب الأخلاق وتنمي العواطف الوطنية في الشعوب؛ إذ بواسطته يقف الإنسان على أسباب ارتقاء الأمم فيتبعها، ويعلم كنه موجبات انحطاطها فيجتنبها؛ ولذلك حض العقلاء على درسه درسا فلسفيا لا الاكتفاء بحفظ بعض تواريخ الوقائع وأسماء الملوك وسردها عن ظهر قلب، بل بالبحث والتنقيب عن أسباب كل حادث والوقوف على حقيقتها وربط الحوادث ببعضها، ولكي يتمكن المطالع من الاستفادة من مطالعته يجب على كاتب التاريخ أن يراعي كل هذه الملحوظات عند كتابته حتى يأتي بالغرض المقصود وتكون مطالعته مفيدة للأهل والوطن.
هذا ولما كان تاريخ الرومانيين مفعما بالحوادث الصادرة عن حب الوطن والإخلاص له والتفاني في خدمته والتهالك في الدفاع عنه والذود عن حوضه، وكانت مطالعته واجبة على كل من يريد معرفة طرق تقدم الأمم وارتقائها، وكيف تنال الحرية والاستقلال بالدفاع عن حقوقها قبل كل معتد ظالم، والاتحاد على ما فيه خير وطنهم وفلاحه وجمع كلمتهم أمام الأجنبي المهاجم والدخيل المزاحم، ونبذ النفاق والشقاق من بينهم ليكونوا يدا واحدة لإعلاء شأن الوطن وبنيه؛ أردت أن ألخص تاريخ هذه الأمة التي ملكت أغلب جهات المسكونة، وامتدت حدود أملاكها من المحيط الأتلانطيقي غربا إلى جبال القوقاز شرقا؛ أي من الدرجة 12 غرب باريس إلى الدرجة 40 شرقا، عبارة عن 52 درجة، ومن بلاد بريطانيا (إنكلترا) شمالا إلى أصوان جنوبا؛ أي من الدرجة 23 إلى الدرجة 53 عرضا، مبتدئا هذا التاريخ من تأسيس مدينة رومة - عاصمة هذه المملكة - في سنة 754 قبل الميلاد إلى يوم دخول مدينة القسطنطينية (الأستانة) في حوزة دولة آل عثمان في سبتمبر سنة 1453 بعد الميلاد، وقد قسمته إلى خمسة أقسام: الأول من تأسيس رومة إلى سقوط الملوكية وتأسيس الجمهورية، والثاني يحتوي على تاريخ الجمهورية الرومانية إلى عهد استئثار أغسطس بالحكومة وتأسيس الحكومة الإمبراطورية، والثالث ينتهي إلى تقسيم الدولة الرومانية إلى دولتين شرقية وتختها بيزنطة التي سميت فيما بعد القسطنطينية وهي الأستانة، وغربية وتختها رومة، والرابع يحتوي على تاريخ المملكة الغربية إلى يوم انقراضها بتوالي هجمات المتبربرين عليها، والخامس على تاريخ الدولة الشرقية ليوم دخول السلطان الغازي محمد الثاني العثماني الملقب بالفاتح الأستانة، وجعلها عاصمة لدولة آل عثمان.
القسم الأول
من سنة 754ق.م إلى سنة 510ق.م
تأسيس مدينة رومة
لا بد وأن يكون أصل مدينة رومة كأصل باقي مدن العالم؛ أي بعض أكواخ حقيرة لصيادي الأسماك على ضفاف نهر (التبر)، ثم أخذت تكبر شيئا فشيئا كلما ارتقى سكانها في عالم التمدن إلى أن وصلت تلك الدرجة العلياء، وصارت تلك المدينة الشماء التي تفاخر الشعراء في مدحها ، وتبارى الكتاب في وصف مبانيها العمومية وحركتها العلمية والتجارية، لكن لما كان دأب كل أمة غمض أصل تاريخها أن تضع لنفسها تاريخا وهميا كما تزينه لها مخيلتها، فينتسب بعضها إلى جبابرة اشتهروا بالقوة والبأس، والبعض الأخر إلى بعض الملائكة أو النجوم أو إلى آلهتهم الخيالية ترفعا عن عامة الأمم، ولزيادة التأثير على عقول أفرادها، كذلك وضع مؤرخو مدينة رومة الأولون الخرافة الآتية ناسبين إليها تأسيس عاصمة دولتهم، ونحن ننقلها على علاتها مع عدم اعتقادنا بصحتها أصلا كما يرى المطالع.
قالوا إنه لما خربت مدينة (طروادة) وصارت أثرا بعد عين؛ هاجر منها (إينيه) مستصحبا معه ولده (اسكاني) وأصنام المدينة ونزل بساحل بلاد اللاتينيين، فأكرم ملكها المدعو (لاسيوس) وفادته، وزوجه ابنته (لافيينيا)، وأقطعه أرضا فسيحة بنى فيها مدينة ودعاها لافينيوم نسبة لزوجته، فصار حليفه ومن أهم أعوانه في حروبه مع مجاوريه، واستمر على ذلك مدة إلى أن اختفى في إحدى الوقائع الحربية؛ فظن الأهالي أنه صعد إلى السماء وعبدوه باسم (جوبيتر انديجيت).
ثم ترك ابنه (اسكاني) مدينة (لافينيوم) لرداءة موقعها وأسس مدينة (ألبه) على جبل (البانو) أحد الجبال القائمة عليها مدينة رومة، وبعد وفاته تعاقب عليها سبعة ملوك من نسله أعقب سابعهم ولدين (نوميتور) و(أموليوس)، وكان الملك بحكم الوراثة لأرشدهم وهو الأول، فلم يرق ذلك في عين أخيه (أموليوس)، بل استأثر بأغلب أملاك والده ولم يترك لأخيه الأكبر إلا شيئا قليلا، وقتل ابنه ووضع بنته (سلفيا) في أحد أديرة راهبات (فستا) حتى لا يعقب أخوه من يرثه في الملك، وتنحصر السلطنة في أعقابه دون أخيه الأكبر، وبينما كانت سلفيا تدلي دلوها في إحدى الآبار المقدسة؛ إذ تجلى لها الإله (المريخ) ونفخ فيها من روحه؛ فحملت ووضعت غلامين فقتلت بناء على قوانين راهبات (فستا)، وألقي ولداها في نهر (التبر) فحملتهما أمواجه إلى أن رسيا تحت ظل شجرة، فأتت ذئبة على صوتهما وأرضعتهما على مرأى من أحد رعاة الملك عمهما واسمه (فستولوس)، فحملهما الراعي إلى زوجته (أكالورنسيا ) فدعتهما (رومولوس) و(ريموس)، واعتنت بتربيتهما مع أولادها حتى بلغا أشدهما بين الرعاة، وتشاجرا ذات يوم مع رعاة أحد أغنياء القوم المسمى (نوميتور) فقادهما أمام سيده فأعجب بشجاعتهما وشدة تشابههما؛ ولذلك أخذ يبحث عن أصلهما وصحة نسبهما حتى وصل إلى الحقيقة وأعلمهما بها، فتألبا مع باقي الرعاة على عمهما (أموليوس) وقتلوه، وولوا مكانه على مدينة ألبه سيدهم (نوميتور)؛ فأقطعهما قطعة عظيمة من الأرض على شاطئ نهر التبر فعزما على بناء مدينة عظيمة تكون لهما ولذريتهما، لكنهما اختلفا في أيهما يقوم ببنائها.
وبعد الجدال اتفقا على أن يصعد كل منهما على ربوة ومعه جماعة بصفة شهود، ومن يرى منهما طيورا أكثر من الثاني يكون أحق ببناء المدينة، فرأى ريموس ستة عقبان ورأى رومولوس اثني عشر؛ ولذلك تقرر أن يخط رومولوس أساس المدينة، فعلق ثورا وعجلة في محراث وشق به الأرض حول مرتفع (بالاتينو) علامة على سور المدينة الجديدة، وكان ذلك على ما جاء في كتب الرواة فى 21 أبريل سنة 754ق.م، ثم أخذ في بناء السور، ولما ارتفع قليلا وثب ريموس من عليه استهزاء فقتله رومولوس بيده قائلا: فليمت هكذا كل من يجترئ على الاعتداء عليها، وقيل غير ذلك، لكن هذه الرواية هي المتفق عليها تقريبا، ومن ذلك الحين صار رومولوس ملكا منفردا على مدينته الجديدة التي سماها (رومة) نسبة له وتخليدا لاسمه، وأباح الإقامة فيها لكل من لجأ إليها من الأمم الأخرى من المدنيين الفارين من وجه العدالة، فتوارد المهاجرون إليها من كل فج حتى كثر عدد الرجال عن النساء زيادة عظيمة، وامتنع المجاورون إليهم من مصاهرتهم لكون أغلبهم من الأخلاط الذين لا خلاق لهم، فاضطر رومولوس إلى تدبير طريقة لتكثير عدد النساء، واتفق مع رجاله على دعوة القبائل المجاورة لهم إلى احتفال عظيم يقيمونه إكراما لأحد آلهتهم وسبي بناتهم عنوة أثناء الاحتفال، فنجحت هذه الطريقة وتزوج جميع رجاله، ولما عاد أقارب المسبيات لاستخلاص نسائهم وبناتهم ووقع القتال بين الطرفين؛ توسطت النسوة بين أزواجهن الرومانيين وأقاربهن، ومنعن القتال وأصلحن ذات بينهم، وبذلك زالت الكراهة والبغضاء من بينهم ، وساد الاتفاق وأخذت رومة تخطو في سبيل التقدم بسرعة غريبة حتى سعى مجاوروها إلى محالفتها، وتعاهد (تيتوس) ملك السابيين مع رومولوس على محاربة أعدائهم.
ويروى أن إحدى الرومانيات واسمها (نزبيا) لما رأت السابيين مقبلين أثناء الحرب وبأيديهم اليمنى أساور من ذهب؛ عرضت عليهم أن تفتح لهم أحد الأبواب إذا أعطوها ما بأيديهم اليمنى فقبلوا، وبعد أن فتحت لهم الباب ألقوا عليها الدرق الحديد الذي كان بأيديهم؛ فماتت فريسة خيانتها لوطنها، ويغلب على الظن أن هذه الحادثة موضوعة إظهارا لبشاعة خيانة الوطن، وأن العدو والغالب يلفظ خائن وطنه لفظ النواة بعد أن يستعمله آلة لنفاذ أغراضه؛ إذ لا يركن عاقل لمن خان وطنه الذي تحض جميع الشرائع على محبته والتفاني في الدفاع عنه.
هذا وبعد ذلك بخمس سنوات قتل تيتوس ملك السابيين فاختاروا رومولوس ملكا عليهم، وانتصروا باتحادهم على معاديهم من الأمم المجاورة، وعلا شأن رومولوس بين الأهالي حتى توجس أعيانهم خيفة منه، وخشوا أن يستبد فيهم فقتلوه، وأشاعوا أنه صعد إلى السماء على عربة إلههم المريخ في وسط الرعد والبرق، فصدق العموم هذه الرواية لسذاجتهم وعدوا رومولوس من ضمن آلهتهم العديدة، وعبدوه باسم (كويرينوس) وكان موته في سنة 715ق.م.
الملك نومابونبيليوس
لم يتفق الرومانيون والسابنيون على انتخاب خلف لرومولوس، واستمر هذا الشقاق مدة سنة كان الأمر في خلالها لأعضاء مجلس الأعيان (سناتو) بالتتابع، وأخيرا اتفقت الأمتان على أن يكون حق الانتخاب للرومانيين بشرط أن لا ينتخبوا إلا سابينيا؛ فانتخب (نومابونبيليوس) وكان رجلا محبا للسلم لم تحصل في أيامه حروب مطلقا، بل صرف مدة حكمه الذي استمر ثلاثا وأربعين سنة في تشجيع الزراعة، وتحديد الأطيان حتى لا يتنازع المتجاورون، ومنع تمثيل معبوداتهم بأصنام، وحرم قتل ابن آدم قربانا لهم كما كان جاريا قبلا، ورتب الاحتفالات الدينية وعين وظائف الكهنة والمنجمين، وأصلح نظام راهبات (فستا) اللاتي كن ينتخبن من بنات أشرف العائلات لحفظ النار المقدسة، ومداومة إشعالها حتى لا تطفأ أبدا، والمحافظة على (البلاديوم ) الذي أتى به (إينيه) من طروادة.
ولحبه في السلم ومقته للحرب أقام معبدا (ليانوس) إله السلم تفتح أبوابه وقت الحرب وتقفل وقت السلم، فلم تفتح في أيامه مطلقا، وكان يعتقد الرومانيون أن له صديقة من الجن تدعى (إيجيري) تساعده بالأفكار الصائبة، وتوحي إليه بالأعمال المفيدة.
وينسب إليه إصلاح السنة الشمسية التي كانت قبله من عشرة شهور فقط، فضبطها وجعلها اثني عشر شهرا تابعة لدورة الأرض حول الشمس لانتظام مواعيد الزراعة، ولا يعلم من تاريخه غير ذلك وتوفي سنة 672ق.م.
وذهب بعض المؤرخين الحديثين - مثل بوفور الفرنساوي ونيبور الألماني - إلى أن هذا الملك لم يوجد إلا في مخيلة مؤرخي الرومان، وأنه لم يحكم رومة ملك بهذا الاسم، بل إن اسمه يمثل فقط دور التشريع والتقنين في أول عصر الرومانيين، واستندوا في قولهم هذا على أن اسم نوما مشتق من الكلمة اليونانية نوموس، ومعناها الشرع أو القانون.
وبعد وفاة نومابومبليوس انتخب الأهالي تلوس هوستليوس ملكا عليهم، وكان بعكس سلفه محبا للحرب وشن الغارة على مجاوريه لسلب الماشية والأمتعة واغتصاب الأراضي، إلا أنه كان ميالا لمساعدة الفقراء من الأهالي، فكان يقسم عليهم أراضي القبائل التي تدور عليها رحى الحرب، وأخيرا حصلت بينه وبين سكان ألبه عدة وقائع صغيرة أصلها اختطاف بعض المواشي والتعدي على الحدود أوجبت إشهار الحرب، لكن لما كانت علاقات المودة بين مدينتي رومة وألبه قديمة جدا وكانت مدينة رومة في الأصل مستعمرة لمدينة ألبه - كما سبق - لم يرغب تلوس هوستليوس إيقاد نيران الحرب بين أهالي المدينتين، بل ارتأى أن ينوب عن كل فريق ثلاثة أبطال يتبارزون معا، ومن يفوز مندوبوها بالفوز والنصر تكون هي الغالبة، فانتخب الرومانيون ثلاثة إخوة من عائلة (هوراس) والألبيون ثلاثة من عائلة (كورياس)، وفي أثناء المبارزة قتل اثنان من مندوبي رومة، وبقي الثالث حافظا لجميع قوته أمام مندوبي ألبه الثلاثة الذين كانوا أثخنوا بالجراح، فأخذ مندوب رومة في العدو مظهرا الفرار أمام أعدائه الثلاثة فتبعوه، ولما تباعدوا عن بعضهم عاد إليهم فقتلهم الثلاثة بالتتابع، وبذلك تم الظفر للرومانيين على الألبيين.
ومما رواه بعض قدماء المؤرخين نقلا عن السلف أن أخت الهوراس مندوب رومة المسماة (كامليه) كانت مخطوبة لأحد مندوبي ألبه الذين قتلوا، فأخذت تبكي وتنتحب على موته فغضب عليها أخوها ووبخها على البكاء وقتلها بيده، ولم تمنعه المحبة الأخوية عن إتيان هذا الأمر العظيم تغاليا في حب الوطن والدفاع عنه، فحكم عليه بالإعدام على هذه الجريمة، لكن تجمهر الأهالي وطلبوا العفو عنه نظير خدمته لوطنه وأهله وفوزه على أعدائه فعفي عنه، ويظهر لي أن هذه الرواية من الأقاصيص الموضوعة إظهارا لقوة حب الوطن ووجوب تغلبه على ما عداه من الإحساسات الشريفة، وتضحية كل غال ولو كان من أقرب الناس إلى الإنسان في سبيل خدمته الشريفة.
ولقد اتخذ راسين الشاعر الفرنساوي المفلق هذه الحادثة موضوعا لإحدى رواياته المحزنة ترجمت إلى جميع اللغات، لكن لا أظن أنها نقلت إلى اللغة العربية للآن.
وبعد ذلك تحالفت مدينتا رومة وألبه بشرط أن تكون السيادة لرومة على الأخرى، لكن لم يستمر هذا التحالف إلا قليلا؛ إذ كانت ألبه تضمر العداء لرومة وتنتظر الفرصة المناسبة للحصول على الاستقلال التام، وظهر ما تكنه ألبه من العدوان في أثناء محاربة جرت بين الرومانيين وبعض القبائل المجاورة، فلم يساعد أميرها حلفاءه، بل تربص ينتظر نتيجة القتال حتى إن دارت الدائرة على الرومانيين انقض عليهم وساعد أعداءهم، إلا أن فأله لم يصب فانتصر الرومانيون، وانتقم توليوس هوستليوس من أمير ألبه بالقتل نظير تذبذبه وعدم إخلاصه وخرب مدينته، فصارت أثرا بعد عين ونقل سكانها إلى أحد أحياء رومة واستمالهم إليه بأن قبل أشرافهم في مجلس الشيوخ وأغنياءهم في زمرة الشوالية، وسيأتي شرح امتيازات هذه الفئة في موضعه.
ولم تكن هذه الواقعة آخر محاربات هذا الملك، بل حارب كثيرا من القبائل، وانتصر عليها نصرا مبينا في وقائع متعددة؛ حتى صار لرومة المقام الأسمى بين المدن المجاورة وخشيها القريب والبعيد.
وينسب للملك المذكور عدم الاعتناء بأمور دينه وعدم اتباع أوامره واجتناب نواهيه وإهمال عبادة الأصنام المعتبرة لدى قومه ، ولذلك يدعي الرواة أنه استحق غضب معبوداته فأنزلت عليه الصواعق المحرقة أهلكته ودمرت قصره تدميرا، ولم يوقف لجثته على أثر، وكان اختفاؤه أو موته في سنة640 قبل الميلاد.
الملك أنكوس مارسيوس
وولي بعده (أنكوس مارسيوس) ويقال إنه حفيد نومابومبليوس ثاني ملوك الرومان، وكان مثل جده ميالا للسلم محبا للسكينة التي تساعد على تقدم أسباب العمران ونمو الزراعة والصناعة، فنشط الزراعة ونقش القوانين المعمول بها على ألواح، وعلقها في محل اجتماع الأهالي المسمى بالفوروم، وأعاد ما اختل من نظام عبادتهم في عهد سالفه، وشدد في مراعاة قواعده لتحققه أن الدين مهما كان فاسدا ضروري لكبح جماح الأهالي، ومنعهم عن الإخلال بالراحة العمومية لأمره بإطاعة ولاة الأمور والرضوخ لأوامرهم.
لكن لم يمنعه حبه للسلم من الحرب والقتال خصوصا مع اللاتين الذين نكثوا المواثيق وخانوا العهود، فاضطر لمحاربتهم وإقماعهم بعد قتال عنيف، ولما فاز عليهم بالنصر المبين دمر أربعة من مدائنهم، ونقل سكانها إلى رومة، وأسكنهم على مرتفع (أفانتان)؛ فاتسعت المدينة اتساعا عظيما، وأقام أول جسر (كوبري) على نهر التبر وحفر مينا (أوستيه) لتسهيل التجارة، ونقل البضائع إلى رومة؛ فاتسع العمار وكثرت المساكن على الشاطئ الأيمن، والتزم (أنكوس) أن يقيم حصنا منيعا على مرتفع (جانيكول) لحماية الجسر، وصد غارات العدو عنه، وخد خندقا عميقا لمنع كل عدو مهاجم يحيط بجميع المساكن القائمة على الشاطئ الأيمن، ولما كثرت أهالي المدينة بسبب إقامة الألبيين وسكان مدائن اللاتين الأربع، وكثر ارتكاب الجرائم وتعدد التعدي على الأموال والأرواح بسبب اختلاف الأجناس واختلاطهم؛ أنشأ (أنكوس) سجنا تحت الفورم لمرتكبي الجرائم الكبيرة، وبالاختصار نمت المدينة وارتقت في أيامه، وعلا شأنها واشتهر اسمها، وتوفي سنة 616 قبل المسيح.
الملك تركان الأول
وفي مدة ملكه أتى المدينة رجل أجنبي من أهالي (كورنثه) ببلاد اليونان هجر أوطانه، وترك خلانه مع أبيه (ديماراث) هربا من استبداد عائلة (سيبسيلوس)، واستوطن مدينة (تركرينيه) إحدى مدائن الأتروسك، ثم ارتحل عنها إلى مدينة رومة، ولشدة ذكائه وقوة دهائه استمال إليه الملك أنكوس والأمة الرومانية حتى جعله الملك وصيا على أولاده من بعده، وانتخبه الأهالي ملكا عليهم بعد وفاته ، واشتهر في التاريخ باسم (تركان) نسبة للبلد التي أتى منها إلى رومة ولقب بالقديم، وفي أيامه ازدادت رومة بهجة وبهاء وحسنا ورواء؛ فجفف أرض (الفورم) حيث كانت تغمره مياه التبر أيام فيضانه وطغيانه، وأحاطه بأروقة جميلة على أعمدة ظريفة، وخصصه لاجتماعات الأهالي العمومية سياسية كانت أو مختصة بالأعياد وأوقات الملاهي، وأحاط المدينة على اتساعها بسور منيع من الحجر الصلد أدخل ضمنه جميع المباني الحديثة؛ لتكون في أمن من كل طارئ، وابتدأ في بناء (الكابيتول)
1
ومهد أرض المحل المعد للألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها (سرك)، وغير ذلك من الأعمال الجسيمة ذات المنفعة العامة، خصوصا المجاري العظيمة التي بناها تحت المدينة لتصريف أقذارها، والباقية آثارها إلى الآن تشهد لبانيها بعلو المدارك وارتفاع الشان.
ولقد استعان على تتميم هذه الأعمال العظيمة بما أخذه في حروبه العديدة مع السابيين واللاتين من الأموال الطائلة والغنائم الهائلة، وتغلب أيضا على أمة (الأتروسك) التي كانت أرقى من الأمة الرومانية في سلم التمدن، ولما كانت القاعدة التاريخية أن الأمة الغالبة تتعود بعوائد الأمة المغلوبة، وتتخلق بأخلاقها إذا كانت أرقى منها حضارة وأرفع تمدنا اقتبس الرومانيون من الأتروسك عوائد كثيرة؛ منها المواكب الانتصارية التي كان يحتفل بها عند عودة الملك إلى المدينة عقب انتصاره على الأعداء، فكان يدخل المدينة لابسا الحلة الأرجوانية والنجوم مزركشة عليها، راكبا عربة تجرها أربعة من الخيول البيضاء، يتقدمه حملة البلط المربوطة حول يدها العصي علامة على السلطة والقوة، وبعد أن حكم نحو أربعين سنة تآمر أولاد أنكوس الملك السابق على قتله انتقاما منه على اختلاسه الملك، فأوعزوا إلى اثنين من الرعاة بالتظاهر بالمشاجرة قريبا من قصر الملك حين وجوده به حتى إذا استدعاهما أمامه قتلاه، وقد تم الأمر كما اتفقا عليه وأراداه وضرب أحدهما الملك بآلة قاطعة قاتلة فشج رأسه ومات لحينه.
هوامش
الملك سرفيوس تليوس
لكن أخفت امرأته (تناكويلا) التي كانت مشهورة بالسياسة والدهاء خبر موته، وأذاعت أن الملك جريح فقط وحالته ليست خطرة، وأنه كلف صهره (سرفيوس تليوس) بإدارة مهام الحكومة ريثما يتم شفاؤه، وبعد مضي بضعة أيام على هذه الحادثة استمالت في خلالها أعضاء السناتو إلى قبول صهرها بصفة ملك، أعلنت وفاة زوجها ولم تفد تلك المكيدة أولاد الملك (أنكوس) شيئا، وكان ذلك سنة 578ق.م تقريبا.
ومما ينسب عمله إلى تركان من الإصلاحات أنه قرر بقبول مائة شخص من عامة الأهالي في مجلس السناتو، وزيادة زمرة الشفالية ثلاث فرق، ولما لامته الأشراف على ذلك استعان على إقناعهم بقوة المنجمين الذين قالوا إن الآلهة راضية عن هذا الإصلاح فامتثل الأشراف، وصارت أقوال المنجمين أكبر عضد للحكومة لتنفيذ مشروعاتها كلما أنست معارضة من بعض طبقات الأمة هذه.
أما (سرفيوس تليوس) فلم يعلم أصله بالتحقيق فقال بعضهم إنه لقيط تربى في السراي الملوكية في مهد العز والدلال، ولما ترعرع وكلت تربيته إلى فحول ذاك العصر، ولما بلغ سن الرجولية زوجه الملك ابنته إجابة لرغبة زوجته (تناكويلا)، وقال آخرون - وخصوصا مؤرخي (التسكان) - إنه أتروسكي الأصل واسمه (مسترنا)، وإنه كان مرافقا لأحد قواد جيوش الأتروسك عند محاربة الرومانيين، ولما غلبت جيوشهم أتى إلى رومية مع من هاجر من الأتروسك وترك اسمه الأصلي، وتسمى باسم سرفيوس وهو من أسماء الرومانيين حتى يظن أنه روماني ولا يعلم أصله الأجنبي، وقيل غير ذلك.
ومن أعماله تجديد أسوار المدينة وإدخال كثير من ضواحيها داخل أسوارها، وتقسيمها إلى أربعة أقسام لكل منها حاكم مخصوص يناط به تحضير القوائم بأسماء الأهالي القاطنين في دائرته لتوزيع الضرائب، وطلب من يلزم من الشبان للخدمة العسكرية، ثم قسم جميع الأراضي التابعة لمدينة رومة إلى 26 قسما، وجميع السكان إلى ست طبقات و(173) فرقة أو قبيلة، كل قبيلة منها مؤلفة من مائة نفس، الأمر الذي يستنتج منه أن عدد الأهالي التابعين لرومة بلغ في أيامه (19300) نسمة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في الباب التالي.
ومن أعماله الخارجية تحالفه مع ثلاثين مدينة من مدائن اللاتين، وإقامة معبد للمعبودة (ديانة) إحدى آلهة الأقدمين بداخل رومة، وتقاسمت المدينة ومحالفيها من مدائن اللاتين ما صرف عليه ليكون رابطة اتحاد بينها، ومنها تغلبه على بعض قبائل الأتروسك، وأخذه أراضيهم وتوزيعها على الفقراء من الرومان، ولما كانت جميع أعماله في صالح الطبقات السفلى من الأهالي غضب منه الأشراف ذوو الثروة والجاه، وضاعف غضبهم وحنقهم عليه توزيعه الأراضي على الفقراء، وصاروا يمقتون بقاءه ملكا عليهم وتآمروا على قتله بمساعدة بنته (توليه).
وتفصيل ذلك أنه كان لسرفيوس ابنتان إحداهما (توليه) التي حفظ التاريخ اسمها وكانت ميالة إلى الفتن والدسائس وحب العلو والارتقاء مهما كانت الواسطة، وتزوجت (آرنس) ابن الملك تركان القديم، وكان متصفا بالسكون وسهولة الأخلاق، وتزوجت الأخرى ب (لوسيوس) أخي آرنس الذي كان على عكس أخيه ونقيضه، ولما كان شبيه الشيء منجذبا إليه بالطبع اتفقت (توليه) مع لوسيوس زوج أختها على قتل زوجها وأختها والاقتران معا، والسعي بعد ذلك في تنصيب لوسيوس ملكا على رومة مكان أبيها، ولو أدى الأمر إلى قتله، وفعلا اقترنت بلوسيوس بعد أن تخلصت من زوجها وأختها بتقديمها لهما السم في الدسم، ثم اتحدت مع بعض الأشراف المعادين لأبيها الملك بسبب منحه بعض الحرية للأهالي، وتوزيعه أراضي القبائل المغلوبة عليهم بدل توزيعها على الأشراف، واتفقوا على عزله وتولية لوسيوس مكانه، وبعد تمام الاتفاق وتوثيقه بالأيمان المغلظة انتهز المتآمرون فرصة وجود الأهالي في أشغالهم الزراعية خارج المدينة، وحضر لوسيوس إلى السناتو حال انعقاده متشحا بالملابس الملوكية، وألقى سرفيوس من أعلى الدرج فقتله أعوانه، ونودي بلوسيوس ملكا باسم تركان الثاني، ويقال إن زوجته (توليه) حين أتت لتهنئته مرت بعربتها على جثة أبيها وكان ذلك في سنة 534ق.م.
ولقد دعا الرومانيون الطريق الذي مرت منه هذه الغادرة عند ارتكابها هذا الأمر الفظيع بطريق الخيانة؛ إظهارا لعدم استحسانهم له وعدم مشاركتهم لها فيه.
الملك تركان الثاني
وكان تركان الثاني ميالا للكبرياء والجبروت محبا للظلم والاضطهاد، فأبطل جميع الإصلاحات التي أدخلها سرفيوس وسلب طبقة العوام ما منحته من الحقوق، فرجعت إلى ما كانت عليه من الضعة والانحطاط؛ ولذلك لقبه الأهالي بالشامخ وأظهروا له الجفاء والإعراض، فاتخذ لنفسه حرسا من الأجانب استخدمهم لقمع الأهالي، وإطفاء كل حركة تبدو منهم طلبا للحرية، والتخلص من حكمه الجائر.
وكان يقتل كل من آنس منه عدم الإخلاص له والرضا عن أعماله من الأعيان وأعضاء مجلس الشيوخ، واتبع هواه في جميع أعماله، ولم يراع لقانون حرمة ولم يخفر لأحد ذمة، وسخر الأهالي في أشغاله الخصوصية والمنافع العمومية، فتمم مجاري المدينة والكابيتول وباقي ما شرع فيه والده من الأعمال، وتحالف مع حاكم مدينة (تسكولم)، وزوجه ابنته ليكون له عونا وعضدا ضد رعاياه، ويقال إن العملة عثروا عند فتح أساسات (الكابيتول) على رأس إنسان، فقال المنجمون إن ذلك يدل على أن مدينة رومة ستكون ذات شأن عظيم في العالم، وتكون مقر حكومة يمتد سلطانها على جميع أنحاء العالم المتمدن.
وفي عصر هذا الملك حضرت إلى المدينة إحدى المتكهنات المدعيات معرفة الغيب وقدمت له تسعة مجلدات مدعية أنها تحتوي على بيان كل ما يستحدث لمدينة رومة من الحوادث، وطلبت منه في مقابلتها مبلغا عظيما فرفض، فأحرقت ثلاثة منها وعرضت عليه الستة الباقية بنفس القيمة فرفض ثانيا، فحرقت ثلاثة أخرى وعرضت عليه الثلاثة الباقية بالقيمة نفسها فقبل ووضعها في خزانة خصوصية بنيت لها تحت الكابيتول، وعين لحراستها اثنين من الأشراف، وهذه الخرافة تشبه ما يدعيه البعض في زمننا هذا زمن البدع والغرائب من وجود كتب يسمونها (الجفر)، يقولون إنها تنبئ بالمستقبل ويصدقهم بسطاء العقول وصغار الأحلام.
ومن أعمال تركان الشامخ أنه حارب كثيرا من مجاوريه، وانتصر عليهم خصوصا قبائل (الفولسك)، وشدد ربط الاتحاد مع مدائن اللاتين، وجعل لرومة - وبعبارة أخرى لنفسه - سيطرة شديدة عليها، وفتح مدينة (جانس) بواسطة أكبر أولاده (تاركان سكستوس)، وذلك أنه تظاهر بالعصيان على والده واحتمى بهذه المدينة، وأقام بها حتى استمال في خلالها الأهالي بحسن المعاملة وبذل العطايا حتى اختاروه حاكما عليهم، ولما تم له الأمر أرسل لوالده يسأله عما يفعله لتوطيد سلطته وتسليم المدينة إليه، فوجد الرسول والده يتمشى في بستان، وبعد أن سمع ما كلف بتبليغه إياه أخذ يقطع الأزهار المرتفعة عما جاورها بعصاة كانت بيده، ثم قال للرسول: عليك بتبليغ ما رأيت لولدي فإن فيه الجواب الكافي والرأي السديد.
ولما نقل حديث هذا الدور التمثيلي إلى سكستوس أدرك أن والده ينصحه بقتل أعيان المدينة، وكل من يظن فيه المعارضة، فأمر بقتلهم وسلم المدينة لوالده غنيمة باردة.
وكان تركان فظا غليظا سيئ الخلق ظالما مستبدا لا يوقر كبيرا ولا يرحم صغيرا ولا يحترم أميال الأمة ولا آراء نوابها وشيوخها فنفر منه الأهالي، ولم تبق لهم طاقة على احتمال هذه المعاملة، وصاروا يترقبون الفرص المناسبة للتخلص منه، ولا يتركون طريقة لبث شكواهم وإظهار تمللهم، وزاد غيظهم منه ومقتهم له حين تطاول ابنه سكستوس إلى اغتصاب (لوكريسيا) زوجة تركان كوللاتان ابن أخي الملك، فساعده الأهالي على الانتقام منه وطرد الملك تركان الشامخ، وإسقاط الحكومة الملكية، وتأسيس الحكومة الجمهورية.
