كانت هذه المدينة عبارة عن إحدى الحلقات المكونة لسلسلة المستعمرات التي أسستها فنيقيه على جميع طرقها البحرية إلا أن موقعها الجغرافي بالقرب من جزيرة صقلية وفي منتصف البحر المتوسط، وعدم وجود جبال خلفها تمنع امتدادها في الداخل ووجود سهول إقليم تونس الخصبة في جنوبها وغير ذلك من المزايا الطبيعية ساعدها على النمو والارتقاء أكثر من مدينة (صور) عاصمة الفينقيين نفسها، ولما ظهرت أمة الإغريق في العالم وتغلبت تجارتها على تجارة صور في شرق البحر المتوسط ازدادت تجارة قرطاجة الجزء الغربي منه، وأخيرا لما اضمحل حالها وسقطت في هوة الانحطاط والتقهقر حين فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332ق.م سادت قرطاجة على البحر المتوسط وملكت زمام تجارته، وبلغت من الغنى والثروة مبلغا لم تبلغه صور ولا غيرها من قبلها، وفتحت سواحل البلاد المكونة الآن لولاية الجزائر ومراكش وإسبانيا وجنوب فرنسا، وأقامت فيها المراكز التجارية لتبادل التجارة مع أهاليها المنغمسين في الهمجية والتوحش، واحتلت جميع الجزائر الموجودة في هذا القسم من البحر المتوسط؛ مثل سردينيا، وكورسيكا، ومالطة، وجزائر باليار، وليباري، ونحو ثلثي جزيرة صقليه لحفظ مركزها التجاري وسيادتها البحرية.
ولما كانت هذه الأمة أمة تجارة واكتساب لا أمة حرب وجلاد كانت لا تعد الجندية فخرا ولا التفاني في الدفاع عن الوطن مجدا، فكانت تجند الجيوش من الأجانب المستأجرين الذين لا يهمهم إلا قبض الراتب في ميعاده، وينضمون للفريق الذي يدفع لهم راتبا أكثر من الآخر، نعم إن القواد والضباط كانوا من القرطاجيين إلا أن ذلك لا يكفي لأن تعادل الجيوش المؤلفة بهذه الصفة الجيوش التي أفرادها من نفس الأمة وبالدفاع عنها تدافع عن أراضيها وعائلاتها.
وأما حكومة قرطاجة فكانت جمهورية إلا أن السلطة لم تكن فيها للشعب بأسره، بل في قبضة بعض عائلات تتوارثها خلفا عن سلف كما كانت رومة في بادئ أمرها، لكن أدركت رومة ضرورة مشاركة جميع الأهالي في إدارة شؤون البلاد فمنحتهم الحقوق السياسية تدريجيا كما رأيت، بل ومنحت نفس هذه الحقوق والمزايا كلها أو بعضها للأجانب المفتتحة بلادهم ونعم ما فعلت؛ لأنها كونت بهذه الطريقة الحكيمة أمة واحدة عزيزة قوية ملكت العالم ولم تفقه قرطاجة لسوء عاقبة حصر السلطة في بعض العائلات، واستمرت على احتقار الشعب وعدم منحه شيئا من السلطة، ومن جهة أخرى أساءت معاملة من فتحت بلادهم فكانت تلزم البعض بزراعة صنف معين أو عدم زرعه مراعاة لصالحها التجاري بدون نظر إلى ما يعود على هذه الأمم التعيسة من الخراب والدمار.
وكان يرأس حكومة قرطاجة رئيسان عظيمان يعادلان قناصل رومة في الاختصاص، وكان لقبهما الرسمي (سوفيت) ويليهما مجلس سناتو مؤلف من خمسمائة عضو ينتخبون من عائلات الأشراف دون غيرهم، وله ما لسناتو رومة من الاختصاصات تقريبا، وتنتخب من بين أعضائه لجنة من مائة عضو فقط ينتخبون لمدة حياتهم لإدارة جميع الأعمال تحت رئاسة السوفيت، وكان كل فرع من فروع الحكومة من اختصاص لجنة صغرى تنتخب من السناتو للنظر في شؤونها وعرض قراراتها على مجلس المائة فيعتمدها أو يرفضها على حسب ما يرى له، هذا مجمل نظامها الداخلي ويرى لأول نظرة أنه أقل بكثير من نظام رومة، فإن هذه كانت تغيره أو تعدله تبعا لظروف الحوادث وطلبات الشعب، وتلك لم تصغ لطلباته ولم تحسن معاملة الأمم التي فتحت بلادها.
ولذلك كان من المحقق تغلب رومة على قرطاجة ولو طال الحرب؛ إذ الجنود المؤجرة لا يكون لها من صفات الثبات والوطنية ما للجنود المأخوذة من نفس الأمة، ولنذكر الآن أسباب انتشاب القتال بين الجمهوريتين.
