وأما البلغار فلما وجدوا الجيش العثماني زحف عليهم نكصوا بدون قتال ولم يباشروا إلا مدافعات جزئية قتل فيها صاحبنا رشيد بك ابن المشير فؤاد باشا، كنا معا في حرب طرابلس ولم تكن من البلغار مقاومة إلا بعد أن وصلوا إلى حدود بلغاريا الأصلية ولكنهم لم يقدروا على مقاومة تذكر، ولو شاء العثمانيون يومئذ أو يتوغلوا في نفس بلغاريا الأصلية لأمكنهم ذلك، لكنهم كانوا يخشون اعتراض الدول فأرسل الباب العالي إلى الدول مذكرة يقول فيها إن الدولة أبلغت بلغاريا بوجوب سحب عساكرها من الأراضي التي احتلتها جنودها وذلك لأجل وضع حدود تتمكن بها تركيا من المحافظة على الأستانة وعلى الدردنيل. وهذه الحدود غير ممكنة إلا باتباع مجرى نهر المريج، بحيث كل ما هو جنوبي هذا النهر يبقى لتركيا.
فلما لم يجب البلغار طلب تركيا اضطرت الدولة إلى احتلال هذه الأراضي تاركة تعيين الحدود الموافقة للمذكرات السياسية، فغضبت الدول من أجل إخلال تركيا بقرار مؤتمر لندرة الذي عين خط «أنوس-ميديه» فاصلا بين تركيا وبلغاريا، وأرسلت إلى الدولة تنذرها بأنها إن لم تسحب عساكرها من أدرنة فإنها تتخذ جميع التدابير اللازمة لأجل تثبيت قرار المؤتمر، فهذا الجواب لم يرع تركيا وقتئذ، وذلك لأن الأتراك كانوا يرون الدول متمسكات بالقرار الذي يصدرنه في مصلحة أعداء تركيا ويقلن لا يجوز تبديل هذا القرار بوجه من الوجوه، بخلاف ما لو كان القرار في مصلحة تركيا فإنه يتبدل حالا. وقبل الحرب البلقانية أبلغت الدول الفريقين بأن هذه الحرب يكون الغالب والمغلوب فيها سواء، وتبقى الحدود مكانها. فلما تغلب البلقانيون على الأتراك نسيت الدول بلاغها هذا كما تقدم الكلام عليه، فلهذا لم يكن لإنذار الدول هذه المرة موقع خوف في قلوب الأتراك، وأبرق عزت باشا قائد الجيش من أدرنة يقول: إن الجيش لا يمكن أن يتخلى عن أدرنة.
وكان بالفعل لو ضغطت أوروبا على تركيا، والحكومة ضغطت على الجيش والأهلين، لجرت ثورة دموية، فأجابت تركيا الدول بأن مذكرتها إلى الباب العالي تشير إلى أن الدول حاضرة للمذاكرة مع تركيا في الشروط اللازمة لتأمين حدودها والحال أن خط «أنوس- ميديه» لا يتأمن به شيء، وأن تركيا إنما احتلت البلاد التي كان احتلها البلغار محافظة على حياة الأهالي الذين كانوا صائرين لا محالة إلى الانقراض فتركيا ترجو من الدول إعادة النظر في قضية الحدود. فلما وصلت هذه المذكرة إلى الدول خطب السر ادورد غراى خطبة فيها شيء من التهديد لتركيا إذا أسرت على استرداد أدرنة. وأما الروسيا فأشارت بمنع كل معاملة مالية بين أوروبا وتركيا، ولكن كل هذا لم يرعب الترك، لأن قضية أدرنة هي لهم قضية حيوية، فأدرنة مفتاح الأستانة كما لا يخفى، وفي ولاية أدرنة مئات ألوف من المسلمين كانوا سينقرضون أو سيرحلون بأجمعهم لو بقي البلغارهناك، لما كان عند البلغار من الوجد لاستئصال الإسلام من تلك البقعة. فالأتراك كانوا مصممين على عدم الرجوع عن أدرنة وتهددوا البلغار بإعلان الحرب عليهم إذا لبثوا يطالبون بأدرنة، فخاف البلغار من أن ينهزموا ويفقدوا ثمرات طوائلهم في أول الحرب فجنحوا إلى السلم، والتمسوا من تركيا المذاكرة رأسا. وكان مسلمو تراقية الغربية قد ثاروا وأسسوا حكومة مستقلة لأنفسهم مركزها كوملجنة ففي 18 سبتمبر سنة 1913 تقررت شروط الصلح بين الفريقين واستعادت تركيا بموجب هذا الصلح أدرنة، وقرق كليسه، وديموطقة، وأعيدت الحدود الأصلية التيكانت بين تركيا وبلغاريا قبل الحرب البلقانية، سوى بعض قرى إلى جهة البحر الأسود أكثر سكانها من البلغار فهذه سمحت بها تركيا لبلغاريا.
