Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Nau'ikan
ولم يعن قيصر من ذلك بشيء، بل أقام لابنة بطليموس قصرا على نهر التبر جمع فيه من ألوان النعيم ما أبدعه خيال الملكة، وجعل يزورها فيه فتقيم له من المراقص وصنوف اللهو ما ينسيه كل هموم الحكم ومتاعبه، ثم جعل يستقبل أصحابه في قصر التبر ولا يخفي عليهم من صلته بكليوباترة شيئا، وبالغ في الحفاوة بها حتى أقام لها هيكلا نصب فيه تمثالها على صورة الزهرة إلهة الجمال والحب، ودار في خاطره أن يتزوج منها برغم وجود كالبورينا زوجته وبطليموس الطفل زوجها، ومع أن مجلس الشيوخ لم يكن ينظر إلى هذا الزواج بعين الرضا فقد فكر في أن يعدل قوانين روما بما يبيح للرجل أن يعدد زوجاته ما دام لا عقب له، ولقد كان فاعلا وكان قيصرون يصبح يومئذ وارثه على عرش روما ويتغير وجه التاريخ وتبقى مصر مقرا للحضارة كما كانت لولا أن دبرت المؤامرة لقيصر وأن قتله أصحابه يوم أعياد المريخ في العام الرابع والأربعين قبل الميلاد.
بكته كليوباترة ثم عادت إلى مصر مع حاشيتها وأبنائها، وتركت أخاها الملك زوجها فنسيه التاريخ ولم يعرف أحد عنه بعد ذلك خبرا، وأقامت بالإسكندرية متوجسة خيفة أن يوقع بها خصوم قيصر وقتلته، لكن الحروب التي قامت بين أصدقائه وقتلته انتهت بانتصار أنطونيو وأصحابه في موقعة فيليب، ولم يزل ذلك وجلها وظلت في خشية من أن ينزل أكتاف ابن أخت قيصر مصر وهو لابنها من قيصر ألد عدو، لكن نجمها كان ما يزال نجم سعادة، فتقاسم المنتصرون ملك روما ووقع الشرق لأنطونيو، وأنطونيو صديق قيصر ومحبه، وأنطونيو رجل شهوة لا صبر له أمام امرأة، وأنطونيو معجب بجمال كليوباترة منذ سنين، عابد إياها مذ كان يزور قيصر في قصر التبر، مع ذلك لم تر كليوباترة أن تبعث إليه وفودا تهنئه بالملك كما بعثت سائر ممالك الشرق التي وقعت في حكمه، وهي لم تمده في حروبه مع قتلة قيصر بمدد من مال أو رجال، فغاظ ذلك أنطونيو وبعث إليها رسولا أن تحضر بنفسها لتدافع عن ذنوبها، وظل الرسول في قصرها أياما عاد بعدها مسحورا بها آخذا نفسه بالدفاع عنها حتى تحضر إجابة لطلب سيده، وبقيت هي زمنا تعتذر عن عدم مسارعتها لاجتياز البحر بشتى الأعذار، وبقي رسول أنطونيو خلال ذلك يحدثه عن فتنتها بما أذهب صبره، ثم بعثت هي أنها آتية إليه في تارسيس وذكرت موعد وصولها فخف الحاكم إلى المدينة ينتظرها، وأقبل أسطولها يشق عباب البحر حول سفينها السابح تدفعه أشرعة من خز، ويحمل مقدمه الرفيع تمثال آلهة البحر، وتبدو في وسطه مقاصير زينت بأفخر الرياش، وقد ذهب بالشعب لما رأى كل هذا الجمال والجلال فصاح: «هذه أفروديت بل هذه الزهرة أتت تزور إله لهونا المحبوب.»
وبعث أنطونيو برسوله يدعوها للعشاء عنده، فاعتذرت بأنها متعبة ودعته إلى سفينها، فلم يغضب ولم يتردد بل طار إليها وقضى شطرا من الليل في حضرتها نسي فيه الذنوب ونسي العقاب ونسي كل شيء غيرها، ثم دعته في الليلة التالية إلى وليمة عشاء في قصرها ودعت معه جمعا من الأمراء وأرباب الدولة، وما كان أشد بهرهم حينما رأوا الليل ينقلب في ذلك القصر نهارا ورأوا فيه من التماثيل والآنية والطنافس والخدم وألوان الطعام يتناولونها وتطربهم أنغام الموسيقى تطير في الجو مع ريح العطر والزهر، وتمتزج مع أنغام أجسام الراقصات اللدنة بما لم يحط به خيال أحد منهم من قبل، وكليوباترة وسط هذا الجمال الساحر أروع فتنة وأشد سحرا، وأبدى أنطونيو دهشته متى نظمت الملكة هذا القصر وما فيه، فابتسمت قائلة: إنه رسولها الذي بعثت به من أسابيع ثلاثة هو الذي صنع هذا بأمرها.
