قال السيوطي: وكان صحيح العقيدة حسن الاعتقاد في الصوفية، محبا لأهل الحديث، كارها لأهل البدع، كثير التعبد على كبر سنه، كثير الصدقة والبذل لا يبقي على شيء، سليم الفطرة، صافي القلب، كثير الاحتمال لأعدائه، صبورا على الأذى، واسع العلم جدا لازمته أربع عشرة سنة فما جئته من مرة إلا وسمعت منه من التحقيقات والعجائب ما لم أسمعه قبل ذلك قال لي يوما: ما إعراب زيد قائم؟ فقلت: قد صرنا في مقام الصغار نسأل عن ذلك! فقال لي: فيها مئة وثلاثة عشر بحثا. فقلت: لا أقوم من هذا المجلس حتى أستفيدها. فأخرج لي تذكرتها فكتبتها منه انتهى.
قلت: وما سبقنا الأوروبيون في المعارف العمرانية والوسائل المادية إلا بكثرة اشتغالنا يزيد قائم إلى الحد الذي يخرج عن اللزوم، بينما كانوا يقضون أوقاتهم بالعلوم الرياضية والتجارب الطبيعية المفيدة وهكذا تفوقوا وتغلبوا علينا.
وممن نبغ في زمان السلطان محمد الأول العثماني، الشيخ عبد اللطيف المقدسي، وكان عالما ثم مال إلى التصوف وسكن بروسة ومات فيها. ومنهم العارف بالله عبد الرحيم بن الأمير عزيز المرزيفوني وكان متصوفا أيضا. ومنهم العارف بالله بير الياس الأماسي، وكان من الزهاد الأتقياء، وله مريدون. ومنهم عبد الرحمن شلبي ابن بنت بير الياس. ومنهم شجاع الدين القراماني. ومنهم بدر الدين الدقيق. ومنهم العارف مظفر الدين الأرندوي. ومنهم بدر الدين الأحمر. ومنهم بابا نخايش الأنقروي. ومنهم صلاح الدين البولوي. ومنهم مصلح الدين خليفة. ومنهم عمردده البروساي. ومنهم الشيخ لطف الله، وكل هؤلاء من مشاهير الأتقياء رحمهم الله.
وخلفه ابنه مراد وكان عمر مراد عندما تولي السلطنة ثماني عشرة سنة، وبدأ عمله بمهادنة أمير الفرامان، وملك المجر، وثار على مراد عمه مصطفى، وعضده ملك القسطنطينية فتغلب مراد على عمه وأخذ أسيرا وشنقه، وزحف على القسطنطينية وجرت معركة شديدة إلا أن الأتراك لم يقدروا ذاك اليوم على فتح البلدة، أما في الأناضول فاستولي مراد على إمارة (آيدين) بعد أن كان أمراؤها استقلوا في أثناء الفتنة التي وقعت بين أولاد السلطان بايزيد، وكذلك استولى على «صاروخان» وعلى «منتشة» وعلى «بلاد القرامان» وعلى نصف إمارة «قسطموني» فاسترجع مراد جميع ما كانت معركة أنقرة المشئومة مع تمرلنك أخسرته إياه من البلدان.
ولما استراح فكر مراد من جهة آسيا وجه همته نحو أوروبا، وكان «جورج برانكوويتش » ملكا على الصرب، و«سيجيسموند» ملكا على المجر، فظفر العثمانيون بالمجر ظفرا عظيما فاضطر «برانكوويتش» خوفا على ملكه أن يخضع ويؤدي سنويا خمسين ألف دوكه للسلطان مراد، ويقطع كل علاقة مع المجر.
