ونعود إلى وقائع الحرب فنقول: إن الحكومة العثمانية بعد أن تولى الوزارة محمود شوكت باشا كانت ترغب في الصلح، ولكنها لم تكن ترضاه على أي الوجوه، وكان رجال الاتحاد والترقي يريدون استمرار الحرب على أمل الكرة على البلغار وأخذ الثأر منهم، لأنهم كانوا جميعا يعتقدون أن الهزيمة التي انهزمها الجيش العثماني في الحرب البلقانية كانت حادثة على خلاف القياس. ولكن الدول بدأت تضغط على الدولة في أمر الصلح وفي 31 مارس أرسلت الدول مذكرة إلى الباب العالي تلح في عقد الصلح ولكنها تصرح بأنها لا تدعو الدولة إلى دفع غرامة حربية، أما الخط الفاصل بين الأملاك العثمانية والمملكة البلغارية فكان خطا ممتدا من البحر الأسود إلى بحر الأرخبيل يقال له خط «ميديا-أنوس» وهو في الواقع خط لا يبعد كثيرا عن شطلجة، وكان مؤتمر الدول في لندرة قرر إرسال لجنة عسكرية لتحديد الخط المذكور بالفعل على قدر ما تسمح حالة الأراضي من تقويمه. وأما ألبانيا فقرر المؤتمر سلخها عن تركيا، وجعلها مملكة مستقلة، وكذلك جزائر بحر الأرخبيل كان المؤتمر يريد أن يجعل لها نظاما خاصا، ما عدا كريت فكانوا قرروا إلحاقها ببلاد اليونان.
وكل ما جرى على الدولة من المصائب لم يضع حدا للشقاق في الأستانة، فقتل ناظم باشا ناظر الحربية بأيدي الاتحاديين أثار غضب أضدادهم حزب الائتلاف والحرية فصاروا يكيدون في الخلفاء للانتقام وإسقاط الوزارة الاتحادية، وبلغ الخبر الاتحاديين فأهملوا الاحتياط اللازم، وقيل لمحمود شوكت باشا: إن أناسا يأتمرون بك ليقتلوك فهز أكتافه لا لكونه لم يصدق الخبر بل لأنه لم يبالي بالحياة، وكان متوكلا معتقدا قوله تعالى:
لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم
وهكذا تم لحزب الائتلاف والحرية ما أرادوا من الكيد، وكان المتآمرون محيي الدين بك مدير الأمن العام في وزارة كامل باشا، ورشيد بك ناظر الداخلية السابق، وصالح خير الدين باشا ابن خير الدين باشا التونسي الذي كان صدرا أعظم، وكان صالح باشا من أصهار العائلة السلطانية، وكان في هذه المؤامرة أيضا صباح الدين بك ابن أخت السلطان، فانتدبوا بعض الأشقياء وبعض الجناة من أصحاب السوابق في القتل ورشوهم وكانوا يعتقدون أنه بمجرد قتل محمود شوكت باشا يستولون على الحكم حالا ويقتلون رفاقه مثل أنور وطلعت وجمال وغيرهم، فذهبت هذه المصابة وترصدت محمود شوكت باشا عند مروره بسيارته من ساحة بايزيد آتيا من نظارة الحربية إلى الباب العالي وكان ذلك في 28 يونيو سنة 1913 نحو الساعة العاشرة والنصف قبل الظهر، فقتلوه وهو في سيارته، وقتلوا معه ياوره إبراهيم بك.
