ولما قدم البصرة محمد بن سليمان قبض على خمسة وخمسين رجلا من وجهاء البصرة وأشرافها فصلبهم، ثم قبض على خمسمائة رجل من البصريين، وأرسلهم إلى الخليفة أبي جعفر المنصور مكبلين في الحديد، وصادر أموال الجميع، وهدم دورهم، وخرب بساتينهم - ويروى أنه هدم ثلاثة آلاف دار، وأتلف نحو عشرين ألفا من النخيل - وكان عمله هذا من النكبات العظيمة التي نزلت بالبصريين، وذلك في سنة 146ه. (9-2) الاضطرابات في البصرة
وتولى إمارة البصرة بعد مسلم بن قتيبة محمد بن عبد الله السفاح في سنة 147ه، ولكنه استقال بعد ثلاثة أشهر، فوجهت إمارة البصرة في السنة نفسها إلى نخبة بن سالم، ثم عزل في سنة 150ه، وتولى مكانه عقبة بن مسلم.
ولم تكن البصرة خالية من الاضطرابات منذ فتنة إبراهيم بن عبد الله، ومع ذلك فإنها كانت زاهرة زاهية بالعلماء الأعلام، وازدحمت برجال العلم والأدب، ووصلت فيها العلوم العربية واللغة والآداب إلى أوجها.
وبقي عقبة بن مسلم أميرا على البصرة إلى سنة 152ه، فحدثت ثورة بالبحرين، فأودع الخليفة إليه إخمادها، فسار من البصرة، ووجهت إمارتها إلى جابر بن توبة، ثم عزل بعد قليل، وتولى مكانه يزيد بن منصور، وفي أيام هذا الأمير في سنة 153ه قدم الخليفة أبو جعفر المنصور من مكة إلى البصرة بعد الحج، ونزل في الجسر الكبير بالبصرة، وأقام بضعة أيام يتفقد أحوالها، ثم سار إلى بغداد، وبعد مسيره بقليل ولى البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري في سنة 154ه،
44
وكان هذا ضعيف التدبير؛ فاستخف به أهل البصرة، وكثرت فيها اللصوص، وفقد الأمن، فعزله الخليفة في سنة 155ه، وأمر على البصرة الهيثم بن معاوية العتكي، وكان من الولاة القديرين، فأعاد الأمن إلى نصابه، وسار سيرة حسنة في الأهلين، وفي أيامه زار البصرة الخليفة أبو جعفر المنصور في سنة 155ه، وأقام بها أربعين يوما، وبنى فيها قصرا فخما، ثم عاد إلى بغداد، وكتب إلى الهيثم يأمره ببناء سور على البصرة، فبناه في السنة نفسها - 155، وعلى إثر ذلك ظفر الهيثم في سنة 156ه بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لإبراهيم بن عبد الله على فارس فقتله بالبصرة ثم صلب جثته، وفي أيام هذا الأمير توفي بالبصرة قاضيها سوار بن عبد الله في سنة 157ه.
ولما مات الخليفة أبو جعفر المنصور في سنة 158ه وتولى الأمر ابنه محمد المهدي أقر على البصرة الهيثم بن معاوية، ثم عزله في سنة 160ه، وأرسل بدله محمد بن سليمان العباسي، وضم إليه كور دجلة والبحرين، فزهت البصرة في أيامه، وزادت عمارتها، وامتدت أبنيتها، وكثرت خيراتها، وازدحمت بالناس حتى ضاق مسجدها المشهور بالمصلين لكثرتهم، حتى قيل: بلغ عدد المصلين يوم ذاك عشرين ألف رجل، واضطر الأمير أن يستأذن من الخليفة بتوسيع المسجد، فأذن له في سنة 160ه، فوسعه، وبلغت النفقة على توسيعه مائة ألف درهم صرفت بإذن من الخليفة من بيت مال البصرة.
وظل محمد بن سليمان أميرا على البصرة إلى سنة 166ه، فعزله الخليفة محمد المهدي، وولى عليها روح بن حاتم، وفي أيام هذا الأمير في سنة 167ه ثارت القبائل القاطنة بين البصرة والبحرين، وخرجوا على الحكومة، ثم هجموا على نواحي البصرة، ونهبوا وخربوا وقتلوا، فجهز الأمير لقتالهم جيشا، فاندحر جيشه، فاضطر إلى طلب النجدة من بغداد، فأمده الخليفة بجيش كبير، فتمكن من قمع تلك الثورة، وعادت الأمور إلى مجاريها. (9-3) البصرة في عهد الرشيد
توفي الخليفة محمد المهدي في سنة 169ه، وبويع لابنه موسى الهادي، فعزل روحا عن البصرة، وولاها محمد بن سليمان - المرة الثانية - فبقي محمد على البصرة حتى مات موسى الهادي في سنة 170ه، وتولى الخلافة أخوه هارون الرشيد، فأقره على البصرة، وظل عليها إلى أن مات بها في سنة 173ه، فولى هارون الرشيد مكانه سليمان بن جعفر، ثم عزله بعد ستة أشهر، وأرسل بدله عيسى بن جعفر، ثم عزله في سنة 174ه، وولى عليها عبد الصمد بن علي العباسي، ثم ولى عليها في سنة 177ه مالك بن علي الخزاعي.
ولم يحدث بالبصرة منذ تولى الخلافة الهادي إلى هذه السنة - 177 - ما يكدر جو السياسة أو ما يخل بالإدارة والأمن؛ بل كانت هذه المدينة تزداد عمارتها يوما فيوما، وتكثر خيراتها شهرا فشهرا، وازدحمت بالعلماء الأعلام حتى وصلت إلى أرقى درجات الكمال خصوصا في أيام هارون الرشيد؛ فإنها صارت من أكبر مدن الإسلام، ومركزا للعلماء العظام، ومهدا للعلوم والفنون والآداب، وقد زارها هذا الخليفة في سنة 180ه وبقي فيها بضعة أيام يتفقد شئونها، وينشط علماءها على سعيهم المتواصل، ثم عاد إلى بغداد، فولى عليها في سنة 181ه إسحاق بن سليمان، ثم انتقلت إمارة هذه المدينة في عهده من إسحاق بن سليمان إلى سليمان بن أبي جعفر في سنة 184ه، ثم إلى عيسى بن جعفر في سنة 185ه، ثم إلى الحسن بن جميل في سنة 187ه، ثم إلى عيسى بن جعفر في سنة 189ه، ثم إلى جرير بن يزيد في سنة 190ه، ثم - بعد ستة أشهر - إلى عبد الصمد بن علي العباسي - ثانية - ثم إلى إسحاق بن عيسى بن علي في سنة 193ه.
Shafi da ba'a sani ba