القسم الثاني
الحكومة الجمهورية
تأسيس الجمهورية
وتفصيل ذلك على ما جاء في كتب أشهر المؤرخين أن (تركان) كان يحاصر مدينة (أرديا) عاصمة قبيلة (الروتول) الواقعة على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة رومة، ومعه أولاده وكثير من الأمراء، وبينما كان الأمراء مجتمعين ذات ليلة في السمر إذ دارت المناقشة بينهم في صفات زوجاتهم، وأخذ كل منهم يعدد محاسن زوجته المادية والأدبية، ويدعي أنها تفوق زوجات الباقين في الشؤون المنزلية والترتيبات العائلية، ثم اتفقوا على أن يفاجئوهن في مخادعهن ليروا كيف يصرفن أوقاتهن، فقاموا لوقتهم وفاجئوهن؛ فوجدوهن مشتغلات بالملاهي والمغاني إلا (لوكريسيا) زوجة (تركان كوللاتان)، فإنها وجدت مشتغلة بالغزل مع خادمتها، فأجمع الحضور على أنها أعقل الأميرات وأكثرهن التفاتا إلى أشغال بيتها، فاغتاظ (سكستوس)، وأضمر لها السوء وتربص لها، حتى إذا وجدها بمعزل عن عيون الرقباء انقض عليها كالعقاب واغتصبها كرها، فجمعت زوجها وأباها وأخا زوجها (بروتوس) وغيرهم وقصت عليهم ما حصل لها من الإهانة تفصيلا، ثم قالت إن لا حياة لها في هذا العالم بعد ما لحقها من العار بفعل هذا الوحش الكاسر، واستلت خنجرا وطعنت نفسها به طعنة كانت القاضية، فقضت نحبها شهيدة العفاف موصية زوجها بالأخذ بثأرها.
فحمل زوجها جثتها إلى رومة وعرضها على أعضاء مجلس الشيوخ وأنظار الأمة طالبا منهم الانتقام للشهامة والعفاف من أصحاب الغدر والخيانة، فمالوا لجانبه واتحدوا على عزل الملك، وطردوه هو وولديه من المدينة تخلصا من ظلمه واستبداده الذي أثقل كاهل الأهالي بالضرائب والمغارم، وحملهم ما لا طاقة لهم على حمله من أنوع التسخير والاستعباد، فاجتمع مجلس الشيوخ (سناتو) وقرر بإبطال الحكومة الملكية ونفي الملك.
وفي أثناء ذلك قصد (بروتوس) الجيش المحاصر لمدينة (أرديا)، وأهاجه على الملك فشق العساكر عصا الطاعة وتركوا حصار المدينة، ولما بلغ تاركان خبر ثورة الأهالي عاد مسرعا إلى مدينة رومة فوجد أبوابها مؤصدة في وجهه، ولما أعيته الحيل ولم يجد له بين الأهالي نصيرا، بل وجد الكل ضده يدا واحدة وقالبا واحدا طلبا للحرية والاستقلال؛ التجأ إلى مدينة (سيره) هو وولداه آرنس وسكستوس سبب جميع المصائب التي لحقت بهم.
وبعد ذلك طلب الأهالي الرجوع إلى القوانين العادلة التي وضعها سرفيوس تليوس، وأن ينتخب لإدارة شؤون الحكومة اثنان من المشهود لهم بالحكمة والاستقامة، ويعطى لهما لقب (قنصل) فقبل مجلس الشيوخ بهذه الطلبات العادلة، واجتمعت لجان الانتخاب وانتخب تركان كوللاتان وبروتوس، وتم هذا الانقلاب العظيم في سنة 510ق.م، ثم توجس الأهالي خيفة من تركان كوللاتان، وداخلهم الريب من جهته؛ فعزلوه ونفوه خارج المدينة وانتخبوا مكانه (فالريوس).
وقد تناقل المؤرخون خرافة يعللون بها تولي (بروتوس) على منصة الأحكام بعد تركان الشامخ، قالوا إن هذا الملك لما أحس بعدم محبة الأهالي له وقلبهم له ظهر المجن؛ أرسل ولديه إلى مدينة (دلفوس) ببلاد اليونان ليستشيرا متكهنتها على ما ستؤول إليه حالته، فتوجها ومعهما (بروتوس)، وبعد أن أديا المأمورية سألوا الكاهنة عمن سيخلف تركان الشامخ في الملك، فأجابتهم بأن سيخلفه من يقبل أمه قبل الآخرين منهم، فأدرك (بروتوس) سر الجواب وسجد على الأرض مقبلا إياها إذ هي أم أولاد آدم المخلوق من الطين، ولذلك أخلف تركان بعد نفيه دون ولديه، وبعد أن التجأ تركان إلى مدينة (سيره) تركها قاصدا مدينة تركوينيه لعدم مساعدة أهالي الأولى له، فأرسلت تركوينيه ومدينة أخرى رسلا يطلبون من رومة إعادة تركان إلى الملك أو بالأقل رد أملاكه وأملاك من هاجر معه إليهم، وفي أثناء المداولة في هذه الطلبات تآمر المندوبون مع بعض أولاد الأشراف الذين لم يرق في أعينهم تمتع الأهالي بكامل حقوقهم، بل كانوا يفضلون خدمة ملك ذي أبهة وعظمة على التساوي مع جميع طبقات الأهالي في الحقوق والواجبات، فاتفقوا على إهاجه الطبقات السفلى من الأهالي على مجلس الشيوخ وإلزامه بقبول عودة الحكومة الملكية، لكن لم يتم قصدهم ولم تفلح مؤامرتهم بسبب إفشاء بعضهم للسر، فقبض على المتآمرين، ومن ضمنهم ولدا بروتوس نفسه وحوكموا بمقتضى قوانين البلاد، فحكم عليهم بالإعدام ولم تمنع بروتوس الشفقة الوالدية من تنفيذ الحكم على ولديه، بل فضل احترام القانون وحماية الوطن العزيز على تخليص ولديه الخائنين من عقاب استحقاه بغدرهما وخيانتهما.
وبعد ذلك منح السناتو عشرين يوما للمهاجرين مع تركان للعودة إلى رومة بحيث إن لم يعودوا في الميعاد المذكور تضم أملاكهم لجانب الأمة، ووزعت أطيان تركان على الأهالي فخص كل منهم سبعة أفدنة تقريبا، وبذلك ازداد تعلق الأهالي بالحكومة الجمهورية وصار لا يخشى من إصغائهم لوساوس المتحزبين للملك ثانيا، وجعل السهل الواقع بين المدينة ونهر التبر الذي كان من أملاك تركان الخصوصية ميدانا عموميا تحت حماية إله الحرب، وهو (المريخ) على زعمهم وسمي ميدان المريخ.
ولما لم تفلح مأمورية مندوبي هاتين المدينتين جهزتا جيشا عرمرما لإكراه الرومانيين على إرجاع الحكومة الملوكية، فقابله الرومانيون خارج المدينة بثبات الأسد الذي يدافع عن عرينه والأمة التي تناضل عن استقلالها وتتفانى في الدفاع عن حريتها، واقتتل الجيشان طول النهار بدون أن يتم النصر لأحدهما، وانفصلا لما خيم الظلام وألقى عليهم سدوله، وفي أثناء المعركة قتل بروتوس محرر الرومانيين وآرنس أحد ولدي تركان، ولما جن الليل خيل لأعداء رومة أن هاتفا ينادي بينهم أن موتاهم أكثر من موتى الرومانيين فانذعروا وولوا مدبرين، فعاد الجيش الروماني إلى المدينة، ودخل القنصل فالريوس بموكب انتصاري عظيم، ولبست نساء رومة الحداد مدة سنة كاملة حزنا على بروتوس الذي دافع عن العفاف وصان الفضيلة بانتقامه للوكريسيا شهيدة الشرف والشهامة، وأقيم له تمثال نصب في الكابيتول بجوار أنصاب الملوك السابقين التي احترمها الرومانيون بعد إلغاء الحكومة الملكية، ولم ينزلوها عن منصاتها لاعتبارهم إياها بمثابة أنصاف آلهة تبعا لاعتقاداتهم الفاسدة وتخيلاتهم الكاسدة.
وبعد هذه الخيبة استعان تركان على الرومانيين بصاحب مدينة (كلوزيوم) إحدى مدائن الأتروسك المدعو (بورسنا)، غير ناظر إلى ما يجره من ويلات الحرب ومصائبه على بلاده، مفضلا الاستعانة بالأجنبي لتملك رقاب الرومانيين على أن يراهم متمتعين بالحرية والاستقلال، فشن (بورسنا) الغارة على مدينة رومة بخيله ورجله سنة 507ق.م ودخلها عنوة بعد أن بذل أهلوها من ضروب الشجاعة وفنون القتال ما لم يأته قبلهم أحد، لكن لم يعد إليها ملكها تركان الخائن، بل امتلكها لنفسه، ولم تجد خيانة تركان واستعانته بأعداء وطنه فتيلا، وهكذا الحال في كل زمان ومكان، فكثيرا ما رأينا ونرى الملوك والأمراء خصوصا في بلاد الشرق يستعينون بالأجانب ويستدعونهم لبلادهم؛ لإخضاع أممهم ورعاياهم إذا هبوا مطالبين ببعض الحقوق أو الاشتراك في إدارة بلادهم، فيلبي الأجنبي دعوتهم فرحا مستبشرا، وبعد أن يقمع الأهالي ويؤيد سلطة الحاكم الجاهل المستعين بهم يقوضون أركان سلطته شيئا فشيئا، ويستأثرون هم بالوظايف والنفوذ حتى إذا ساعدت الفرص امتلكوا البلاد غنيمة باردة وطردوا من ظن فيهم خيرا، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.
هذا؛ ولقد ذكر (تيت ليف)
1
المؤرخ القديم عدة وقائع وإن لم تكن حقيقية إلا أنها تشهد بشجاعتهم وإقدامهم لا فرق بين النساء والرجال، فقد قال إن (هوراسيوس كوكليس) قاوم بمفرده رجال (بورسنا) وصدهم عن أحد جسور التبر عندما كانوا قاصدين عبوره لدخول رومة، وقاوم مدة حتى تمكن الرومانيون من هدمه وعاد هو إلى المدينة سبحا، وقال أيضا إن إحدى الرومانيات واسمها (كليلي) سلمت لهذا الملك بصفة رهينة فهربت لبلادها وعبرت النهر سابحة معرضة نفسها لنبال الأعداء، ولم تخش الموت تخلصا من ربقة الأجنبي، وإنها لما أعيدت إليه بحكم الضرورة اضطرارا أعجب بورسنا بثبات جأشها وقوة جنانها وإخلاصها لوطنها فأطلق سراحها ، وقال هذا المؤرخ في موضع آخر إن أحد شبان الرومانيين واسمه (موسيوس شفولا) تمكن من الوصول إلى سرادق (بورسنا) أثناء حصار مدينة رومة قاصدا قتله، فقتل أحد كتابه خطأ ظنا منه أنه هو الملك، ولما ضبط قال للملك بكل ثبات: «إني عالم بما سيحل بي من العذاب والقتل، لكن يوجد بالمدينة ثلاثمائة من الشبان متحالفون على قتلك.» ثم وضع يده اليمنى في النار حتى احترقت قائلا لها: «هذا جزاؤك على خطائك عدو أمتي ووطني.» وذكر حوادث أخرى غير هذه تناقلها المؤرخون إظهارا لما وصل إليه حب الوطن، والتهالك في الدفاع عنه عند هذه الأمة الحية.
ولبث (بورسنا) برومة إلى أن ساقه طمعه لمحاربة اللاتينيين فانهزم أمامهم شر هزيمة، ولم يعد له جلد على البقاء في رومة لهياج الأهالي، وتحققه من عدم قدرته على قمعهم لو هموا مطالبين باستقلالهم فأجلى عنها بسلام.
لكن لم ترق هذه الحال في أعين تركان، بل كانت فيها قذى وفي فمه شجى، فأهاج قبائل السابيين على رومة معللا النفس بالعودة إلى سابق مجده وتليد سلطانه، فطوح الطيش بالسابيين، وهاجموا رومة لا لإرجاع تركان كما يظن كل جاهل يغتر بمساعدة الأجانب وإخلاصهم وصفاء سريرتهم، بل طمعا في انتهاز هذا الشقاق لامتلاكها فخذلوا وعادوا بخسران مبين سنة 496ق.م.
وكانت هذه الموقعة هي الحاسمة إذ قتل فيها كثير من رؤساء الفريقين في مبارزات خصوصية كما كان الحال في حروب الجاهلية عند العرب، وقتل آخر أولاد تركان وجرح هو أيضا جرحا بليغا كان سبب وفاته، وبذلك ارتاحت مدينة رومة ورسخت الجمهورية فيها أي رسوخ استمرت بعده إلى سنه 28ق.م حين اغتصب أغسطس قيصر الحكومة لنفسه وأسس الإمبراطورية الرومانية؛ أي إن الحكومة الجمهورية مكثت برومة مدة 482 سنة امتد سلطانها في خلالها على جميع الأجزاء المعلومة من المسكونة في ذلك الزمان.
ولقد ينسب الرومانيون انتصارهم هذا على أعدائهم إلى تداخل الآلهة كما كان شأنهم في جميع الحوادث المهمة للتأثير على عقول الأهالي، فقد ذكر في كتبهم أنهم نظروا شابين جميلي الصورة مرتفعي القامة راكبين على جوادين شاهقين في البياض يحاربان في مقدمة الجنود، وكانا أول من اجتاز حصون الأعداء غير مبالين بالشهب والنبال الموجهة إليهم كالمطر فتبعهما الرومانيون، وتم لهم النصر بسبب شجاعتهما، ولما بحث عنهما لتسليمهما المكافآت التي كانت مقررة لمن يجتاز حصون الأعداء لم يوقف لهما على أثر، ثم ادعى بعضهم أنهم نظروهما يغسلان أسلحتهما وملابسهما من التراب والدم في إحدى أفنية المدينة، وقال الكهنة إنهما ولدا المشترى أكبر آلهتهم واسمهما «كستور» و«بولوكس»، ومن ذلك العهد أقيم لهما معبد في الفورم وخصص لهما يوم يحتفل فيه بتذكار مساعدتهم للرومانيين في كل سنة، واتخذهما الشفالية الرومانيون حماة لطائفتهم.
هوامش
نظامات الرومانيين الأولى
وحيث وصلنا إلى تأسيس الجمهورية وشرحنا الحوادث التي أدت إلى سقوط الملوكية بالتفصيل مع ذكر خرافات القوم وأوهامهم، رأيت قبل الشروع في بيان تاريخ الجمهورية أن آتي على شرح وجيز لترتيباتهم الداخلية ونظاماتهم العمومية مع ذكر بعض عوائدهم المنزلية والعائلية؛ ليكون القارئ على بينة من جميع أمورهم، وليقف وقوفا تاما على كافة أحوالهم، وإليك - أيها القارئ - بيان ذلك:
إن أول نظام وضعه رومولوس لأهالي رومة هو أن قسمهم ثلاث فرق أو قبائل: الأولى مؤلفة من رفاقه الأصليين الذين ساعدوه على تأسيس المدينة، والثانية من رجال تيتوس ملك السابيين الذي عاهد رومولوس بعد القتال الذي وقع بينهما عقب اختطاف بنات السابيين وسبق ذكره في موضعه، والثالثة قيل إنها مؤلفة من رجال أحد أمراء الأتروسك واسمه (لوكومون) أتى إلى رومة لمساعدة رومولوس على بناء المدينة، لكن عدم تمتع رجال هذا القسم ببعض امتيازات القسمين الأولين، وعدم وجود نواب عنهم في مجلس السناتو الذي سيأتي الكلام عليه؛ حمل بعض المؤرخين على الظن بأنه كان مكونا من سكان رومة الأصليين الذين أتى رومولوس في أول الأمر وأقام بين ظهرانيهم عنوة، وهذا الرأي هو الأقرب للصواب، وبقي هذا القسم في هذه الدرجة المنحطة إلى عهد تركان فمنحه المساواة مع القسمين الآخرين في جميع الحقوق والواجبات، وكان لكل قسم أو قبيلة رئيس يلقب (تريبون )، وكل قسم ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من مائة نفس، ويسمى القسم المائيني ورئيسه يلقب (سانتوريون)؛ أي رئيس المائة، وكل قسم مائيني ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من عشرة أنفس ويسمى القسم العشري ويلقب رئيسه (ديكوريون)؛ أي رئيس العشرة.
ومن جهة أخري كان يوجد بكل قسم من الأقسام الثلاثة الأصلية أقسام ثانية تسمى (جنتس)؛ أي عشائر أو أجناس كانت كل واحدة منها مؤلفة من أعضاء العائلة التي تربطهم روابط النسب والمصاهرة وممن ارتبط معها بروابط أخرى اجتماعية مثل رابطة التوارث لو مات رئيس العائلة عن غير وارث ولم يترك وصية، ويمكنا أن نسمي أعضاء هذا الفريق الثاني بالأتباع، فأعضاء العائلة المرتبطون معها برابطة النسب كانوا هم المتمتعين بجميع الحقوق المدنية والسياسية، ومنهم تكون طبقة الأشراف أو الأسياد دون أعضاء الفريق الثاني (الأتباع) الذين كانوا يفضلون الالتصاق بإحدى هذه العائلات بالتبعية ليأمنوا شر حوادث الزمان، وليكونوا في راحة بال ورغد من العيش متنازلين عن حقوقهم المدنية في نظير هذه الحماية، فكان السيد أو المتبوع يعطي لكل تابع من أتباعه قطعة من الأرض ليتعيش منها ويساعده فيما يكون له أو عليه من القضايا، وبعبارة وجيزة يعامله كما لو كان ولده، أما التابع فكان يجب عليه أن يتسمى باسم العائلة التابع لها ويساعد متبوعه على دفع الفدية لو أخذ أسيرا في الحرب، وفي دفع ما يحكم به عليه من الغرامات وفي أمهار بناته، وبالاختصار في جميع شؤونه ومصارفه العمومية والخصوصية، ولا يجوز له أن يساعد أو يعاون أحدا ضد متبوعه السياسي، ولا يجوز للتابع أو المتبوع أن يشهدا ضد بعضهما أمام المحاكم أو يرفعا قضايا على بعضهما إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات المفصلة في كتب القوم وأسفارهم، ولما امتدت فتوحات الرومانيين في عهد الجمهورية كما سيجيء امتد ظل هذه التابعية إلى أمم بأجمعها ومدن بجميع سكانها، وساعدت هذه الطريقة على استعار نيران الحروب الداخلية؛ إذ كان كل سيد يدعي الرئاسة لنفسه ويستعين بمتبوعيه الذين لا يجدون مفرا من مساعدته.
وكان الأشراف يجتمعون بهيئة جمعية عمومية (كومسيو) للنظر في الشؤون المهمة وتقريرها بأغلبية الآراء، وذلك كوضع الشرائع وتقنين القوانين وإشهار الحرب وإبرام الصلح والتعيين في الوظايف العمومية الرئيسية مدنية كانت أو دينية، أما الأشغال العادية فكانت تنظر في مجلس (السناتو)، وهذا المجلس كان بمثابة جمعية استشارية لرئيس الحكومة الأعلى وهو الملك، وكان يؤلف السناتو أولا من رؤساء العائلات السياسية فقط، ثم تغيرت كيفية تشكيله فيما بعد كما سيذكر في موضعه، وكان عدد أعضائه أولا مائة شخص ثم وصل مايتين بعد انضمام السابيين إلى الرومانيين، وأخيرا ثلاثمائة في عهد تركان، وبالاختصار كانت الحكومة مشكلة بالكيفية الآتية:
أولا:
الملك وهو الرئيس الأعلى، وكان يجمع في شخصه أكبر وظيفة دينية؛ إذ كان يعتبر بمثابة رئيس ديني كإمبراطور الروسيا وملكة الإنكليز الآن، وأكبر وظيفة في الجيش حيث كان قائده العام، وأعلى وظيفة قضائية.
ثانيا:
السناتو للنظر في الأمور العادية والفصل فيها.
ثالثا:
الجمعية العمومية المؤلفة من جميع الأشراف (كوميسيوم) للنظر في المسائل المهمة التي لها تأثير شديد على نظام الحكومة.
وكان الملك يجلس كل تسعة أيام للحكم فيما يرفع إليه من القضايا، لكن لم يكن حكمه نهائيا بل كان قابلا للاستئناف أمام الجمعية العمومية، ولما كانت لا تسمح له أشغاله بنظر القضايا بنفسه كان يعين قاضيين يصدران الأحكام باسمه، وفي حالة الحرب تكون سلطة الملك مطلقة إطلاقا كليا خارج أسوار المدينة فقط، وهو الذي كان يعين أعضاء السناتو ويدعوهم للاجتماع في الأوقات المعينة كما يدعو الجمعية العمومية لعقد اجتماعاتها، وكان له حرس خصوصي مؤلف من ثلاثمائة فارس (شواليه) ينتخبون من أكثر الأهالي ثروة وأعزهم جاها، وكانوا هم القوة الراكبة؛ أي السواري أثناء الحرب، وكان ينتدب في غيابه أحد أعضاء السناتو للقيام بمهام وظيفته، وأخيرا كانت الأمور المالية وجباية الأموال منوطة بموظفين مخصوصين من اختصاصاتهم الحكم في مسائل التعدي على الأنفس أو الأموال، فيرى القارئ من هذا الترتيب أن هذه الأمة بلغت مع حداثتها شأوا عظيما من حسن الانتظام وتمام الترتيب، وكانت حكومتها جمهورية تقريبا حيث لم يكن للملك فيها سلطة استبدادية، بل كان الملك كملوك أوروبا المقيدين الآن بنظامات عمومية كملك إيطاليا وملكة الإنكليز وغيرهما، ولولا تجاوز تركان الشامخ حدوده، وعدم احترامه للدستور، ونبذه أرآء السناتو ظهريا؛ لما سقطت الحكومة الملكية واستبدلت بالحكومة الجمهورية البحتة.
ثم تأتي طبقة العوام المؤلفة من الأمم التي أخضعها الرومانيون وألزموهم بالإقامة حول المدينة والأخلاط الذين أتوا إليها للاحتماء بها، وهذه الطبقة كانت مجردة من جميع الحقوق المدنية والسياسية؛ كالانتخاب والتبني والوصية بعد الموت وغير ذلك من الحقوق التي كانت مخولة للرومانيين، وكان لا يجوز لهؤلاء العوام الدخول في العائلات الشريفة أو الارتباط معها بالمصاهرة إلا أنهم كانوا من جهة أخرى أحرارا في تصرفاتهم لا يخضعون لأحكام السناتو أو الجمعية العمومية، بل كانوا تابعين للملك رأسا وينتخبون قضاة من بينهم للفصل في قضاياهم الخصوصية، وكانت أهم أشغالهم الزراعة والتجارة لعدم اشتغالهم بالأمور السياسية وتفرغهم لأعمالهم الخصوصية، واستمرت هذه الطبقة من الأهالي في هذه الحالة من العزلة والانحطاط السياسي حتى خولت لها جميع الحقوق الرومانية في عهد الملك (سرفيوس)، وصاروا كباقي الرومانيين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
وقد فعل ذلك لما آنس الكراهية والبغضاء من الأشراف، فأراد إضعاف سطوتهم وتقليل نفوذهم، فجمع أهالي هذه الطبقات السفلى النازلة خارج المدينة وأنزلهم على مرتفع (أفانتان) داخل أسوارها ومنحهم الحقوق والامتيازات، ثم أبطل تقسيم الأهالي إلى طبقات تبعا للحسب والشرف، وقسمهم تقسيما جديدا جعل أساسه الثروة والغنى، وللوصول إلى ذلك أحصى تعداد الأهالي من أشراف وغيرهم وثروة كل فرد منهم بأن يأتي كل منهم إلى الموظف المنوط بذلك، ويقسم إنه يقول الحق، ثم يملي اسمه واسم عائلته وسنه ومقدار ثروته مع ما تساويه عقاراته، وكان جزاء من يرتكب غشا أو تدليسا حرمانه من حريته أو مصادرته في الأموال أو قتله حسب الأحوال، وقرر عمل مثل هذا الإحصاء كل خمس سنوات.
ولما تم الإحصاء وعلمت درجة كل إنسان من الغنى أو الفقر، قسم الأهالي إلى ست طبقات غير متساوية، وخصت الطبقات العليا منها بأوفر قسم من الضرائب بحيث كانت نسبة الضرائب إلى الثروة تزداد من طبقة إلى أعلى منها (وهذه الطريقة هي التي تسمى الآن في علم الاقتصاد السياسي بالضريبة التدريجية، بمعنى أن من يكون إيراده ألف قرش مثلا يدفع واحدا في المائة ومن بلغ إيراده عشرة آلاف قرش يدفع اثنين في المائة وهلم جرا بكيفية منتظمة)، وبهذا الترتيب الذي يدل على توقد ذهن واضعه اختلط الأشراف الأصليون بمن دخل حديثا في الجنسية الرومانية، وتفرقت كلمة الأشراف وضعفت شوكتهم خصوصا وقد حمل سرفيوس الطبقات العليا أكثر مصاريف الحروب وخصهم بأخطر مواقع القتال.
ولما كان هذا التقسيم الجديد مبنيا على الثروة، وكانت الثروة من طبيعتها قابلة للنمو والاضمحلال تبعا لاجتهاد وخمول مالكها؛ كان من الممكن لكل إنسان الانتقال من طبقة إلى أرقى بجده واجتهاده كما هو حاصل في هذا العصر ببلاد الإنكليز حيث يعطى لقب لورد لكل من امتاز في فن أو علم أو خدم وطنه خدما جليلة أو أثرى في التجارة أو غيرها، فتتجدد طبقة الأشراف في إنكلترا بدخول عناصر جديدة فيها تعيد إليها ما تفقده من القوة الحيوية بتلاشي وانحلال بعض العائلات القديمة.
ومما يذكر لهذا الملك العادل من الأعمال التي تخلد له حسن الذكر وطيب الأحدوثة مدى الدهر، أن أبطل العادة القديمة التي كانت تجعل المدين المعسر رقيق دائنه حتى يوفيه ما عليه، وجعل حق الدائن على مال المدين ليس إلا كما هو الحال الآن في جميع شرائع الأمم المتمدنة، لكن لسوء حظ الرومانيين أبطل تركان الشامخ هذا القانون وأعاد الطريقة القديمة مع ما فيها من مخالفة العقل والعدل والذوق السليم، ولم يتحصل الرومانيون على إبطالها ثانيا إلا بعد جهاد ونضال استمر نحو مايتي سنة، وبالاختصار كانت أيامه أيام سعد ورفاهية وعدل وإنصاف بما وضعه من القوانين العادلة وسنه من الشرائع التي تشهد له بعلو الإدراك وكرم الأخلاق، ثم لما أتى بعده تركان الشامخ هدم ما أسس وأفسد ما أصلح وسلب طبقة العوام جميع ما منحها سرفيوس من الحقوق والمزايا التي جعلتهم كجميع الرومانيين أعضاء جسم واحد لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وأبطل كيفية تقسيم الأهالي إلى طبقات بنسبة ثروتهم، وأعاد النظام القديم القاضي بتقسيمهم إلى أشراف وعوام، فكان كالساعي إلى حتفه بظلفه إذ بغضه العموم وانتهى الأمر بإبطال الحكومة الملوكية وتأسيس الجمهورية، لكن لم يتحصل العوام ثانيا على جميع ما سلبوه من الحقوق إلا في عدة من السنين، وبعد حروب داخلية جرت فيها الدماء كالسيول؛ فأخر تقدم رومة نحو جيلين بعمله الاستبدادي وإعادة النظامات القديمة مع عدم ملاءمتها للوقت.
أما ديانة الرومانيين فكانت الوثنية يشوبها شيء من الصابئية، ولما كثر اختلاطهم باليونانيين (الإغريق) اقتبسوا كثيرا من عوائدهم الدينية واتخذوا معبوداتهم آلهة لهم، فأقاموا الهياكل والمعابد للمريخ والمشترى والزهراء وغيرها من النجوم الثوابت والسيارة، وكانوا يؤلهون القوى الطبيعية كالبحر وأمواجه وجبال النار والهواء، وكذلك العواطف النفسانية كالحكمة والشرف وحب الوطن والحلم والغضب وهلم جرا، ويقيمون التماثيل والأنصاب رمزا لها فيعبدها العوام بصفة آلهة حقيقية والعياذ بالله.
ولم يكن لهم قسوس لإقامة الصلاة وتقديم القرابين لمعبوداتهم، بل كان كل رئيس عائلة يقوم بهذه الوظائف بين أفراد عائلته، وكان رئيس الحكومة هو الكاهن الأكبر، ثم وجدت بعض طوائف دينية خصصت لأعمال معلومة؛ مثل المنجمين وكهنة المعبود المريخ وغيرهم مما لا يسمح لنا حجم الكتاب بتفصيله تفصيلا كافيا.
وكان للرومانيين اعتقاد أكيد وتمسك شديد بالطوالع الفلكية والتفاؤل بأقل الأمور والتشاؤم من أصغرها، فكانوا لا يقومون بأي عمل خصوصي أو عمومي إلا بعد أن يستطلعوا اتجاه الريح وطير الطيور وتغريدها، أو حالة ما يقدمونه من القرابين عند ذبحها من سكون أو اضطراب أو بعد موتها من تشنجات وحركات وحالة الأمعاء ولونها ووضعها، وكان الرجل لا يخرج من بيته إذا عثرت قدمه أو صادفه طير عن يساره إلى غير ذلك من الأمور التي تضحك الصبيان، ولا تزال مع ذلك متأصلة في نفوس جميع الشعوب حتى التي انتشر التعليم بين أفرادها، ولن تزال كذلك لميل النفس لتصديقها وانتقال الاعتقاد فيها بالوراثة حتى تتلاشى شيئا فشيئا بتعميم التعليم، وزوال آثارها المنطبعة في المخيلة تدريجا.
وأما عوائدهم المنزلية فكان أساسها التقشف وعدم الترف والبذخ وترك الكماليات والاكتفاء بالحاجيات الضرورية، وكانت معاملة رب المنزل لخادميه كمعاملته لأولاده إذ كان يساعدهم في جميع الأعمال، فكان يحرث بيده مهما كانت ثروته العقارية، وكانت ربة البيت تصرف وقتها في تدبير شؤون منزلها ومساعدة جواريها على القيام بكافة ما يستلزمه، وتصرف أوقات الفراغ معهن في الغزل والحياكة، لكن كانت حالة المرأة في أيامهم أحط بكثير من حالتها الآن في جميع الجهات، فكان لا يجوز لها التصرف في أملاكها مطلقا ولو بلغت من العمر عتيا، بل كانت طول حياتها في حالة الحجر تحت وصاية أبيها ثم زوجها ثم أكبر أبنائها فأخيها فابن أخيها ... إلخ على حسب ترتيب معلوم، وكان لرب العائلة الحق المطلق في مجازاة أولاده وامرأته بجميع العقوبات البدنية حتى القتل بدون أن يسأل عن سببه؛ إذ كان الكل لديه كالأنعام أو أقل قدرا، ولا يصير الولد حرا مهما بلغ من العمر أو ترقى في مناصب الحكومة ما دام والده موجودا، فكان للوالد أن يقتل ولده ولو كان عضوا في مجلس الشيوخ أو قائدا عاما للجيوش كما حصل في فتنة (كتلينا) حيث قتل والد ابنه وكان عضوا في المجلس المذكور بدون محاكمة، بل بمجرد ما له عليه من الحقوق، ومن غريب عوائدهم أن المدين المعسر يكون رقيقا لدائنه كما ذكرنا، ولو كان الدائنون عديدين جاز لهم بيعه واقتسام ثمنه أو قتله وتقسيم جثته.
ثم تركت هذه العوائد البربرية شيئا فشيئا، وارتقت الأخلاق العمومية تبعا لارتقاء التمدن والعمارية مما هو مسطور ومذكور في المطولات خصوصا في كتب القانون الروماني، فليرجع إليها من يريد التوسع في هذا الموضوع.
الجمهورية في عهد القناصل الأشراف
من سنة 510ق.م إلى سنة 471ق.م
قد ذكرنا فيما مر أسباب سقوط الحكومة الملوكية، وما أتاه تركان الشامخ من الفظائع الوحشية التي أبعدت عنه قلوب الأهالي وكانت سببا لطرده وعائلته من المدينة، ثم شرحنا ما أتاه من الاستنجاد بالأجانب ضد رومة لإخضاعها وإعادته إلى مقر عرشه، وكيف استولى (بورسنا) على المدينة ولبث بها مدة، ونحن ذاكرون الآن الاحتياطات التي اتخذها مجلس الشيوخ عند تأسيس الحكومة الجمهورية لمنع عودة السلطة الاستبدادية ثانيا، وبقاء النفوذ في أيديهم، وعدم تطرق أيدي طبقة العوام إليها أو طموح أنظارهم للحصول عليها، فقرروا أن ينتخب لرئاسة الحكومة اثنان من بينهم لمدة سنة واحدة، ويكون لهما ما كان للملك من الحقوق والوظائف إلا حق الحكم بالإعدام فيحرمون منه ما داموا داخل أسوار المدينة أو خارجا عنها بمسافة ميل واحد ويعود لهم بعد هذه المسافة، وتقرر رمزا لذلك أن لا توضع البلط ضمن العمد التي تحمل أمامهم إلا بعد ابتعادهم عن المدينة بزيادة عن ميل، وأن تكون السلطة لكل منهما مدة شهر بالمناوبة، وأن من يطمح لاختلاس السلطة المطلقة بدون حق أو يسعى في إعادة الملوكية يكون جزاؤه القتل لا محالة، وأن تخفض العمد التي تحمل أمام القناصل عند حضورهم أمام الجمعية العمومية احتراما لها واعترافا بأن سلطتها فوق سلطتهما.
