Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Nau'ikan
على أن الصبية لم تبق في هذا النعيم الملكي طويلا، وإن كانت لم تحرم منه إلا لتعود إليه فتكون به أكثر متاعا، ذلك أن أباها طرد من مصر فالتجأ إلى سوريا حتى عاد مع جند الرومان الذين أوفدهم بومبي، وكان أنطونيو على رأس فرقة من هذا الجند تحت قيادة جاليوس، فذهب مع بطليموس الطريد حتى دخل وإياه الإسكندرية دخول الظافر.
وكانت كليوباترة يومئذ في الرابعة عشرة من عمرها، فلما أيقنت بانتصار أبيها وبعودته إلى مدينة النعيم اجترأت على اختلاس شارة الملك من برنيس زوج أركايلوس خصم أبيها، وجلست مع خديناتها في شرفة القصر وقد ارتدت ثوبا رقيقا أبيض بدا فيه جمالها الساحر أشد سحرا برغم أنه كان في بدء ترعرعه، ولما أقبل أبوها بعد دخول أنطونيو على رأس الجند إلى القصر أمامه شقت هي وسط الجمع طريقا واندفعت تعانق أباها باكية من شدة التأثر، وكانت هذه أول مرة رأت فيها عين الروماني الفاتح الطويل القامة العريض الأكتاف الشره إلى كل لهو ومسرة، تلك الفتاة الطفلة ما تزال، والتي برعت برغم ذلك كل قريناتها من فتيات القصر ونسائه، ولم تنس كليوباترة في دلها وتيهها أن توجه إليه نظرة حلوة فيها أكثر من معنى الاعتراف بالجميل لرده أباها إليها وإلى ملكه.
وعاد أنطونيو إلى روما وعاد بطليموس إلى الحكم وإلى اللهو يستمرئ مرعاه ويمعن فيه بعدما حرم زمنا منه، وكانت ابنته تطوف وإياه أنحاء البلاد ينزلان في المدائن العامرة ويقيمان فيها من أسباب اللذة ما لا يباح لفتاة أن تعرفه، وظلا على ذلك ثلاث سنوات تباعا انتهت بموت الأب بعدما أوصى بالملك لكليوباترة ولأخيها بطليموس الطفل الذي لم يكن يزيد يومئذ على اثنتي عشرة سنة على شريطة أن يتزوج من أخته، وكان زواج الأخ من أخته متعارفا في الأسرات الملكية يومئذ لحرصها على ألا يختلط دمها الفرعوني المستمد من الشمس كبيرة الآلهة بدم الرعايا، وإذ كان هذا الأخ قاصرا عين له قوام ثلاثة اشتركت الملكة معهم في الحكم وإن استأثرت به دونهم إلى حد عظيم.
وقد ملكت قلب المصريين في الفترة الأولى من فترات حكمها بما كانت تغدقه عليهم من صنوف المتاع وبسحرها إياهم بفتنة جمالها، حتى دعيت إذ ذاك حبيبة الشعب وملكة كل نعيم ، لكن عهدها بذلك لم يطل، فقد بعث منيلوس يطلب إليها إرجاع الجند الرومانيين الذين ظلوا عندها، وإذ كان هؤلاء الجند قد استوطنوا الإسكندرية وتزوجوا فيها ومتعوا بنعيمها فقد أبوا مغادرة مصر واستغاثوا بالشعب، ثم جاء من بعد ذلك ابن بومبي لنفس القصد، وكان لأبيه على أبيها فضل إعادته إلى ملكه مما أجلسها هي على العرش بعده؛ لذلك رأت واجبا عليها أن تحسن وفادته، وقابلته فرأت فيه غير أخيها الطفل الذي فرضه الملك زوجا لها، فقبلته ضيفا في قصرها وأجابته إلى ما طلب أن كان أبوه يومئذ في حرب مع قيصر، وقد غاظ ذلك أخاها منها فانضم إلى المؤتمرين بها وعاون على انتقاض الشعب عليها ومحاولته قتلها، وإذ كانت لا تملك الفرار من طريق البحر فرت في ذهبية إلى الصعيد كسيرة القلب أن لم يفعل جمالها في أولئك السكندريين فعله، ونزلت طيبة على صورة لم تعهدها أيام زيارتها المدينة الخالدة مع أبيها المترف المتلاف، وبدلا من أن تجعل مقامها في طيبة الأحياء جعلت مقابر الملوك موضع نجواها كأنما كانت تريد أن ترقد بينهم تنتظر البعث وإياهم آملة في الآخرة ملكا أكثر من ملك مصر ثباتا، لكن أصواتا انبعثت إليها من جوف مقابر هؤلاء الفراعنة العظام تناجيها: أن لا ملك بغير إقدام ولا جلالة من غير كبرياء ولا حكم لمن لم تملك نفسه شهوة الفتح، وأيأستها دعة المصريين من أن تجد منهم أي عون أو مدد، ففرت إلى سوريا وهي في مقدرتها على سحر أهلها أكبر أملا وفي فتنتهم بجمالها أشد ثقة ولم يخنها حدسها، فما كادت تستقر في ربوع الشام حتى سحرت أهلها بجمالها وبلاغتها وإقدامها فالتفوا حولها واجتمع منهم جيش سارت هي على رأسه ممتطية جوادها، لكن المصريين بعثوا هم الآخرين بجيوشهم ورابطوا على حدود ما بين مصر والشام، ووقف الجيشان وجها لوجه لا يلتقيان.