وأما الياور الآخر أشرف بك فأمكنه الخلاص وذهب مستنجدا بالبوليس. فنقل محمود شوكت باشا نظارة الحربية حيث مات بعد عشرين دقيقة من الواقعة لأنه كان خرق جسمه خمس رصاصات. فكان بين قتل ناظم باشا وقتل محمود شوكت باشا أقل من ستة أشهر بخمسة أيام، وأفظع شيء في قتل محمود شوكت باشا أن اثنين من الذين تآمروا بقتله كانا سيقتلان بعد واقعة الثورة على الدستور ومجئ جيش الحرية من سلانيك إلى الأستانة، فعفا عنهما محمود شوكت باشا القائد يومئذ وأنقذهما من القتل، وعفا عن مجرمين سياسيين كثيرين برغم جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تريد الاقتصاص منهم، فكان أن الذين عفا عنهم محمود شوكت باشا هم أنفسهم المتآمرين على قتله. ولكنهم لم يبلغوا هذه المرة أمنيتهم، فما أغمض محمود شوكت باشا عينه حتى تولى الحكم الأمير سعيد حليم باشا مكانه، وهو ابن الأمير حليم باشا المصري ابن محمد علي باشا والي مصر، وكان الأمير حليم باشا يسكن الأستانة وأولاده نشأوا فيها، وانضم كبيرهم الأمير سعيد حليم وأخوه الأمير عباس إلى جمعية الاتحاد والترقي، وكانا من أماثل الرجال، وكان الأمير سعيد واسع العلم، ثابت الجنان عظيم الحمية، وفي أيام صدارته استرجعت الدولة نشاطها، وزال ما كان طرأ عليها من الوهل، وتعين طلعت بك ناظرا للداخلية، وكان هو روح الاتحاد والترقي، وهو أجرأ الاتحاديين وأشدهم إقداما، وأسرعهم فهما، وأمضاهم في الأمور، وقد جمع إلى الذكاء والحزم عفة النفس، فإنه كان مأمورا في التلغراف من الدرجة الثانية، فلما صار الانقلاب كان هو من أشد الاتحاديين مضاء، وأعظمهم أثرا بالجمعية، فصار ناظرا للتلغراف، ثم صار ناظرا للداخلية، وفي الحرب العامة تولى الصدارة وبقي فيها إلى نهاية الحرب. ودخل في الحكومة فقيرا وخرج منها فقيرا، وكان يقول: ألا يكفي أن هذه الأمة تحملت جهلي، أفأجعلها تتحمل انحطاط أخلاقي. كان يتكلم عن جهله لأنه لم يكن من العلماء، أو ممن لهم تحصيل للعلم كاف، ولكن كان ذكاؤه الفطري أعجوبة، وكانت جرأته خارقة للعادة، فصار سيد الاتحاد والترقي بدون منازع. وكانت نهايته في برلين قتيلا بيد أرمني أرسلته جمعيات الأرمن لاغتياله وكنا في ذلك الوقت في برلين، وكنت بالمذاكرة معه أسست ناديا يجمع جميع الشرقيين وانتخبت رئيسا له باتفاق الكلمة، فاحتفلنا له باسم النادي الشرقي بمأتم عظيم، وأبقينا تجاليده في مكان خاص بالجبانة الإسلامية في برلين.
وكانت الجبانة قد ضاقت جدا ولم يبق فيها مكان للدفن، فراجعت الحكومة الألمانية فسمحت لنا بألف وخمس مئة متر مربع أضفناها إليها، وأدرنا حولها جدارا وبنينا فيها مسجدا صغيرا لإيواء المصلين على الجنائز في أيام المطر والثلج، وأنشأنا بجانبه منزلا لأجل حارس الجبانة، فجعلنا جثة المرحوم طلعت باشا في غرفة من ذلك المحل، وجرى تحنيطها حتى يتيسر نقلها إلى الأستانة ودفنها هناك. فلما استقلت تركيا وجاءت الحكومة الكمالية الأنقرية لم تسمح بدفن طلعت في تركيا. فكان من الغرائب أن أعظم الأتراك حمية على وطنه لم يمكن دفنه فيه، وما أبت الحكومة الكمالية دفن طلعت في الأستانة إلا خوفا من أن يكون له مأتم تقوم له تركيا وتقعد وتتجدد فيها قوة الاتحاد والترقي. فسبحان الله الذي جعل طلعت ممن يخافه الناس في حياته وبعد مماته! وكان مع هذا من ألطف الناس خلقا، وأحلاهم عشرة، وأودعهم نفسا. وأيام كنا في برلين سنة 1920 كنا نجتمع كل يوم تقريبا، وقد ترجمته في حواشي «حاضر العالم الإسلامي» ترجمة وافية.