ودعاها أنطونيو إلى قصره ودعا معها الأمراء وحاول أن يجاريها في البذخ والنعمة ثم ابتسم آخر الوليمة أن رأى محاولته عبثا، ودعته وأمراءه إلى وليمة ثانية قالت إنها تكلفها ثلاثة ملايين درهم فأنكر أنطونيو ذلك عليها، وراهنته إنها فاعلة، وكلف هو أحد الأمراء أن يحصي التكاليف، ولما رأى أن لم تزد الملكة شيئا على ما فعلت في الوليمة الأولى أبدا لها أنه قمرها، فاستمهلته وخلعت من أذنها قرطا فيه جوهرة منقطعة النظير كان الإسكندر أهداها لبعض أسلافها وألقت بها في كوب به خل، فذابت وشربت هي الكوب وما فيه وقمرت أنطونيو، وظلت فعلتها هذه يقصها المؤرخون على أنها بعض العجائب.
وأسرع أنطونيو بالنظر فيما لديه من شئون الملك وعاد وكليوباترة إلى مصر واندفعا في سبيل الغرام تهيج سماء مصر في نفسيهما ما انطوتا عليه من حب اللذات واستباحة كل ألوانها والافتنان فيها، على أن أنطونيو لم يكن مهذبا كقيصر، بل كان جنديا خشنا فج الذهن لا يعرف الرقة ولا يحيط من الأدب أو اللغات بشيء، وإنما حببه إلى الجند ورفعه إلى مقام قيصر سهولة في العبارة التي كان يخطبهم بها ونزول منه إلى مشاركتهم في تذوق اللذات الدنيئة السافلة التي كانوا يتذوقونها، فلم يكن حي من أحياء الدعارة في روما أو بغي من بغاياها لا يعرفه، وكان من أسباب فخره أن أعقب من الأولاد حيثما ذهب ما لا عدد له، فألفت فيه حياة بهيمية قوية لم تكن في قيصر، ولكنها لم تجد فيه حياة العاطفة الإنسانية التي تغذي القلب، وإن قصرت عن إلهاب الدماء، على أن هذا الخلاف بينهما اضطر أنطونيو إلى أن يتعلم ويحضر من الدروس ما يخفف من شعوره بأنه دون كليوباترة، ودفعها هي لتنزل عن التفنن في رقة المتاع إلى هذه البهيمية الثائرة، وقد أنفت ذلك في بادئ الأمر حين كان حرصها على أنطونيو راجعا إلى حاجتها السياسية له، لكنها تذوقته بعد ذلك وبلغت من تذوقه أن لم تكن تطيق مفارقة صاحبها حين جولاته في أحياء الدعارة واللهو، ولم تأنف أن تدفع بكتفيها أيا من رجال تلك الأحياء ونسائها على طريقتهم، وبقيا غارقين في نعمتهما حتى حملت، وخيل إليها أن سيربط الحمل بينها وبين صاحبها كما ربط بينها وبين يوليوس من قبل، لكنه رآها ثقلت حركتها وخمد شعاع روحها، فعاد يفكر فيما كان غافلا عنه من شئون الدولة، ورأى أن لا مفر له من العودة إلى روما ليصالح أكتاف بعدما حزبت عليه فلفيا زوج أنطونيو وهبت لمحاربته، وليستعديه على أهل فينيقيا والشام الذين انتقضوا على روما وخلعوا نيرها، ولم تجد توسلات كليوباترة إليه كي يبقى ولو إلى حين وضعها، فلما قابل فلفيا في اليونان أنزل عليها من سخطه ما كسر قلبها، وغادرها إلى روما فماتت قبل وصوله إليها، وأصلح موتها بينه وبين أكتاف وتزوج من أخته أكتافيا برضا مجلس الشيوخ، وكانت أكتافيا عدل كليوباترة في سنها وجمالها، وكانت أم طفلين من زوجها الأول، محبة لحياة العائلة ونظامها بما يسر لها أن تسير زوجها وفق رأيها، فأنطونيو ككل رجل له مثل هذه الطبيعة الحيوانية يهون على كل امرأة أن تقوده، ولقد ذهبت معه إلى اليونان وظلت معه زهاء ثلاثة أعوام أعقبت له في أثنائها ابنين شغلت بهما وبأولادها الآخرين وبأولاد أنطونيو من فلفيا، فأحرج ذلك صدر أنطونيو منها وجعل يراها أما لا يعنيها منه إلا أبوته لأبنائها، من غير أن تعير مجده ولا عظمته اهتماما كالذي كانت تبديه كليوباترة، إذ كانت تدعوه أنطونيو الأكبر، وبلغ من حرج صدره أن اتهمها بأنها أحن على أخوتها لأكتاف منها على زوجيتها له، ثم بعث بها إلى روما وانطلق هو إلى سوريا يجني ثمار النصر الذي أحرزه بعض قواده.