وفي هذه الأثناء هزم قيصر بومبي في موقعة فرسالا وفر المنهزم إلى مصر عله يجد موئلا في بلد له عليه وعلى القائم على عرشه فضل سابق ، لكن أوصياء بطليموس الطفل علموا أن قيصر يطارد غريمه، وخشوا إن هم حموا هذا الغريم أو ألجأوه أن يصب عليهم قيصر جام غضبه، فقتلوا اللائذ بهم، فلما نزل قيصر عليهم وعلم ما فعلوا ركبه الهم وحزن غاية الحزن وأمر أن تقام لبومبي أفخر طقوس الجنازة.
وعرفت كليوباترة أمر ذلك كله، وعرفت أكثر منه أن قيصر لما علم بما بينها وبين أخيها من حرب نصب نفسه حكما بينهما عملا بوصية أبيها أن تحمي روما ملك أبنائه من الشتات والدمار، هنالك فكرت في أن تلجأ إلى هذا الحكم ترفع إليه ظلامتها غير جاهلة ما قد يحمله لها من ضغن أن حمت ابن خصمه وأن مدت بومبي بالرجال والذخيرة، لكنها كانت واثقة من سحرها مطمئنة إلى مقدرتها وفتنتها مؤمنة بأن لا نجاح من غير إقدام، وزادها طمأنينة ما كان من بكاء قيصر حين علم بقتل بومبي، فتركت الجند واستصحبت مؤدبها الأمين أبولو دور، واجتازا طريق البحر حتى وصلا أمام الإسكندرية، بقي أن تدبر الوسيلة للمثول في حضرة قيصر، وكليوباترة نحيفة القوام بضة لينة الملمس، فليس يعجز أبولو دور أن يحملها وأن يزعم أنها بعض المتاع وأنه من رجال روما يريد إيصال ما يحمله لقيصر، فالتفت الصبية الفاتنة في بعض أسمال وأردية من غير أن تبدل شيئا من زينتها الملكية وعطرها، وحملها مؤدبها على كتفه، وزعم حين سأله الحراس عن غايته أنه موصل ما يحمل إلى بعض ضباط قيصر، واجتاز معسكر الرومان حتى أنزل حمله في رفق أمام الظافر على عاهل روما، الباكي عليه حين وفاته.
وكانت هذه هي الساعة التاريخية التي اتجه فيها الزمن غير وجهته، الساعة التي وقف إزاءها القصاص والمؤرخون، أذهلهم البهر وسحرتهم الفتنة كما أذهلا قيصر وسحراه، نضت الملكة الصبية ما التفت به من أطمار وأسمال وبدت في زينة الملكة وعطرها وجلالها، أكانت طويلة أم قصيرة؟ أكان أنفها كبيرا أم صغيرا؟ لم يعرف قيصر في هذه اللحظة من ذلك شيئا، واختلف المؤرخون فيه خلافا كبيرا، وكأنما كان لجمال هذه الفاتنة من الروعة ما لأشعة الشمس من قوة تحول دون التحديق بها، وكأنما بقي هذا الجمال في قوة سحره بعدما مر على صاحبته من عصور وقرون، فكل يختلف في صورته وفي قسماته، على أن كليوباترة لم تحاول فتنة قيصر بجمالها، بل ارتمت عند قدميه ضارعة مستغفرة، وجعلت تتكلم وتشكو وتستعطف، وكان صوتها أفعل سحرا من جمالها، وكانت عبارتها أنفذ إلى القلب من صوتها إلى شغاف الفؤاد، ومن جمالها الذاهب باللب.