هذا ودخل في الوزارة أحمد عزت باشا الارناؤوطي ناظرا للحربية وقائدا للجيش وعثمان نظامي باشا للاشغال النافعة، وبقي أكثر النظار الآخرين في مناصبهم وبدأت الوزارة بمحاكمة الذين قتلوا محمود شوكت باشا، والذين دخلوا في مؤامرة قتله فحكموا على 24 شخصا منهم بالقتل، منهم من كانوا فروا من الوجه مثل صباح الدين بك ابن أخت السلطان، ورشيد بك ناظر الداخلية السابق، وإسماعيل بك مبعوث كوملجنة.
ومنهم من وقع في اليد مثل صالح باشا خير الدين صهر العائلة السلطانية وجماعة يبلغون عشرة أشخاص فشنقوهم وصلبوهم في ساحة بايزيد.
وقد اجتمعت سنة 1936 بإسماعيل بك مبعوث كوملجنة في جنيف وروى لي كيفية قراره في تلك الحادثة وتخلصه من أيدي الاتحاديين.
ثم إن الدول البلقانية اختلفن بعضهم مع بعض فالحكومة البلغارية تنازعت مع الحكومة السربية والحكومة اليونانية، على اقتسام الأسلاب التي أخذوها من تركيا في الرومللي، ووصل الأمر بينهن إلى القتال. وكانت رومانيا أرادت أن تستفيد من قتال هؤلاء الحلفاء، فطلبت تعديل حدود «الدبروجة» بينها وبين بلغاريا فوقع الخلاف بين رومانيا وبلغاريا فرأت تركيا الفرصة سانحة لاسترداد ولاية أدرنة، وفي 6 يوليو أرسلت تركيا بواسطة عثمان نظامي باشا إلى الحكومة البلغارية إنذارا بوجوب تخليتها الأراضي التي كان البلغار قد احتلوها، وكانتا لوقائع الحربية قد انتهت من شهر إبريل بموجب متاركة بين البلغار والعثمانيين، ولكن بقيت الجيوش البلغارية محتلة جميع ولاية تراقية التي يفصلها عن تركيا خط «أنوس-ميديه» الذي قرره المؤتمر الدولي بين الفريقين ، فأرسلت الحكومة البلغارية المسيو «نتشيفيتش» معتمد بلغاريا سابقا في الأستانة لأجل الاتفاق مع تركيا لاسيما أنه كان من أنصار التقرب بين تركيا وبلغاريا، فرضى نتشيفيتش بتغيير خط «أنوس- ميديه» الذي كان الأتراك غير راضين به، وجعل الفاصل خطا مارا بقصبة شورلو، ولكن الأتراك طلبوا أن بلغاريا تقبل النصيب المرفوض عليها من الدين العثماني على نسبة ما أخذته من أملاك تركيا، وتقبل أيضا بإعطاء تأمينات متعلقة بحقوق المسلمين الذين في المملكة البلغارية والبلاد التي استولت عليها هذه المرة، وتتعهد بعدم تقاضي تضمينات حربية فلم يقدر تنشيفيتش أن يتعهد صريحا بقبول هذه المطالب، فزحف الجيش العثماني بقيادة أحمد عزت باشا من جهتين، شطر منه سار من جهة رودوستو والآخر من جهة شورلو وفي 22 تموز وصل المتطوعون وخيالة العرب والأكراد إلى أدرنة تحت قيادة أنور باشا.
Shafi da ba'a sani ba