ولزيادة ارتباط الأهالي بالجمهورية واستمالتهم إليها أضيف إلى السناتو مائة عضو انتخبوا من جماعة (الشفاليه) وانتخب مكانهم مائة من أغنياء طبقة العوام، ثم وزعت أملاك العائلة الملوكية على الفقراء من بينهم، وأبطلت الرسوم الجمركية على الحدود لتخفض أسعار الواردات الخارجية وأنزل ثمن الملح كثيرا، وبذلك رسخت قدم الحكومة الجمهورية واتحد الرومانيون على الدفاع عنها، وصاروا جميعا - على اختلاف طبقاتهم - يدا واحدة لصد هجمات الأعداء حتى وطدوا دعائمها، وصار لا يخشى عليها من دسائس المفسدين ومكر الماكرين.
لكن من جهة أخرى أهملت الزراعة بسبب الحروب المتواصلة، وكثرت ديون الفقراء بتراكم الفوائد الفادحة حتى عجزوا عن الدفع، ووقع كثيرون منهم في حالة الرق بمقتضى القانون؛ فتآمر المديونون المعسرون وطلبوا من الحكومة وضع حد للفوائد الزائدة، وإلزام الدائنين بترك بعض ديونهم التي أغلبها فوائد متكاثفة فلم تصغ الحكومة لشكواهم ولم تسع في تخفيف بلواهم ؛ لأنه كان لأغلب القابضين على أزمة الأحكام ديون على الأهالي، ولو لبوا نداءهم لخسروا مبالغ وافرة، ولازدياد الفقر وتفاقم الخطب امتنع الأهالي عن الخروج لمحاربة اللاتين حين أتوا لنجدة تركان في سنة 496ق.م، وأبوا القتال ما لم يجب طلبهم؛ فقررت الحكومة انتخاب حاكم مطلق موقتا (دكتاتور) لمدة ستة شهور يتصرف في الأحكام حسب ما تقتضيه الأحوال حتى بالقتل
1
وكلفته بإكراه الأهالي على الخروج للقتال، فخرجوا اضطرارا لا اختيارا وهزموا الأعداء وصدوهم عن المدينة، واستعفى الحاكم المطلق، ورجعت الأحكام إلى ما كانت عليه، وازداد الدائنون قسوة وخشونة في معاملة مديونيهم خصوصا سنة 495ق.م في عهد قنصلية (كلوديوس أبيوس) أحد المثرين المرابين حتى اشتد الكرب على الأهالي، وطلبوا ثانيا تسوية ديونهم، وعززوا طلبهم بالامتناع عن محاربة الفولسك حين تعدوا حدود رومة في هذه السنة وغزوا بعض أحيائها، فوعدهم القنصل الثاني سرفليوس بالنظر في طلبهم بعد انتهاء الحرب، وأمر بالكف عن المطالبة مدة الحرب وإخلاء سبيل المسجونين بسبب ديونهم موقتا حتى تضع الحرب أوزارها، لكن لم يصدق السناتو بعد انتهاء الحرب على هذه الوعود، بل ساعد المثرين على الفقراء في تحصيل ديونهم، فامتنعت الجنود عن الحرب مرة ثالثة، ولم يخرجوا إلا بعد أن وعدهم القنصل (منيوس فالريوس) الذي كان من إحدى العائلات الوضيعة وتثق الأهالي به وثوقا تاما بتنفيذ جميع مطالبهم، وعزز وعده بالأيمان المغلظة، إلا أن السناتو لم يؤيد هذه الوعود لوجود الأغلبية فيه بين أيدي أصحاب الديون فاستعفى فالريوس وأهاج الشعب لنوال حقوقه بالثورة حيث إن جميع الطرق السلمية لم تصادف إلا وعودا عرقوبية مبنية على أطماع أشعبية، فثار الأهالي في سنة 493ق.م واجتمع بعضهم على الجبل المقدس خارج المدينة والبعض على جبل أفانتان داخلها، فأرسل إليهم السناتو وفدا لينصحهم بالخلود إلى الراحة والسكينة مؤكدا لهم ترك ديون المعسرين وإطلاق سبيل جميع المستعبدين بسبب عدم دفع ديونهم، وكان من ضمن الوفد رجل مشهور بالفصاحة يدعى (مننيوس أجربا) فخطب فيهم وحثهم على الائتلاف ونبذ الثورة، وضرب لهم مثلا «أن أعضاء الإنسان تآمرت ذات يوم على ترك العمل وعدم تغذية المعدة قولا إنه ليس من العدل أن تشتغل جميع الأعضاء لمنفعة عضو واحد، فلما منع الغذاء عن المعدة ضعفت وامتد الضعف إلى الأعضاء المتآمرة، وعاد اعتصابها عليها بالضرر أكثر من المعدة نفسها».
لكن لم تؤثر هذه الوعود ولا هاتيك المواعظ في المتآمرين لعدم الوفاء في الماضي، بل طلبوا ضمانة على تنفيذها أن ينتخبوا نوابا للدفاع عنهم، وأن لا تنفذ الأحكام ضد من يتضح عدم اقتداره على الدفع، فقبل السناتو هذا الطلب مكرها بعد تعديله بأن يكون حق الانتخاب للجيش فقط لتأثير الأشراف عليه وقلة عدده بالنسبة لمجموع الأهالي، فانتخب الجيش نائبين عن الأهالي أعطى لهما لقب (تريبان) ثم زيد عددهم إلى خمسة في سنة 393.
وكان لانتخابهم نتائج عظمى بالنسبة للأهالي أهمها استقلالهم عن القنصلين مما يقضي بإضعاف سلطتهما بقدر ما يعطى منها للتريبان، ومساعدتهم الأهالي على عدم تنفيذ أحكام القناصل المجحفة بحقوق الفقراء والمعسرين، وجعلت سلطتهم داخل مدينة رومة فقط وعلى مسافة ميل واحد خارجا عنها، وفي سنة 486 انتخب سبوريوس كاسيوس قنصلا، وكان سبق انتخابه مرتين لهذا المنصب السامي وذلك لميله لمساعدة الأهالي ضد الأشراف المرابين، ولما كان جل سعيه تخفيف أثقال الفقراء عرض على مجلس السناتو تقسيم أراضي الحكومة بينهم والتشديد على الأغنياء في دفع الضرائب ودفع راتب معين للجنود مقابل ما يلزمهم من المؤن والأسلحة، وقد كان كل جندي ملزما بالصرف على نفسه بدون تكبد الحكومة صرف أي شيء عليه، فلم يسع السناتو إلا التصديق على هذا المشروع الزراعي مع ما فيه من الإضرار بالأغنياء القابضين على أزمة الأحكام لمجاهرة الشعب باستحسانه وإظهار الرغبة الشديدة في تنفيذه، فصادق المجلس عليه مصرا على عدم تنفيذه والإيقاع بواضعه، فأشاعوا أن كاسيوس لم يراع صالح وطنه في معاهدة كان أبرمها في قنصليته الأولى مع قبائل اللاتين ووافقت عليها قبائل (الهرنيك)، وأنه فضل صوالح الأجانب بغية الاستعانة بهم على إذلال رومة وإسقاط الجمهورية وإعادة السلطة الملوكية فيها لنفسه، وأنه يسعى الآن في إيقاع الشحناء بين الأغنياء والفقراء من الأهالي للتفريق بينهم والتمكن من تنفيذ مقصده الحقيقي وهو الاستئثار بالحكم والاستبداد بالملك.
ولما كان الشعب الروماني شديد الغيرة على استقلاله والمحافظة على حريته صدق هذه الوشايات ومال عنه، فانتهز السناتو هذه الفرصة المناسبة واتهمه بالسعي في إعادة الحكومة الملوكية؛ فحكم عليه بالإعدام، وقتل في أواخر سنة 486 شهيد مساعي من يفضل الصالح الخاص على الصالح العام، ولم يراع حرمة لمصلح، ولم يخفر ذمة لخادم صديق لوطنه.
وبعد موت كاسيوس ماطل السناتو في تنفيذ مشروعه الذي ضحى حياته للحصول على التصديق عليه، وساعدته على ذلك عائلة فابيوس الشهيرة بمعاداة الأهالي ومساعدة الأشراف على أطماعهم، وبقيت وظيفة القنصلية في عائلتهم سبع سنين متوالية من سنة 484 لغاية سنة 478 لم يسمع في أثنائها نداء الأهالي ولا نوابهم (التريبان) الذين بعد أن أعيتهم الحيل في الحصول على تنفيذه بالطرق السلمية؛ عمدوا إلى استعمال الحق الممنوح لهم من إيقاف تنفيذ أوامر القناصل لو رأوا أنها مخالفة لصالح منتخبيهم، وعارضوا فعلا في تنفيذ قانون الخدمة العسكرية وأمروا الأهالي بالامتناع عن الدخول فيها حتى يعمل بمشروع كاسيوس وتوزع عليهم الأراضي التي تقرر إعطاؤها لهم، ولما كانت سلطتهم القانونية قاصرة على مدينة رومة وضواحيها على مسافة ميل واحد فقط، نقل القنصلان مركز أعمالهم على مسافة تزيد عن الميل، وأمروا بجمع أنفار الجندية بالقوة وحرق مزروعات من يمتنع منهم امتثالا لأوامر نواب الأهالي، فكثرت الشكوى وعلا التذمر، وخيف حصول فتنة عمومية تكون عاقبتها وبالا على الجميع؛ ولذلك استمال السناتو بعض النواب وهم أقنعوا المعارضين بضرورة المسالمة وعدم المعارضة منعا للثورة، فسحبوا أمر الامتناع ونصحوا الأهالي بالدخول في الجندية فامتثلوا إلا أنهم أرادوا الانتقام من عائلة فابيوس التي كانت معضدة لهذه الاضطهادات، فامتنعوا عن القتال في واقعة كان قائدها أحد أعضاء هذه العائلة واسمه (سيزوفابيوس) حتى لا يتم النصر، ولا يكون له حق في الاحتفال الذي يعمل للقناصل المنتصرين عند عودتهم إلى المدينة.
فلما رأت عائلة فابيوس أن الأهالي ناقمين عليها لمساعدتها السناتو وأعضاءه، وأن السناتو ابتدأ يقلب لها ظهر المجن لتخوفه من نمو نفوذها بين الأشراف، وبقاء الزعامة فيها من مدة.
ولاعتقاد أعضائها بأن الفوز لا بد وأن يكون في آخر الأمر للشعب على الأشراف مالت بكلياتها عن السناتو، وصارت من أكبر مساعدي الشعب على تنفيذ القانون الزراعي، فكانت نتيجة ذلك أن الأهالي ساعدوا القنصل فابيوس في سنة 479 على محاربة قبائل الأتروسك، فغلبهم ومحا ما كان لحق بعائلته من العار بسبب انخذال (سيزوفابيوس) أمام الأعداء.
ولما عاد الجيش منصورا إلى المدينة دخلها في موكب حافل حسب العادة، وقبل فابيوس جرحى الفقراء في داره، فزاد تعلقهم به وبعائلته لدرجة أقلقت السناتو وأعضاءه على امتيازاتهم واستقلالهم، وزاد خوفهم وقلقهم لما طلب (سيزو) السالف الذكر تنفيذ القانون الزراعي الذي تقرر من سنة 484 ولم يعمل به؛ ولذلك تآمر الأشراف على إخراج هذه العائلة من رومة بدعوى أنها تسعى لإعادة الملك وأرهبوا الأهالي بهذا الخيال الوهمي فلم يبدوا أي حركة ظاهرة للدفاع عنها كما كان ينتظر، فخرجت مع أتباعها وعددهم نحو الأربعة آلاف ونزلت على ضفة نهر كراميرا الذي يصب في نهر التبر لصد هجمات الأتروسك عن مدينة رومة؛ إذ حافظت هذه العائلة على ولائها ولو لم تجد منها إلا الجحود والكفران لأن حب الوطن يجب أن لا تزعزعه الحوادث أو تؤثر فيه الكوارث، بل يبقى هذا الإحساس حيا إلى آخر رمق من الحياة.
وفي سنة 477 انقرضت هذه العائلة تقريبا في إحدى حروبها المتعددة مع القبائل بسبب عدم تحرك القنصل مننيوس لنجدتها، ومد يد المساعدة إليها مع وجوده معسكرا بجيشه بالقرب من محل القتال؛ ولذلك ثار عليه الأهالي واتهموه بالخيانة وطلبوا محاكمته بصفة خائن للوطن، فلم ينتظر المحاكمة بل امتنع عن الأكل حتى مات جوعا هربا من العقاب الصارم الذي استحقه بترك الأعداء يتغلبون على إخوانه الرومانيين؛ تشفيا لضغائن شخصية يجب أن تضحى على هيكل الوطنية.
واعتبر اتهام الشعب لهذا القنصل سابقة ينسج على منوالها لاتهام كل من يشتهر من القناصل بعدم مساعدته على تغيير القانون الزراعي عند انقضاء مدة انتخابه، ففي سنة 475 اتهموا القنصل سرفليوس لعدم انتصاره في موقعة حربية ولم يحكم عليه بشيء، وفي سنة 473 اتهموا مانليوس وفوريوس لمعارضتهم في تغيير القانون الزراعي، وتولى اتهامهما النائب (تريبان) جنوسيوس لاشتهاره بقوة الحجة وفصاحة اللسان، وأقسم أمام الشعب بأنه لا بد من الحصول على معاقبة هذين القنصلين حتى يلزم من يأتي بعدهما بتنفيذ هذا القانون، لكنه وجد قتيلا في فراشه يوم المحاكمة بدسيسة الأشراف حتى لا يحاكم القنصلان المتهمان، ويقال إنه قتل في هذه الليلة كثير من فصحاء الشعب المطالبين بحقوقه المسلوبة، فوقع الرعب في قلوب الأهالي وأراد السناتو انتهاز هذه الفرصة الثمينة لتثبيت سلطته وتقريرها، فأمر بجمع الشعب في الفورم لانتخاب من يليق منهم للخدمة العسكرية، وكاد يتم الأمر بسكون لعدم معارضة أحد من الأهالي أو نوابهم لولا قيام (بوبليسيوس فوليرو) وتحريضه الأهالي على الثورة وعدم الامتثال لأوامر الحكومة ما لم ترد إليهم حقوقهم المسلوبة ظلما وعدوانا، فأمر القناصل بالقبض عليه فهاج الشعب وخلصوه عنوة من أيدي القابضين وطردوا القناصل وأعضاء السناتو من الفورم بالقوة.
وفي سنة 472 انتخب فوليرو نائبا عن الشعب (تريبان) فبذل كل اهتمامه لإنالة الشعب حقا لو تحصل عليه يكون مقدمة لحصوله على حقوق كثيرة تنيله السلطة الحقيقية مع الوقت، وتفصيل ذلك أن انتخاب نواب الشعب كان يحصل بمعرفة فرق الجيش المئينية التي للأشراف النفوذ والسيطرة عليها، فارتأى فوليرو أن يكون انتخابهم بمعرفة جمعية الأهالي العمومية التي لا يحضرها أحد من الأشراف مطلقا ولا نفوذ لهم عليها، فلم يقبل السناتو هذا الطلب العادل بل ماطل وحاول حتى مضت مدة (فوليرو) ولم يقرر مشروعه الذي سمي بقانون بوبليليا نسبة له، ثم أعيد انتخابه رغم مساعي الأشراف وأشياعهم، وانتخب معه (ليتوريوس)، وكان أشد كراهة لاستبداد السناتو فأضاف إلى مشروع فوليرو الأصلي أن يكون لجمعية الشعب العمومية حق التداخل في شؤون الحكومة أيا كانت بواسطة الاقتراع العام.
ومن جهة أخرى انتخب السناتو (أبيوس كلوديوس) ضمن قنصلي هاته السنة لمعاداته للشعب ومحافظته على امتيازات الأشراف وخصوصياتهم، ولما أتى اليوم المحدد للاقتراع على مشروع فوليرو اجتمع الأهالي في الفورم الموصلة ساحته إلى محل انعقاد مجلس السناتو للتظاهر، وتعضيد المشروع وإلزام المجلس بقبوله وتهديده بالثورة والعصيان لو رفضه في هذه السنة أيضا، فلم تؤثر هذه المظاهرات في أعضائه بل رفضه فهاج الشعب بأجمعه وأعلن الإقرار عليه والعمل به رغم مجلس السناتو وعناده، وحصلت عدة معارك بين الفريقين جرح فيها ليتوريوس وكاد يقتل كلوديوس لولا أنه التجأ إلى قاعة المجلس ونجا بنفسه بكل مشقة.
ثم احتل الشعب قلعة الكابيتول وألزم السناتو بالتصديق عليه فصدق مكرها، وبذلك تم الفوز للشعب، وتحصل الأهالي على ما يمكنهم به التأثير على سير الحكومة خصوصا بما أضيف على هذا القانون الجديد من أن للأهالي الحق في الاقتراع في جمعيتهم العمومية على ما يرونه ضروريا من القوانين والنظامات، نعم إن تصديق السناتو كان واجبا لتنفيذها إلا أنه كان لم ير بدا من الموافقة على ما يعرض عليه لسبوق إقرار الأمة عليه.
هذا؛ ولما انتخب المدعو (ايسيليوس) نائبا عن الشعب (تريبان) بالطريقة الجديدة اقترح أنه لا يجوز لأحد ما مقاطعة نائب الأمة أثناء تكلمه بالفوروم، ومن يفعل ذلك يحاكم بالقتل ومصادرة الأموال إذا اقتضت الظروف ذلك، وصودق على هذا الاقتراح مع ما فيه من القسوة والصرامة حبا في منع حصول ما يكدر صفاء الاجتماعات أثناء المداولة في المسائل المهمة، والتشويش على الخطباء، ومنعهم بكيفية ما من تتميم خطابهم، والتمتع بحرية الدفاع عن مشروعاتهم.
وفي هذه السنة وهي سنة 470ق.م دارت رحى الحرب بين الرومانيين وقبائل (الفولسك) و(الأيك)؛ فخرجت الجيوش تحت قيادة القنصل (إبيوس كلوديوس) الذي كان من أقوى المعارضين في مشروع انتخاب نواب الشعب بمعرفة الجمعية العمومية كما سبق بيانه في موضعه، ولما كان الكل غير راض عنه لهذا السبب ولميله للأثرة والاستبداد؛ تقهقرت الجنود أمام العدو بدون شديد مقاومة حتى إذا انهزموا وفاز عليهم العدو بالغلبة والانتصار حوكم (إبيوس) بصفة مقصر في الواجب أو خائن للوطن، لكن أدرك إبيوس دسيستهم وعلم أن انهزامهم لم يكن لشدة بأس العدو أو كثرة عدده، بل للأسباب التي ذكرناها، فأراد الانتقام منهم قبل العودة إلى رومة فعاقب أغلب رؤسائهم بأشد العقوبات العسكرية صرامة وهو القتل تشفيا منهم، ولما عاد إلى المدينة اتهمه نواب الأمة (التريبان) بالخيانة فقابل اتهامهم له بكل أنفة وكبرياء وقتل نفسه حتى لا يحاكم على جناية هو براء منها، فاحتفل الأهالي بجنازته احتفالا باهرا اشترك فيه الأشراف والعوام لاعتبار الكل له بسبب شهامته وعلوه عن الدنايا وترفعه عن التزلف للأمة ونوابها.
هذا؛ وبالاختصار فإن طبقة العوام في رومة تحصلت - في مدة ثلاث وعشرين سنة - أي من سنة 494 إلى سنة 471 - على سلطة ونفوذ في إدارة شؤونها وشؤون الحكومة، ما كانت لتتحصل عليها لولا اتحادها بحق وتضافرها على الطلب والمثابرة عليه بكل ثبات لا ترهبها القوة ولا ترعبها السطوة ما دامت معتقدة أنها تطالب بحق مقدس، هو المساواة للأشراف الذين لا يميزهم عن باقي طبقات الأمة مميز طبيعي أو عقلي.
ففي سنة 493 تحصلوا على حق تعيين نواب عنهم، وفي سنة 476 خول هؤلاء النواب لأنفسهم حق اتهام القناصل أمام الشعب وطلب محاكمتهم، وفي سنة 471 أجيز للشعب حال اجتماعه بهيئة جمعية عمومية أن يقترع على الأمور العمومية، ويصدر عليها قرارات أهلية تكون نافذة على جميع الأهالي دون الأشراف ما لم يصدق عليها السناتو الذي كان لا يتيسر له الامتناع أمام إجماع الشعب خشية الثورة وإراقة الدماء.
هوامش
خيانة كوريولان
وفي أثناء اشتغال رومة بمسائلها الداخلية التي شرحناها تعدى الأعداء حدودها مرارا، ونهبوا مزروعاتها ومواشيها، واقتربوا من المدينة لامتناع الجيوش عن الحرب مرارا بسبب توقف الحكومة عن تنفيذ القانون الزراعي.
ومن غريب ما ذكر في تاريخ هذه السنين ولم يسبق في تاريخ رومة في عهد الجمهورية، أن الأعداء هاجموا الرومانيين تحت قيادة أحد أشراف الرومان واسمه (كوريولان)، كان في الأصل من أكبر المدافعين عن وطنه، وأشدهم تعلقا به إلا أنه كان مساعدا للأشراف ضد طبقة العوام، وينسب له أنه عندما حصل جدب في إحدى السنين غلت الحبوب واشترت الحكومة مقدارا وافرا من الغلال من جزيرة صقلية لتوزيعها على الأهالي اقترح على السناتو عدم توزيع شيء على الشعب ما لم يتنازل عن حق انتخاب نواب له ويرضخ للأشراف كما كان الحال قبلا، فهاج الشعب ضده وطلبه التريبان (نواب الأمة) للمحاكمة أمام الشعب، فحكم عليه بالنفي والإبعاد فخرج مضمرا الشر لوطنه والعياذ بالله، والتجأ إلى توليوس أحد رؤساء قبائل الفولسك الشهير بعداوته للرومانيين وعرض عليه استعداده للانتقام من وطنه وبنيه، فقابله هذا العدو بقلب منشرح وصدر رحيب وقبل أن تكون رياسة الجيش لكريولان ويكون هو نائبه في قيادتها ثم قصد رومة سنة 490 في جيش عظيم، وأمر كوريولان بنهب المزارع التي أصحابها من طبقة العوام وعدم مس أراضي الأشراف بسوء، وسار بهذه الكيفية يبذر الخراب والدمار في طريقه إلى أن وصل هذا الخئون إلى بعد خمسة أميال فقط من المدينة، فأرسل إليه السناتو أكبر أعضائه سنا وأكثرهم اعتبارا لإرجاعه عن غيه وحمله على كف الغارة عن وطنه فلم يقبل، وكذلك لم يصغ إلى نصائح وإرشادات قسوس مذهبه الذين أخذوا يبينون له قبح خيانته وعظم جنايته نحو وطنه وأهله، بل أعماه وأصمه حب الانتقام، وأخيرا أتت إليه أمه (فيتوريا) باكية آسفة على عقوق ولدها ومساعدته الأعداء على بلاده بعد أن كان من أقوى المدافعين عن استقلالها؛ فرثى لبلواها ورق لشكواها وعاد مع من معه من الجيوش مقتنعا بما أخذه من الغنائم، فحنق عليه توليوس لعدم تمكينه من دخول رومة والاستيلاء عليها ويقال إنه قتله، وقيل إنه لم يقتل بل بقي مطرودا مخذولا حتى مات غير مأسوف عليه.
وكذلك كانت هذه الفترة فرصة مناسبة لأعداء حلفاء رومة وهم قبائل اللاسيوم والهرنيك، فأغارت الفولسك على بلاد اللاسيوم ولم يمكن رومة إسعافها بالمساعدة لاشتغالها بأمورها الداخلية من جهة، ولاحتلال الفائيين مرتفع جانيكول بضواحي رومة عقب انهزام عائلة فابيوس على نهر كريميرا في سنة 477، واستمر هذا الضيق إلى سنة 470 حيث أمضي بين أهالي مدينة (فايه) والرومانيين هدنة لأربعين سنة.
ولم يتم لرومة السكون تماما لإغارة قبائل الأيكيين عليها سنة 471 وصدهم عنها بهمة وشجاعة القنصل كونكيثيوس الذي لقب بأبي الجند من معاملته لهم واعتباره إياهم كأولاده، لكن لم ترتدع هذه القبائل المحبة للحرب ، بل عاودت الكرة عليها أربع مرات وتبعهم القنصل فوريوس في إحداها سنة 468 حتى وصل إلى مضيق فحاصروه وضايقوا عليه الخناق، وكاد يهلك هو وجيشه لولا أن أمدهم كونكبتبوس بإسعافه وتخليصه من هذه الورطة.
وفي السنة نفسها فتح هذا القائد الذي حاز شهرة عظيمة مدينة نيوم إحدى الثغور المهمة وتبعد عن رومة بمسافة كيلومتر، وعند عودته منصورا عمل له احتفال عظيم لم يسبق له مثيل صعد به إلى قلعة الكابيتول؛ ولذلك أعطي إليه لقب كابيتولينوس، ثم توالت إغارات الأعادي على أراضي رومة، وكانت الحرب سجالا بين الطرفين، وأهم ما حصل فيها أن بعض المطرودين من رومة هاجموها فجأة في سنة 495 تحت قيادة زعيم لهم أصله من السابيين اسمه هارورينوس واحتلوا الكابيتول عنوة ثم أكرهوا على إخلائه بعد أيام قلائل، وفي سنة 458 تبع القنصل منوسيوس بعض قبائل الأيك، فحصروه في مضيق وخيف هلاكه ومن معه من الجنود، فعين السناتو القائد سنسناتوس حاكما مطلقا لإنقاذ القنصل المحصور، ولما توجه إليه وفد من المجلس لتبليغه خبر تعيينه وجدوه يحرث الأرض بنفسه فقبل المأمورية وسار في جيش عظيم، وبعد أن أدى المأمورية وأنقذ القنصل وجيشه عاد في احتفال عظيم ثم استقال من منصبه الموقت فعادت الأحكام إلى نظامها العادي وعاد هو إلى محراثه كما كان، فتأمل لهذا التقشف وهذا الإخلاص وهذا التجرد عن الغايات وعن حب المناصب، وقل لي بأبيك كيف لا تبلغ أمة اتصف أفرادها بهذه الصفات الحميدة والخلال الوطنية شأوا عظيما في العالم، وتسود على من عداها وتتغلب على من عاداها ويمتد سلطانها على مشارق الأرض ومغاربها؟!
وبالاختصار كانت أيام الجمهورية الأولى أيام حروب مستمرة وخطوب مدلهمة لم تعد على رومة بفتح شيء من البلاد، إلا أنها حافظت في خلالها على أراضيها الأصلية، ولو أنه أصاب الأمم المتحالفة معها بعض الضرر خصوصا اللاتيين، إلا أن الرومانيين تدربوا في خلالها على فنون الحرب وضروب النزال، واستعدوا للفتوحات العظيمة التي أنالتهم ملك جميع الأرض التي كانت معلومة في هذه الأعصر الخالية مما سيأتي ذكره مفصلا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
حكومة العشرة وحصول الشعب على المساواة في الأمور
المدنية
قد سبق لنا شرح ما نالته طبقة العوام (التي سميناها وسنسميها دائما بالشعب أو الأمة) من الحقوق والامتيازات، لكن ما نالته كان بعضا من كل أو بعبارة أخرى: إن ما تحصلت عليه كان عبارة عن الطرق القانونية التي بها تتحصل على المساواة مع طبقة الأشراف التي كانت محتكرة جميع الوظائف العالية ومحافظة على ما لها من السلطة والسودد، ولما كان الفوز دائما لجانب الحق على القوة إذا ثابر أصحاب هذا الحق على طلباتهم، وأصروا على المطالبة بها بالطرق القانونية العادلة؛ انتهى الأمر للشعب بالفوز والحصول على المساواة تدريجيا تبعا للظروف، واختلاسا للفرص المناسبة؛ فحصلت في سنة 450 على المساواة في الأمور المدنية، وفي سنة 397 على المساواة السياسية، وفي سنة 329 و306 على المساواة القضائية، وفي وظائف القضاء وفي سنة 302 على المساواة الدينية.
وبيان عدم المساواة المدنية أن الأحكام كانت بيد القناصل ومجلس السناتو وبعض القضاة، لكن كانت اختصاصات كل منهم غير محددة بكيفية تمنع تجاوز الحدود، ومن جهة أخرى كانت الأحكام تصدر لا على قانون معلوم للعموم بحيث إن كل فرد يعلم ما له وما عليه، بل كانت تصدر بناء على قواعد قديمة وعوائد مألوفة لا يعلمها إلا القليل يتصرف فيها أصحاب الأهواء حسب غاياتهم ومنافعهم الشخصية.
وحيث كانت أزمة الحكومة في أيدي طبقة الأشراف كان الحيف والظلم دائما على فقراء الأهالي؛ ولذلك اجتمع نواب الأمة (تريبان) واتفقوا على أن يطلبوا من الحكومة تعيين لجنة مؤلفة من عشرة متشرعين يكلفون بتدوين العوائد القديمة وتقنينها وترتيبها بطريقة يسهل فهمها على العموم، فلا يمكن للقضاة التلاعب بالأحكام، ثم ينشر هذا القانون ويعلق في الفورم ليكون معلوما للخاص والعام، واختار النواب أحدهم المسمى ترنتليوس أرسه لعرض هذا الطلب والسعي في الحصول عليه فقام بهذه الدعوة في سنة 461، لكن لم يصادف طلبه قبولا لدى مجلس السناتو، بل رفضه رفضا باتا وتحزب بشأن الأشراف ضد هذا المشروع تحت زعامة (سيزون) ابن سنسناتوس فصاروا يتجمهرون في الفورم ويشوشون على الأهالي في اجتماعاتهم ويمنعون مداولاتهم، فاتهم بعضهم سيزون بضرب أحد نواب الأمة في إحدى هذه المناوشات، واتهمه آخر بإصابة أخ له طاعن في السن بعربته لقتله، وأشاعوا هذه التهم في الفورم فهاج الأهالي وطلبوا محاكمته فهرب إلى جهات إتروريا سنة 460 فرارا من العقاب وهو القتل جزاء تعديه على أحد نواب الأمة حال تقلده منصب النيابة كما كانت تقضي بذلك القوانين.
ولما هاجر أخذ يفكر في الانتقام من أهل وطنه فاستعان بأحد رؤساء السابيين واسمه هرديينيوس، وأغار على رومة ومعه كثير من المطرودين والمبعدين لشرورهم ومفاسدهم فاحتلوا الكابيتول ثم استخلصه الرومانيون وقتلوا كل من به من الأعداء، ولم تشترك الأمة في هذه الحرب إلا بعد أن وعدها القنصل فالريوس بقبول مشروع النائب ترنتليوس السابق ذكره جزاء مساعدته على طرد الأعداء، لكن لسوء الحظ قتل فالريوس في هذه الواقعة، وعين مكانه سنسناتوس والد سيزون الذي فر هربا من المحاكمة (وربما كان ضمن المقتولين في الكابيتول)، فلم يقم بنفاذ ما وعد به القنصل السابق وطلب من السناتو رفض المشروع فرفض.
إلا أن الأهالي داوموا على إصرارهم وثبتوا في طلبهم وأعادوا انتخاب نوابهم المساعدين على هذا المشروع خمس سنين متوالية، ولما لم تر الحكومة بدا من إجابة طلبهم منعا للمشاغب والفتن الداخلية التي تجرئ الأعداء على محاربتها عمدت إلى الحيلة والخديعة، فقررت أن يكون عدد نواب الأمة (التريبان) عشرة حتى يمكنها التفريق بينهم فيكون عدم اتحادهم مضعفا لقوتهم ومقللا من نفوذهم، لكن فطن الأهالي لهذه الحيلة فزادوا اتحادا وتضافرا على المطالبة بحقوقهم.
وفي سنة 484ق.م طلب النائب (إسليوس) أن توزع أراضي الحكومة الكائنة على مرتفع (أفنتان) على فقراء الأهالي، فقررت الأمة هذا الطلب في جمعيتها العمومية وألزم إسليوس القناصل على عرضه على السناتو وتحصل على تصريح خصوصي بحضور الجلسة التي بحث فيها في هذا الطلب (وكان ذلك غير جائز لنواب الأمة) وبقوة بيانه وبلاغة خطابه أقر السناتو عليه خوفا من حصول ثورة داخلية، وكان لحضور إسليوس مجلس السناتو نتيجة عظمى حيث اعتبر هذا التصريح الاستثنائي سابقة تتبع في المستقبل، وصار لنواب الأمة من ذلك التاريخ الحق في حضور جلسات السناتو للدفاع عن مشروعاتهم، بل وفي طلب انعقاده أيضا في جلسات فوق العادة للمداولة في المشروعات المهمة التي يكون في تأخيرها ضرر.
