353

عليك أيها الموحد المحقق في مقام تمجيد الحق وتحميده. مكنك الله بما أوصاك إليه وقررك دونه. أن تعظم الحق غاية التعظيم، وتكبره كمال التكبير والتكريم، واعلم أن تعظيمه إنما هو بتعظيم مظاهره ومجاليه؛ إذ ما من ذرة من ذرائر الكائنات إلا وقد ظهر الحق فيه، وتجلى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فلك أن تتواضع وتتذلل عند المظاهر طوعا ورغبة ، ولا تتكبر عليها، ولا تتعظم دونها؛ إذ التكبر والتفوق على ذرة صغيرة من أمارات عدم الوصول إلى مرتبة اليقين الحقي ومقر التوحيد الحقيقي.

وذلك إنما يحصل لك بعد رفع مقتضيات أوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري، وهو إنما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات، وترك العادات الراسخات في نفوس أصحاب الجهالات، والركون إلى العزلة والخلوات، والانقطاع عن رسوم أصحاب التخمينات والتقليدات، والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات.

وفقنا الله وإياكم سلوك طريق التوحيد، ورزقنا الوصول إلى منزلة التجريد والتفريد، وجعلنا من زمرة أهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد، إنك قريب مجيب حميد مجيد.

[18 - سورة الكهف]

[18.1-8]

{ الحمد } المشتمل المتضمن على عموم الاثنينية والتوصيف بالأوصاف الجميلة حقيق لائق { لله } أي: للذات المستجمع لجميع مراتب الكمال، المستحق لجميع المحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا؛ لأنه { الذي أنزل على عبده } المستجمع لجميع مرابت الكمال، المستظل بظل الألوهية، المستحق لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحاه بالأصالة؛ يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.

{ الكتاب } الجامع لجميع أوصاف الكمال إجمالا وتفصيلا، المشتمل لعموم الأحكام المتعلقة لها، المترتبة عليها في النشأة الأولى والأخرى، مع كونه محتويا على ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي، مع زيادات خلت عنها تلك الكتب من الرموز والإشارات المتعلقة بالتوحيد الذاتي المسقط لعرق الإضافات والكثرات مطلقا { و } بين لهم فيه طريق التوحيد الذاتي على الوجه الأبلغ الأقوم؛ بحيث { لم يجعل له عوجا } [الكهف: 1] وانحرافا في تبيينه.

بل جعله { قيما } مستقيما معتدلا بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا، وإنما أنزله إلى عبده وحبيبه صلى الله عليه وسلم { لينذر } بإنذاراته الكافرين الذين كفروا بالله وجحدوا في توحيده، وعملوا السيئات المبعدة عن طريق النجاة { بأسا شديدا } وعذابا أليما عظيما صادرا { من لدنه } أي: من عند الله العزيز المنتقم بطشا لهم وانتقاما منهم { ويبشر } أيضا بتبشراته { المؤمنين } الموحدين { الذين يعملون الصالحات } المقربة لهم إلى مرتبة التوحيد الصادرة عنهم على مقتضى يقينهم وعرفانهم { أن لهم } أي: أن لهم { أجرا حسنا } [الكهف: 2] هو التحقق بشرف اللقاء والفوز بمطالعة جمال الله والاستغراق بملاحظة وجهه الكريم.

{ ماكثين فيه } أي: في الأجر الحسن دائمين { أبدا } [الكهف: 3] مؤيدا مخلدا بلا تبديل وتغيير، مزيدين المحبة واللذة والشوق، متعطشين إلى زلال التفريد بلا رواء أصلا، كما أخبر سبحانه عن حال أولئك الوالهين بقوله:

" ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي ".

Shafi da ba'a sani ba