10-1 ) تقوم فيه، ثم لا تلبث أن ينمحي أثرها من الوجود من غير أن تؤسس شيئا له ثبات وقرار، أو أن توجد ولو إلى أجل قليل تلك الوحدة التي توصل إليها فراعنة العائلات الطيبية، وجعلوها شاملة لديار مصر كلها مدة قرون عديدة، وأزمان مديدة. نعم، لا ريب في أن بابل هي أول مدينة في هذه الأقطار، وأنها أكبر ما فيها من الأمصار، وآهلها بالسكان والعمار بحيث إن من كانت تدخل في حوزته؛ يكون له السلطة التامة، والسيادة الظاهرة على جميع أقرانه ونظرائه، ولكن سلطتها لم تكن من العظمة بحيث يمكنها أن تقاوم الأخصام والمزاحمين، وتخضع جميع المدائن الأخرى إخضاعا مستمرا. ومن جهة أخرى فإن عيلام كانت فيها القوة الكافية لافتتاح البلدان، ولكنها لم تكن عندها القدرة اللازمة لحفظ فتوحاتها، وتمثيل أهلها بها، فإن حكمها كثيرا ما شمل بلاد كلديا، ولكنه ما تأصل فيها أبدا، ولم تتوطد دعائمه بها مطلقا.
شكل 10-1:
تمثال ملك من قدماء الكلدانيين منقولا عن رسم بارز على حجر في المتحف البريطاني.
ولم يكن في ذلك الوقت دولة كلدانية كما كانت دولة مصرية بل غاية الأمر أنه كان يوجد تمدن كلداني راسخ أصيل لا تؤثر فيه عواقب الحروب المتوالية، بل كان مع هذا يمكن أن يمتد إلى غير بلاد كلديا، ولما جاء تحوتمس الأول وخلفاؤه وجابوا بلاد الشام يحف بهم العز والانتصار وضربوا الجزية على أهلها (فيما بين سنتي 1600 و1500ق.م) كان الكلدانيون قد سبقوهم بأزمان طوال لهذا الفتح، وذلك ببث أخلاقهم وعاداتهم فيها، وكانت آلهة بابل والمدائن الكلدانية ممتدة عبادتها إلى تخوم مصر وكان البابليون قد أدخلوا صناعاتهم وفنونهم في بلاد الشام، ثم إن الكتابة الأسفينية المعبر عنها أيضا بالكتابة المسمارية كانت مستعملة رسميا عند ملوك الشام بعد توفيقها على لغاتهم، وكانوا يستعملونها في مراسلاتهم مع بعضهم، وفي مكاتباتهم مع الفراعنة أسيادهم ومتبوعيهم بكل ما يتعلق بالعلاقات والمواصلات.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت أول المخلوقات، على قول الكلدانيين، مسوخا خيالية ظهر بينها الإنسان وهو عار أعزل، فخرج الإله السمكي المدعو أوانيس من الخليج الفارسي ومدن بني الإنسان. (2)
وكان الملوك الأولون عشرة عدا، وقد حكموا بلاد كلديا مدة تزيد على أربعمائة قرن، وفي عهد آخرهم المدعو شيسوتروس صار الناس أشرارا حتى أهلكهم الآلهة بطوفان أرسلوه عليهم، ولم ينج من هذا الطوفان إلا شيسوتروس ومن معه من الأتباع، بواسطة الفلك، ولما عادت المياه لمجاريها تناسل منه ناس آخرون. (3)
وإن أقدم الآثار الكلدانية قد صنعت تقريبا في العصر الذي بني فيه أكبر أهرام مصر (في نحو سنة 4000ق.م) وكانت هذه البلاد منقسمة إلى طائفتين من ممالك صغيرة لكل واحدة منهما ملك خاص بها، والظاهر أن ملوك الجنوب وخصوصا ملوك أورو كان لهم في أول الأمر سيطرة على بلاد كلديا كلها، ثم انتقلت السيادة إلى مدائن الشمال، وفي سنة 3700 حكم سرجون البابلي على بلاد الشام لمدة قليلة من الزمان، ثم انتقل الملك من بعده إلى ملوك عيلاميين. (4)
وكان العيلاميون يخالفون الكلدانيين في اللغة، ولكنهم كانوا متشربين بأخلاقهم، وبقيت السيادة في يدهم مدة قرون كثيرة. (5)
فمن ذلك ترى أن التاريخ القديم لهذه البلاد ليس فيه ارتباط واتحاد، فلم يكن هناك في الحقيقة دولة كلدانية، بل كان تمدن كلداني امتد وتشعب حتى وصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان هذا التمدن وحده ضاربا أطنابه في بلاد آسيا الغربية حينما افتتح الفراعنة بلاد الشام.
Shafi da ba'a sani ba