وبعد ذلك عادت الأمة للمطالبة بمشروع ترنتليوس القاضي بتدوين الشرائع وتقنينها، فماطل السناتو مدة، ثم لما رأى أن ضرر التسويف أكثر من نفعه وأن لا بد من الرضوخ لطلبات الأمة يوما طوعا أو كرها؛ قرر قبول هذا المشروع مبدئيا، وتعيين لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء للسفر إلى مدينة أتينة مقر حكومة الهلين الذين اشتهروا في التواريخ العربية باسم الإغريق، وإلى المدن التي أسسها الإغريق في جنوب إيطاليا للبحث في شرائعها وقوانينها وأخذ ما يوافق بلاد الرومانيين منها ووضع قانون كاف شاف بعد عودتهم من هذه الرحلة، وكان قصد السناتو بتعيين هذه اللجنة المماطلة وضياع الوقت في سفرها فتكون أفكار الأهالي قد سكنت وهدأت حركتهم فيتخلص السناتو من تنفيذ هذا المشروع، لكن لم تصب سياستهم ولم تنجح حيلتهم فإن الأعضاء الثلاثة عادوا في أقرب وقت.
فالتزم السناتو بتعيين هيئة حكومية من عشرة متشرعين خول إليهم السلطة المطلقة، وأوقف سير النظام الأصلي وأبطلت وظائف القناصل ونواب الأمة موقتا ريثما تتم الهيئة الجديدة مأموريتها؛ وهي سن قانون جامع ينبي عن العوائد القديمة مع إضافة ما يلائم البلاد من عوائد وقوانين الإغريق التي جمعها المندوبون الثلاثة، وابتدأت الحكومة الجديدة عملها في مايو سنة 450ق.م وكانت الرئاسة لكل منهم مدة أربع وعشرين ساعة فقط، فاشتغلت هذه اللجنة مدة سنة سارت الأمور في أثنائها بغاية الهدوء والسكينة، وفي ختامها أتمت سن ما كلفت به من القوانين وأمرت بنقشها على عشرة ألواح وتعليقها في الفورم ليطلع عليها العموم ويبدي كل إنسان ما يعن له من الملحوظات ويعرضها على اللجنة ، وهي بعد جمع هذه الملحوظات وتنقيح القوانين بمقتضى ما يوجد منها موافقا للصواب تعرضها منقحة على الأمة في اجتماعها العمومي فتقررها أو ترفضها.
ولما انقضت السنة الأولى ووجب تغيير أعضاء اللجنة العشرية حسب العادات الرومانية التي تقضي بتغيير الحكام كل سنة خوفا من طموحهم إلى الاستبداد سعى أحدهم المدعو أبيوس كلوديوس في أن يعاد انتخابه خلافا للعوائد المتبعة، وأن ينتخب الباقون من خاملي الذكر ضعاف العزائم الذين لا يقوون على معارضته، وساعده على ذلك شبان الأشراف انتقاما من الأمة على تحصلها على جملة حقوق وسعيها في الحصول على المساواة بهم، وقد جرأ أبيوس على ذلك نفس أعضاء مجلس السناتو الذين أظهروا له سرورهم من خطته ولم يراعوا واجب الدفاع عن حرية الشعب ناظرين إلى سوء العاقبة التي تعود عليهم من استبداد فرد بالسلطة إذ لا يقتصر ظلمه واستبداده على طبقة من الأمة، بل يتعدى إلى باقي الطبقات عاليها وسافلها، لكن هو الغرض يعمى عن نظر الحقيقة ويصم عن سماعها فتلحق المصيبة العموم، ولا يلتفت إلى عواقبها إلا بعد فوات الوقت، فيندم المتسببون فيها حيث لا ينفع الندم.
وبهذه المساعدات تحصل أبيوس على مرغوبه وأعيد انتخابه وانتخب رفاقه على حسب ما يحب ويهوى حتى صار هو صاحب السلطة المطلقة فعلا إن لم يكن قانونا، وصارت أرواح الأهالي وأموالهم في قبضة يده يتصرف فيها بما يمليه عليه الغرض ويلقنه إليه الطمع، ولا رادع يردعه لتوقيف جميع دواليب الحكومة ونظاماتها موقتا كما ذكر قبل.
واستمرت الحال كذلك إلى انتهاء السنة الثانية من تعيينه، ولما انتهت لم يظهر رغبته في الاستقالة لينتخب غيره كما جرت به العادة، بل ظل قابضا على أزمة الأحكام بصفة غير قانونية والأشراف مساعدون له وأعضاء مجلس السناتو غاضون الطرف عنه.
وفي هذه السنة أتمت لجنة التشريع لوحتين صار نقشهما وتعليقهما في الفورم كالعشرة ألواح السابقة، وسنأتي على ملخصها بعد.
ثم أتاح الله لرومة فرصة مناسبة كادت تتخلص بها من استبداد أبيوس وزملائه لولا ضعف عزيمة بعض أعضاء السناتو وعدم ثباتهم، وذلك أن بعض قبائل السابيين والأيك تعدت حدود رومة، فاجتمع السناتو بصفة غير اعتيادية لتقرير ما يلزم لصد الأعداء، وفي الجلسة قام أحد الأشراف الغيورين على حرية وطنه واسمه فلريوس وطعن في هيئة الحكومة التي يرأسها أبيوس وأبان مخالفتها للقوانين وضرورة إبطالها وإعادة الأحكام إلى ما كانت عليه خصوصا، وقد أتمت عملها التشريعي وعلقت الاثني عشر لوحا وختم خطابه قائلا إن أولاد الذين طردوا الملوك لا يخضعون لأوامر غيرهم، فعضده بعض الأعضاء وقاومه آخرون، وبعد مناقشة طويلة تقرر بقاء الهيئة موقتا على ما هي عليه، وأن تسلم لها الجيوش لمحاربة الأعداء فخرجت الجيوش للقتال وعادت بالخيبة لعدم كفاءة قوادها وعدم ثقة الجند بهم.
وبعد ذلك بقليل ارتكب أبيوس امرأ استبداديا يدل على تجرده من الشرف والذمة وكان السبب في نفور الأمة منه، وهو أنه أحب فتاة تدعى (فرجينيا) ابنة أحد الأعيان، فأوعز إلى أحد أتباعه أن يدعيها رقيقة له فيحكم له هو بذلك ويسلمها إليه ثم يردها إليه ليقضي منها أربه، فصدع التابع بأمره ورفع دعواه إليه فحكم بملكيته لها مع قيام الأدلة واتفاق الشهود على أنها حرة النسب.
فلما رأى والدها أن لا بد من تسليمها إليه فضل أن يقتلها ويعدمها الحياة على ما يلحقها ويلحق عائلتها من العار لو سلمها إلى هذا الباغي، فعمد إلى دكان قصاب وأخذ منها سكينا طعن بها ابنته وفلذة كبده طعنة كانت القاضية، ثم حمل جثتها ودمها البريء يسيل في الطريق حتى وصل إلى الفورم، وهناك اجتمع عليه الأهالي فأظهر لهم حقيقة الحال وشرح لهم تدبير هذه المكيدة بمعرفة أبيوس، فاستفزت الغيرة الحضور وهاج الشعب ضد هذا الباغي ومعضديه وانضم إليهم الجيش وطلب الجميع بلسان واحد إسقاط هذه الهيئة وإعادة الأحكام إلى سابق مجراها، فتوقف أبيوس قليلا لمساعدة بعض أعضاء السناتو الذين كانوا يخشون إعادة سلطة نواب الأمة (التريبان)، ثم انصاع خوفا من حصول ثورة أهلية تكون عاقبتها أكثر وخامة عليهم، واستقال هو وباقي أعضاء الحكومة الموقتة في سنة 448، وعاد الموظفون الأصليون إلى مناصبهم، ولنذكر الآن بطريق الإيجاز ملخص ما دونوه من القوانين في الاثنتي عشرة لوحة، وعلى من يريد الوقوف عليها تفصيلا أن يراجع القانون الروماني .
أهم ما جاء بهذه الألواح تقسيم الأملاك إلى عمومية وخصوصية وعدم جواز امتلاك العمومية بالمدة الطويلة مطلقا، وتملك الأراضي الخصوصية بوضع اليد عليها مدة سنتين فقط بشرط أن يكون واضع اليد رومانيا لا أجنبيا، أما الأجانب فلا يمكنهم امتلاك أراضي الرومانيين بالمدة مهما طالت، ولذلك كان الأجانب يسعون دائما في التجنس بالجنسية الرومانية حتى لا ينازعوا في أملاكهم بعد سنتين، والقصد من ذلك أمران: أولهما حمل الأجانب على طلب الدخول ضمن العشيرة الرومانية، وثانيهما - وهو الأهم - عدم إهمال الملاك أراضيهم خوفا من امتلاك الغير لها، فلا تهمل الأرض بل يعتنى بزراعتها واستغلالها فتزداد العمارية وتنمو الثروة، أما المنقولات والعبيد فتملك بوضع اليد مدة سنة واحدة، وأبقت القوانين الجديدة كافة حقوق رب العائلة على زوجته وأولاده وعبيده على ما كانت عليه من الإطلاق وعدم التقييد، ولم تبطل ما كان متبعا من جعل المدين رقا لدائنيه يبيعونه ويقتسمون ثمنه أو يقتلونه ويقتسمون جثته مع ما في هذه العادة من التوحش، وأجازت قتل اللص لو فوجئ ليلا حال تلبسه بالسرقة ونهارا لو حصلت منه مقاومة عند ضبطه، أما في مسائل الجروح والضربات وإتلاف الأعضاء فقررت بمجازاة المثل؛ أي العين بالعين والسن بالسن وهكذا ما لم يرض الجاني المجني عليه بالمال، إلى غير ذلك من الجزاءات.
وأهم ما جاء فيها في صالح الشعب مما كان يسعى وراءه هي المساواة في التقاضي والمحاكمة بين جميع الأفراد سواء في ذلك الرفيع والوضيع والشريف وغيره، فأبطل التمييز في التقاضي وصار القانون واحدا يخضع الجميع أمامه، وأهم من ذلك أنها جعلت جميع الأحكام قابلة للاستئناف أمام الأمة في جمعيتها العمومية، وأنها هي دون غيرها التي تحكم بالإعدام، وأن ما يقرره الشعب يكون قانونا عموميا على جميع الأهالي، وأن شاهد الزور والقاضي الذي يحيد عن الحق ويتبع سبيل الغرض أو يقبل الهدية يلقى من مكان شاهق.
وبذلك تحصلت الأمة على المساواة في الأمور المدنية التي لا يوجد عدل أو إنصاف إلا بها، إلا أنها لم تتحصل هذه الدفعة على المساواة في تقلد المناصب، بل ظلت الوظائف منحصرة في طبقة الأشراف، فمنهم القناصل (رؤساء الجمهورية) وأعضاء السناتو والكهنة والقضاة، وكذلك بقي الزواج ممنوعا بين الأشراف وغيرهم غيرة منهم على عدم الاختلاط مع أفراد الشعب وبقاء المناصب محتكرة في طبقتهم، لكن من يتأمل فيما نالته الأمة من الحقوق تدريجيا بثباتها واتحادها يحكم لأول وهلة أن لا بد من حصولها على جميع حقوقها الطبيعية التي كان منحها لها الملك سرفيوس وسلبها إياها تركان، فإن الحقوق لا بد من الحصول عليها يوما ما مهما اشتدت المعارضات، والنصر ينتهي دائما للحق ضد القوة، ولو فازت القوة بالغلبة فإلى حين إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه.
وبعد استقالة الحكومة الاستثنائية كما سبق شرحه توجه عضوان من السناتو محبوبان لدى الأمة وهما فلريوس وهوراسيوس إلى محل اجتماع الأمة ووعداها بإعادة انتخاب نواب الأمة العشرة مع حق استئناف جميع الأحكام أمام الأمة، وبالحصول على العفو المطلق عن جميع من اشترك في الهياج الأخير فانشرحت الأمة لهذه الوعود، لكنها احتلت قلعة الكابيتول ريثما ينفذ السناتو ما وعد به، فاستدعى السناتو الأهالي للاجتماع لانتخاب نوابهم، فاجتمعوا وتم الانتخاب على الطريقة القديمة ثم انتخب فلريوس وهوراسيوس السابق ذكرهما قنصلين وبذلك عادت الأحكام إلى سابق مجراها، ثم استصدر هذان القنصلان عدة قوانين ضامنة حرية الأهالي وعدم مساسها بسوء، أهمها أن كل من يسعى في تعيين حكام مطلقين تكون أحكامهم غير قابلة للاستئناف يجازى بالموت، وكذلك من يتعدى بالإيذاء على أحد نواب الأمة، وأن الحاكم الذي لا يجمع الأمة في آخر السنة لانتخاب نوابها يجازى بالجلد ثم يقتل، وأن جميع قرارات السناتو ينسخ منها صور يصدق عليها نواب الأمة وتحفظ بهيكل (سيريس) منعا لحصول الغش والتزوير فيها.
ولما توطدت الحرية وصار لا يخشى عليها قال فرجينوس والد فرجينيا الذي قتلها تخليصا لها من الوقوع في أيدي من لا يصون عرضها ويحافظ على شرفها، واتهم أبيوس رئيس الحكومة الاستثنائية الملغاة أمام الأمة بتحريض المدعي بملكيتها والتحيز له في الحكم قضاء لغرضه، فسجن أبيوس انتظارا للحكم على ما اقترفه، ولتحققه بما سيحكم به عليه قتل نفسه في السجن فرارا من العدالة، وكذلك أحد رفاقه العشرة، أما الباقون الذين ساعدوا أبيوس على استبداده فخرجوا من المدينة خوفا من المحاكمة وصودروا في أملاكهم.
وفي أثناء ذلك حارب هوراسيوس قبائل السابيين وانتصر عليهم نصرا مبينا أوقع الرعب في قلوبهم حتى لم يقدموا على محاربة الرومانيين مرة أخرى مدة مائة وخمسين سنة، ولما عاد منصورا لم يقبل السناتو أن يعمل له موكب حسب المعتاد انتقاما منه لمساعدة الأهالي في طلباتهم ضد الأشراف، فقررت الأمة ذلك في جمعيتها العمومية خلافا للعادة واحتفل به احتفالا شائقا، واعتبر هذا القرار قاعدة تتبع في المستقبل، وكان هذا الأمر قبل ذلك من حقوق السناتو ليس إلا.
وفي هذه السنة تعدت الأمة على أهم اختصاصات هذا المجلس وهو الإقرار على الحرب الذي كان له دون خلافه حتى في عهد الملوك، وبهذه الطريقة زادت حقوق الأمة كثيرا عن ذي قبل، وكانت كلما تحصلت على حق أو امتياز تنساق بحب التقدم والارتقاء إلى طلب غيره، وتثبت في المطالبة بالطرق السلمية تارة، وبالهياج والثورة أخرى حتى صارت هي صاحبة القول الفصل والسلطة الحقيقية في الحكومة كما يجب أن يكون الأمر في كل حكومة جمهورية.
ولما ازدادت سلطة الشعب وبالتالي سلطة نوابه (تريبان) ورأى الأشراف أن لا بد من امتدادها سنة عن سنة أرادوا أن يستفيدوا بهذه السلطة ويحولوها لمنفعة طبقتهم بحصولهم عليها كلها أو بعضها بالانتخاب، وذلك باستمالة المنتخبين وبذلهم المال والعطايا لهم، فشعر النواب بهذه المساعي التي لا يكون وراءها إلا ضياع كل ما تحصلوا عليه من الحقوق ونالوه من المزايا بعد العناء والتعب، واستصدروا قرارا من الأمة في سنة 447ق.م يحجر على الأشراف أن ينتخبوا في هذه الوظائف، وأن تبقى محتكرة لباقي طبقات الأهالي دونهم.
وفي هذه السنة وجه الشعب اهتمامه لمسألتين عظيمتين كانتا من أكبر المميزات بينه وبين الأشراف، أولاهما احتكار الأشراف لجميع وظائف الحكومة، والثانية عدم جواز التزاوج بين الطبقتين، فتحصلوا في الأولى على بعض الشيء وهو تعيين أمناء الخزينة العمومية وقضاة تحقيق الجنايات بواسطة الانتخاب العمومي بدون تمييز بين الطبقات؛ أي من الأشراف أو غيرهم على حد سواء، وكان تعيينهم قبلا بمعرفة القناصل وهم ينتخبونهم طبعا من الأشراف لعدم ثقتهم في غير أهل طبقتهم، وأما المسألة الثانية وهي عدم التزاوج بين الطبقتين فتحصلوا في سنة 445 على لغوها بالمرة بهمة النائب كانوليوس، وذلك أنه بعد أن تجمهر الأهالي وأظهروا استعدادهم للثورة خضع السناتو لطلبهم لاعتقاده أن الأخلاق والعوائد تمنع تنفيذه وتبقي الانقسام الأصلي على حاله، وأن طبقة الأشراف تستمر على عدم الاختلاط بمن هو أدنى منها في اعتقادها، وبعد ذلك طلب الشعب أن يعين من بين أفراده أحد القنصلين واثنان من مراقبي المالية (وكان لهم اختصاص نظار المالية الآن) فحاول السناتو واستعمل الدهاء وقرر أن يعين مراقبو المالية من الأشراف وغيرهم بدون تخصيص فمنح الشعب حقا يسهل عليه حرمانه منه، وفي الواقع لم يعين في هذا المنصب أحد من الأهالي عدة سنوات متوالية.
وأما مسألة تخصيص إحدى وظيفتي الرئاسة العظمى (قنصلية) بالأهالي والأخرى بالأشراف فراوغ فيها السناتو وصمم على رفضها وبقاء الوظيفتين في طبقة الأشراف، لكن لما رأى المماطلة لا تفيده شيئا، وأنه لا بد له من الرضوخ لطلبات الشعب بأجمعها إن أصر على المعارضة؛ قرر في سنة 444 بتعديل القانون الأساسي بكيفية ترضي الشعب ولا تسلب الأشراف جميع امتيازاتهم، بل تمنح الشعب بعض مزايا ظاهرية تسكن هياجه وتطفئ لهيب اشتياقه إلى تقلد الوظائف العالية ومشاركة الأشراف في المناصب، وبيان ذلك أن يعين ثلاثة موظفون عالون أو أكثر حسب الأحوال يكون انتقاؤهم من جميع الأهالي بدون نظر إلى حسب أو ثروة يقومون مقام القنصلين اللذين تلغى وظيفتهما ويعطى لهم لقب (نائب قنصلي) لجمعهم بين بعض اختصاصات نواب الأمة وبعض اختصاصات القناصل.
ولا تعطى لهؤلاء الموظفين جميع اختصاصات القناصل ، بل تجزأ سلطتهم بين عدة موظفين آخرين يختص ببعضها الأشراف دون غيرهم بحيث لا يبقى لهم إلا الاختصاصات الآتية:
أولا:
يجب أن لا تنحصر قيادة الجيش في أحدهم، بل يكون كل منهم قائدا لفرقة معينة؛ حتى لا تكون لأحدهم سلطة جسيمة يمكنه استعمالها لتنفيذ أغراض حزبه أو مطامعه الخصوصية.
ثانيا:
القضاء المدني؛ أي الحكم في المسائل المدنية.
ثالثا:
رئاسة مجلس السناتو والجمعيات العمومية.
رابعا:
وظيفة المحافظة على مدينة رومة من كل طارئ خارجي ومراقبة تنفيذ قوانين ونظامات الحكومة.
ثم أنشئت وظيفتان عاليتان تكون اختصاصات من يعين فيهما تعداد الأهالي وحصر ثروتهم لتقسيمهم إلى طبقات بحسب غناهم وفقرهم كما سبق شرحه في موضعه، وتحرير قوائم أعضاء السناتو والشوالية والمحافظة على الأمن داخل المدينة.
ومع تقليل اختصاصات وظيفة النواب القنصليين بهذه الدرجة فلم يعين فيها أحد أفراد الشعب إلى سنة 400ق.م، بل بقيت منحصرة في يد الأشراف كما كانت وظيفة القنصل الأصلية، وذلك لعدم تحتيم القانون الجديد تقسيمها بين الأهالي والأشراف، وجعلها مشتركة بينهم.
وزيادة على ما ذكر فإن وظيفة القنصل الأصلية لم تلغ بالمرة، بل أوقف التعيين فيها موقتا، وفي أول كل سنة كان يسأل السناتو الشعب عن رغبته في النظام الذي يرى أن يحكم به هذه السنة، أنظام القنصلية القديم أو نظام النواب القنصليين الحديث، وبهذه الطريقة تمكن السناتو - بما له من النفوذ والأعوان - من إعادة النظام القديم أربعا وعشرين مرة في مدة الثماني وسبعين سنة التي مكثها هذا النظام مع ما فيه من الاختلال، وعدم الثبات وتغيير نظام الحكومة من سنة لأخرى، ذلك الاختلال الذي جرأ أعداء رومة على التعدي على حدودها، وحمل أصحاب المطامع الذين يترقبون الفرص للاستحواذ على السلطة، والاستبداد بها على اتخاذ هذا الاعتلال وسيلة لتنفيذ ما تخفيه صدورهم من الأغراض المضرة باستقلال رومة والنوايا القاتلة لحريتها.
فمن ذلك ما حصل في سنة 437 من أحد الأغنياء إذ توهم أن الرومانيين يفضلون الراحة تحت سلطة حاكم مطلق يعدل بينهم على حالتهم الحاضرة لما فيها من القلق والاضطراب والأخذ والرد بين الأحزاب، فاشترى كثيرا من الغلال وأخذ يوزعها مجانا على الأهالي ليستميلهم إليه بسبب إمحال المحصولات وارتفاع أثمانها في تلك السنة، فأوجس السناتو منه خيفة وعين سنسناتوس (دكتاتور)؛ أي حاكما مطلقا ليوقف هذه الحركة ويقاوم تيارها ويجازي محازبي هذا الساعي في العبث بحرية وطنه بالعقوبات الصارمة التي تستدعيها الحال بدون مراعاة المرافعات والإجراءات العادية.
فطلبه سنسناتوس ليدافع عن نفسه فأظهر الامتناع والاحتماء بمن أحسن إليهم، وقاوم الحجاب الذين أرسلوا للقبض عليه؛ ولذلك اضطر الدكتاتور إلى إرسال قائد الفرسان لإحضاره قهرا، فذهب إليه ولما قاومه وامتنع عن الامتثال لأمره قتله بيده في وسط محازبيه وأنصاره، ثم هدم منزله وبيع ما جمعه من الغلال بأبخس الأثمان، وبذلك انتهت هذه الفتنة واستقال سنسناتوس من منصبه الموقت وعادت الأحكام إلى سابق مجراها بكل هدوء وسكينة.
هذا، وكانت الحروب في أثناء تلك الحوادث وبعدها مستمرة تقريبا بين الرومانيين ومجاوريهم، وكان النصر غالبا من جانب جيوش رومة ولم يحدث في خلالها من الأمور التي تستوجب الذكر إلا أمران: أولهما توقف القناصل في سنة 428 بعد انهزامهم في إحدى الوقائع عن تعيين (دكتاتور) لصد الأعداء كما كانت العادة، فاستعان السناتو بنواب الأمة على إلزامهم بذلك فلبوا دعوته وكانوا له عونا على الأشراف، وهي أول مرة قاوم فيها السناتو الأشراف وأخضعهم بمساعدة الشعب، وبذلك ازداد نفوذ الأهالي وتحصلوا في السنين التالية على عدة امتيازات.
وثانيهما محاصرة الرومانيين لمدينة (فايه) أهم مدائن الأتروسك، وهي التي أتعبت الرومانيين نحو قرن، ودخولها عنوة في سنة 395ق.م تحت قيادة فوريوس كامليوس الذي انتصر في عدة وقائع شهيرة، وقد أعقب فتح هذه المدينة خضوع عدة مدائن أخرى مهمة، وبعد ذلك عاد كامليوس إلى رومة ودخلها في موكب حافل متناه في الأبهة والعظمة، وزاد اعتباره في أعين العموم حتى صار ذا نفوذ عظيم أوجب الريب في نواياه وخيف من تطاوله إلى اغتصاب الحكومة، ولكون الرومانيين كانوا غيورين على حريتهم متمسكين باستقلالهم كانوا يخشون من ظهور أي إنسان وحصوله على محبة الأهالي من أن يعبث بنظام الحكومة ويستأثر بها، ولذلك كانوا يبادرون باتهامه لإلجائه إلى الخروج من المدينة، ولو أدى الأمر إلى انقلابه على وطنه وأهله ومساعدته الأعداء عليهم لعلمهم واعتقادهم أن عدوا أجنبيا مهاجما خير من عدو داخلي ينتخر عظام نظام الحكومة ويقوض أركانها شيئا فشيئا، ومما زاد حنق الأهالي عليه معارضته جميع ما يقدمه نوابهم من المشروعات، ومساعدة الأشراف على مشروعاتهم؛ فاتهموه في سنة 390ق.م بارتكاب الرشوة، ودعوه للمحاكمة فلم ينتظرها وفضل النفي الاختياري على الوقوف أمام هيئة القضاء وتبرئة نفسه مما نسب إليه.
قد فقدت رومة بخروجه قائدا مجربا وجنديا محنكا كان يقودها كثيرا ضد أعدائها، خصوصا وكانت أمة الجلوا المعروفة في كتب العرب باسم الجلالقة تتحفز للوثوب عليها كما سيذكر مفصلا في الفصل الآتي.
إغارة الغاليين (الجلالقة) على رومة
الغاليون أمة كانت تسكن في الأصل الأرض المكونة لجمهورية فرنسا الآن ثم ارتحل فريق منهم إلى إيطاليا ونزل في شمالها، ومنها انتشروا شيئا فشيئا حتى وصلوا إلى قرب رومة والمدائن المجاورة لها، وفي سنة390ق.م طلبوا من (كلوزيوم) إحدى مدائن الأتروسك أن تعطيهم بعض أراضيها، ولما امتنعت حاصروها فاستعان أهلها برومة فأرسلت ثلاثة سفراء للتوسط بين الفريقين، ولما قابلوا (برنوس) قائد الغاليين قال له أحدهم: بأي حق تهاجم هذه المدينة ولم يسبق بينها وبينكم عداوة؟ فأجابه بما معناه أن لا حق أمام القوة، فغضب السفراء ودخلوا المدينة المحصورة واشتركوا مع سكانها في الدفاع عنها.
وفي إحدى الوقائع قتل أحدهم المدعو امبوستوس قائدا غاليا بيده وجرده من سلاحه، فطلب الغاليون محاكمته، ولما امتنع الرومانيون عن إرضائهم تركوا مدينة كلوزيوم وقصدوا رومة للانتقام لرئيسهم، فقابلهم الجيش الروماني على بعد ميل خارج أسوار المدينة، وبعد قتال عنيف انهزم الرومانيون في 16 يولية سنة 390 بكيفية لم تسبق لهم من قبل وعادوا إلى مدينتهم بدون انتظام، ومن شدة ما داخلهم من الوهم والخوف من شجاعة الغاليين ومنظرهم الوحشي لم يقفلوا الأبواب، ولم يفتكروا في إقامة الحرس على الأسوار، بل التجأ فريق منهم إلى قلعة الكابيتول وتشتت الباقون شزر مزر في القرى والبلاد المجاورة، وتحصن الحكام وأعضاء السناتو في هذه القلعة بعد أن نقلوا إليها ما بالمعابد من الأشياء الثمينة، ولو تبعهم الغاليون بدون إبطاء لدخلوا القلعة بكل سهولة، لكن أشغلهم فرحهم بهذا الانتصار الغير منتظر عن تتميم فوزهم، فصرفوا هذا الوقت الثمين في تجريد القتلى عن ملابسهم وقطع رؤوسهم، ولم يدخلوا المدينة إلا في اليوم التالي، فلم يجدوا بها إلا بعض أعضاء السناتو الذين فضلوا انتظار العدو والتعرض للموت على الهروب والالتجاء إلى المدن المجاورة، فبهت الغاليون من سكونهم والخطر محدق بهم حتى ظنوهم من غير بني الإنسان ولمس أحدهم لحية رجل هرم من بينهم، فضربه الشيخ بعصاه فقتله العدو ثم سرى القتل في المدينة حتى لم يبق أحد ممن بقي بها، ثم اشتغلوا بنهب المنازل وحرقها بعد تجريدها، وأخيرا أرادوا الاستيلاء على قلعة الكابيتول عنوة، وكان الرومانيون قد أتموا تحصينها فردوا عنها بعد أن قتل منهم كثيرون على الأسوار، ولذلك اتفق رؤساؤهم على محاصرتها ومنع المدد والمؤنة من الوصول إليها.
واستمر الحصار مدة سبعة أشهر هلك من الغاليين في أثنائها خلق كثير بسبب هجوم الشتاء وعدم وجود حاصلات لترك الأرض بدون زراعة ولتفشي الأمراض فيهم، ولذلك تفرق المحاصرون في القرى والمزارع المجاورة للبحث على ما يقتاتون به، فهاجم اللاتين والأتروسك كل من مر بأرضهم من الأعداء دفاعا عن أموالهم، وصاروا يقتلون كل من عثروا عليه منهم، وكذلك القائد الشهير فوريوس كامليوس الذي كان هجر رومة هربا من المحاكمة كما سبق شرحه وأقام بمدينة أرديا جمع جيشا من هذه المدينة وقاتل فرقة من الغاليين وهزمها دفاعا عن وطنه الذي ظل محافظا على محبته والإخلاص له ولو اضطرته الظروف لمهاجرته، فلما رأى الرومانيون المقيمون بمدينة (فايه) هذا الإخلاص منه عينوه حاكما مطلقا وقائدا عاما لمطاردة الغاليين، ثم أرسلوا كومينوس إلى القلعة للحصول على قرار من مجلس السناتو يقضي بأن ترد إليه حقوقه الوطنية التي كان فقدها بسبب مهاجرته وباعتماد تعيينه، فذهب هذا الرسول إلى رومة وأفرغ جعبة الحيل حتى وصل ليلا إلى القلعة بدون أن يراه المحاصرون وتحصل على القرار المذكور وعاد من الطريق التي أتى منها.
وفي الصباح رأى الغاليون أثر أقدام فاقتفوها حتى وصلوا إلى أسوار القلعة وهاجموها فردوا عنها بعد أن خسروا خسائر جمة، لكن لم يتيسر للرومانيين البقاء في هذه الحالة لنفاد المؤنة وعدم إسراع كامليوس بالمجيء لنجدتهم، فاتفق النائب الحربي مع قائد المحاصرين على أن يرفعوا الحصار عن القلعة ويخلوا المدينة ويعودوا لبلادهم بشرط أن يدفع لهم الرومانيون مقدارا من الذهب يبلغ وزنه بالموازين الحالية 326 كيلوغراما وثلثا تقريبا، ويقدموا لهم ما يلزمهم من المؤنة وعربات ودواب النقل، فغش الغاليون في وزن الغرامة ولما لاحظ الرومانيون ذلك عليهم أجابهم القائد (برنوس) قائلا «ويل للمهزومين» وألقى سيفه ونجاده في الميزان وألزم الرومانيين بدفع ثقلها ذهبا فدفعوه مكرهين.
لكن لما بلغ كامليوس خبر هذه المعاهدة لم يصادق عليها، بل نبذها ظهريا وأوعز إلى المدائن المحالفة لرومة بعدم إمداد الغاليين بشيء وقفل الأبواب أمامهم ومهاجمة ما يلاقونهم من فرقهم وقتل كل من يتخلف منهم في الطريق، وجمع هو عددا عظيما من بقايا الجنود الرومانية وتبعهم في عودتهم، وبذلك قتل كثير منهم ولم ينج إلا القليل وقد بالغ بعض مؤرخيهم في الحادثة وعدوها من الانتصارات المهمة.
وبعد انسحاب الغاليين عاد إلى رومة من هاجر من أهلها، ولما وجدوها خاوية على عروشها وقد التهمت النار أغلب منازلها؛ ارتأى بعضهم تركها ونقل من بقي من سكانها إلى مدينة (فايه) واتخاذها عاصمة لهم، لكن لم يوافقهم الباقون ولا أعضاء السناتو بل قرروا البقاء في رومة وإعادة مبانيها إلى سابق حالها، ثم تقرر منح الحقوق الرومانية إلى أهالي فايه وكابنيه وفاليريا المفتتحة حديثا لزيادة عدد الرومانيين، وتعويض من نقص منهم أثناء هذه الحرب التي كادت تكون القاضية عليهم وعلى مدينتهم الباقية للآن رغما عن تتابع الفاتحين واختلاف المغيرين.
ومن ثم اهتم الجميع في إعادة بناء المعابد والأماكن العمومية فضربت لذلك الضرائب الفادحة واضطر الفقراء للاستدانة بالفوائد الباهظة فاشتد الإعسار ، وزج كثير من المعسرين في السجون لعدم إمكانهم القيام بدفع ما عليهم من الديون كما حصل بعد الحروب التي أعقبت تأسيس الجمهورية.