واحتل العثمانيون «كروش واتس» في قلب بلاد الصرب، ثم وجه السلطان قوته صوب بلاد «الأرناءوط» وكان الجنوبي منها يليه «بنو توكشي» والقسم الشمالي يليه «جان كستريوت» فاستولى السلطان على القسمين، ثم زحف نحو بلاد الفلاخ أي رومانية فخضع أميرها «فلاد دارا كول» للسلطان ولكن «سيجيسموند» ملك المجر ثار، ومالأه ملك الصرب وأمير الفلاخ من جهة أوروبا، وأمير القرامان من جهة آسيا، فقهرهم السلطان جميعا، واستسلم أمير الفلاخ للسلطان، وطلب ملك الصرب العفو، وأزوج السلطان ابنته فبقي ملك المجر وحده برأسه، فعاث الأتراك في بلاده ورجعوا بسبعين ألف أسير، ثم استأنف «برانكو ويتش» ملك الصرب ثورته، فزحف السلطان إلى بلاد الصرب، إلا أنه لم يقدر على بلغراد، فرجع عنها بعد حصار ستة أشهر، وأما المجر فكان ظهر فيهم بطل اسمه «جان هونياد» فهزم العثمانيين وقتل منهم عشرين ألفا مع قائدهم مزيد بك، فأرسل السلطان «شهاب الدين باشا» ومعه ثمانون ألف مقاتل للأخذ بالثأر فكسرهم «هونياد» بفئة قليلة، وأخذ أكابر قوادهم أسرى، ووالى الهزائم على العثمانيين، ثم زحف السلطان بنفسه فانهزم هو أيضا في واقعة «نيشل» وخسر ألفي قتيل، وأربعة آلاف أسير، وتقهقر إلى الوراء، ثم تقدم هونياد إلى الأمام، واستولى على مدن كثيرة للعثمانيين، فاضطر السلطان مراد للصلح وأعاد إمارة الفلاخ إلى أميرها «دراكول».
وعقد هدنة مع المجر إلى عشر سنوات، وصارت بلاد الصرب وبلاد الفلاخ تابعة لمملكة المجر، فحزن السلطان من هذه الحوادث، وعقب ذلك أن ولده «علاء الدين» توفي فخلع السلطان نفسه وذهب معتزلا الملك وأقام «بمغنسيا» وتولى مكانه ابنه محمد الثاني وهو في الرابعة عشرة من العمر، ولم يصل السلطان إلى مغنيسيا حتى نقض المجر عهدهم بتحريض البابا الذي أرسل إليهم أن العهد ليس مسئولا إذا كان مع المسلمين فزحف «هونياد» واستولى على بلاد البلغار، وحاصر «وارنه» فرجع السلطان إلى أوروبا وزحف «هونياد» وهزمه، وكان معه «الكردينال سيزار يني» رسول البابا، فقتل الكردينال في المعمة، وبعد هذه الطائلة على المجر رجع السلطان إلى عزلته وأراد أن يستريح، وإذا بالانكشارية قد قاموا بثورة في أدرنة فجاء السطلان بنفسه فأطاعوا، ثم زحف بستين ألف مقاتل على بلاد اليونان فدوخها وانعطف نحو بلاد الأرناءوط، وكان أمير هذه البلاد المسمى أمير المردريت جعل أولاده الأربعة رهائن عند السلطان.
ومنهم «جورج» الذي تربى في الإسلام، وكان السلطان يحبه جدا لشجاعته، وهو الذي أطلق عليه اسم «إسكندر بك» إلا أن إسكندر بك هذا لم ينس وطنه، فانسل خفية وأثار الأرناءوط على العثمانيين وهزم القائد «علي باشا» واستقل بالبلاد، فسرح السلطان اليه «فيروز باشا» و«مصطفى باشا» بعساكر وافرة فتغلب إسكندر بك عليهما، وأخذ مصطفى باشا أسيرا، فاضطر السلطان مراد أن يخرج من عزلته مرة ثالثة وزحف بمئة ألف مقاتل وهزم الأرناءوط واستولى على «دبرة» بعد معارك شديدة.
وانتهز هذه الفرصة «جان هونياد» المجري وشن الغارة على العثمانيين بجيش عدده أربعة وعشرون ألفا، منهم عشرة آلاف من الفلاخيين ولم ينضم إليه ملك الصرب خوفا من السلطان، فتلاقى هونياد وجيشه في صحراء قوصوه مع السلطان مراد وجيشه فبقي القتال ثلاثة أيام، ولكن انتهت الواعقة بانكسار المجر، وتفرغ السلطان لمحاربة إسكندر بك فلم يقدر عليه، وبقي يناوشه القتال معتصما بالجبال ومات السلطان مراد في فبراير سنة 1451.
بويع له بالسلطنة سنة خمس وعشرين وثمان مئة ومن علماء عصره المولى محمد بن أرمغان، انتهت إليه رئاسة الفتوى في بروسة بعد المولى شمس الدين الفناوي.
Shafi da ba'a sani ba