ومن ذلك أنه عندما بلغه تمرد أهل صنعاء على عامله بها، ونهبهم كل ماعندهم من الأمتعة والدواب وكان في شبام دعا من كان في سجنه من آل يعفر وآل طريف، فأطلقهم ومن عليهم، وكان مما قاله لهم: «وهبت لكم نفوسكم فاتقوا الله في سركم وعلانيتكم». وأراد الرحيل إلى صعدة فلحقه أهل شبام وأرادوا قتله فهزمهم وأمن مكرهم، واستقر الإمام (ع) في ريدة وفيها وفد عليه أخوه عبدالله بن الحسين من الحجاز ومعه ثمانون رجلا من المضريين، وعلم الإمام الهادي (ع) بأن آل يعفر جمعوا قواتهم وفرسانهم واحتلوا صنعاء فتوجه إلى صنعاء ومعه أبو العتاهية وأنصار الإمام (ع)، والمهاجرون من الطبريين والمضريين، وهزم الإمام الهادي (ع) بني يعفر ودخل صنعاء، وعفا عنهم، وقال لهم في خطبة الجمعة: «أيها الناس مانقمتم علي إلا ماحكى الله في كتابه عن قوم لوط في قولهم: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} ولكنني أقول لكم كما قال عمي يوسف عليه السلام: لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين»، ثم بقي (ع) في صنعاء سنة كاملة يعلمهم ويرشدهم ويدرأ عنهم الأخطار ثم احتاج جيشه للمال، ولم يجد ماينفق عليه، فطلب قرضا من أعيان صنعاء فلم يقرضوه درهما واحدا، فخرج (ع) مع أصحابه إلى صعدة، وقال لهم عند خروجه: «والله لتمنونني، وليضربنكم الله بلباس من الجوع، والخوف، ولتباعن نساؤكم بالدينار والدينارين والثلاثة جزاء من الله على فعلكم وصنعكم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» فلم تمض إلا فترة حتى دخل علي بن الفضل صنعاء وكان قد اتخذ من مدينة المذيخرة عاصمة لملكه وفعل الأفاعيل في صنعاء، فادعى النبوة، وأحل نكاح البنات والأمهات والأولاد، وارتكب جميع المحرمات، وارتقى جامع صنعاء وخطب فيهم خطبته الشنيعة التي هدم فيها أركان الدين، ولقي أهل صنعاء منهم الكثير فلم يجدوا إلا الإمام الهادي (ع) فاستغاثوا به لجهاد القرامطة. فضرب (ع) أروع صور الصفح والتسامح معهم وهب لنجدتهم وإنقاذهم، وتوجه لجهاد القرامطة وأخرجهم من صنعاء وكان له معهم أكثر من نيف وسبعين وقعة انتصر فيها عليهم.
في العلم والعبادة:
الحديث عن مكانة الإمام الهادي (ع) العلمية لاتحتاج إلى وصف، وماتركه لنا من ثروة انبنت عليها أصول وتخريجات المذهب الزيدي خير دليل على ذلك، ويكفي ماروى أبو طالب (ع) عنه: «أنه بلغ من العلم مبلغا يختار عنده يجتهد ويصنف وله سبع عشرة سنة» (1).
قال أبو بكر بن يعقوب عالم أهل الري وحافظهم عندما جاء إلى اليمن ورأى الإمام الهادي (ع) : «كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جذع، بينما أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا أقوالا، إذ يقول ليس هذا يا ابا بكر قولكم، فأراده (أراجعه) فيخرج إلي المسألة في كتبنا على ماحكى وادعى فقد صرت إذا ادعى شيئا عنا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثرا» (2).
واجتمع عليه يوما في صنعاء سبعة آلاف عالم من الجبرية واختاروا شيخهم وتقدم يسأل الإمام الهادي (ع) ويناظره فقال: ممن المعاصي؟ فقال له (ع): ومن العاصي؟ فاحتار ولم يعرف إجابة. وعاد إلى أصحابه فأخبرهم بعجزه عن عدم معرفة الإجابة وقال: ويحكم إن قلت العاصي الله كفرت، وإن قلت العبد دخلت في مذهبه، فرجعوا جميعا إلى مذهبه (ع).
Shafi 182