فأراد أحد الأشراف واسمه منليوس أن ينتهز هذه الفرصة المناسبة لاستمالة الأهالي إليه للحصول على إحدى الوظائف العالية إن لم تكن أنظاره تطمح إلى الاستئثار بالسلطة، وتضحية استقلال وطنه على هيكل أغراضه فدفع ديون أربعمائة نفس من المسجونين، وتظاهر بالدفاع عنهم وحضهم على مقاومة الأغنياء وعدم دفع ديونهم إليهم، فتوجهت إليه الظنون وخيف أن يكون قصده غير صالح؛ فاتهمه بعض نواب الأمة كما اتهم كراسوس وسبوريوس من قبله، إلا أنه لما حضر للمحاكمة عدد الوقائع التي انتصر فيها على الأعداء وما حازه من علامات الشرف وأظهر آثار ما أصابه من الجروح في الدفاع عن وطنه فبرئت ساحته، ثم اتهم ثانيا وفاز أعداؤه عليه فحكم عليه بالإعدام، فالتجأ مع أنصاره إلى قلعة الكابيتول لمقاومة الحكومة، وعندما كان واقفا بقرب صخرة (تربيا) التي يلقى من شاهقها كل خائن لوطنه دفعه أحد من كان حوله من أعلاها فسقط هشيما، وبذلك انقضت هذه الفتنة وهدم بيته كما كانت العادة.
حصول الشعب على المساواة في الحقوق
السياسية
ولما انقضت الأزمة الشديدة التي أعقبت جلاء الغاليين عن رومة وانتهت فتنة منليوس بالكيفية السابق شرحها، وعادت الأحكام إلى نظامها الأصلي، وهدأت الخواطر؛ اتجهت الأفكار إلى محو ما كان باقيا للأشراف من الامتيازات، والاستئثار بأهم الوظائف، وتقرير المساواة بين أفراد الشعب بدون تمييز بين الطبقات بكيفية تجعل مشاركة الأهالي في الوظائف العالية مشاركة حقيقية لا وهمية، كما حصل عند تعديل نظام الحكومة في سنة 444ق.م بالطريقة التي أتينا على تفصيلها في موضعه، فقام كل من لسنيوس استولون وسكستيوس حين انتخبا نائبين عن الشعب (تريبان) في سنة 376 وقدما مشروع إصلاح جاء فيه:
أولا:
أن لا ينتخب النواب الحربيون من الأشراف وغيرهم؛ الأمر الذي جعل انتخابهم من غير الأشراف نادرا جدا، بل ينتخب قنصلان كما كان قبل سنة 444 بشرط أن يكون أحدهما من الأشراف والآخر من الأهالي .
ثانيا:
أن لا يستحوذ أحد على أكثر من خمسين فدانا رومانيا
1
من أطيان الحكومة، وأن لا يطلق في المراعي العمومية أكثر من مائة رأس من البقر أو خمسمائة من الأغنام، وأن يعطى لكل روماني فقير ما يوازي هكتارا وثلاثة أرباع من الأرض، وأن كل من يستغل جزءا من أراضي الحكومة يؤخذ منه عشر محصولها ما عدا شجر الزيتون والكروم، فيؤخذ خمس محصولها، وأن يستعمل هذا الإيراد في ترتيب ماهيات لأفراد الجيش.
ثالثا:
أن تحقق ديون الأهالي، وذلك بأن كل ما دفع عنها من الفوائد يخصم من الأصل، ويقسط الباقي على ثلاث سنوات.
فعارض الأشراف حفظا لحقوقهم السياسية وديونهم، وأصر كل من الطرفين على عدم التسليم للآخر لكن بالطرق القانونية لا الثورية الموجبة لتفرق الشعب وانقسامه على بعضه وإراقة الدماء التي يحق الحفاظ عليها لمحاربة الأعداء فقط، فأعاد الشعب انتخاب نائبيه اللذين قدما هذه المشروعات الثلاثة عشر سنوات متوالية رغما عن معارضة الأشراف، وكانا في كل سنة يقدمان مشروعاتهما ويلحان في طلب تقريرها مع معارضة الأشراف بعض زملائهما لهما بمساعي ودسائس الأشراف وأعضاء السناتو، وأخيرا مل الشعب من الانتظار وأظهر رغبته في قبول تقرير مشروعي الأراضي والديون فقط وإرجاء مشروع المشاركة في وظيفتي القنصلية لفرصة مناسبة، فعارض سكستيوس وقال بقبول المشروعات الثلاثة معا أو رفضها معا إذ إن فصلها عن بعضها بعد المثابرة عشر سنوات مما يحط بقدر الشعب في أعين الأشراف، ويحملهم على الظن بأن الأهالي لا يقوون على الثبات أمام معارضتهم، وتكون نتيجة ذلك عدم تقدير طلباتهم في المستقبل حق قدرها، والمماطلة في قبولها حتى يسأم الشعب ويتركها وتبقى القوة والسلطان للأشراف.
وفي سنة 367 توسط القائد الشهير كامليوس وأقنع السناتو بضرورة التصديق على هذه الطلبات العادلة حتى تتحصل الأمة على حقوقها، ولا يبقى ثمة سبب للشقاق والانقسام فصدق عليها وانتخب سكستيوس أول قنصل من الأهالي وزال الخلاف وانتهى التنازع على السلطة بعد أن استمر نحو مائة وخمسين سنة، وأقام كامليوس تذكارا لذلك هيكلا للمعبود الذي يمثل الوفاق والاتحاد.
ولما صادق السناتو على قبول غير الأشراف في وظيفة القنصلية سلخ عنها بعض الاختصاصات المهمة وخصها بالأشراف، وأوجد وظيفة (بريتور) وجعل من اختصاصاتها إدارة القضاء وتفسير المسائل القانونية مع حق الفصل في القضايا.
وفي سنة 365 أنشأ إدارة البلدية وخصها كذلك بالأشراف وجعل من شؤونها ملاحظة الشوارع وأقنية جلب المياه للمدينة والمحافظة على المباني العمومية، وملاحظة الأعياد والاحتفالات والألعاب الأهلية، وبالاختصار كانت اختصاصاتها تقرب من اختصاصات المجالس البلدية الموجودة بقطرنا الآن، فبقي للقناصل بعد سلخ هذه الاختصاصات قيادة الجيوش ورئاسة السناتو والخدمة العسكرية إلا أن حق تعيين حاكم مطلق في الظروف الحرجة بمعرفة السناتو أنقص من أهمية الامتياز الجديد الذي منح للأهالي؛ لأنه كان يستعمل هذا الحق عند الانتخابات العمومية للتأثير على المنتخبين، وكذلك في الحروب المهمة حتى لا يحتفل بانتصار قنصل من الشعب بالطريقة المتبعة غيرة من الأشراف على هذا الامتياز القديم، ولقد أكثر السناتو من استعمال هذا الحق فعين أربعة عشر دكتاتورا من سنة 364 لسنة 343؛ أي في مدة إحدى وعشرين سنة.
وفي أثناء ذلك حصلت حوالي رومة عدة حروب كان النصر النهائي فيها للرومانيين بعد أن هربوا عدة مرات، ففي سنة 362 تألب اللاتينيون عليها وفازت قبائل الهرنيك على جيوشها وقتلوا قائدهم.
وفي سنة 460 أغار الغاليون
2
ثانيا على أرباض المدينة ووصلوا إلى أحد أبوابها مدحورين، وفي سنة 357 هاجمها سكان مدينة تركوينيا وهزموا جيوشها وقتلوا قائدهم وذبحوا 307 جنود من الأسرى قربانا لآلهتهم، ثم هزموا مرارا بين سنة 356 وسنة 350، واضطروا في هذه السنة لعقد معاهدة صلح مع رومة لمدة أربعين سنة، وفي سنة 356 عاود الغاليون الكرة عليها فانتصرت عليهم بمساعدة اللاتينيين الذين رأوا أخيرا أن الاتحاد مع الرومانيين على محاربة هؤلاء الأجانب أضمن لاستقلالهم وأولى من الانقسام والشقاق، لكن لم تكن هذه الإغارة هي الأخيرة من قبل الغاليين، بل جمعوا قواهم وهاجموها المرة الأخيرة في سنة 349 فانتصر الرومانيون عليهم هذه الدفعة نصرا مبينا تحت إمرة وقيادة فلريوس بن كامليوس الذي رد إغارتهم الأولى فلم يعودوا إليها، وقد لقب هذا القائد بالغراب تذكارا لحادثة يروونها، ويغلب أنها وهمية لا حقيقية لها، وهي أنه بارز أحد قواد الغاليين في أثناء القتال، فنزل غراب على خوذته وأخذ ينقره في عينيه ويرفرف عليه بجناحيه حتى لم يتمكن من الدفاع عن نفسه وقتله فلريوس.
وفي سنة 345 فتح الرومانيون مدينة (سوره) إحدى مدائن الفولسك؛ فزال بذلك المانع الذي كان يعوقهم من التقدم إلى إقليم (كمبانيا) التي كانت رومة تطمح إلى الاستيلاء عليه لخصوبة أرضه ووفرة حاصلاته.
وبهذه الانتصارات المتوالية والفتوحات المتتالية في الخارج، وحصول الشعب على المساواة في جميع الحقوق السياسية تقريبا، واستتباب الأمن بسبب ذلك في الداخل؛ صارت الجمهورية الرومانية أقوى الولايات التي كانت تكون لما نسميه الآن بمملكة إيطاليا، وداخلها حب امتداد النفوذ والفتوحات إلى ما وراء حدودها؛ فساقت الجيوش إلى جميع الحكومات المتاخمة لها وفتحتها شيئا فشيئا حتى أدخلتها تحت سلطانها وتعدتها إلى غيرها كما سيأتي مفصلا، ولنذكر الآن بكل إيجاز واختصار الحروب التي كانت نتيجتها بسط سلطة رومة على جميع إقليم إيطاليا فنقول:
هوامش
فتح إيطاليا
من سنة 345ق.م إلى سنة 272ق.م
تنقسم هذه الحروب التي استمرت 73 سنة تتخللها بعض سني صلح وسلام إلى سبعة أقسام: الأول من سنة 345 إلى سنة 341، وكانت نتيجته فتح مدينة (كابوه)، والثاني من سنة 340 إلى سنة 338، وفيه تم إخضاع إقليم اللاسبوم موطن قبائل اللاتين، والثالث من سنة 326 إلى سنة 311، وفي خلالها فتح إقليما أبوليا وكمبانيا، والرابع من سنة 311 إلى سنة 303، وفيه أخضعت رومة كل قبائل الهرنيك والأيك، والخامس من سنة 300 إلى سنة 290، وفيه تم إذلال قبائل السمينين واحتلال جميع أقاليم إيطاليا الوسطى، والسادس من 285 إلى 280، وفيه فتحت أقاليم إيطاليا الشمالية ما عدا وادي نهر (بو)، واحتل الرومانيون أراضي قبائل الأتروسك والأمبريين والغاليين النازلين بإيطاليا، والسابع من سنة 280 إلى سنة 272، وهو يشمل حروب بيروس التي انتهت باحتلال الرومانيين لأقاليم إيطاليا الجنوبية المعروفة في التاريخ القديم باسم إغريق الكبرى وفتح مدينة ترنته أهم مدائن اليونان (الإغريق) في إيطاليا.
ولما كان ذكر الحروب بتفاصيلها وحذافيرها لا يفيد المطالع سوى الملال، ولا يورثه إلا الكلال اكتفيت بما ذكرته آنفا من نتيجة هذه الحروب فقط لعدم التطويل خصوصا وأن إغفالها لا يضيع من ثمرة الكتاب شيئا ما، وحيث كان أهم الحروب ما حصل منها أخيرا مع الإغريق بقيادة زعيمهم بيروس ملك إبيروس الذي استدعته من بلاده لشهرته وشجاعته أردت أن أشرحها بالإيضاح الكافي والبيان الشافي، وتفصيل ذلك أن مدينة توريوم الواقعة على البحر بالقرب من مدينة ترنته استعانت بالرومانيين لما هاجمها بعض مجاوريها، ولما طلبت سنة 282 أن تكون تحت حمايتهم لبوا طلبها وأعانوها على رد إغارة أعدائها عنها، وأقاموا فيها حامية من جنودهم لإنجادها عند الحاجة فلم تنظر ترنته إلى هذا الاحتلال بعين الرضى، بل عزمت على انتهاز أول فرصة لطرد الرومانيين من جوارها حفظا لاستقلالها وخوفا من وصول أيديهم إليها.
وبعد ذلك أضافت رومة إلى حامية هذه المدينة أسطولا بحريا مركبا من عشرة مراكب حربية، وفي ذات يوم تجول هذا الأسطول حتى وصل إلى مدخل ميناء ترنته، وكان الأهالي مجتمعين على الساحل في إحدى التياترات، فلما رأوا مراكب الرومان مقبلة ظنوا أنها تريد شن الغارة عليهم، فأسرعوا إلى مراكبهم وخرجوا لمحاربة مراكب الرومانيين فهاجموها بشدة وأغرقوا أربعة منها وأخذوا واحدة وقتلوا من بها، ثم ساقهم الغرور إلى مهاجمة مدينة توريوم وطرد حاميتها الرومانية منها بدون إعلان حرب، فلما وصلت هذه الأخبار المكدرة إلى رومة أرسلت سفيرا التي ترنته يطلب من أهلها رد المراكب المأخوذة وتقديم الترضية اللازمة عن هذا التعدي، فأهانوا السفير وأخرجوه من بلدهم بحالة غير مستحسنة، فلم يسع رومة بعد هذه الإهانات المتكررة إلا إعلان الحرب عليها وتجهيز الجيوش والكتائب لتأديبها والانتقام منها، ولما اقتربت الجيوش الرومانية من ترنته أرسل قائدها إلى أهلها يعرض عليهم الصلح إذا قاموا بالترضية المطلوبة، فمال الأغنياء إلى السلام وعارضهم الشبان والمتطرفون وأبوا إلا الحرب، واستدعوا بيروس من بلاد الإغريق ليرأس جيوشهم فأتى إليهم طمعا في فتح إيطاليا الجنوبية وجعلها مملكة له، واستصحب معه خمسة وعشرين ألف مقاتل وعشرين فيلا، ولما وصل إلى ترنته أمر بقفل التياترات ومحلات الملاهي العمومية وجبر جميع الأهالي على الانخراط في سلك الجندية والتمرن على الأعمال العسكرية، فهاجر كثيرا منهم لحبهم للملاذ وبغضهم للتقشف والتعب، ولتوهمهم أن هذا الأجنبي يدافع عنهم وهم مرتاحو البال منغمسون في الملاهي والمفاسد، فخشي بيروس شر العاقبة وعرض الصلح على الرومانيين فرفضوه بكل إباء وشهامة غير قابلين توسط هذا الأجنبي في شؤون الجزيرة الإيطالية التي كانت رومة تبذل جهدها في نشر لوائها عليها، وعقدوا الخناصر على مكافحة هذا الدخيل وإلزامه العودة لبلاده، ولما لم ير بدا من القتال خرج بمن أتى معه من الجنود والتقى بجيوش الرومانيين بقرب هرقليه وكادت تدور عليه الدائرة لولا أن أزعج الرومانيين منظر الأفيال لعدم رؤيتهم لها من قبل فولوا مدبرين بعد أن قتل منهم نحو خمسة عشر ألفا، وقتل كذلك من جيوش بيروس نحو اثني عشر ألف مقاتل؛ أي نحو نصف جيوشه، ولتحققه من عدم اقتداره على استمرار الحرب بباقي جيوشه طلب الصلح ثانيا من رومة، وأرسل إليها سينياس الشهير بالفصاحة وقوة الحجة، فسافر إليها حاملا هدايا فاخرة لأعضاء السناتو وزوجاتهم فلم تقبل منه الهدايا ولم تفده فصاحته، بل طلب السناتو جلاء بيروس وجنوده عن إيطاليا أولا، ثم ينظر بعد ذلك في أمر الصلح، وكلفوه بالرجوع إلى مرسله بدون إمهال وتبليغه ذلك وإلا تزحف الجيوش الرومانية لطرده.
فعاد سينياس إلى معسكر بيروس مقتنعا بوجوب الجلاء عن هذه البلاد عاجلا لما شاهده من استعداد الرومانيين واتحادهم على قتاله لآخر نقطة من دمهم، لكن لم يصغ بيروس لنصائحه، بل زحف خلسة بقليل من رجاله ومر من بين جيوش الرومانيين قاصدا مدينة رومة نفسها مؤملا الوصول إليها قبل أن يصل الرومانيين خبره فيستعدوا للدفاع عنها، وصار ينهب كل ما يمر عليه في طريقه من القرى والبلدان، لكن لما اقترب من رومة وجد أهلها قد استعدوا للقائه، وكادت الجيوش التي اقتفت أثره تقطع عنه خط رجعته فعاد مسرعا إلى ترنته مكتفيا بما اكتسبه من الغنائم وجمعه من الأسلاب.
وفي ربيع سنة 279 حاصر مدينة تسكولم فأتت الجيوش الرومانية لإنقاذها وحاربت جيوش الأعداء بكل بسالة وإقدام وقتلوا منهم خلقا كثيرا، لكن لم يقووا على الانتصار عليها وإلزامها رفع الحصار عن المدينة لخوف خيولهم من منظر الأفيال، ومع ذلك فكان بيروس هو الخاسر في هذه الواقعة لموت أغلب جنوده التي أتى بها من بلاد اليونان وعدم قيام الأهالي المستنجدين به لمساعدته، فاضطر لرفع الحصار عن تسكولم بدون قتال آخر وعاد إلى ترنته متحيرا في أمره.
وبينما هو على هذا الحال إذ أتاه وفد من اليونان النازلين بجزيرة صقلية يطلبون منه المعاونة والمساعدة على رد إغارة القرطاجيين عنهم، فسافر بكل سرعة لنجدتهم مع من بقي بجيوشه مؤملا النصر بالسهولة على القرطاجيين والعودة لمحاربة رومة بمساعدة يونان صقلية، فنزل بمدينة سيراكوزة وكان القرطاجيون محاصريها ومضايقين عليها الخناق، فحارب المحاصرين وقهرهم ثم تبعهم إلى داخل الجزيرة مقتفيا أثرهم من مدينة لأخرى، وقبل الإجهاز عليهم وطردهم من الجزيرة وقع الخلاف بينه وبين محالفيه المستنجدين به فتركهم وعاد إلى جنوب إيطاليا لتتميم مشروعه الأول وهو امتلاك إقليم ترنته وما جاوره من البلاد، وعند اجتيازه بوغاز مسينه الذي يفصل جزيرة صقلية عن بلاد إيطاليا هاجمته سفن القرطاجيين وأغرقوا بعض سفنه بمن فيها واستولوا على ما كان معه من الأموال والأشياء الثمينة، ولم ينج هو وباقي سفنه إلا بكل مشقة.
ولما عاد إلى ترنته لم يمهله الرومانيون ريثما ينظم ما بقي من جيوشه، بل داهموه بالقرب من مدينة بنفنوتم (Benvenutum)
وانتصروا عليه نصرا مبينا لم تقم له بعده قائمة، وكان ذلك لتعود الرومانيين وخيولهم على منظر الأفيال، واحتفل بالقائد كوريوس الذي كان قائدا للجيوش الرومانية في هذه الموقعة احتفالا عظيما حين عودته إلى رومة، فدخلها على مركبة تجرها أربعة من الأفيال التي أخذت من جنود بيروس ضمن الغنائم، ووصل صدى هذا الانتصار إلى مصر فأرسل ملكها بطليموس الملقب فيلادلف؛ أي محب إخوته، وفدا إلى رومة لتهنئة السناتو والسعي في إبرام معاهدة بين الحكومتين.
هذا؛ أما بيروس فلما لم يبق له أمل في تنفيذ مشروعه عاد إلى بلاده بخفي حنين مع من بقي من جيوشه تاركا في مدينة ترنته حامية قليلة تحت إمرة أحد ضباطه المسمى ميلون وأثار هو نيران الفتن في بلاد مقدونية، ونودي به ملكا عليها ثم قتل سنة 272 عند محاصرته مدينة (أرجوس) بعد أن قضى حياته في الحروب والفتن والسعي للحصول على بقعة من الأرض والتملك عليها.
وبعد انسحاب بيروس ورجاله من بلاد إيطاليا استمرت الحرب بها بين الرومانيين والقبائل الساكنة بجنوب إيطاليا مدة من السنين؛ انتهت بانتصار الرومانيين، واستيلائهم على ما بقي مستقلا بإقليم الجنوب وبلاد اتروريه.
وفي سنة 272ق.م اضطر ميلون قائد حامية ترنته إلى تسليمها للرومانيين وبذلك امتد نفوذهم إلى أطراف الجزيرة الإيطالية وأشرب الشعب الروماني حب الحروب والفتوحات، وصار شعبا حربيا اكتسب جميع الصفات التي تؤهله لذلك في هذه الحروب المستمرة ضد الأجانب، وسنرى فيما يأتي ما وصلت إليه هذه الدولة من الاتساع وبسطة النفوذ حتى امتد ظل لوائها على جميع الجهات المسكونة في ذلك العهد تقريبا، وكانت أول حروبها الخارجية مع حكومة قرطاجة الباقية أطلالها للآن بقرب مدينة تونس الخضراء، ولا بأس من أن نذكر طرفا من كيفية ترتيب الحكومة الرومانية، وما حصل فيها من التغيير والتبديل أثناء المدة التي كانت فيها نيران الحرب مشتعلة لفتح جنوب إيطاليا قبل الشروع في تفصيل حروب رومة وقرطاجة، وبيان تاريخ هذه الدولة التي لم يسبق ذكرها في هذا الكتاب.
إدارة وتنظيم الأقاليم الإيطالية
قد اتبعت رومة مع الأمم التي فتحت بلادها وضمتها إليها سياسة مبنية على الحكمة وبعد النظر والتبصر في العواقب فلم تعاملهم معاملة ملوك وحكومات تلك الأزمان الغابرة لمن تؤخذ بلادهم؛ أي معاملة الاسترقاق والتملك الحقيقي على الأموال والأنفس، ولم تعاملهم بضد ذلك مرة واحدة؛ أي لم تمنحهم جميع ما للرومانيين الأصليين من الحقوق، بل اتبعت طريق الرشاد والسداد وعاملت كل أمة بما يناسبها ويضمن بقاءها ضمن الجمهورية الرومانية مراعية في ذلك بعدها عن مدينة رومة وقربها منها ودرجة ولائها لها، فأعطت القبائل المجاورة لها جميع حقوق الرومانيين ليكونوا حاجزا بينها وبين أعدائها البعيدين، وشكلت منهم اثنتي عشرة قبيلة رومانية جديدة، وبذلك بلغ عددها ثلاثا وثلاثين قبيلة، لكنها وزعت أصوات الانتخاب بينها بكيفية تجعل الأغلبية دائما لسكان رومة الأصليين لحفظ نفوذهم وسيادتهم على باقي الأمم المنضمة إليهم حديثا بطريقة غير محسوسة.
ومنحت لبعض مدن اللاتين امتيازات خصوصية كانتخاب حكامها وقضاتها وتوزيع الضرائب بين أهلها، وسهلت لهم التجنس بالجنسية الرومانية فجعلتها حقا لكل حاكم أو قاض قضى مدة تقلده الوظيفة بكل أمانة وصداقة، ومكافأة لكل من يأتي عملا جليلا نافعا لأبناء وطنه، وغير ذلك من الطرق المسهلة للحصول على ما للرومانيين من الحقوق؛ إذ كانت تمنح باقي المدن والأمم المفتتحة حديثا تارة حق الاتجار مع الرومانيين والتعامل على حسب نصوص القانون الروماني، وأحيانا حق التزاوج معهم وآونة جميع الحقوق إلا حق الانتخاب حسب الظروف، وبالاختصار فإنها لم تتبع مع رعاياها طريقة واحدة، بل طرقا متنوعة تتغير تبعا للأحوال والمقاومة التي حصلت منها وقت الفتح، وبعض الأمم لم تمنح شيئا من ذلك، بل بقيت بالنسبة للرومانيين الأصليين كنسبة غير الأشراف لهم قبل حصول هؤلاء عن جميع الحقوق كما سبق بيانه في موضعه.
واتخذت رومة طريقة أخرى لتأييد سلطتها على هذه القبائل وعدم تمكينهم من التحالف والاتحاد ضدها، وهي أقامة مستعمرات من الرومانيين بين ظهرانيهم تكون كحاميات عسكرية ضد كل طارئ خارجي أو داخلي، ونشر عوائد الرومانيين ولغتهم بينهم من جهة أخرى، وأخيرا بث الدم الروماني في عروقهم بالتزاوج والاختلاط الحقيقي، فيزيد الارتباط بينهم حتى بعد زمن يسير تصير هذه الأمة أو المدينة المغلوبة رومانية حقيقية في الدم والأخلاق واللغة والأفكار والمشارب، وينمحي ما كان بينها من الاختلاف والتباين في جميع ذلك، وتصير سكان الجزيرة الإيطالية أمة واحدة رومانية عزيزة الجانب قوية الشوكة يمكنها الإغارة على ما وراء حدودها من الإيالات والممالك، وصد كل من يتعدى حدودها من الغزاة والفاتحين ولتسهيل المواصلات بين هذه المستعمرات أو النقط العسكرية وبين أطراف البلاد من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب وتشهيل إرسال الجنود إلى أي نقطة يفاجئها العدو أنشأت رومة طرقا عسكرية متسعة ومرصوصة بالأحجار المنحوتة الصلبة، وأقامت الجسور والكباري الحجرية على الجداول والأنهار التي تقطعها هذه الطرق، فكانت فيما بعد من أهم معداتها الحربية كالسكك الحديدية في عصرنا هذا، ولم تزل آثارها باقية للآن في جميع البلاد التي فتحها الرومانيون شاهدة لهم بحسن الإدارة ودقة التدبير.
الحرب البونيقية الأولى
هي الحرب التي دارت رحاها وحمي وطيسها بين الجمهورية الرومانية وجمهورية قرطاجة؛ بسبب ادعاء كل منهما السيادة على البحر المتوسط الذي كان مرسحا لسفن قرطاجة التجارية، تشق عبابه لنقل السلع والمتاجر إلى جميع البلاد والثغور الواقعة على شواطئه، فإن قرطاجة كانت السيدة الوحيدة على هذه الطريق التجارية، ولما ازدادت فتوحات رومة، ووصلت إلى أطراف إيطاليا الجنوبية، واحتلت مدائن ترنته ونابولي وغيرهما من الثغور المهمة، وأخذت في إنشاء السفن الحربية والتجارية؛ خشيت قرطاجة مزاحمتها لها في التجارة التي كانت مورد ثروتها وينبوع غناها، كما كانت أساس حياة بلاد فنيقيه التي خلفتها قرطاجة في مهنة نقل الحاصلات بين الأقاليم وبعضها، مع أنها كانت إحدى مستعمراتها العديدة المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وبعض سواحل المحيط الشمالية، ولنذكر هنا لمحا من تاريخها ونظامها قبل تفصيل ما حصل بينها وبين رومة من الحروب التي كانت نتيجتها خراب قرطاجة وسيادة رومة على البحار فقط، بل على جميع أقطار أوروبا وشمال أفريقيا وغربي آسيا، وجعل البحر المتوسط بحيرة رومانية تحيط أملاكها من جميع الجهات فنقول:
كانت هذه المدينة عبارة عن إحدى الحلقات المكونة لسلسلة المستعمرات التي أسستها فنيقيه على جميع طرقها البحرية إلا أن موقعها الجغرافي بالقرب من جزيرة صقلية وفي منتصف البحر المتوسط، وعدم وجود جبال خلفها تمنع امتدادها في الداخل ووجود سهول إقليم تونس الخصبة في جنوبها وغير ذلك من المزايا الطبيعية ساعدها على النمو والارتقاء أكثر من مدينة (صور) عاصمة الفينقيين نفسها، ولما ظهرت أمة الإغريق في العالم وتغلبت تجارتها على تجارة صور في شرق البحر المتوسط ازدادت تجارة قرطاجة الجزء الغربي منه، وأخيرا لما اضمحل حالها وسقطت في هوة الانحطاط والتقهقر حين فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332ق.م سادت قرطاجة على البحر المتوسط وملكت زمام تجارته، وبلغت من الغنى والثروة مبلغا لم تبلغه صور ولا غيرها من قبلها، وفتحت سواحل البلاد المكونة الآن لولاية الجزائر ومراكش وإسبانيا وجنوب فرنسا، وأقامت فيها المراكز التجارية لتبادل التجارة مع أهاليها المنغمسين في الهمجية والتوحش، واحتلت جميع الجزائر الموجودة في هذا القسم من البحر المتوسط؛ مثل سردينيا، وكورسيكا، ومالطة، وجزائر باليار، وليباري، ونحو ثلثي جزيرة صقليه لحفظ مركزها التجاري وسيادتها البحرية.
ولما كانت هذه الأمة أمة تجارة واكتساب لا أمة حرب وجلاد كانت لا تعد الجندية فخرا ولا التفاني في الدفاع عن الوطن مجدا، فكانت تجند الجيوش من الأجانب المستأجرين الذين لا يهمهم إلا قبض الراتب في ميعاده، وينضمون للفريق الذي يدفع لهم راتبا أكثر من الآخر، نعم إن القواد والضباط كانوا من القرطاجيين إلا أن ذلك لا يكفي لأن تعادل الجيوش المؤلفة بهذه الصفة الجيوش التي أفرادها من نفس الأمة وبالدفاع عنها تدافع عن أراضيها وعائلاتها.
وأما حكومة قرطاجة فكانت جمهورية إلا أن السلطة لم تكن فيها للشعب بأسره، بل في قبضة بعض عائلات تتوارثها خلفا عن سلف كما كانت رومة في بادئ أمرها، لكن أدركت رومة ضرورة مشاركة جميع الأهالي في إدارة شؤون البلاد فمنحتهم الحقوق السياسية تدريجيا كما رأيت، بل ومنحت نفس هذه الحقوق والمزايا كلها أو بعضها للأجانب المفتتحة بلادهم ونعم ما فعلت؛ لأنها كونت بهذه الطريقة الحكيمة أمة واحدة عزيزة قوية ملكت العالم ولم تفقه قرطاجة لسوء عاقبة حصر السلطة في بعض العائلات، واستمرت على احتقار الشعب وعدم منحه شيئا من السلطة، ومن جهة أخرى أساءت معاملة من فتحت بلادهم فكانت تلزم البعض بزراعة صنف معين أو عدم زرعه مراعاة لصالحها التجاري بدون نظر إلى ما يعود على هذه الأمم التعيسة من الخراب والدمار.
وكان يرأس حكومة قرطاجة رئيسان عظيمان يعادلان قناصل رومة في الاختصاص، وكان لقبهما الرسمي (سوفيت) ويليهما مجلس سناتو مؤلف من خمسمائة عضو ينتخبون من عائلات الأشراف دون غيرهم، وله ما لسناتو رومة من الاختصاصات تقريبا، وتنتخب من بين أعضائه لجنة من مائة عضو فقط ينتخبون لمدة حياتهم لإدارة جميع الأعمال تحت رئاسة السوفيت، وكان كل فرع من فروع الحكومة من اختصاص لجنة صغرى تنتخب من السناتو للنظر في شؤونها وعرض قراراتها على مجلس المائة فيعتمدها أو يرفضها على حسب ما يرى له، هذا مجمل نظامها الداخلي ويرى لأول نظرة أنه أقل بكثير من نظام رومة، فإن هذه كانت تغيره أو تعدله تبعا لظروف الحوادث وطلبات الشعب، وتلك لم تصغ لطلباته ولم تحسن معاملة الأمم التي فتحت بلادها.
ولذلك كان من المحقق تغلب رومة على قرطاجة ولو طال الحرب؛ إذ الجنود المؤجرة لا يكون لها من صفات الثبات والوطنية ما للجنود المأخوذة من نفس الأمة، ولنذكر الآن أسباب انتشاب القتال بين الجمهوريتين.
إن جزيرة صقلية كانت منقسمة بين ثلاث حكومات متضادة: الأول تابع لهبيرون صاحب سيراكوزة، والثاني في قبضة قبيلة المامرتايين وعاصمتهم مدينة مسينه، والثالث وهو الأهم في حوزة القرطاجيين، وفي سنة 265 حارب صاحب سيراكوزة قبيلة المامرتايين لقمعهم ومنع تعديهم على البلاد التابعة له بالنهب والسلب، فقهرهم وكاد يدخل مدينة مسينه لولا تعرض القرطاجيين له، وفي أثناء ذلك أرسلت هذه القبيلة وفدا إلى رومة تستعين بها على صاحب سيراكوزة، فأسرعت بإرسال الجيوش لنجدتها متخذة هذه الفرصة سببا لوضع قدمها في جزيرة صقلية وطرد القرطاجيين منها، واستخلصت مدينة مسينه من هبيرون، وكان قد احتلها بحيلة حربية فاتحد مع القرطاجيين على مكافحة الرومانيين خوفا من امتلاكهم الجزيرة شيئا فشيئا، وحاصروا مسينه لإخراج الرومانيين منها ومنع القرطاجيون وصول المدد إلى الرومانيين من إيطاليا باحتلالهم بوغاز مسينه، لكن توصل القنصل إبيوس كودكس من اجتياز البوغاز في ليلة حالكة مع عشرين ألف مقاتل وانتصر على المحاصرين وتبع هبيرون إلى مدينة سيراكوزة وابتدأ في حصارها، وأرسل إلى رومة يطلب الإمداد فأرسلت إليه خمسة وثلاثين ألف مقاتل فشدد الحصار على المدينة، فعرض هبيرون في سنة 264 أن يعاهدهم على دفع مبلغ جسيم، وعلى أن يكون حليفا لرومة ضد القرطاجيين فقبل الرومانيون ذلك وبقي حليفا لهم مدة خمسين سنة.