في هذه السنوات الثلاث كانت كليوباترة تعاني من الهم والألم أشدهما تبرما ولذعا، علمت بما كان من زواج أنطونيو وأكتافيا على أثر وضعها توءمين دعت أحدهما الشمس والأخرى القمر، فاضطربت للخبر وما كانت من قبل تضطرب من خشية امرأة، وزاد في مخاوفها ما قد يؤدي هذا الزواج إليه من القضاء على آمالها في قيام قيصرون مقام أبيه، هنالك غادرت الإسكندرية إلى دندرة وشغلت نفسها بأن أقامت لهاتور معبدا ثم انقبضت نفسها لهذه الوحدة التي أحاطت بها فعادت إلى عاصمتها وشغلت نفسها من جديد ببناء قبرها، وكان أكبر جهادها أن تنسى أنطونيو باستدامة العود إلى تذكر قيصر، ونجحت في ذلك نجاحا سرها، لكن هذه الذكرى وذلك الاشتغال بما بعد الموت لم يكونا ليتفقا مع ما يتحرك به الشباب في جسد اعتاد ملذات النعيم ثم قسر على عفة قاسية، فعادت إلى مثل ما عودها أنطونيو من المرح في الأنحاء التي يلهو الشعب فيها، لكن ذلك لم يطفئ من رغباتها ما كان كامنا.
ولما عاد أنطونيو إلى الشام بعث إليها رسولا يستقدمها إليه بأنطاكية، ويل له من جريء! أيظن أن ملكة الملوك تطير إليه بعد أن نسيته، بل بعد أن أبغضته وبعد أن هجرها إلى أحضان امرأة غيرها قضى معها أكثر مما قضى مع كليوباترة؟ لكن لا! تضاءل ذلك كله أمام دعوته إياها فطارت تعد عدتها للسفر واجتازت البحر إليه لائمة عاتبة، وكفاها أن أقسم لها أن قلبه لم يعرف غيرها ولم يتعلق بسواها لتعود وإياه سيرتها الأولى، وأنطاكية كانت ثالثة مدائن بحر الروم بعد روما والإسكندرية، فكان لهما فيها من مسارح اللهو ما يسد كل شهواتهما، ولكي تؤمن بحبه إياها عقد عليها زواجه منها وخلع عليها ثلاث ولايات بدل ثلاث السنوات التي غابها عنها.
وبعد زمن نهلا فيه ما طاب لهما من ورد النعيم جهز لمحاربة خصوم روما فيما وراء الفرات، ورفض مشيئتها أن تصحبه لما في ذلك عليها من مشقة، لكنه عاد إلى سوريا محطما جيشه، فجاءت إليه من خير مصر مالا ورجالا بما أنساه هزيمته، وأقامت معه فأنسته فتنتها كل متاعبه، ثم تلقى رسالة من زوجه أكتافيا أنها آتية من روما في عدة وعديد، فتأثر حين رآها تقابل صده لها وجفوته إياها بهذا الكرم والإخلاص والحب، لكن كليوباترة وقفت في سبيل ما أتت أكتافيا فيه، ورفض أنطونيو أن يرى أخت عاهل روما أو أن يقبل منها مددا، فعادت إلى المدينة الخالدة ذات التلال السبعة مقهورة آسفة.
وعد الرومانيون هذه الفعلة على أنطونيو، فلما استرد قواه عاد فحارب خصوم روما وانتصر عليهم، لكنه بدلا من أن يحتفل بانتصاره في روما ذهب يحتفل به في الإسكندرية ويعتبرها عاصمة تعادل روما، وذلك ما لا طاقة للرومانيين باحتماله، فأثار أكتاف الرومان عليه، وابتهجت كليوباترة لذلك وجهزت أسطول مصر الضخم، وسارت وأنطونيو إلى أثينا في انتظار ما ستتمخض عنه الحوادث راجية الانتصار على أكتاف حتى تجلس قيصرون على عرش أبيه، لكن نجمها كان قد بدأ ينحدر نحو المغيب، فقد التقى الأسطولان في (أكسيم) وكانت الملكة في سفينتها «الأنطونياد» في مؤخرة الأسطول المصري ترقبه، وبدأت المعركة يحمى وطيسها وشعرت الملكة بأن حلمها أن تحكم روما وأن تقيم ابن قيصر مقام أبيه على عرش الغاصب أكتاف يتلاشى ، عند ذلك طار صوابها وتولاها الذهول، فلما أفاقت ألفت الريح تهب نحو مصر فأمرت رجالها بالعودة، وما يزال الأمل في النصر مضطربا بين العسكريين، والتقطت أنطونيو من سفينته وأخذته معها في «الأنطونياد» وعادا إلى مصر وقد تولاه الأسى أن رأى نجمه يأفل وعظمته تذوي وتذبل.
فأما كليوباترة فلم تفل الهزيمة من غرب عزمتها، بل نقلت أسطولها برا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر راجية أن تغزو الهند على نحو ما كانت تفكر مع قيصر، لكن هيرود عدوها في سوريا لم يمهلها أن قتل رجالها وأحرق سفنها، هنالك تحطمت كل آمالها الإمبراطورية واضطرت أن تقف كل حياتها ونشاطها على الدفاع عن مصر.
Shafi da ba'a sani ba