إن جزيرة صقلية كانت منقسمة بين ثلاث حكومات متضادة: الأول تابع لهبيرون صاحب سيراكوزة، والثاني في قبضة قبيلة المامرتايين وعاصمتهم مدينة مسينه، والثالث وهو الأهم في حوزة القرطاجيين، وفي سنة 265 حارب صاحب سيراكوزة قبيلة المامرتايين لقمعهم ومنع تعديهم على البلاد التابعة له بالنهب والسلب، فقهرهم وكاد يدخل مدينة مسينه لولا تعرض القرطاجيين له، وفي أثناء ذلك أرسلت هذه القبيلة وفدا إلى رومة تستعين بها على صاحب سيراكوزة، فأسرعت بإرسال الجيوش لنجدتها متخذة هذه الفرصة سببا لوضع قدمها في جزيرة صقلية وطرد القرطاجيين منها، واستخلصت مدينة مسينه من هبيرون، وكان قد احتلها بحيلة حربية فاتحد مع القرطاجيين على مكافحة الرومانيين خوفا من امتلاكهم الجزيرة شيئا فشيئا، وحاصروا مسينه لإخراج الرومانيين منها ومنع القرطاجيون وصول المدد إلى الرومانيين من إيطاليا باحتلالهم بوغاز مسينه، لكن توصل القنصل إبيوس كودكس من اجتياز البوغاز في ليلة حالكة مع عشرين ألف مقاتل وانتصر على المحاصرين وتبع هبيرون إلى مدينة سيراكوزة وابتدأ في حصارها، وأرسل إلى رومة يطلب الإمداد فأرسلت إليه خمسة وثلاثين ألف مقاتل فشدد الحصار على المدينة، فعرض هبيرون في سنة 264 أن يعاهدهم على دفع مبلغ جسيم، وعلى أن يكون حليفا لرومة ضد القرطاجيين فقبل الرومانيون ذلك وبقي حليفا لهم مدة خمسين سنة.
ومن ثم تفرغ الرومانيون لمحاربة قرطاجة وانتشروا في جميع أنحاء الجزيرة واحتلوا أغلب مدنها حتى لم يبق مع القرطاجيين إلا بعض الثغور البحرية، إلا أنهم من جهة أخرى كانوا سائدين على البحار ويشنون الغارة على شواطئ إيطاليا ويمنعون الاتصال بينها وبين الجزيرة، ولذلك قرر سناتو رومة سنة 261 بضرورة محاربتهم بحرا لمنع تعديهم على الثغور وإقلاقهم راحة سكانها وتعطيلهم التجارة، وأمر بإنشاء السفن الحربية فأنشأت مائة وعشرين سفينة في مدة يسيرة على مثال سفينة قرطاجية ألقتها الرياح على شواطئ إيطاليا، وعين القنصل كورنيليوس سيبيون قائدا عاما لها، لكن لعدم تمرن الرومانيين وتدربهم على القتال البحري انهزمت الدونانمة الرومانية في سنة 260، وأخذ سيبيون أسيرا مع سبع عشرة سفينة، ثم ما لبثوا أن أحسنوا إدارة السفن وتفننوا في ضروب القتال وانتصروا على القرطاجيين نصرا مبينا تحت إمرة دويليوس.
وينسب بعض المؤرخين هذا الانتصار إلى اختراع غريب ابتدعه هذا القائد البحري؛ وهو جسر من الخشب يركب في مقدمة كل سفينة، وبه عدة مشابك وكلاليب من حديد بحيث لما تقترب السفن من سفن الأعداء تلقي هذه الجسور عليها فتشتبك معها وتنتقل الجنود إليها بكل سهولة، وبذلك تصير الحرب حربا برية لا بحرية، ولا يخفى ما كانت تمتاز به الجنود الرومانية على أعدائها من الثبات وحسن النظام، وهي رواية تحتمل الصدق والكذب نقلناها على علاتها، وكافأ السناتو هذا القنصل بأن أقام في الفورم عامودا تذكارا لهذه الحادثة نقش عليه تاريخها بجانب اسمه ومنحه عدة امتيازات أخرى.
ثم انقسمت الدونانمة الرومانية قسمين تبع أحدهما ما بقي من سفن قرطاجة إلى جزيرة سردينيا حيث أجهز عليها، وشرع الرومانيون من ثم في فتح هذه الجزيرة وجزيرة كورسيكا المجاورة لها، والقسم الثاني جعل سواحل جزيرة صقلية ميدانا لأعماله.
ولما تحقق السناتو ضعف حكومة قرطاجة وعدم انتظام داخليتها ووقوع الفشل فيها عقب انتصار الرومانيين وانتشار سفنهم في البحر المتوسط؛ قرر تجهيز دونانمة أخرى أكثر انتظاما واستعدادا لمحاربة قرطاجة في مياهها الأصلية وإنزال الجنود إلى البر لمحاصرتها برا وبحرا، فأنشئت ثلاثمائة وثلاثون سفينة جديدة أنزل إليها مائة ألف بحري وأربعين ألف جندي بري تحت قيادة القنصلين مانليوس فولسو واتليوس ريجلوس.
Shafi da ba'a sani ba