وكذلك خسرت بلغاريا الخط الحديدي من أدرنة إلى دده آغاج البلدة التي على ساحل بحر الأرخبيل، وكان البلغار سيجعلونها منفذا لهم إلى البحر المتوسط، وكذلك تقرر بين الدولتين أن يضرب أمد لسكان مكدونية وتراقية أربع سنوات ليختاروا التابعية العثمانية أو التابعية البلغالية، فإذا مضت السنوات الأربع ولم يختاروا التابعية العثمانية يصيرون رعايا بلغاريا، وإلا فيبقون كأجانب مرجعهم الدولة العثمانية. وإذا كان في هذه البلدان يسكن عثمانيون من ولايات أخرى تابعة لتركيا فيبقون على تابعيتهم العثمانية، ثم حصلت مذاكرات في قضية الأوقاف الإسلامية، وتقرر أن تكون إدارتها بأيدي الجماعات الإسلامية وفقا للاتفاق التركي البلغاري المنعقد سنة 1909 بحق الأوقاف الإسلامية في بلغاريا القديمة فاشترطت تركيا أن تكون في الأستانة، بخلاف الأوقاف في بلغاريا القديمة التي كان للحكومة البلغارية حق لإشراف عليها. ثم تقرر أن يكون مسلمو البلغار تابعين للشرع الشريف في أحوالهم الشخصية، فيحكم بينهم فيها قضاتهم كما في تركيا، ويكون للمسلمين في بلغاريا مفتون تنتخبهم الجماعات الإسلامية بتمام الحرية، ويجرى تصديق انتخابهم بمعرفة شيخ الإسلام في تركيا، وتقرر أن تكون المدارس والمكاتب الإسلامية في بلغاريا معدودة من مؤسسات الحكومة البلغارية التي يجب أن تتفق عليها.
واستغرب الناس تساهل بلغاريا هذا مع تركيا، وقد كانت هي الظافرة في الحرب البلقانية، والحقيقة أن قواد الجيش البلغاري وجدوا أنفسهم لو أصروا على العناد لكر الترك عليهم، وكانوا من بعد غلبهم سيغلبون، لأن الجيش التركي في المدة الأخيرة كان غير الجيش التركي في أول الحرب، ثم إن البلغار كانوا اقتتلوا مع السرب من أجل «منستر» التي كان البلغار والسرب يتنازعون عليها. وكذلك كانوا اقتتلوا مع اليونان من أجل مكدونية فصارت بلغاريا مضطرة بحكم الضرورة أن تسالم تركيا. وانعقدت معاهدة الصلح النهائي بين تركيا وبلغاريا في 29 سبتمبر سنة 1913 واتفقت الدولتان على عدم اعتبار المعاهدة السابقة المنعقدة في لندرة في كل المواد المخالفة فيها للمعاهدة الأخيرة.
ثم جرب المذاكرات بين تركيا واليونان لأجل الصلح، ولم تصل الدولتان إلى وفاق، أولا لأن اليونان طلبوا التمتع بالامتيازات الأجنبية التي كانت الدولة حرمت اليونان إياها عندما كسرتهم سنة 1897 فتركيا أبت إرجاع الامتيازات وقالت: إن الدول العظام أنفسها أصبحت مستعدة لإلغاء هذه الامتيازات، ثم إن تركيا طلبت الحرية التامة في اليونان لشعار الدين الإسلامي، وأن تكون إدارة الأوقاف الإسلامية في بلاد اليونان تحت مراقبة شيخ الإسلام، وتكون قضاة المسلمين هي الحاكمة في الأحوال الشخصية، فطلب اليونان بمقابلة ذلك أن تعاد إلى بطريرك الروم في الأستانة الامتيازات الدينية القديمة التي كان منحها السلطان محمد الفاتح، فأجابت تركيا بأن لا مدخل لدولة أجنبية في أمور داخلية في تركيا.