جعلت تتكلم وتشكو وجعل قيصر ينصت ويصغي، ثم صار لا يسمع دفاعا ولا شكوى بل أنغاما دونها صوت البلبل وعزف الناي وانتهى بكليوباترة وبه الأمر أن وقفت وجثا هو على قدميها ضارعا مستغفرا، ثم حملها على كتفه كما حملها إليه أبولو دور وذهب بها إلى مضجعه.
وكان قيصر برغم تجاوزه الخامسة والخمسين محبا للنساء، كما كان مثار إعجابهن بقوامه ونظرته وبروحه المذهب الرقيق وعزمته الصادقة القوية؛ لذلك اتصل بينه وبين كليوباترة منذ هذه المقابلة الأولى بما سحره عن كثير مما كان اعتزم لمجده ومجد روما، وجلست هي إلى جانبه في قصرها المنيف تعجب به وتثير إعجابه، وملكته حتى لم تبق في شك من حكومته بينها وبين أخيها، ودعا هو أخاها الطفل ليصلح بينهما، فلما دخل عليهما قرأ في عيونهما ما هاج الدم في عروقه الضعيفة، وما دعاه ليلقي التاج عن رأسه، وليخرج صائحا في الشعب وفي جند روما داعيا إلى الثورة على أخته وعلى قيصر لعهر كليوباترة ولخيانة صاحبها، ولم يرد قيصر أن يقاتل لقلة جنده ولحرصه على استبقاء هذا الطفل مغمضا عينه على ما يفعل الحبيبان، فاسترضاه وصالحه على تنفيذ وصية أبيه بإشراف روما، ورضي الغلام آملا أن يطمئن له الأمر فيصير ملكا وفرعونا وإلها، وظل هو وكليوباترة يرتشفان من كأس الحب وينهلان أعذب موارد الهوى بما يتفق وروحيهما المهذبين، ولقد كانا بذلك سعيدين كل السعادة، ولم يكن ورد سعادتهما مقصورا على اتصال الغرام بين ابنة الملك العازف اللدنة القوام، الموسيقية الصوت والنفس، الرطبة الخلق، الندية النظرة الرشيقة رشاقة الراقصة ، وبين قيصر الساحر الحلو الحديث، بل كان ورد سعادتهما الحق هو الحب، كبل كل واحد منهما صاحبه بأغلال هذه العاطفة القاسية السامية في قسوتها فسعد كل بأغلاله، وكانت كليوباترة أكثر سعادة لأنها استردت مع هذا الحب ملك مصر، ووضعت يدها على تاج روما وصرفت قاهر السكسون والجرمان وسائر دول أوربا عن حروبه في سبيل الجمهورية ليحارب في سبيلها وليقهر أوصياء أخيها، وليثبت لها أركان عرشها بعدما ثبتت في قلبه، وظل كذلك ستة أشهر لا يعرف من أمر روما شيئا ولا يبعث إلى روما بخبر، وإن عرفت روما من أمره مع ملكة مصر كثيرا، وزادت به ارتباطا وازداد لها عبادة حين حملت منه، إذ ذاك لجا في أسباب المسرة يلتمسانها في كل مكان ويرتجيان النعمة من كل الآلهة، فأقاما أعيادا عند الأهرام وأبي الهول، وفي أبيدوس عند قبر إيزيس وأوزوريس، وفي دندرة حيث معبد هاتور إلهة النسل الخصب وفي طيبة ذات الأبواب المائة، وفي أنس الوجود، وفي كل معبد وعند كل إله.
ووضعت كليوباترة غلاما دعته قيصرون وخلعت عليه كل ألقاب الفراعنة آلهة مصر وعواهل روما وحكامها، ثم أبحر قيصر إلى روما ولحقت هي به في أبهة الملك وجلاله، وفي حاشية ليس للرومان بها عهد، وقيصر ظافر والشعوب عباد من ظفر، وقد أقام لمناسبة عودته أعيادا أسرف خلالها فيما خلعه على الشعب من أعطيات ونعم زادت الشعب له عبادة وأنسته ما كان من انصراف قيصر عنه إلى كليوباترة عاما كاملا، لكن هذا الشعب لم يعجب من كليوباترة بجمالها الرائع المترفع، لأن زعماءه وقادته جعلوا يستعطفونه على كالبورينا زوجة قيصر.
Shafi da ba'a sani ba