كانت ولاية البصرة قد وجهها الخليفة الناصر لدين الله إلى الأمير ملتكين التركي في سنة 618ه، فاستتب أمره فيها إلى سنة 622ه في السنة التي توفي فيها الخليفة الناصر، وتولى الخلافة ابنه الظاهر بأمر الله، فحمل على البصرة جلال الدين بن خوارزم شاه بجيش كبير، فخرج لقتاله الأمير ملتكين، فاستمرت بينهما الحروب أكثر من شهر حتى وصل المدد من بغداد، فانهزم جلال الدين.
وظلت البصرة في قبضة الخلافة العباسية يتولاها الولاة حتى مات الخليفة الظاهر في سنة 623ه، وجلس مكانه المستنصر بالله فمات في سنة 641ه، فتولى الخلافة المستعصم بالله، فلما حمل هولاكو بجيش المغول على بغداد وقرض الدولة العباسية في سنة 656ه واستولى على العراق كله دخلت البصرة في حكمه. (20) الدولة الإيلخانية المغولية في البصرة أو «خراب البصرة القديمة»
كانت البصرة القديمة حينما استولى هولاكو على العراق في سنة 656ه وقرض الدولة العباسية وأسس الدولة الإيلخانية؛ قد خربت من توالي الفتن والحروب وهجمات الأعراب، وانهزم أهلها إلى بلاد أخرى، حتى لم يبق فيها غير دور قليلة، ومع ذلك فإنها دخلت في قبضة هولاكو فوجه إليها حاكما، ولكنها كانت فوضى حتى مات هولاكو في سنة 663ه وتولى الملك ابنه أباقاخان، وبقيت تحت حكم ولاة بغداد يولون عليها من شاءوا في عهد الملك تاكوردار أو أحمد الذي تولى في سنة 681ه، وأيام أرغون خان المتولي في سنة - 683ه، وأيام كيخا توخان - 690ه، وبايدوخان - 694ه، وغازان - 695ه، فتم خراب البصرة القديمة في عهده في سنة 701ه في الوقت الذي كانت فيه الحروب مستمرة بين آل هولاكو والفتن على ساق وقدم. فقامت مكان البصرة القديمة البصرة الجديدة التي سنبحث عن كيفية تأسيسها وما جرى فيها إلى آخر أيام الدولة العثمانية التركية. (21) تتمة
لما كانت البصرة باب العراق ومركزا وسطا بين سورية والحجاز ونجد وفارس وغيرها؛ اهتم بها الخلفاء الراشدون حتى زهت في أول عهدها بأعاظم الرجال، وصارت في القرون الأولى من بنائها دار العلوم والفنون ومجتمع المجتهدين ومركز الآداب ومهد الحضارة والتجارة والعمران ومعدن الثروة، وأخذت تتوسع عاما فعاما خصوصا في أيام بني أمية؛ فإنهم اهتموا بها اهتماما عظيما قاصدين بذلك تضعيف أمر يثرب - المدينة - مقر العلويين الطامحين بالخلافة. فتهافت إليها الناس من كل الجهات، فازدحمت بألوف من التجار وأهل الصناعة والمعارف على اختلاف مللهم ونحلهم، وطار صيتها في الآفاق حتى عظم شأنها، وأصبحت من أعظم بلاد الإسلام في عهدهم، واشتهرت بالسعة والعمران وكثرة الخيرات، وظل السعد يخدمها حتى سماها العرب: خزانة العرب وقبة الإسلام، كما كانت الكوفة يومذاك تسمى قبة الإسلام.
وازدادت هذه المدينة عمرانا وثروة وزهوا وشهرة في العصر العباسي الأول، حتى صارت في ذلك العهد من أكبر المدن الشرقية، وسكنها كبار الرجال من العباسيين والعلويين ورجال العلم والأدب، وتهافت إليها العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة والتجار وأرباب الصناعة وغيرهم، فابتنوا فيها القصور الشامخة والمباني الفخمة، وأنشأوا الحدائق الغناء والميادين الواسعة والبرك والبساتين، وحفروا عشرات الألوف من الأنهار، وكثرت فيها المدارس الكبيرة والمعاهد العلمية، وامتدت تجارة أهلها إلى الهند والصين شرقا وأقصى بلاد المغرب غربا وإلى الحبشة جنوبا، وكانت السفن التجارية التي ترسوا في ميناها، وتحمل أصناف التجارة من الأقمشة والحبوب المختلفة والتمور وغيرها تعد بعشرات الألوف، وبلغت ضرائب تلك السفن مبلغا عظيما منذ عهد الأمويين إلى أواخر العصر العباسي الزاهر، ثم نقصت حينما ضعفت دولة بني العباس حتى أصبحت - ضريبة السفن التجارية - في أيام الخليفة المقتدر بالله في سنة 306ه «22575» دينار سنويا.
أما بساتينها: فكانت ممتدة إلى عبادان عند الخليج الفارسي تتخللها ألوف الأنهار ومئات القصور والحدائق المزينة بأنواع الرياحين والأزهار حتى اشتهرت بالمناظر الأنيقة والميادين العجيبة والبرك الفسيحة والفواكه البديعة والمباني الفخمة والقصور الشامخة، وكثرت الخيرات.
أما جوامعها: فكانت كثيرة جدا، وأشهرها الجامع المعروف يومذاك بمسجد الإمام علي الذي كان في وسطها، وكان من أحسن المساجد وأنظمها وأفسحها وأحكمها، وكان صحنه مفروشا بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع،
50
وكان عليه بناء عاليا مثل الحصن، وكان قد علق على جداره الخارج ألوف من حلقات الحديد لربط خيل من يدخل الجامع من أشراف العرب وزعمائهم، والورادين من النواحي، حتى بالغ بعضهم فقال: «كانت تلك الحلقات سبعين ألف حلقة»، ولكنها مبالغة غير معقولة، وكان في هذا الجامع القرآن الذي كان عثمان بن عفان يقرأ فيه لما قتل ، وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها الآية:
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
Shafi da ba'a sani ba