ومن ثم تفرغ الرومانيون لمحاربة قرطاجة وانتشروا في جميع أنحاء الجزيرة واحتلوا أغلب مدنها حتى لم يبق مع القرطاجيين إلا بعض الثغور البحرية، إلا أنهم من جهة أخرى كانوا سائدين على البحار ويشنون الغارة على شواطئ إيطاليا ويمنعون الاتصال بينها وبين الجزيرة، ولذلك قرر سناتو رومة سنة 261 بضرورة محاربتهم بحرا لمنع تعديهم على الثغور وإقلاقهم راحة سكانها وتعطيلهم التجارة، وأمر بإنشاء السفن الحربية فأنشأت مائة وعشرين سفينة في مدة يسيرة على مثال سفينة قرطاجية ألقتها الرياح على شواطئ إيطاليا، وعين القنصل كورنيليوس سيبيون قائدا عاما لها، لكن لعدم تمرن الرومانيين وتدربهم على القتال البحري انهزمت الدونانمة الرومانية في سنة 260، وأخذ سيبيون أسيرا مع سبع عشرة سفينة، ثم ما لبثوا أن أحسنوا إدارة السفن وتفننوا في ضروب القتال وانتصروا على القرطاجيين نصرا مبينا تحت إمرة دويليوس.
وينسب بعض المؤرخين هذا الانتصار إلى اختراع غريب ابتدعه هذا القائد البحري؛ وهو جسر من الخشب يركب في مقدمة كل سفينة، وبه عدة مشابك وكلاليب من حديد بحيث لما تقترب السفن من سفن الأعداء تلقي هذه الجسور عليها فتشتبك معها وتنتقل الجنود إليها بكل سهولة، وبذلك تصير الحرب حربا برية لا بحرية، ولا يخفى ما كانت تمتاز به الجنود الرومانية على أعدائها من الثبات وحسن النظام، وهي رواية تحتمل الصدق والكذب نقلناها على علاتها، وكافأ السناتو هذا القنصل بأن أقام في الفورم عامودا تذكارا لهذه الحادثة نقش عليه تاريخها بجانب اسمه ومنحه عدة امتيازات أخرى.
ثم انقسمت الدونانمة الرومانية قسمين تبع أحدهما ما بقي من سفن قرطاجة إلى جزيرة سردينيا حيث أجهز عليها، وشرع الرومانيون من ثم في فتح هذه الجزيرة وجزيرة كورسيكا المجاورة لها، والقسم الثاني جعل سواحل جزيرة صقلية ميدانا لأعماله.
ولما تحقق السناتو ضعف حكومة قرطاجة وعدم انتظام داخليتها ووقوع الفشل فيها عقب انتصار الرومانيين وانتشار سفنهم في البحر المتوسط؛ قرر تجهيز دونانمة أخرى أكثر انتظاما واستعدادا لمحاربة قرطاجة في مياهها الأصلية وإنزال الجنود إلى البر لمحاصرتها برا وبحرا، فأنشئت ثلاثمائة وثلاثون سفينة جديدة أنزل إليها مائة ألف بحري وأربعين ألف جندي بري تحت قيادة القنصلين مانليوس فولسو واتليوس ريجلوس.
ولما بلغ قرطاجة خبر استعداد هذه السفن وسفرها قاصدة بلادها أرسلت لملاقاتها ومنعها من الوصول ثلاثمائة وخمسين سفينة، فتقابلت الدونانمتان بقرب مدينة اكنوم واقتتلتا قتالا عنيفا كانت الدائرة فيه على القرطاجيين (سنة 256ق.م) ثم سارت السفن الرومانية قاصدة شواطئ إفريقية فوصلتها بدون مقاومة، ونزل القنصلان والجنود البرية إلى الشاطئ بالقرب من مدينة كليبيا وانتشروا في جميع الإنحاء كالجراد، ولم يمض قليل زمن حتى احتلوا مدائن لا تحصى وغنموا مغانم وأموالا كثيرة وأسروا نحو عشرين ألف مقاتل.
ثم استرجع السناتو القنصل منليوس وأغلب الجنود وأبقى ريجلوس مع خمسة عشر ألف مقاتل وخمسمائة خيال، فاستمر مع هذا الجيش القليل في فتح القرى والبلدان، ووصل إلى مدينة تونس التي لا تبعد عن مدينة قرطاجة بأكثر من ميلين اثنين فقط، فخشيت الحكومة من أن يحاصر المدينة نفسها ولا قدرة لها على الدفاع، وعرضت الصلح على ريجلوس فاشترط شروطا لا يمكن قبولها لشدتها وإجحافها باستقلال قرطاجة، ولذلك فضلت الحرب لآخر رمق من حياتها على قبول هذه الشروط، وأسعدها الحظ بوجود قائد ماهر لقدموني الأصل اسمه كسانتيب ضمن جيوشها المؤجرة المؤلفة من خليط الأجناس المختلفة والأمم المتباينة، فأعاد إلى جيوش قرطاجة بعض الانتظام وبث فيهم روح الحماسة نوعا وحارب الرومانيين في عدة وقائع صغيرة كان الفوز له في أغلبها، ولم يجسر على محاربتهم بكل جيوشه دفعة واحدة خوفا من الخيبة والانهزام.
ولما تدربت جيوشه على فنون القتال في هذه الوقائع المتعددة، وتعودت على الوقوف أمام الرومانيين في مواقع النزال؛ هجم بكل قواه على ما بقي مع ريجلوس من الجيوش وبدد شملهم ومزقهم كل ممزق وأخذ ريجلوس أسيرا، وتخلصت قرطاجة من الرومانيين فإنهم أخلوا بلادها بعد وقوع ريجلوس في الأسر، وانتقلت الحرب إلى جزيرة صقلية وشواطئ إيطاليا.
وبقيت الحرب بعد ذلك سجالا بين الطرفين إلى سنة 250 وفيها انتصر الرومانيون على أعدائهم في واقعة (بانورم) بكيفية أوجبت قرطاجة أن تطلب الصلح ثانيا فرفضته رومة، واستمر القتال إلى سنة 242 التي هزم فيها القنصل لوتاتيوس كاتولوس الدونانمة القرطاجية بقرب جزائر ايجات الواقعة على شاطئ صقلية من جهة الغرب، وأغرق أغلب سفنها وأخذ باقيها بحيث لم تعد لقرطاجة قدرة على محاربة رومة بحرا، ولا على إسعاف جنودها المحاربة في صقلية بالرجال لوقوف السفن الرومانية في طريقها فعرضت الصلح ثالثا، وبعد مخابرات استمرت نحو سنة تم الصلح بين الطرفين على أن تخلي قرطاجة جزيرة صقلية والجزائر المجاورة لها، ولا تتعرض لأهاليها مطلقا وتطلق سراح الأسرى بدون فدية، وتدفع غرامة حربية توازي تسعة عشر مليون فرنك من العملة الفرنساوية؛ أي سبعمائة وستين ألف جنيه مصري تقريبا.
وبذلك انتهت هذه الحرب بعد أن استمرت نحو ربع قرن خسرت قرطاجة في أثنائها سيادتها على البحار، ولحق تجارتها البوار والدمار، وذاقت فيها رومة لذة الانتصار فسكرت بخمرة المجد والفخار، وتاقت نفسها إلى امتلاك البلاد والأمصار، لكن لم تقبل قرطاجة هذه الحالة إلا بصفة مؤقتة لعجزها عن استمرار الحرب وتعطيل تجارتها التي عليها مدار ثروتها، وأيقنت رومة كذلك أن هذا الصلح ظاهري فقط وأن لا بد لقرطاجة من الأخذ بالثار وإعادة ما فقدته من الأموال فضلا عن الشرف في هذه الحرب، فأخذ كل فريق يستعد للحرب ويتأهب له ليكون على استعداد عند انتشاب نيرانه ثانيا.
فابتدأت رومة بتتميم فتح جزيرة صقلية حتى لا يبقى لقرطاجة أمل في استرجاعها، فأتمت فتحها في مدة يسيرة وجعلتها ولاية رومانية وعينت لها حاكما يلقب (بريتور) مع حفظها استقلال بعض القبائل حفظا موقتا، ثم احتلت جزيرتي سردينيا وكورسيكا، وتم فتحهما في سنة 227ق.م فصارت صاحبة السيادة الحقيقية والقول الفصل في البحر المتوسط.
ومن جهة أخرى وجهت أنظارها إلى البحر الأدرياتيكي الذي يفصل بينها وبين جزيرة البلقان الواقعة بلاد اليونان في طرفها الجنوبي، وأنشأت فيه سفنا عديدة لمطاردة قرصان البحر الذين كانوا يعطلون تجارتها ويهاجمون مراكبها في غدوها ورواحها إلى هذه الجهات، وكانت تسكن البلاد الواقعة على شاطئه الشرقي المقابل لسواحل إيطاليا أمة الأليرين التي كان منها أغلب قرصان هذا البحر، ولما كثرت الشكاوى للسناتو أرسل وفدا إلى (تيتا) الوصية على هذه المملكة لصغر سن ابنها بينياس يطلب منها اتخاذ الطرق الفعالة لمنع أذى رعاياها عن الرومانيين، فكان جوابها قتل أعضاء الوفد.
فلما وصل رومة خبر هذه الفعلة الشنعاء أرسل إليها جيشا جرارا في سنة 229ق.م احتل أولا مدينة قنسير بخيانة دمتريوس أحد قواد الأليرين، ومنها انتشرت الجنود الرومانية في طول هذا الإقليم وعرضه، ودخلت أغلب مدائنه فاضطرت الملكة (تيتا) أن تسلم لرومة بطلباتها التي أهمها دفع جزية معينة، والتنازل عن جزء ليس بقليل من أراضيها، ورد ما كان لمدينتي قونسير وأبولونيا اليونانيتين من الامتيازات وعدم جواز تعدي سفنها مدينة لسوس.
وبهذه المعاهدة صار لرومة ولاية رومانية جديدة بالقرب من بلاد اليونان يمكنها الزحف عليها منها بكل سهولة عند سنوح الفرصة، وصار البحر الأدرياتيكي بحيرة رومانية لامتداد أملاكها على شاطئيه الشرقي والغربي.
ولما بلغ الملك بينياس رشده، واستلم زمام البلاد أراد التخلص من سيطرة الرومانيين فهزم، وكانت هذه الحركة آخر ما أتته هذه الأمة لاسترجاع ما فقدته من حريتها واستقلالها.
إغارة بعض قبائل الغاليين على رومة
ثم طلب النائب فلامينوس من السناتو تقسيم أراضي الحكومة الواقعة في إقليم سينون على حدود بلاد غاليا الإيطالية بين فقراء الرومانيين؛ ليكونوا حاجزا حصينا بين الغاليين وأملاك رومة، فاضطرب الغاليون لذلك وخشوا من تعدي الرومانيين الحدود وطموح أنظارهم إلى الاستيلاء على السهول المتسعة النازلين وتألبوا مع جميع القبائل المجاورة لهم على محاربة الرومان، واستنجدوا بإخوانهم النازلين بغاليا الفرنساوية وساروا قاصدين مدينة رومة نفسها بقصد احتلالها كما حصل في السابق، وكانت قوتهم مؤلفة من نحو خمسين ألف راجل وعشرين ألف راكب.
ولما بلغ رومة خبر زحف هذه القوة الهائلة عليها أخذت تستعد لملاقاتها بكل قواها، فجمعت نحو مليون جندي خرج منهم مائة وخمسون ألفا لمحاربة الأعداء قبل وصولهم إليها وبقي الباقون للدفاع عنها ومساعدة الجيش الأول عند مسيس الحاجة، ثم استشاروا المنجمين فيما يجب عليهم عمله لاستعطاف المعبودات وحملهم على مساعدتهم على الأعداء، فأجابوهم بضرورة ذبح اثنين من الغاليين قربانا لهم، فصدعوا بهذا الأمر الوحشي المبني على اعتقاد وهمي، وخرجوا لملاقاة الغاليين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا متحدين على الدفاع عن وطنهم إلى آخر نقطة من دمهم، وانتظروا الأعداء على بعد ثلاثة أيام من المدينة في نقطة حصينة، ولما التقى الجيشان اقتتلوا قتالا شديدا استمر عدة ساعات، وكانت نتيجته انتصار الرومانيين وموت نحو أربعين ألفا من الغاليين، وكان ذلك في سنة 225ق.م لكن لم يكتف الرومان بهذا الفوز الذي خلص مدينتهم من هذه الإغارة الجديدة، بل قرروا فتح بلادهم إلى جبال الألب لتكون حاجزا حصينا وحدا طبيعيا بينهم وبين بلاد غاليا الأصلية، فأرسلت الجيوش إليها تحت قيادة كورنليون سيبيون ومرسلوس ففتحوا معظمها واحتلوا مدائنها مثل ميلانو، وبارز القائد مرسلوس ملك قبيلة الإنسوبريين المسمى فندومار وقتله، فاستسلمت هذه القبيلة للرومان، ثم أرسل السناتو عدة مئات من العائلات الرومانية لتأسيس عدة مستعمرات بين ظهرانيهم وتثبيت سلطة الرومانيين عليهم.
وفي سنة 221 استولوا على إقليم (إستيريا) الواقع في شمال بلاد الليريا للتمكن من إيصال أملاكهم التي على شاطئ بحر الأدرياتيك، وللإغارة على بلاد اليونان في المستقبل.
وزيادة على جميع ما ذكر من الفتوحات المهمة طمحت أيضا رومة إلى بلاد مصر والشام، وجددت تحالفها مع ملوك البطالسة في مصر وحصلت بين الحكومتين مخابرات بشأن إرسال جيوش رومانية إلى الشرق لمساعدة الحكومة البطليموسية على محاربة ملوك أنطاكية بالشام، لكن لم يتم بينهما أمر بهذا الخصوص وتأجل التداخل في شؤون مصر والاستيلاء عليها إلى فرصة أكثر مناسبة.
فيتضح للقارئ أن رومة لم تضع الوقت بعد إبرام الصلح مع قرطاجة، بل صرفت كل قواها لافتتاح ما بقي من إيطاليا الشمالية لسد أبواب الغارات أمام الغاليين، واستولت على جزائر سردينيا وكورسيكا وبعض الجزر الصغيرة المجاورة لها لمنع هجوم القرطاجيين على أراضيها من جهة البحر، وجعلت البحر الأدرياتيكي بحيرة رومانية باستيلائها على إقليمي إليريا وإستريا.
وبذلك صارت آمنة من مفاجأة القرطاجيين لها ومستعدة لملاقاتهم لو أتوها من جهة غير منتظرة، وكانت في استعداد عظيم لمحاربة هذه الجمهورية القائمة أمامها والانتصار عليها؛ حتى تكون هي الدولة الوحيدة في العالم، وملكة البر والبحار، ومالكة زمام الأمصار بدون شريك منازع أو معارض أو مضارع.
وحيث انتهينا من ذكر ما أتته رومة من الأعمال العظيمة والفتوحات الجسيمة في هذه المدة الوجيزة استعدادا لمنازلة جارتها وعدوتها ومناظرتها قرطاجة، فلنبين الآن ما أتته هي الأخرى لهذه الغاية نفسها وما حدث فيها من الحوادث المهمة، ثم نشرح الحرب البونيقية الثانية وأسبابها ونتائجها شرحا يوقف القارئ على ماجريات هذه المناظرة الدولية التاريخية القديمة فنقول:
قد ذكرنا عند التكلم على حكومة قرطاجة ونظامها أن جيوشها لم تكن وطنية أهلية، بل مؤلفة من مستأجرين مختلفي الأجناس متبايني الملل والنحل لا تجمعهم جامعة وطن أو جنس، وظاهر أن تركيب جيوشها وتأليفها بهذه الصفة مما يجعلها أقل بكثير من حيث الغيرة والحمية من الجيوش الرومانية المؤلفة من الرومانيين دون غيرهم.
وقد ظهر هذا الفرق العظيم في الحرب البونيقية الأولى وزادت مضاره بعد انتهاء حرب قرطاجة وقبولها طلبات رومة، وذلك أن الحكومة عجزت عن دفع مرتبات الجنود في أوقاتها بسبب ما أصابها في هذه الحرب المشؤومة، ولما كانت هذه الجيوش لا يهمها إلا قبض الراتب (شأن كل أجنبي دخيل استخدم في غير وطنه) ولا ترثي لما أصاب قرطاجة من المصائب هاجت وماجت وأكثرت من الشغب، ثم أظهرت التمرد والعصيان وساعدها بعض الأهالي لتضجرهم من كثرة الضرائب ووقر المكوس واشتد الهياج في جميع الجهات التابعة لقرطاجة خصوصا في جزيرتي سردينيا وكورسيكا، الأمر الذي ساعد الرومانيين على الاستيلاء عليهما بدون كثير عناء.
وكان رؤساء الثورة كل من اسينديوس الإيطالي الأصل وماتوس الإفريقي، ولما عمت الجيوش تقريبا تحيرت الحكومة فيما يلزم اتخاذه من التدابير، وانقسم السناتو حزبين أحدهما تحت رئاسة هانون وكان يود مسالمة العصاة بأي طريقة، والآخر يطلب إخضاعهم بالقوة، وبعد جدال عنيف تغلب هذا الحزب الأخير باجتهاد أعضاء عائلة (برقة) فعينت الحكومة أملكار أحد زعماء هذه العائلة قائدا لمن بقي مصافيا لها من الجنود، وأباحت له اتخاذ الطرق الممكنة لقمع الثورة، فابتدأ هذا القائد المدرب والسياسي المجرب في استمالة قبائل (النوميد) إليه حتى لا يمدوا العصاة بالمؤونة، ثم حاربهم بشدة حتى ألزمهم رفع الحصار عن مدينة (أتيك) والابتعاد عن ضواحي قرطاجة، وكان يعامل من يقع بين يديه من الأسرى بالحسنى وزيادة ويغدق عليهم العطايا، ففر كثير من جنود العصاة للانضمام إليه، ولما خشي رئيسا الثورة من نتيجة فرار الجنود أمرا بقتل أسرى القرطاجيين فقتلوا وكانوا سبعمائة، فعامل أملكار أسراه بهذه المعاملة الوحشية ثم حصر أحد الجيشين الرافعين راية العصيان في مضيق حرج المسلك وشدد الحصار عليها مدة طويلة حتى نفدت مؤونتهم وأكلوا من عندهم من الأسرى والعبيد، ولما ضاق بهم الحال مالوا إلى الصلح وطلب قائدهم اسينديوس مقابلة (أملكار)، ولما أذن له قصده ومعه اثنان من كبار ضباط العصاة وعرضوا عليه التسليم فقبل مشترطا إرجاع العصاة إلى أوطانهم بعد تجريدهم من السلاح، واستثناء عشرة فقط من هذه الشروط، فلما قبل الوفد بذلك قال أملكار أنتم الثلاثة من ضمن العشرة وقبض عليهم وقتلهم صلبا.
وعندما وصل خبر إلقاء القبض على أعضاء الوفد الثلاثة إلى مسامع العصاة المحصورين في المضيق بدون أن يعلموا بتفصيلات الاتفاق ظنوا أن أملكار غدر بمندوبيهم، فاستعدوا فورا للقتال وهاجموا القرطاجيين مهاجمة يائس لا أمل له في النجاة وظلوا يحاربون حتى قتلوا عن آخرهم، ويقال إن عددهم كان يبلغ أربعين ألفا.
وبعد إبادة هذا الجيش العظيم جمع أملكار كل قواه ضد الجيش الثاني الذي كان تحت قيادة ماتوس رئيس الثورة الثاني وانتصر عليهم، وقتل منهم عددا عظيما، وأخذ زعيمهم أسيرا وأرسله إلى قرطاجة حيث قتل بعد أن شهروه في الشوارع وأهانته العامة وجعلته أضحوكة، وبذلك انتهت هذه الحرب الداخلية بعد أن استمرت زيادة عن سنتين كانت فيها قرطاجة في أحرج المراكز وأشد المضايق حتى رثى لها الأعداء، وساعدها هيبرون صاحب سيراكوزة بالمال والرجال، وعرضت عليها رومة المساعدة والمعاونة وأباحت إرسال الغلال إليها.
لكن لا يظن القارئ أن هذه المساعدة كانت حبا في بقاء سؤدد قرطاجة وعظمتها، بل خوفا من أن يسود فيها العنصر الحربي لو انتصر العصاة وتزيد قوة ومنعة فيصعب عليها تنفيذ ما كانت تضمره لها من المقاصد العدائية، وانتهت هذه الحرب الداخلية سنة 238ق.م.
وبعد انتصار أملكار على العصاة بهذه الكيفية زاد نفوذ عائلة برقة زيادة عظمى حتى صارت صاحبة الكلمة النافذة والقول الغير مردود في مجلس السناتو وجميع فروع الحكومة، فخشي السناتو سوء عاقبة هذا التداخل الذي ربما يؤدي إلى إسقاط الحكومة الجمهورية واغتصاب هذا القائد للسلطة.
وقرر بإرسال أملكار وجيوشه لفتح بلاد إسبانيا لتكون عوضا عن جزائر صقلية وسردينيا وغيرها التي احتلها الرومانيون ولإبعاد أملكار عن قرطاجة، فسافر إلى إسبانيا وأخضع في طريقه سواحل بلاد الجزائر ومراكش، ومكث بإسبانيا مدة تسع سنوات قضاها في محاربة الأمم المختلفة النازلة بها وإلزامها بالاعتراف بسيادة قرطاجة عليها، وقتل في إحدى الوقائع الحربية سنة 229 وينسب إليه تأسيس مدينة برشلونة التي تسمى باللاتينية (برسينه) تخليدا لاسم عائلة برقة.
وبواسطة مساعي عائلته في السناتو تعين بدله (ازدروبال) زوج ابنته لتبقى هذه الوظيفة الخطيرة في عائلتهم، فسافر إلى إسبانيا واستمر في محاربة سكانها وإخضاعهم إلى أن وصل في سيره إلى نهر (إبر) في سنة 227 فتوجس الرومانيون خيفة من تقدمه السريع، وأبرموا معه معاهدة تلزمه بعدم تعدي هذا النهر، فأخذ في تنظيم ما فتحه من البلاد، وأسس مدينة قرطاجنة في موقع تجاري مهم جدا لقربها من ساحل إفريقية الشمالي، ومن المعادن التي كان يستخرج الفينيقيون الفضة منها.
وأصلح ميناها وأقام لها الأرصفة والمخازن التجارية، وبنى لنفسه سراية عظيمة أفخر من سرايات ملوك هذا الوقت، وصار يعتبر نفسه كأنه ملك مستقل بإقليم إسبانيا، واستمر على هذا الحال إلى أن قتله في سنة 221ق.م رفيق غالي الأصل أخذ بثار سيده الذي كان قتله ارذروبال غدرا وخيانة.
فانتخب الجيش لقيادته أنيبال بن أملكار بدون انتظار أوامر السناتو من قرطاجة، ولما بلغ الحكومة خبر انتخابه بهذه الصفة الغير قانونية؛ لم يسعه إلا التصديق عليه خوفا من عصيان الجيش واستقلال أنيبال بإسبانيا التي أصبحت إدارتها بهذه الكيفية وراثية في عائلة برقه.
الحرب البونيقية الثانية
علم القراء مما تقدم أن أملاك قرطاجة كانت ممتدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط من إقليم طرابلس الغرب مما يلي حدود مصر من جهة الغرب إلى مصب نهر إيبر بإسبانيا؛ أي على مسافة تسعمائة فرسخ تقريبا، لكن كانت سلطتها فعلية على السواحل فقط غير ممتدة إلى داخلية هذه الأقاليم المتسعة التي تسكنها عدة قبائل متبربرة، فكان يسهل على أعدائها إنزال جيوشهم إلى أي نقطة أرادوا إن كانوا آتين من الخارج، أو على احتلال السواحل إن كانوا من القبائل الداخلية؛ إذ إن قرطاجة كانت لا تهتم مطلقا بإخضاع البلاد التي تفتحها إخضاعا حقيقيا، بل تكتفي بإلزامهم بمشترى بضائعها والاتجار معها فقط، هذا من جهة حكومة قرطاجة ومستعمراتها.
أما الحكومة الرومانية فكانت على الضد من ذلك بالكلية في غاية الانتظام متقاربة الأجزاء تربطها السكك الحربية وتتخللها المستعمرات، وغالب سكانها تجنسوا بالجنسية الرومانية بحيث صاروا أعضاء عاملين في الحكومة كسكان رومة نفسها لا رعايا مستعبدين إلا اليسير منهم، هذا فضلا عن عدم التباين الشديد في العوائد واللغات؛ إذ إن سكان إيطاليا أجمعها كانوا من أصل واحد تقريبا، وتغلبت عليهم عوائد الرومانيين فصار الكل جسما واحدا ومدينة رومة بمثابة القلب لتوسط مركزها.
وباحتلالها الجزائر القريبة منها صارت آمنة من مهاجمة الأعداء بحرا؛ إذ كانت تلك الجزر كنقط أمامية تمنع كل عدو مفاجئ، وباحتلالها شواطئ البحر الأدرياتيكي الشرقية اتقت شر الأليريين وأخضعتهم وصارت قريبة من بلاد الإغريق.
كل هذه الأسباب والدواعي كانت تميز الحكومة الرومانية عن القرطاجية، وتضمن لها الفوز عليها بكل تأكيد.
تلك كانت حالة هاتين الدولتين المتناظرتين المتنازعتين للسيادة على البحر الأبيض المتوسط والبلاد الواقعة على شواطئه في سنة 219، ولذلك كانت قرطاجة تخشى محاربتها، وتتوقى الأسباب التي توجب الشحناء والنفرة والجفاء بين الحكومتين لعدم وثوقها من الفوز والانتصار.
أما أنيبال قائد جيوش إسبانيا فلم يكن من هذا الرأي، بل كان يعتقد الفوز والنجاح على الرومانيين ويطمع في محاربتهم لفتح بلاد غاليا الجنوبية وإيطاليا نفسها إن أمكنه ويجعل نفسه ملكا مستقلا عليها، فصرف جل اهتمامه لإخضاع القبائل الإسبانية المستوطنة في الجبال الوسطى واحتل مدينة طليطلة، ولما تأكد من خضوع سكان إسبانيا وأمن نزوعهم إلى الثورة لو ترك بلادهم لمحاربة الرومانيين؛ جهز جيشا جرارا من نحو مائة وخمسين ألف مقاتل وحاصر مدينة (ساجونت) الواقعة على شاطئ نهر الإبر، والتي كانت اشترطت في المعاهدة التي بينها وبين ازدروبال في سنة 227ق.م حفظ استقلالها وعدم مس حريتها قاصدا بنكث هذا العهد والخروج عن نصوصه إلزام رومة بمحاربته، ثم شدد عليها أنيبال الحصار ودخلها عنوة بعد ثمانية أشهر فوجدها مشتعلة بالنيران؛ إذ إن أهلها فضلوا حرقها وتدميرها عن تسليمها إلى الأعداء.
1
ولما علمت رومة بهذا التعدي المخالف للعهود والمواثيق؛ أرسلت وفدا إلى أنيبال تذكره بها وتحذره سوء العاقبة، وآخر إلى قرطاجة لاستصدار الأوامر إلى هذا القائد بالعدول عن محاصرة (ساجونت) فعاد الوفدان بلا فائدة.
فأرسلت بعض أعضاء السناتو ثانيا إلى أنيبال، وكان من ضمنهم شهم يدعى (فابيوس) فلم يصغ إلى طلباتهم وأصر على عناده وتمادى في غروره فقال له فابيوس: إني أعرض السلم والحرب عليك فاختر أيهما يحلو لديك، فأجابه أنيبال: إن الاثنين عندي سواء فاختر أنت ما تريد، فقال فابيوس: الحرب الحرب، وعاد هو ومن معه إلى بلاده، وكان ذلك هو سبب الحرب البونيقية الثانية التي استمرت ثمان عشرة سنة، وكانت عاقبتها وخيمة جدا على قرطاجة، فقد فقدت فيها أهم جيوشها البرية والبحرية وجزيرة إسبانيا حيث فتحتها رومة وأدخلتها ضمن أملاكها، وصارت قرطاجة عرضة لهجمات الرومانيين لا سفن ولا جنود تمنع وصولهم إليها أو شن غاراتهم عليها.
وبمجرد إشهار الحرب بالكيفية السابقة ساق أنيبال جيوشه إلى جبال بيرينيه الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا؛ لأنه اتخذ في هذه الحرب للوصول إلى بلاد الرومان طريقا لم يسلكه أحد قبله وهو طريق البر من جنوب فرنسا إلى إيطاليا؛ وذلك لتعسر الوصول إليها بحرا بسبب احتلال الرومانيين أكبر جزائر البحر الأبيض المتوسط وأغلب جزائره الصغيرة.
ووصل أنيبال إلى جبال الألب الفاصلة بين فرنسا وإيطاليا بعد أن حارب أغلب القبائل والأمم الواقعة على طريقه، ولم يلتفت إلى الجنود التي أرسلها الرومانيون إلى مرسيليا لقطع خط الرجعة عليه، ولم يحاربهم بل جد في اجتياز جبال الألب الوعرة المسالك الضيقة المفاوز لا تعوقه وعورتها ولا توقفه صعوبتها، بل كان يفتح الطرق ويوسعها لمرور جنوده غير مبال بما يتكبده من المتاعب ويهلك في هذه الأعمال الشاقة من الرجال والدواب، ناظرا إلى الإمام فقط شأن أولي العزم من الرجال وأولي الحول والقوة من القواد حتى اجتاز هذه الطريق التي لم يسلكها جيش قبله، ولم يصل إيطاليا إلا بنصف جيشه وهلك الباقي في الطريق، البعض من محاربة القبائل التي اعترضته والباقي في مضايق الألب.
وبمجرد وصوله شمال إيطاليا عاقب قبيلة (تورين) على عدم مساعدتها له، ودخل مدينتهم عنوة، وجعل عاليها سافلها.
2
ولقد أدهشت الرومانيين هذه السرعة العجيبة حتى عدلوا عن مشروعهم الأول، وهو إرسال الجيوش إلى نفس قرطاجة حتى يضطر أنيبال إلى العودة إليها لحمايتها، واستدعى السناتو القنصل سمبرونيوس (Semprenius)
بعد أن انتصر على مراكب القرطاجيين، واحتل جزيرة مالطة، واسترجع القائد سيبيون من غاليا (فرنسا)، وجمع جيشا بأعالي إيطاليا لصد أنيبال وإيقافه في سيره نحو رومة.
فانتصر أنيبال على سيبيوس بالقرب من نهر (تسينو) وجرح القائد الروماني؛ فتقهقر بجيوشه إلى ما وراء نهر (بو)، وانضم بجيوشه إلى القنصل سمبرونيوس، وتحصن في موقع منيع على نهر (تريبيا)، فاحتال عليهم أنيبال حتى أخرجهم من هذا الموقع الحصين، وانتصر عليهم نصرا مبينا بعد قتال شديد قتل فيه - على ما جاء في كتب الثقات - ثلاثون ألفا من الرومانيين، ولم ينج سمبرونيوس بمن بقي معه إلا بعد أن زهقت النفوس وتناثرت الرؤوس ودخل ببقايا جيشه إلى مدينة (بليزانس) حيث حاصره القرطاجيون (218ق.م).
وبعد هذا النصر العظيم قصد أنيبال أن يجتاز جبال (ابنينو) الحائلة بينه وبين رومة، لكنه لم يتمكن من إتمام مشروعه لدخول فصل الشتاء، وتراكم الثلوج في مضايق هذه الجبال.
وبسبب انتصاراته السريعة انضم إليه كثير من الغاليين القاطنين في شمال إيطاليا طمعا في الغنيمة، وأتوا إلى معسكره أفواجا حتى عوضوا أغلب من قتل من رجاله في هذه الحروب المتواصلة ضد الطبيعة تارة، وضد الرومانيين تارة أخرى.
وبمجرد ما ابتلج فجر الربيع وذابت الثلوج وسهل المرور نوعا شرع أنيبال في الزحف على رومة، وسار من أقصر الطرق ولو أنها أصعبها اجتيازا إذ كان يلزمه المسير ثلاثة أيام في وسط مستنقعات وأدغال، لكن لم تقعد هذه الصعوبات همته، بل اجتازها كما اجتاز جبال الألب وتغلب عليها كما تغلب على جميع المواقع التي اعترضته من قبل.
كل ذلك والرومانيون لم يبدوا أقل اهتمام يمنعه من التقدم، بل تربصوا له بجيوشهم بالقرب من بحيرة (تراسيمين) المسماة الآن بحيرة (بيروزه) تحت قيادة قائدهم الشهير (فلامينيوس).