ثم اختلفوا في قضية الأوقاف لأن اليونان رضوا بالاعتراف بالأوقاف العائدة إلى المساجد رأسا، فأما الأوقاف التي يقال لها وقف ذرية فادعت دولة اليونان أنها تحل فيها محل الدولة العثمانية، واختلفوا أيضا في قضية الخدمة العسكرية، فاقترحت اليونان إعفاء الأروام الذين في تركيا من الخدمة العسكرية على أن تعفي اليونان المسلمين الذين في بلادهم من الخدمة نفسها، فرفض الباب العالي ذلك، فاقترحت اليونان وجها آخر وهو أن يكون للأروام في تركيا توابير مخصوصة لا يدخلون فيها مع سائر العسكر وأن اليونان بمقابلة ذلك تجعل لمسلمي بلادها توابير خاصة ولا تجبرهم على نزع الطربوش فرفض الباب العالي هذا أيضا. وطلبت اليونان العفو العام عن الأروام العثمانيين الذين ساعدوا اليونان، فأجابت تركيا هذا الطلب. ثم طلبت اليونان ثلاثة ملاين جنيه عثماني تعويضا لها عن ضبط مئة سفينة يونانية قبضت عليها تركيا في أول الحرب فأبى الباب العالي دفع شيء، انقطعت المفاوضات مدة. ثم استؤنفت بميل الفريقين إلى الصلح، وانعقدت المعاهدة في 14 نوفمبر سنة 1913 وفازت تركيا بتأييد كلمتها في قضية الامتيازات، وفي قضية الأملاك السلطانية، وكذلك فازت في معاملة الجماعات الإسلامية في أحوالهم الشخصية بموجب الشرع الشريف، كما جرى الاتفاق مع البلغار. ولكن لم يمكن تركيا أن تنال من اليونان أن تكون إدارة هذه الأوقاف بأيدي مسلمي بلاد اليونان وهكذا تم. وبقيت مسألة الجزر معلقة وكانت الدول تريد إلحاق جميع الجزر باليونان عدا «تندس» و«إمبروس» و«كستيلوريزو» وذلك لقربها الشديد من السواحل العثمانية.
وبينما الدول تفكر في فض الخلاف بين تركيا واليونان إذ وقعت الواقعة الكبرى وهي الحرب الكبرى فتوقف كل شيء منذ سنة 1914 إلى سنة 1923 أي مدة تسع سنوات في خلالها جرت الحرب العامة ثم تبعتها حرب أخرى بين تركيا واليونان التي سلمتها إنجلترا قسما من بلاد الأناضول، فاستمرت الحرب بين الأتراك والأروام من سنة 1919 إلى سنة 1922 وانتهت بانهزام اليونان، فعند ذلك انعقد بين الدول وتركيا مؤتمر لوزان، وتقرر الصلح، وبموجبه ألحقت جميع الجزائر في الأرخبيل إلى اليونان، إلا الجزر التي أمام الدردنيل مثل لمنى وتندس، ولكن تقررت أيضا مبادلة الأراضي والسكان، فجميع المسلمين الذين في بلاد اليونان جاءوا إلى تركيا كما أن جميع الأروام الذين في تركيا أخرجوا إلى بلاد اليونان وأخذت تركيا أملاك اليونان فيها، وبمقابلة ذلك أخذت اليونان أملاك المسلمين فيها. واستلحقت إيطاليا رودوس والجزر العشر التي حولها. ولم يبق في مملكة اليونان سوى مسلمي تراقية الغربية، فقد جرى استئناؤهم من المهاجرة، ولم يبق من الأروام في تركيا غير الأروام الذين في القسطنطينية، إذ أن الدول في لوزان جعلن هؤلاء في مقابلة هؤلاء.
وهذه مسائل عائدة إلى الحرب العامة وذيولها، ونحن أحببنا الوقوف في تاريخ الدولة العثمانية عند هذا الحد، لأننا لو دخلنا في موضوع الحرب العامة لطال بنا الموضوع جدا. ولما كنا نريد أن نفرد الحرب العامة وذيولها إلى أن انعقدت معاهدة لوزان سنة 1923 بتأليف خاص - إن شاء الله - لم نجد لزوما للدخول في هذا التاريخ بموضوع أكبر حرب عرفها العالم مما يجب أن يفرد بتأليف على حدة.
وربما يؤخذ علينا في هذا الكتاب كوننا تكلمنا عن نفسنا في بعض وقائع شهدناها بأعيننا، وربما عد ذلك بعضهم من قبيل تزكية المرء نفسه، والله يعلم أننا من أبعد الناس عن هذا الأمر
Shafi da ba'a sani ba