ولقد استعمل معه أنيبال ما استعمله مع القواد السابقين من الحيل ومتى أخرجه من محل استحكامه، وانتصر عليه بقوة فرسانه المشهورين في موقعة هائلة لم تستمر سوى ثلاث ساعات، قتل في أثنائها القائد الروماني وخمسة عشر ألفا من رجاله، وأخذ قدرهم أسراء، وفر الباقون يبكون إخوانهم ويندبون حظ بلادهم (217 قبل المسيح).
وبعد هذا الانتصار العظيم، لم يجسر أنيبال على الزحف على مدينة رومة التي كان لا يبعد عنها إلا بمقدار مائة كيلومتر لعلمه باستعداد أهلها للدفاع عنها، والتهالك في الذود عن حوضها حتى الممات، ولما أصاب جيوشه من النصب والتعب في هذا السير السريع والمحاربات المستمرة.
فلهذه الدواعي والأسباب رأى من الحكمة والصواب أن يتربص مدة شتاء تلك السنة ريثما تستريح جيوشه مما ألم بها من المتاعب وتتقوى خيوله مما لحقها من المشاق، ولكي يستميل إليه بعض القبائل التي ضمتها رومة إليها حديثا ولم تقو علائقها وروابطها معها، خصوصا سكان إيطاليا الجنوبية المسماة (إغريق الكبرى)، كما استمال سكان شمال إيطاليا الغاليين.
أما الرومانيون فلم ترعهم هذه المصائب المتوالية، ولم تؤثر على شجاعتهم ووطنيتهم هذه الكوارث المتعاقبة، بل جمعوا الجيوش والكتائب وقرر السناتو أن الوطن في خطر وعين القائد (فابيوس) رئيس طائفة الأشراف حاكما عاما مطلقا (دكتاتور) لمدة ستة شهور، وعين (مينوسيوس) قائدا للفرسان إرضاء للشعب حتى لا يظن بالسناتو سوءا.
وكانت طريقة فابيوس في الحرب التسويف، وعدم التورط في الحرب ما لم يكن متحققا من الظفر والنصر على الأعداء.
ولقد سعى أنيبال كثيرا في إغرائه على قبول المحاربة في السهول الواسعة التي يسهل فيها على فرسان قرطاجة الهجوم على الرومانيين فلم يفلح، ولم يتبعه إلى السهول مطلقا، بل اعتصم بالجبال متربصا الفرص فينتهزها بدون تراخ أو توان.
وبالغ فابيوس في الحذر والتوقي من مقابلة جيوش أنيبال حتى رماه أعداؤه بملاءمة العدو والاتفاق معه على خيانة الوطن وأهله، وساعد قائد الفرسان (مينوسيوس) على إذاعة هذه المفتريات ليعين حاكما عاما بعد انتهاء مدة فابيوس.
ولقد تحصل على بعض مطامعه إذ جعل قائدا مشاركا في الرئاسة لفابيوس بأن تكون القيادة العامة لكل منهما يوما بالتعاقب، فحارب مينوسيوس القرطاجيين وهزم، وكاد أنيبال يجهز على الجيش الروماني لولا مساعدة فابيوس له وإرشاده بنصائحه.
ولما انتهت مدة الحاكم العام عادت الأحكام الدستورية وانتخب قنصلان لهذه السنة، فانتخب حزب الأشراف (بول اميل) لكونه على رأي فابيوس في زيادة التحذر وعدم المخاطرة بالجيوش، وانتخب الحزب الأهلي (ترنتيوس فارون) قنصلا ثانيا، فكان الأول يميل على التسويف ويرغب الثاني في التعجيل بالحرب.
وبسبب هذا الخلف بين الرؤساء تطرق الخلل إلى الجنود، وصار كل منهما ينقض ما قرره زميله في يومه حيث كانت القيادة بينهما مناوبة.
وفي يوم 2 أغسطس سنة 216 قبل المسيح كانت القيادة لفارون، فاقترب من جيش أنيبال حتى التحم الجيشان، وحصلت بينهما موقعة هائلة بالقرب من مدينة (كان)
3
كان الفوز فيها للقرطاجيين كما كان لهم في الواقعتين السابقتين بفضل فرسان الإفريقيين الذين كان يبلغ عددهم عشرة آلاف؛ أي خمس الجيش بأجمعه البالغ خمسين ألفا.
أما جيش الرومانيين فكان أكثر من جيش العدو عددا بما يوازي الضعف، لكن لم يكن بينهم أكثر من ستة آلاف فارس.
ومع أن انتصار القرطاجيين كان في جميع مواقعهم السالفة مسببا عن كثرة عدد الفرسان لم يلتفت قواد الرومان لهذا الأمر الخطير، ولم يستفيدوا مما ألم بهم بسبب قلة فرسانهم ولم يزيدوا عددهم بالنسبة الموجودة في جيش أنيبال؛ إذ لو روعيت هذه النسبة لكان يلزم أن يكون في جيش الرومان عشرون ألف فارس لا ستة آلاف.
وقد قدر المؤرخون قتلى الرومانيين بين خمسين وسبعين ألفا والأسرى بعشرة آلاف.
وقال الخبيرون بفنون الحرب والقتال إنه كان من السهل على أنيبال أن يزحف على مدينة رومة فيحتلها بدون كثير عناء؛ بسبب ما لحق سكانها من الاضطراب والخوف عقب وصول خبر هذا المصاب العظيم إليهم، لكن منعه عن ذلك اشتغال جنوده بجمع الأسلاب والغنائم وبيعها والاتجار بالأسرى والأرقاء وصرف غالب أوقاتهم في مغازلة الحسان ومعاقرة بنت الحان فرحا بما نالهم من النصر المبين والفوز العظيم، ومن جهة أخرى كان جزء ليس بقليل من جيوشه من غير القرطاجيين مؤلفا من خليط جميع القبائل التي مالت إليه لا طلبا للمجد والفخار، بل سعيا وراء الكسب والغنى.
ولذلك خشي التقدم إلى الأمام لعدم تأكده من إطاعة الأجراء من جنوده لأوامره، ولتحققه من أن جميع سكان مدينة رومة يكونون يدا واحدة في الدفاع عنها، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والأحرار والأرقاء، وأنهم لا يدعونه يطأ أرض المدينة ما دام في عروقهم قطرة من الدم.
فلهذه الأسباب فضل التربص في جنوبي إيطاليا والسعي في استمالة سكانها إليه ليكونوا له أعوانا على الرومانيين، خصوصا وقد نقص جيشه نقصا بليغا حتى صارت الأغلبية فيه للأجراء، وصار من المستحيل وصول مدد إليه من قرطاجة بسبب محاصرة سفن الرومان لجميع سواحل إيطاليا، ومنع أي اتصال بينه وبين بلاده.
فكان من المحتم عليه إدخال بعض القبائل الجنوبية تحت طاعته طوعا أو كرها، وتجنيد الأشداء من رجالها ضمن جنوده، وعدم التعويل على وصول المدد إليه لسد النقص الذي حصل في جيوشه بسبب الأمراض والحروب.
ويظهر للمطالع من هذه التفصيلات أن مركزه كان من أحرج المراكز، وموقفه من أصعب المواقف بتوغله في إيطاليا بدون أن يحفظ لنفسه خط اتصال بينه وبين قرطاجة برا أو بحرا، ولذلك كان الرومانيون معتقدين بقرب الانتصار عليه وإهلاكه مع من بقي معه من الجنود لو اتبعوا الصبر والحكمة، ولم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة كما فعل القواد السابقون في المواقع السالفة.
فانتخبوا فابيوس القائد الذي اشتهر في أول هذه الحرب بالتؤدة وعدم التهور قنصلا لسنة 217 قبل المسيح وأعادوا انتخابه في السنة التالية، وفي خلال هاتين السنتين أتى من ضروب الحكمة وفنون القتال ما جعل أنيبال في خطر عظيم وأوقعه في حيص بيص؛ إذ أحاطت به الفيالق الرومانية من جميع الجهات إحاطة السوار بالمعصم، واحتلت أغلب البلاد التي فتحها وضايقت عليه الحصار في مدينة (كابوا) وقطعت مواصلاته مع الخارج كلية، وكادت تجهز عليه قطعيا لولا ما استعمله من السياسة في إهاجة مدينة (سيراكوزة) على الرومانيين بدسائسه، واستعانته بفيليب ملك مقدونية ووالد إسكندر الأكبر مما سنذكره بعد قليل.
ولقد أتى الرومانيون في هذه الظروف الحرجة ما يجب على كل أمة اتخاذه نموذجا تنسج على منواله، وقدوة حسنة تقتدي بها في محبة الوطن العزيز وبذل الروح لا المال لإنقاذه من الخطر أو استخلاصه من مخالب الأجانب، فكل أمة سهل عليها إفداء وطنها بأرواحها حفظت استقلالها وعاشت سعيدة سعادة حقيقة، وكل أمة استسهلت تحمل سيطرة الأجنبي على إدارتها واستخفت ثقيل وطأته على هامتها؛ فقدت استقلالها لا محالة وسارت إلى طريق الموت الأدبي والمادي، حيث لا ينفعها ما ضنت به من المال ولا ما احتفظت عليه من الأرواح.
ولما كانت الأمة الرومانية قد أشربت هذه الإحساسات الوطنية والعواطف الملية سهل عليها صرف الأموال، وبذل المهج والأرواح في سبيل حماية بلادها وطرد الأجنبي من المواقع التي احتلها، فقبلت مضاعفة الضرائب بأنواعها وقدمت كل ما لدى نسائها من الحلي والمصاغ تبرعا لينفق في تعبئة الجيوش وتسليحها، وأصدر السناتو قرارا بأنه لا يجوز لأي سيدة من السيدات إحراز مصاغ من الذهب يزيد وزنه على نصف أوقية، وقدم الأغنياء كل ما عندهم من الأرقاء ليدمجوا ضمن الجند، وتبرعوا بثمنهم ومنحوا الحرية لمن يعود من الحرب منهم سالما، ومنهم من تبرع بمؤونة عدد معين من الجند مدة سنة إلى غير ذلك من أنواع المساعدات والتبرعات التي أملتها وطنيتهم على قلوبهم، حتى أمكن الحكومة جمع نحو مائتين وخمسين ألف جندي، وتشييد ما يلزم من السفن لمنع أي اتصال بين أنيبال وقرطاجة ونقل الجيوش الرومانية إلى إسبانيا لمساعدة القائد (سيبيون) على محاربة القرطاجيين هناك، ولولا وطنية الأهالي وتفضيلهم الموت على مذلة تسلط الأجنبي لما أمكن الحكومة إتيان أي عمل من ذلك.
هذا؛ ولم تفد أنيبال مساعيه في إثارة حاكم سيراكوزة بجزيرة صقلية المدعو هيبرون، فإنه لم يلب دعوته إلى محاربة الرومانيين، بل حافظ على ولائهم في أيام شدتهم محافظته عليه في أيام سعادتهم، وكذلك لم ينجح القرطاجيون في مهاجمتهم جزيرة سردينيا ليحولوا أنظار الرومانيين عن أنيبال نوعا، ويضطرونهم لإرسال بعض جيوشهم للمحافظة عليها، وأخيرا لم تفده حيلته الثالثة وهي الاستنجاد بفيليب المقدوني، فإن الرومانيين هاجموه حين استعداده لمهاجمتهم ببلاد اليريا فهزموه واضطروه إلى العودة لبلاده مخذولا، وبذلك لم يبق لأنيبال خلاص من الموقف الحرج الذي وجد فيه بسبب طيشه، وثقته الزائدة في قوة جيوشه، وتفننه في ضروب الحرب إلا الاتكال على من بقي معه من الجيوش بدون انتظار وصول مدد إليه من قرطاجة بسبب محاصرة الرومانيين لجميع الثغور كما قدمنا.
ولقد تمكن أنيبال من الخروج من مدينة (كابوا) قبل إتمام الحصار عليها، وأخذ يناوش الرومانيين كي يتبعوه في الأماكن السهلة فينقض عليهم بفرسانه المشهورة، لكن أعياه صبر الرومانيين الذين التزموا خطة التسويف في الحرب على مذهب رئيسهم فابيوس.
هذا؛ ولما مات هيبرون حاكم سيراكوزة وقتل ولده بعده أمكن أنيبال أن يهيج الأهالي ويبث فيهم روح الثورة والعصيان، فثاروا على حكامهم المسالمين لرومة وأعلنوا الحكومة الجمهورية واتحدوا مع قرطاجة ضد الرومانيين، فحاربهم القائد الروماني (مارسللوس) وانتصر عليهم بعد العناء والتعب، وافتتح مدينة سيراكوزة سنة 212 وقتل أثناء الهجوم عليها الرياضي الشهير أرخميدس (Archimède)
وطرد القرطاجيين الذين أتوا لمساعدتهم على الرومانيين، ولم تعد هذه الفتنة بأقل فائدة على أنيبال.
وفي سنة 209 أعيد انتخاب فابيوس لقيادة الجيش فاستخلص مدينة ترنته من القرطاجيين، وكانت هذه الحادثة خاتمة أعماله الحربية إذ لم ينتخب بعد ذلك إلى أن توفي سنة 205 قبل المسيح.
ولقد امتاز (كرنوليوس سيبيون) وأخوه في محاربة القرطاجيين في إسبانيا والانتصار على ازدروبال أخي أنيبال في عدة وقائع شهيرة، وكان النصر حليفهم دائما إلى سنة 212 حيث قتلا في إحدى هذه الحروب العديدة، وكان لأحدهما كورنيليوس ولد يدعى (بوبليوس) اشتهر فيما بعد باسم سيبيون الإفريقي كان خير ولد لخير والد فإنه حفظ اسم أبيه وعمه، بل فاق عليهم في الشهرة وبعد الصيت إذ كان انتهاء هذه الحرب بحسن تدبيره وبعد نظره كما سترى.
وفي سنة 208 انتخب كل من القائد مرسللوس وكرسبييوس قنصلين لهذه السنة، فارتئيا مهاجمة أنيبال لوضع حد لهذه الحرب التي طالت مدتها وزادت مضراتها ولم يتبعوا خطة سلفهم فابيوس، فعادوا بالخيبة والفشل وقتل مرسللوس مع كثير من ضباط الجيش وجنوده، فلم يعد انتخاب زميله لسنة 207، بل وقع الانتخاب على القائدين نيرون وليفيوس.
وفي تلك السنة انتصر (ازدروبال) على سيبيون الإفريقي في بلاد إسبانيا، واجتاز جبال البرينيه وبلاد غاليا الجنوبية إلى أن وصل شمال إيطاليا لمد يد المساعدة والمعاونة لأخيه أنيبال ويحصرا مدينة رومة بين جيشهما، لكن أتاح الله لهذه الأمة الرومانية التي استمرت تحارب عن استقلالها، وتناضل عن حياتها عشرات من السنين القائد نيرون الذي كان يحارب أنيبال في الجنوب بينما كان زميله واقفا في وجه ازدروبال يمنعه عن اللحاق بأخيه، فقد دبر هذا القائد حيلة أجهز بها على ازدروبال، وذلك أنه سار بكل سرعة مع سبعة آلاف من نخبة رجاله بعد أن اتخذ ما يلزم من الاحتياطات لعدم استشعار أنيبال بغيابه، وجد في السير ستة أيام حتى لحق بزميله ليفيوس وأعلن العدو باجتماع الرئيسين، فظن ازدروبال أن أخاه قد خذل ومات؛ إذ كان يصعب عليه أن يعتقد بمغادرة نيرون لجنوب إيطاليا مع وجود أخيه بها ففر ازدروبال بجيوشه إلى الشمال لتوهمه أن جميع جيوش الرومانيين اتحدت لمحاربته وتحققه من عدم إمكانه مقاومتها، فتبعه القنصلان بما معهما من الجيوش وهزماه شر هزيمة بالقرب من نهر ميتوروس وفرقوا جنوده أيدي سبا، ووجدا جثته ضمن القتلى وأرسلا رأسه لأنيبال ليعلموه مما حل بأخيه، ولقد محا الرومانيون في هذه الموقعة ما لحق بهم من الفشل والتصق بهم من العار في واقعة تراسيمين وكان.
وبعد ذلك لم يبق لأنيبال أقل أمل في وصول أدنى مساعدة إليه من جهة قرطاجة ويئس من النجاح في مشروعه؛ إذ تضعضع حاله وهلكت جيوشه، وتفرق من حوله محالفوه ومحازبوه من أهالي البلاد لما رأوا ما حل به من الانكسار، وأيقنوا أن الفوز سيكون للرومانيين لا محالة لكنه لم يظهر يأسه، بل تظاهر بالثبات والصبر شأن كل عاقل حكيم.
ولنأتي هنا باختصار على ذكر ما حصل بإسبانيا من الوقائع بين الرومانيين والقرطاجيين بعد موت كورنوليوس سيبيون وأخيه وظهور ولده بوبليوس الذي تلقب بالإفريقي فنقول:
إن بوبليوس انتصر مرتين على ازدروبال أخي أنيبال، ثم غافله ازدروبال المذكور واجتاز جبال البيرينه وبلاد غاليا (فرنسا)، ووصل إلى شمال إيطاليا لمساعدة أخيه؛ فهزم وقتل وأرسلت رأسه إلى أخيه كما مر، وفي أثناء ذلك فتح بوبليوس سيبيون مدينة قرطاجة الجديدة المعروفة الآن باسم قرطاجنة التي كان أسسها أنيبال بساحل إسبانيا، ووجد سيبيون ما كان لدى القرطاجيين من الرهائن التي أخذوها من أهالي إسبانيا ليأمنوا غدرهم وانضمامهم للرومانيين، فأحسن سيبيون معاملتهم وردهم إلى أهلهم مزودين بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة، وعامل الأهالي بالرفق واللين فمالوا إليه بقلوبهم وساعدوه بأموالهم ورجالهم حتى افتتح جميع ما كان لقرطاجة من بلاد إسبانيا، ولم يبق لهم إلا مدينة قادس.
ثم حول أنظاره إلى إفريقية الشمالية، وبالأخص إلى بلاد نوميديا (هي بلاد الجزائر ومراكش الآن) التي كانت مجزأة بين دولتين متحدتين مع قرطاجة.
وكان ملك أحدهما يسمى مسنيسا والآخر سيفاكس وسعى في سلخهم عن قرطاجة وضمهم إليه ليكونا له عونا على القرطاجيين، وسافر فعلا إلى (سرتا) عاصمة مسنيسا المسماة الآن مدينة قسنطينة بجزائر الغرب، وأبرم تحالفا مع هذا الملك وتحالف كذلك مع سيفاكس، لكن لم يلبث سيفاكس أن انفصل بمساعي القائد القرطاجي ازدروبال بن جسكون الذي زوجه ابنته وساعده على محاربة مسنيسا وطرده من مملكة آبائه وأجداده .
لكن لم تقعد سيبيون كل هذه العوائق عن تنفيذ ما صمم عليه وعرضه على أمته، وهو أن يقصد نفس بلاد قرطاجة بجيش عظيم فيضطر أنيبال لمبارحة بلاد إيطاليا للدفاع عن وطنه الأصلي، وهو مشروع غاية في الأهمية والإصابة، إلا أنه صادف معارضات شديدة في رومة وبالأخص من القائد الكبير فابيوس الذي كان يميل دائما إلى التسويف وعدم الإسراع، وكان رأيه تضييق المذاهب والمسالك على أنيبال ومحاصرته في الجهة النازل بها حتى يضطر للتسليم.
وقد انصاع سناتو رومة لهذا الرأي ولم يوافق سيبيون الإفريقي على رأيه، فسافر سيبيون إلى سيراكوزة بجزيرة صقلية، وأرسل عدة خطابات إلى الولايات الرومانية والشعوب التابعة لرومة يفصل لهم مشروعه، ويوضح أفضليته على رأي فابيوس الذي لا يكون من ورائه إلا إطالة مدة الحرب، واضمحلال الأمة وفقرها باشتغالها عن الزراعة والتجارة وصرفها كل قواها في تعبئة الجيوش وتجهيزها وتعطيل ما دونها من الأشغال، فصادف نداؤه أذانا واعية وقلوبا متقدة وطنية وغيرة على استخلاص الوطن من احتلال الأجنبي؛ فأمدته الأمم التابعة لرومة بالمال والرجال والسفن، وتطوع كثير من شبان الرومانيين من جميع الطبقات لا فرق بين فقير وحقير في خدمة الوطن والدفاع عن حرمته، حتى جمع سيبيون في مدة وجيزة ثلاثين ألف جندي وسافر بهم قاصدا إفريقية تحملهم أربعمائة سفينة تجارية تخفرهم خمسون سفينة حربية، وأخذ من المؤونة ما يكفي جميع جيشه مدة خمسة وأربعين يوما وأقلع في غضون سنة 204ق.م قاصدا قرطاجة، وكان يوم سفره من ثغر ليليبيا
4
يوما مشهودا حضره إليه الأهالي من أقاصي الجزيرة، ومما جعل لهذه الإرسالية أهمية عظمى أن الحكومة لم تشترك فيها مطلقا، بل كانت مضادة لها اتباعا لرأي القائد المسوف فابيوس.
ولم تعترض سفن قرطاجة سيبيون وسفنه أثناء اجتيازهم البحر بين صقلية وتونس، بل سار بأمان إلى أن ألقت السفن مراسيها بمحل يعرف الآن باسم (Beau
، وأنزل عساكره إلى البر فانضم إليه في الحال مسنيسا ملك نوميديا السابق ذكر تعدي سيفاكس عليه واغتصابه الملك منه بمساعدة ازدروبال القرطاجي، وقضى سيبيون ما بقي من سنة 204 بدون أن يأتي عملا يذكر سوى تحصين معسكره، واتخاذه الاحتياط اللازم لصد كل عدو مفاجئ.
وفي السنة التالية جمع له القرطاجيون جيشا يزيد عن خمسين ألف مقاتل تحت قيادة ازدروبال وبمساعدة سيفاكس، فتظاهر سيبيون بالميل إلى الصلح حقنا للدماء البريئة وأرسل بعض ضباطه إلى معسكر الأعداء بحجة المخابرة في الصلح وشروطه، وكانت مأموريتهم الحقيقية زيارة معسكر الأعداء واستكشاف أحوالهم.
ولما علم سيبيون بهذه الطريقة أن المعسكر مركب من أكواخ صغيرة من القش والبوص عمد إلى حرقه بالنار ليلا، فحرق ودمرت ميرة الأعداء وما معهم من المؤن، وهلك كثير من جنودهم وتفرق الباقون إلى جميع الجهات، وبذلك انتصر عليهم نصرا مبينا بدون أن يعرض حياة نفر من رجاله إلى الموت وانتصر عليهم مرة ثانية في موقعة منتظمة.
ثم أرسل مسنيسا مع أحد القواد الرومانيين لاقتفاء أثر سيفاكس والقبض عليه حيا أو ميتا، فطاردوه في الجبال والسهول وانضم إليهم كثير من أهالي نوميديا الذين أصلهم رعايا مسنيسا وتفرقت الجنود عن سيفاكس لما علموا بمجيء ملكهم الأصلي وسيدهم الشرعي، وأخيرا قبض عليه وعلى زوجته ابنة ازدروبال ودخل مسنيسا مدينة سرتا (الآن قسنطينة)، وجيء بسيفاكس إلى سيبيون فسجنه إلى انتهاء الحرب، وتزوج مسنيسا زوجته التي كان يهواها من قبل، لكن لم يقبل سيبيون زواجه بها وطلب منه أن يتركها أو يأخذ منه ملكه، فآثر الملك على حب هذه الفتاة ودس لها السم فماتت شهيدة الجشع والطمع.
وفي هذه الأثناء استقدمت حكومة قرطاجة أنيبال وجيوشه من إيطاليا، كما استقدمت ماجون الذي كان أرسل بجيش قرطاجي إلى جبال (ليجوريا) بشمال إيطاليا ليحول قوى الرومانيين إليه، ويخلص بذلك أنيبال من الضيق المحدق به، فعادا طائعين وطهرت الأراضي الرومانية من دنس الاحتلال الأجنبي بحسن تدبير سيبيون ونقله ميدان الحرب بإفريقية.
وقد أتى أنيبال من الفظائع عند مبارحته إيطاليا ما تقشعر منه الأبدان وترتعد له الفرائص، وقتل كل من لم يقبل مرافقته إلى إفريقية من الأهالي الذين كانوا انخرطوا في سلك جيوشه طلبا للغنيمة، فخرج من إيطاليا آسفا على عدم نجاح مشروعه وخيبة مسعاه أمام وطنية الرومانيين وتهالكهم في الدفاع عن بلادهم عشرات من السنين.
ولما عاد أنيبال إلى إفريقية أراد أن يصالح سيبيون على مال معين، فلم يقبل لتصميمه على الحرب والانتصار حتى يمحو عن رومة وجيوشها ما لحقها من العار في بعض الوقائع السابقة، وينتقم لها من قرطاجة وجيوشها التي طمحت بأنظارها لامتلاك البحر الأبيض المتوسط.
وفي شهر أكتوبر سنة 202ق.م جمع القرطاجيون ما أمكنهم جمعه من بقايا جيوشهم، واستعد سيبيون للقتال مستعينا بفرسان نوميديا الآتين مع مسنيسا لنجدته، والذين كانوا في أوائل هذه الحرب عونا لأنيبال ضد الرومانيين في وقائع تريبيا وكانه وغيرهما.
وفي 19 من ذلك الشهر التحم الجيشان بمحل يقال له (زاما) (Zama) ، وانتصر الرومانيون على القرطاجيين نصرا لم تقم لهم بعده قائمة، وفر أنيبال إلى مدينة (هدروميت) ومنها إلى قرطاجة فدخلها مهزوما بعد أن أقام خارجها خمسا وثلاثين سنة قضاها في الحرب والقتال.
وبعد الانتصار عاد سيبيون إلى تونس طاردا من طريقه كل من قابله من بقايا الجيوش، ومن تونس أرسل إلى قرطاجة رسولا بالشروط التي اقترحها للصلح وإخلاء أرض قرطاجة، وهذه الشروط هي: أن تتخلى قرطاجة عن جميع أملاكها بإسبانيا وجزائر البحر المتوسط ولا تحفظ إلا بلاد قرطاجة الأصلية (إقليم تونس)، وأن تسلم جميع ما لديها من أسرى الرومانيين والفارين إليها من الجيوش الرومانية، وجميع ما عندها من السفن بحيث لا يكون لها الحق إلا في عشر سفن لا غير، وأن تسلم ما لديها من أفيال القتال، وأن لا يجوز لها أن تقتني غيرها فيما بعد، وأن لا تحارب أحد مجاوريها إلا بإذن رومة، وأن لا تؤجر الأغراب في جيوشها، وأن تدفع غرامة حربية قدرها عشرة آلاف تالنت (Talents)
في مدة خمسين سنة، وأن تعتبر مسنيسا حليفا لها وتعطيه غرامة حربية تقدر فيما بعد.
فقبل سناتو قرطاجة هذه الشروط جميعها، وسلمه خمسمائة سفينة حربية أمر سيبيون بحرقها أمام قرطاجة حتى يثبت لهم أن رومة غير محتاجة لسفنهم وأنها غنية بنفسها.
وكان رأي بعض قواد الرومان إلغاء حكومة قرطاجة بالمرة ومحوها من عالم الوجود، حتى تكون رومة المالكة الوحيدة لحوض البحر المتوسط الغربي، لكن لم يوافق سيبيون على هذا الرأي، بل فضل بقاء قرطاجة ضعيفة وبجانبها حكومة قوية محالفة لها وتحت سيطرة الحكومة الرومانية وهي حكومة (نوميديا)، وعزز هذا الرأي بأن الرومانيين لو أمنوا كل مزاحمة من جهة قرطاجة لركنوا إلى الخمول؛ إذ لا يكون لديهم باعث يحثهم على مداومة الحذر والاستعداد لصد كل طارئ، وتكون النتيجة إماتة الإحساسات الحربية والعواطف الوطنية في الأمة الرومانية، ونعم الرأي رأيه، فإن اهتمام الأمة بأمر حياتها وحمايتها من الطوارئ الخارجية يجدد فيها دائما روح الوطنية، ويشدد ربط الاتحاد بين أفرادها بخلاف ما لو كانت آمنة من الأعداء داخلا وخارجا، فإنها تميل إلى الترف وحب الزخرف، وتشغلها الملاذ الدنيوية عن الاهتمام بالأمور العمومية النافعة للبلاد، وتضعف فيها العواطف الشريفة شيئا فشيئا حتى تتلاشى بالمرة وتكون فريسة سهلة لكل طامع في امتلاكها ساع وراء إبادتها.
ولهذه الملاحظات صدق مجلس سناتو رومة على هذه الشروط، واحتفل بسيبيون عند عودته احتفالا لم يسبق لغيره من القواد العظام، فدخل رومة في موكب حافل سار فيه وراء عربته الملك سيفاكس السابق الذكر، وهو أول ملك سار بصفة أسير في موكب انتصاري برومة (وقال بعض المؤرخين إنه مات في السجن قبل هذا الاحتفال)، وقامت له الأهالي من جميع الطبقات بمظاهرات الولاء والإخلاص، وتغالت الأمة في إظهار شكرها له على تخليصها من الاحتلال الأجنبي وضعضعة أركان قرطاجة حتى عينته حاكما مطلقا (دكتاتور) طول حياته خلافا لما تقضي به النظامات والقوانين.
هذا؛ ويظهر للمطلع على التاريخ القديم والحديث أن بين حروب رومة لقرطاجة وحروب فرنسا لإنكلترا في أوائل القرن التاسع عشر تشابه عظيم؛ وهو أن كلا منهما كانت تسعى للاختصاص بسيادة البحار دون الأخرى ففازت رومة على منافستها، ولم تفز فرنسا على إنكلترا لدواع يطول شرحها.
وكذلك توجد مشابهة بين اجتياز أنيبال لجبال الألب في أوائل الحرب البونيقية الثانية وبين عبور نابليون بونابرت لها عند محاربته النمسا في آخر القرن الثامن عشر، فإنه اتبع طريق سان برناد الذي اتبعه أنيبال فكان له منه قدوة حسنة سار عليها ونسج على منوالها، وكذلك فقد أراد نابليون مجاراة سيبيون الإفريقي في طريقة محاربته لقرطاجة، ونقله الحرب إلى بلادها بدل أن تكون بلاد إيطاليا مرسحا للقتال، فأنشأ معسكرا عظيما في ثغر (بولونيا) على بحر المانش الفاصل بين فرنسا وإنكلترا، وجمع فيه جيشا جرارا وعدة مئات من السفن الحربية وسفن النقل لنقل الجنود إلى بلاد الإنكليز ومحاربتها في نفس بلادها، فيضطرها لسحب عساكرها من البرتقال وإسبانيا وباقي جهات قارة أوروبا، والاشتغال بالدفاع عن بلادها، وعدم مساعدة باقي دول أوروبا ضده، لكن لم تساعده الظروف على تتميم هذا المشروع، وحفظت إنكلترا من إغارته التي لو تمت حسب تدبيره لأجهزت عليها ولم تقم لها بعد ذلك قائمة، كما حصل لقرطاجة بعد الحرب البونيقية الثانية.
وقد كانت نتائج هذه الحرب عظيمة جدا، فإن رومة سادت على أوروبا الغربية بأسرها، وعلى جميع شواطئ البحر المتوسط الغربي، ولم يبق لها به مزاحم، فطمحت إلى التوسع في امتلاك البلاد الشرقية حتى يكون لها ملك البحر الأبيض المتوسط من أوله لآخره، وساعدها على مقصدها ما صارت إليه حالة العالم الشرقي من الانحلال عقب سقوط المملكة الواسعة الأطراف التي أسسها إسكندر الأكبر باني إسكندريتنا المتوفى سنة 323ق.م، وتقسيم قواده مملكته إلى عدة ممالك صغيرة، واستمرار الحروب بين هذه الإمارات كما حصل في أواخر خلافة العباسيين في نفس هذا العالم الشرقي مما كان سببا لتلاشيه، كما كان السبب بعينه سببا لتلاشي ملك الإسكندر وامتلاك الرومانيين لهذه الإمارات جميعها الواحدة بعد الأخرى، كما سيأتي في الجزء التالي.
وكذلك كانت بلاد اليونان الأصلية منفصمة العرى لا تضافر ولا ارتباط بين مدنها؛ إذ كانت كل مدينة تصبو إلى التسلط على جارتها والتهام ما تصل إليه يدها من أراضيها، وبالاختصار فلم يكن في الشرق دولة يمكنها مقاومة أطماع الدولة الرومانية وصد غاراتها عن الشرق، نعم لو اتحدوا معا ونبذوا الانقسام ظهريا لأمكنهم حفظ استقلالهم أمام أي دولة مهما كانت قوتها، فالعروة الوثقى لا انفصام لها، لكنهم لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة الباهرة، بل استمروا على تفرقهم، فسطت الدولة الرومانية عليهم وحرمتهم استقلالهم وسلبتهم حريتهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة جزاء ما كانوا يفعلون.
ولم تكتف هذه الدول الشرقية بالتفرق والانقسام، بل تهافتت على التملق لرومة والتودد إليها والاستنجاد بها على بعضها البعض مما كان سببا لتداخلها في شؤون بلادهم الداخلية، فقد أبرمت حكومة البطالسة بمصر مع رومة معاهدة محبة وولاء منذ سنة 279ق.م.
ولما كان من القوانين الطبيعية المقررة بالشواهد العديدة أن كل اتحاد بين أمتين إحداهما أضعف من الأخرى تكون نتيجته حتما تداخل القوية منهما في شؤون حليفتها مع الزمن بدعوى النصيحة والإرشاد، والتسلط عليها في آخر الأمر تسلطا أدبيا، ثم يستحيل هذا التسلط الأدبي إلى تسلط فعلي وامتلاك حقيقي.
ولم تنج مصر في عهد البطالسة من نتائج هذا الناموس الطبيعي، بل تداخلت الحكومة الرومانية في شؤونها شيئا فشيئا، حتى تحصلت بمساعيها لدى وزراء مصر عند تولية بطليموس الخامس الذي كان سنه لا يتجاوز الخمس سنوات على أن تكون الوصاية عليه مدة طفوليته إلى أن يبلغ رشده لسناتو رومة، فكانت شؤون مصر في عهده في يد الحكومة الرومانية بصفة وصية، ونحن نعلم كيف تكون معاملة الوصي للموصى عليه في مثل هذه الظروف، وأمام أعيننا الشواهد العديدة على ذلك في عهد احتلال إنكلترا لمصر وإدارتها شؤونها بصفة وصية إلا أن الفرق بين هاتين الحالتين أن رومة عينت وصية على ملك قاصر وبطلب وزرائه، وإنكلترا عينت نفسها وصية على مصر التعيسة وخديويها توفيق باشا بالغ رشيد، واستمرت وصايتها بعد موته وشهادة العموم بأن خليفته عباس باشا الثاني لا يقل ذكاء وحبا لخير بلاده عن أحسن ملوك أوروبا وإمبراطرتها.
هوامش
حرب مقدونية
وبعد أن انتهت الحروب مع قرطاجة بالكيفية السابق شرحها وفازت رومة بالظفر وقيدت عدوتها بمعاهدات تجعلها تحت حمايتها الفعلية، وألزمتها بمحالفة مسنيسا ملك نوميديا وقوته بجوارها ليكون مراقبا عليها وعونا لرومة عند الحاجة؛ وجهت رومة التفاتها للانتقام من فيليب ملك مقدونية الذي اتحد مع أنيبال عليها، فقرر السناتو محاربته لإذلاله وإضعافه فيؤمن شره في المستقبل، خصوصا وأنه كان باذلا جهده في الاتحاد مع أنتيوكوس
1
ملك الشام وبروسياس ملك بثينيا
2
على محاربة بطليموس مصر الذي كان تحت حماية رومة، وسلبه أملاكه في بلاد سوريا وغيرها، وحصره في حدود مصر الطبيعية.
ولقد كان الشعب الروماني غير موافق على الحرب في أول الأمر لما قاساه من المشاق في محاربة أنيبال، ثم اقتنع بضرورة إشهار الحرب على فيليب حتى لا يكون بجوار إيطاليا ملك قوي يخشى من تعديه يوما ما على حدودهم كما فعل مساعدة للقرطاجيين.
وعين القنصل سولبسيوس لمحاربته، فسار إلى بلاد مقدونية سنة 201 ودخلها من جهة الغرب وفتح منها عدة مدن، ولما جاء الشتاء عاد إلى مدينة أبولونيا على بحر الأدرياتيك لقضاء فصل الشتاء.
وفي ربيع سنة 200 قبل المسيح أتى إلى المعسكر القنصل ويلنيس الذي انتخب لهذه السنة فرأى الجند في حالة عصيان وهيجان لا يجسر معها على مهاجمة العدو، فقضى مدته في تنظيم الجند وإعادة السكينة إليه، وظن فيليب أن الرومانيين لم يهاجموه لضعف في قواهم فأتى بجيشه وعسكر على ضفتي نهر أوس
3
الذي يمر بالقرب من أبولونيا ويصب في البحر الأدرياتيكي، وامتنع في محل بالغ في تحصينه حتى خشيت رومة عاقبة وجوده في هذه النقطة، وأرسلت فلامينوس الذي برهن على كفاءته في الحروب السابقة لقيادة الجيش المحارب في مقدونية.
ولقد حقق هذا القائد اعتقاد أهل بلاده فيه، وانتصر على فيليب في سنة 198ق.م انتصارا عظيما، وتبعه في تقهقره إلى إقليم (تساليا)، وقضى شتاء هذه السنة في قلب بلاد اليونان ليستميل إليه القبائل المعادية لفيليب، فانضم إليه كثير منهم حتى إذا أتى ربيع سنة 197 كان قد أدخل في عداد جيوشه كثيرا من اليونان أنفسهم.
وحارب فيليب في شهر يونيو بجيش تعداده ستة وعشرون ألف مقاتل بينهم ثمانية آلاف من اليونان المنضمين إليه، وانتصر عليه نصرة عظيمة لم يقم له بعدها قائمة، بل اضطر لطلب الصلح وقبول شروط فلامينوس بدون تغيير أو تحوير.
وأهم هذه الشروط أن يكتفي بملك مقدونية ويسحب عساكره من باقي بلاد اليونان بأوروبا وآسيا، ويعيد إلى تساليا استقلالها ويسلم جميع السفن الحربية وغيرها إلى الحكومة الرومانية، ولا يبقى بطرفه غير خمسة مراكب نقل لا غير، ويحل جميع جيوشه إلا خمسمائة جندي لحفظ الأمن داخل بلاده، وأن لا يحارب أحد مجاوريه بدون إذن وتصريح الحكومة الرومانية وتعهد بأن يدفع خمسمائة تالنت غرامة حربية، وخمسين ألف دينار جزية سنوية لمدة عشر سنين، وقدم على تنفيذ هذه الشروط عدة رهائن منها ولده دمتريوس.
وبذلك أضعفت رومة ملك مقدونية كما فعلت مع قرطاجة فأمنت مجاوريها شرقا كما أمنت شرور قرطاجة جنوبا وغربا، ولم تجهز على مقدونية وتجعلها ولاية رومانية للأسباب التي ذكرناها في آخر الحرب البونيقية الثانية، بل اتبعت سياسة الحكمة والسداد والإصابة والرشاد.
وبعد أن تم خضوع فيليب وأمنت رومة جانبه استمالت جميع اليونانيين إليها حتى لا ينضموا فيما بعد إليه أو إلى غيره ممن يدعونهم لمحاربة رومة، فمنحتهم جميعا الحرية في داخلية بلادهم وجعلت كل بلد مستقلة عن الأخرى تمام الاستقلال أو متحدة مع بعض مجاوريها اتحادا بسيطا، فشكرها اليونانيون شكرا جزيلا على هذه المنة لاعتقادهم أنها تروم لهم كل خير، وأقاموا الولائم والاحتفالات شكرا لصنيعها، وأعتقوا من كان لديهم في حالة الرق من أسرى الرومانيين الذين باعهم القرطاجيون بيع الأنعام، ولم يفطنوا إلى ما كانت تبطنه لهم الحكومة الرومانية من الشر والخديعة السياسية، فإنها كانت تقصد بعملها المذكور التفريق بينهم وفصم عرى اتحادهم؛ فلا تخشى بأسهم حالا واستقبالا وتتركهم في حالة الاستقلال الظاهر أشتاتا لا رابط يجمعهم ولا وحدة بينهم، يفتقر كل منهم لحمايتها ضد جيرانه من أبناء جنسه، فيكون الجميع تحت حمايتها الفعلية لا غنى لهم عنها مطلقا، حتى إذا آنست منهم ضعف العواطف الوطنية والحمية الملية سلبتهم استقلالهم وجعلتهم ولايات رومانية تابعة إليها رأسا؛ فلا يقووا إذ ذاك على مقاومتها بالقول أو بالفعل لما يكون نخر عظامهم من سوس التفريق والانحلال.
ولقد أصابت رومة في هذا العمل من وجهتها الأنانية، ولو أنها ألحقت باليونانيين أضرارا بليغة مادية وأدبية فمنافع قوم مصيبة آخرين، وقانون التزاحم في الحياة النباتية والحيوانية يقضي بافتراس القوي الضعيف بالقوة والسيف أو السياسة والدهاء تبعا لدرجة المفترس الهمجية أو المدنية.
ولما انتهت الحرب مع فيليب بالكيفية السابقة؛ رجع أغلب الجنود الرومانية وعاد القائد فلامينوس إلى رومة فدخلها في موكب النصر حسب المعتاد لدى القوم، لكن أبقى في بلاد اليونان فرقة رومانية لمراقبة حركات فيليب المقدوني من جهة، وخوفا من تعدي أنتيوكوس ملك سوريا حدوده واختياره البحر لمحاربة الرومانيين اتباعا لوساوس أنيبال الذي ما انفك ساعيا في تأليف المحالفات ضد رومة انتقاما منها على انتصارها عليه، فهو الذي كان سعى في تحريض فيليب المقدوني على محاربتها.
ولما لم يفلح وثبت للحكومة الرومانية تداخله وتحريضه طلبت من قرطاجة نفيه خارج البلاد خصوصا وأنها رأت منه اهتماما زائدا في إصلاح داخلية بلاده، وخشيت لو استمر على خطته الإصلاحية من أن تقوى قرطاجة يوما ما من استرجاع ما فقدته من القوة والشرف في الحرب الأخيرة، فهرب أنيبال خفية وأتى إلى أنطاكية يحرض ملكها على محاربة رومة العدوة اللدودة لبلاده.
هوامش
محاربة أنتيوكوس ملك الشام
ولما كان أنتيوكوس يطمح بنظره إلى امتلاك ما كان تحت سلطان إسكندر الأكبر من البلدان، وخصوصا في آسيا الصغرى وإقليم (تراس) المسمى اليوم بالرومللي والباقي للآن تحت حكم الدولة العلية؛ مال إلى نصائح أنيبال وقبلها بكل ارتياح، وجهز جيشا عظيما لمحاربة الرومانيين واجتاز البحر إلى بلاد اليونان وانضم إليه من اليونانيين إحدى القبائل التي كانت مصافية للرومانيين ومحالفة لهم ضد فيليب المقدوني، ثم انقلبت عليهم لعدم حصولها على ما كانت تبتغيه من الضيع والبلاد، فأرسلت رومة الجيوش من ثغر برنديس (الآن برنديزي) إلى بلاد اليونان، وساعدتها قرطاجة بإرسال جانب عظيم من الغلال، وكذلك انضم إليها فيليب المقدوني عدوها السابق وحكومة قبرص وباقي الحكومات اليونانية المستقلة التي كانت تخشى على استقلالها من مطامع أنتيوكوس، فانتصر عليه الرومانيون ومحالفوهم تحت قيادة كانتون في عدة مواقع، وأخيرا تقابل الجيشان في مضيق (الترموبيل)
1
في يولية سنة 191ق.م.
وفاز الرومانيون بالغلبة وفر أنتيوكوس إلى آسيا الصغرى بعد أن اجتاز (إقليم تراس) وعبر بوغاز الدردنيل
2
فتبعه الرومانيون إلى بر الأناضول، وهي أول مرة يطأ فيها الرومان أرض آسيا، وبمجرد دخولهم إلى هذا الإقليم انضم إليهم كثير من الإمارات الصغيرة التي قامت على أطلال مملكة الإسكندر لما سمعوه من معاملة الرومانيين لأهالي اليونان ومنحهم الحرية في نظاماتهم الداخلية، ودخل كثير منهم في عداد جنود الرومانيين.
أما أنتيوكوس فتقهقر إلى مدينة (إفسوس)
3
وصده عنها سكانها بعد أن حاول احتلال مدينة (برغامة)
4
تحت قيادة ملكهم
Eumène
حليف الرومان.
وفي 5 أكتوبر سنة 190ق.م دخل الرومان إلى معسكر أنتيوكوس بالقرب من مدينة مغنيسيا
5
وهزموه هزيمة لم تقم له بعدها قائمة، واضطروه لقبول ما عرضوه عليه من شروط الصلح التي تشبه من جميع الوجوه ما أبرم مع قرطاجة وفيليب المقدوني، وهي أنه لا يجوز له محاربة أحد مجاوريه بدون إذن سناتو رومة، وأن يسلم ما لديه من أفيال الحرب إلى ملك برغامة، ويدفع إليه غرامة حربية تساوي مائة ألف جنيه من عملة هذا الزمان، وأن يدفع لرومة غرامة تعادل ثلاثة ملايين جنيه ويسلمها جميع مراكبه الحربية، وأن ينسحب إلى ما وراء جبال طوريس بحيث يكون هذا الجبل حدا لأملاكه من جهة الشمال، وأخيرا اشترطت عليه تسليم أنيبال أكبر محرض على هذه الحرب التي كانت القاضية على ملك أنتيوكوس، فكأن أنيبال لم يكتف بما أصاب بلاده من الضرر بسبب مطامعه فأوقع محازبيه في ما وقع هو فيه من المصائب، ولما علم أن أنتيوكوس قبل تسليمه إلى الرومانيين فر هاربا واحتمى لدى بروزياس ملك بثينيا.
وقد وزع الرومان ما أخذوه من بلاد أنتيوكوس على محالفيهم من اليونان ولم يبقوا لأنفسهم شيئا منها، وأعطوا معظمها إلى أكبر حلفائهم، وهو
Eumène
ملك برغامة، فصار بالنسبة لأنتيوكوس كمسنيسا ملك نوميديا بالنسبة لقرطاجة.
وبعد أن أتموا إخضاع هذا الإقليم ورتبوا أموره ووطدوا ربط الاتحاد بين سكانه وبين الحكومة الرومانية عادوا إلى أوروبا ولم يتركوا نفرا من جنودهم في البلاد التي فتحوها، بل ردوها لأصحابها مكتفين بأن يكونوا لهم أصدقاء مخالصين لا أعداء معاندين كما فعلوا مع بلاد اليونان سابقا، فوجدوا منهم أكبر عضد وأعظم مساعد عند مرورهم من بلادهم قاصدين آسيا الصغرى، نعم إن بعض القبائل انقلبت على الرومانيين في أوائل محاربة أنتيوكوس لاعتقادها أنها لم تحظ بما تستحقه من المكافأة بعد مساعدتها الرومان في أول الأمر على محاربة فيليب المقدوني، إلا أنها لم تر بدا من الإذعان بعد أن لقيت من الرومان يدا قوية في معاقبتهم على خيانتهم لها وعدم محافظتهم على ولائها.
وبذلك لم يبق لرومة مجاور تخشى تعديه على حدودها، بل لم يبق على ضفاف البحر المتوسط أمة غير متحالفة معها، وبعبارة أخرى غير خاضعة لها بالفعل، ولكن لاعتقادها عدم المقدرة على جعل بلادهم ولايات رومانية بحتة؛ تركت لها هذا الاستقلال الظاهري حتى تتمكن من إخضاعها تماما تبعا لمقتضيات الظروف ودواعي الأحوال.
ولا يخفى ما بين هذه السياسة وسياسة الدول الأوروبية مع الأمم الشرقية في هذه القرون الأخيرة من التشابه، فمن راجع تاريخ احتلال الإنكليز لبلاد الهند وامتداد نفوذهم تدريجا تارة بالفتح وغالبا بإبرام المعاهدات الودادية (كما يسمونها) مع الأمراء والحكام، وإيقاد نيران البغضاء والشحناء بينهم، ومساعدتهم على بعضهم البعض لإضعافهم وتفريقهم، وما تبذله إنكلترا الآن من هذه السياسة المبنية على الأنانية وحب النفس في بلاد إفريقية بمساعي رجالها، مثل سسيل رود في الجنوب، والكابتن لوجارد في الوسط، واللورد كرومر في الشمال؛ يتحقق أن الإنكليز تشبهوا في سياستهم الاستعمارية بالرومانيين الذين سبقوهم في هذا المضمار.
وقد كانت نتيجة إتعابهم أجيالا متعاقبة الخراب والدمار لما تغلبت عليهم اللذات، ومالوا مع الهوى بسبب كثرة أموالهم وشدة غناهم.
وحيث قد شوهد أن الحوادث التاريخية تتكرر فلا بد أن تكون عاقبة الإنكليز سيئة جدا لو داموا على هذه الخطة خطة الأثرة وامتهان حقوق الضعفاء والإكثار من امتلاك البلاد، فإن ذلك قد أثار طمع الأمم الأخرى فقامت لمزاحمتها، وسيكون لها من ألمانيا والروسيا في المستقبل أكبر منافس في المسائل الاستعمارية، وأعظم محافظ على طريق الاستعمار وهو مصر، ونؤمل أن تكون نتيجة هذه المزاحمة والمنافسة خيرا لمصرنا التعيسة، فتحصل على ما يضمن لها استقلالها بحماية جميع الدول ذات الصالح في حفظها من السقوط في أيدي دولة واحدة تقفل طريقها وتوصد أبوابها في وجه من خالفها أو عاداها.
هوامش
بعض حروب أخرى
موت أنيبال
هذا؛ وفي أثناء الحروب المتوالية في مقدونية وآسيا الصغرى هاجت القبائل الأيبرية النازلة بإسبانيا طلبا للاستقلال، فأرسلت الجيوش الرومانية تباعا لقمعهم وإلزامهم الرضوخ والسكينة فقاوموا مدة، وكانت الحرب بينهم وبين الرومانيين سجالا إلى أن تغلب عليهم في آخر الأمر القائد سمبرونيوس جراكوس
Semprenius Grachus
وألزمهم الطاعة.
وكذلك مالت قبائل الغال النازلة في شمال إيطاليا إلى الثورة والعصيان؛ فقمعوا وبقي في إيطاليا من أراد البقاء، وهاجرت عدة من القبائل التي لم ترض أن تكون تحت ذل واستعباد الرومانيين، وآثرت هجرة الوطن إلى غيره من بلاد الله الواسعة طلبا للاستقلال والتمتع بالحرية بعيدا عن مرامي أنظار الرومانيين، ونزلت على شواطئ نهر الدانوب.
ولما استتب الأمن بإسبانيا وشمال إيطاليا، واستراح بال الحكومة الرومانية من جهتهم كما استراح من جهة بلاد اليونان وآسيا الصغرى؛ لم تجد الوقت الكافي لتنظيم داخليتها والنظر فيما يعود عليها بالتقدم في ميادين التمدن، والارتقاء في معارج الفلاح بسبب ما كان يدسه فيليب المقدوني من الدسائس في بلاد اليونان، ويبذره من بذور الشقاق بين مدائنها لتنفصل عن الاتحاد مع رومة وتحصل على تمام استقلالها، ومن كان يرسلهم من الرسل إلى متبربري الجهات الشمالية ليشنوا الغارة على بلاد الرومان فيشتغلون برد غاراتهم عن بلادهم ويخلو له الجو في بلاد اليونان، فيفتح جميع مدنه ويصير هو ملكا مطلقا بها، الأمر الذي كان يسعى جهده لنواله من مدة، واتحد مع سكان التراس (الرومللي) واحتل جزءا منها ليس بقليل وأسس مدينة في مركز متوسط يلجأ إليه عند الضرورة وسماها فيلببوبوليس
1
نسبة إليه، فأرسلت رومة القائد الشهير فلامينوس لتسكين الخواطر في اليونان، والقبض على أنيبال القرطاجي الذي كان نزيلا عند بروزياس ملك بثينيا وينفث سم دسائسه في بلاد اليونان، ويحرض فيليب وغيره على معاداة رومة ومنازلتها انتقاما منها على ما أتته مع قرطاجة.
ولما اخترق فلامينوس بلاد اليونان وأعاد السكينة إليها قصد عاصمة ملك بروزياس، وطلب منه تسليم أنيبال فلم ير بدا من الإذعان لطلباته خوفا من سطوة حكومته، وخشية أن تمد رومة يدها الخاطفة إلى بلاده، خصوصا وأنها لم تبخل عليه بإقطاعه بعض أملاك أنتيوكوس؛ فأمر بالقبض عليه وإحضاره، ولما علم أنيبال بذلك تجرع السم بنفسه حتى لا يقع في أيدي من لم يرحمه (سنة 183ق.م)، وبذلك انتهت حياة هذا البطل الذي زعزع أركان الحكومة الرومانية وكاد يدخل رومة لولا وطنية الأمة الرومانية، وثباتها أمام النوائب والنوازل، وبذلها الأموال والأرواح لإنقاذ وطنها من احتلال الأجنبي وإجلائه عنها.
ولما علم سناتو رومة بمساعي فيليب أطلق سراح ابنه دمتريوس الذي كان أخذ ضمن الرهائن وأرسله لبلاده ليكون نصيرا للرومان على والده، فذهب إلى مقدونية وصار رئيسا للحزب المصافي للرومانيين، وكان له أخ لأبيه يدعى (برسيه)، فخشي برسيه من أن يرث دمتريوس الملك بعد أبيه دونه بسبب أن والدته ليست من العائلة الملوكية؛ فسعى به لدى والدهما وأقنعه بأن دمتريوس يؤامر لقتله، فحنق عليه والده وقتله سنة 181، ثم ندم على تسرعه وحزن حزنا شديدا كان سببا لوفاته في سنة 179 فخلفه ابنه برسيه المعادي للرومانيين، وتظاهر في أول أيامه بقبول الشروط التي قبلها والده، وأخذ في استمالة القبائل المجاورة له وملوك اليونان بآسيا الصغرى وفي تحريض المتبربرين على تعدي الحدود الرومانية، وأرسل وفدا إلى قرطاجة يطلب منها المساعدة والمعاونة سرا وأخذ يستعد لمحاربة الرومانيين ومنازلتهم.
هوامش
محاربة مقدونية وجعلها ولاية رومانية
ولما علم ملك برغامة بهذه الاستعدادات أخبر الحكومة الرومانية لتأخذ حذرها لكي لا تتهمه فيما بعد بممالأة المقدونيين، فأرسلت رومة وفدا مؤلفا من سبعة أشخاص إلى بلاد اليونان لإبطال مساعي (برسيه) وتحذيرهم من سوء العاقبة لو اتبعوه، وأرسلت لمقدونية جيشا من خمسة آلاف مقاتل في سنة 169ق.م، وانقضت هذه السنة في مناوشات خفيفة بين الطرفين لم تأت بفائدة قطعية.
وفي سنة 168 انتخب بوليوس أمليوس
1
قنصلا وسافر للانضمام للجيش المحارب في مقدونية، وبعد أن أعاد النظام إلى الجيش ومرنه على الحرب في عدة مواقع ومناوشات صغيرة، قصد العدو وحاربه في سهل فسيح بالقرب من مدينة بيدنه
2
وانتصر عليه نصرا عظيما في 22 يونيه سنة 168، أثبت به أفضلية النظام الروماني على النظام اليوناني الذي كان وضعه إسكندر الأكبر بعد تجاربه العديدة.
وبعد أن تبدد شمل الجيش المقدوني هرب (برسيه) ولجأ إلى بعض القرى الصغيرة، ثم سلم نفسه للقائد الروماني مع بكر أولاده بسبب وقوع أولاده الآخرين بين أيدي الرومانيين بدسيسة، وخيانة أحد أتباعه فأرسله وأولاده إلى رومة.
وأعلنت الحكومة الرومانية بحرية بلاد مقدونية ولم تضم إليها شيئا منها في بادئ الأمر اكتفاء بأخذ نصف ما كان يدفعه برسيه من الجزية، ثم قسمت هذا الإقليم إلى أربعة أقسام، وحجرت على أهالي كل قسم الاتجار والتزاوج مع سكان القسم الثاني حتى تنحل من بينهم روابط الوطنية والقرابة، وقسم كذلك إقليم إليريا إلى ثلاثة أقسام بهذه القيود.
أما برسيه فسجن في مدينة رومة، ولم تطل مدته به فإنه امتنع عن الأكل حتى مات جوعا.
ولقد كان لانخذال برسيه ووقوعه في أسر الرومانيين دوي عظيم في جميع بلاد اليونان، بل في جميع الممالك الواقعة على شواطئ البحر المتوسط، فحضر بروزياس ملك بثينيا إلى رومة ومثل أمام مجلس السناتو بكل خشوع وخضوع، وأراد ملك برغامة ومسنيسا ملك نوميديا الاقتداء به فمنعتهما الحكومة الرومانية عن مفارقة بلادهم، وألزمت ملك أنطاكية الكف عن محاربة مصر والعودة لبلاده ورد ما أخذه من مصر إليها، ونفت من بلاد اليونان كل من كان معارضا لأعمالها أو متظاهرا بالميل ولو قليلا لجانب ملك مقدونية.
وبالاختصار صارت هي الدولة الوحيدة المسموعة في جميع هذه البلاد، وخشي سطوتها البعيد قبل القريب.
لكن لم تكف هذه الإجراءت لإلقاء الرعب في قلوب أهالي مقدونية، بل أخذوا يسعون جهدهم في تحرير بلادهم وتخليص وطنهم من تسلط الأجنبي فأثاروا الأهالي أكثر من مرة، وحصلت بينهم وبين جيوش الرومان حروب سالت فيها الدماء أنهارا، وقتل فيها أغلب هذه الفئة الغيورة على استقلال بلادها، وأخيرا لما تضعضع حال البلاد وصارت غير قادرة على إبداء أقل مقاومة وقتل سراتها وأشرافها أعلن مجلس سناتو رومة في سنة 142 بجعل بلاد مقدونية ولاية رومانية، وسلبها ما كان تركه لها من الاستقلال الظاهري.
وكذلك لما نخر الشقاق عظام الأمم اليونانية، وانفصمت عرى اتحادها، وصارت أشتاتا تسعى كل منها للإضرار بأختها للتقرب من رومة، وماتت العواطف الوطنية فيها بدسائس الرومان؛ أعلنت الحكومة الرومانية بجعل بلاد اليونان ولاية رومانية واحدة، وبذلك نجحت سياسة رومة أي نجاح، وزال استقلال بلاد اليونان ومقدونية تماما، وصارت ولايات رومانية كما تبعها غيرها تدريجا حتى صار البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية كما سترى.
هوامش
زوال ملك قرطاجة وخرابها
ولنتكلم الآن بالإيجاز عما حصل لهذه الجمهورية الإفريقية القديمة من بعد أن أخضعها الرومانيون عقب الحرب البونيقية الثانية، وحصروا دولتها في بلاد تونس، وأوجدوا بجانبها جارا شديد البطش عليها قديم العداوة لها، وهو مسنيسا ليكون في جسمها كالسرطان في جسم العليل، إن برئ من جانب ظهر في الجانب الآخر حتى يقضي العليل نحبه ويستريح بالموت الأحمر من هذا الداء الأزرق، هكذا كانت حال قرطاجة بعد الشروط القاسية التي قبلتها مضطرة غير مختارة عقب انهزام بطلها الشهير أنيبال في موقعة (زاما)، فإن مسنيسا ما انفك بعدها يوجد كل يوم سببا للشقاق بينه وبين قرطاجة، ويتعدى الحدود المعينة له، ويختلس الأراضي بدون أن تجسر الحكومة القرطاجية على صد هجماته أو منع تعدياته؛ بسبب الشروط التي تم عليها الصلح بينها وبين رومة التي تحرم عليها إعلان الحرب على أحد مجاوريها بدون تصريح الحكومة الرومانية، فكانت تكتفي بالشكوى إلى باب سناتو رومة الأعلى ولا تجد منه إلا أذنا صماء، حيث كان من صالح رومة إضرام نار الفتن بين الجارين حتى تحصل على ضالتها المنشودة وهي الإجهاز على قرطاجة يوما ما.
لكن لما كثرت شكوى قرطاجة من جارها؛ أرسلت الحكومة الرومانية رسلا لتسوية ما بين الجارين من الخلاف وتوطيد أسباب الاتفاق والوئام بينهما إلى حين.
وكان من ضمن أعضاء الوفد (كاتون)، فوجد حالة قرطاجة في غاية اليسار وخزائنها ملأى بالدراهم، ومخازنها مفعمة بالأسلحة والذخائر الحربية، وتجارتها رابحة على عكس ما كان يؤمل الرومانيون بعد انتصارهم.
ولما كانت هذه الحالة المرضية غير منطبقة على رغائب أمته؛ انقلب كاتون على قرطاجة، وصار من أكبر المحرضين على التعجيل بالإجهاز عليها قبل أن تزداد قوتها فيخشى منها وتضطر رومة إلى محاربتها حربا ربما كانت عاقبتها وخيمة على الأمة الرومانية، وصار يخطب بذلك في كل صقع وناد، ويختم خطاباته ومحرراته بهذه العبارة التي صارت في اللغات الأوروبية إلى الآن مجرى الأمثال، وهي
Delenda est Corthago ، ومعناها يجب تخريب قرطاجة.
ولقد أثرت خطاباته هذه في الرأي العام وبالتالي في رجال الحكومة تأثيرا شديدا حتى اقتنعوا بضرورة محاربة قرطاجة ثانيا وجعلها ولاية رومانية بسيطة، وانتهزت لتنفيذ غرضها هذا فرصة تعدي مسنيسا على حدود قرطاجة وقيام الجنود القرطاجيين لصد غاراته، فأعلنتها رومة بأنها خالفت نص شروط الصلح بمحاربتها جارها بدون استئذان سناتو رومة، فأزعنت قرطاجة للقوة واسترجعت جيوشها، وتركت مسنيسا يعثو في حدودها فسادا إرضاء لخاطر الحكومة الرومانية وإذعانا للقوة دون الحق.
ومع كل هذا التذلل لم تعاملها رومة بالعدل، بل أرسلت إليها جيشا مؤلفا من نحو ثمانين ألف مقاتل تحت قيادة سيبيون إمليان
Seipion Emilien (في سنة 149ق.م) لمجازاتها على إخلالها بالعهود، ولما رأت قرطاجة أن الرومانيين ينوون محوها من عالم الوجود؛ عادت الشجاعة إلى أهلها، وتعاقدوا وتضافروا على محاربة الأجنبي حتى يموتوا عن آخرهم أو يعيشوا أحرارا خصوصا بعد أن ظهر قصد رومة السيئ، وعدم اقتناعها بأخذ جميع ما لدى القرطاجيين من الأسلحة ومعدات الحرب، وطلبها خروج جميع السكان من المدينة وسكناهم بعيدا عنها بمسافة عشرة أميال، عند ذلك قفل القرطاجيون أبواب مدينتهم، وأخذوا في الاستعداد للحرب آناء الليل وأطراف النهار، وجمعوا كل ما لديهم من الأشياء الحديدية وصنعوا منها أسلحة جديدة غير التي أخذها الرومانيون، وقبض الحزب الوطني على أعنة الحكومة، وقتلوا كل محازب لرومة، وجمعوا جيشا مؤلفا من نحو سبعين ألف مقاتل تحت إمرة قائد وطني يدعى ازدروبال، وتفانت النساء قبل الرجال في الاستعداد للحرب حتى قيل إنهن قطعن شعورهن لتصنع منها الحبال اللازمة للمنجنيقات التي وضعت على أسوار المدينة، لكن لم تجدهم كل هذه الاستعدادات نفعا، فإن الرومانيين احتلوا ثغر (أوتيك) وحاصروا مدينة قرطاجة برا وبحرا، ومنعوا وصول المؤونة إليها ليضطروها للتسليم جوعا.
وأتى كل من الفريقين من الأعمال الحربية بما شهد له القواد المتأخرون، ومن ضروب القتال وفنون الاستحكام للهجوم من جهة والدفاع من الجهة الأخرى.
وبعد أن استمر الحصار بهذه الكيفية نحو سنة انتصر سيبيون الروماني على ازدروبال الذي كانت تنتظر قرطاجة نجاتها بنجاحه، وأخيرا دخل الرومانيون المدينة عنوة لكنهم لم يصلوا إلى القلعة القائمة في وسطها إلا بعد أن حاربوا الأهالي في الشوارع شارعا فشارعا، بل بيتا بيتا مدة ستة أيام وست ليال متوالية، وأخيرا سلم من بقي فيها من المحاربين ومعهم قائدهم ازدروبال، ولم يصبر على المقاومة إلا نحو ألف شخص امتنعوا في هيكل اسكولاب (إله الطب عند قدماء اليونان والرومان)، وأضرموا فيه النار ليموتوا عن آخرهم حتى لا يروا خراب بلادهم، وكان بهذا الهيكل زوجة ازدروبال ومعها ولداها فصعدت بهما إلى أعلى الهيكل وقتلتهما بيدها أمام زوجها بعد أن وبخته على خيانته لوطنه، ثم ألقت بنفسها من شاهق الهيكل فسقطت في النار وذهبت ضحية الوطن، بينما كان زوجها يئن في حالة الأسر والذل والخذلان.
ثم أصدر سناتو رومة أمرا ساميا بجعل الأراضي التابعة لقرطاجة ولاية رومانية، وأطلق عليها اسم (إفريقا)، وبذلك زالت هذه الأمة من الوجود السياسي بعد أن بلغت من العمران واتساع نطاق الاستعمار شأوا عظيما، ونالت من التجارة الأرباح الباهظة، دخلت في خبر كان، وصارت أثرا بعد عين شأن جميع الدول والممالك قديما وحديثا، إذ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
Shafi da ba'a sani ba