352

{ وقرآنا } فرقانا بين الحق والباطل والهداية والضلال { فرقناه } أي: فرقنا إنزاله مفرقا منجما { لتقرأه على الناس } لدى الحاجة { على مكث } مهل وتؤدة، فإنها أسهل وأيسر للحفظ والفهم { ونزلناه تنزيلا } [الإسراء: 106] على حسب الوقائع ومقتضى الزمان والمورد في عرض عشرين سنة.

{ قل } يا أكمل الرسل للطاعنين في القرآن، المائلين عن حقيته جهلا وعنادا على سبيل التهديد والتوبيخ: { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي: سواء منكم الإيمان بالقرآن وعدم الإيمان به؛ لأنكم جهلاء عما فيه من الحقائق والمعارف، غفلاء عن الرموز والإشارات المودعة فيه، فتصديقكم وتكذيبكم لا يجدي نفعاص، ولا يورث ضرا، إنما العبرة لذوي الخبرة { إن الذين أوتوا العلم } من لدن حكيم عليم بحقية ما فيه، وما في جميع الكتب الإلهية، وهم الأنبياء والأولياء المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان، كانوا يؤمنون به ويصدقون به { من قبله } أي: قبل نزوله، وبعد نزوله كذلك { إذا يتلى عليهم يخرون } ويسقطون { للأذقان سجدا } [الإسراء: 107] متذللين، واضعين جباههم وأذقانهم على تراب المذلة تعظيما لأمر الله، وشكرا له لإنجازه وعده.

{ ويقولون } في حين سجودهم منزهين مسبحين: { سبحان ربنآ } وتعالى عن أن يأتي الخلف فيما عهدنا، أو عن أن يعجز عن إتيان ما وعدنا { إن كان وعد ربنا لمفعولا } [الإسراء: 108] أي: إنه كان وعد ربنا إلى وعدنا به في الكتب السالفة من إرسال رسول بأوصاف مخصوصة مع كتاب جامع لما في الكتب السالفة، ناسخ لها، خاتم للرسالة العامة والتشريع الشامل، لذلك صار دينه ناسخا لجميع الأديان، فقد أنجز سبحانه وعده بإرسال هذا النبي الأمي الموعود.

{ ويخرون } أيضا العالمون العارفون بحقية القرآن بعد تأملهم، وتوغلهم في حكمه وأحكامه وحقائقه ومعارفه { للأذقان } حال كونهم { يبكون } من خشية الله { و } بالجملة: { يزيدهم } التأمل والتدبر فيه على وجه التدقيق والتعمق { خشوعا } [الإسراء: 109] وخضوعا؛ لاطلاعهم على سرائر شهدت بها أذواقهم، وذاق حلاوتها وجدانهم وسرائرهم.

{ قل } يا أكمل الرسل للمحجوبين الغافلين عن سر سريان الوحدة الذاتية الإلهية في المظاهر كلها والمجالي برمتها: { ادعوا الله } أي: سمو الذات الأحدية باسم الله المستجمع لجميع الصفات إجمالا { أو ادعوا الرحمن } أي: سموه باسم الصفات التي اتصفت بها الذات الأحدية تفصيلا { أيا ما تدعوا } وتسموا من أسماء الذات والصفات { فله } أي: لله المنزله عن سمة الكثرة والحدوث مطلقا، ووصمه الشركة والتعدد رأسا عن { الأسمآء الحسنى } الكاملة الدالة على أحدية ذاته، غايته في الباب أنها باعتبار شؤونه وتجلياته، إذ الاسم والمسمى كلاهما يتحدان عن سقوط الإضافات ورفع التعينات؛ إذ لا يتصور التعدد دون جنابه إلا وهما واعتبارا.

{ و } إذا كان الكل من المسميات راجعة إلى الذات الأحدية بعد رفع التعينات وسقوط الإضافات { لا تجهر } أيها العارف المتمكن في مقام التوحيد، الراشح فيه بلا تلوين وتقييد ولا تعقل { بصلاتك } وميلك نحو الحق بوحا وشطحا، ولا تقل في حال صحوك إفاقتك كلام أرباب السكر والحيرة { ولا تخافت بها } أيضا خيفة وشحا على ذوي الاستعداد الاسترشاد { وابتغ } وأختر يا صاحب التمكين { بين ذلك سبيلا } [الإسراء: 110] مقتصدا معتدلا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط؛ إذ الخير في كل الأمور أوسطها وأعدلها.

{ وقل } بعدما تحققت وتمكنت في مقر التوحيد شكرا لما أنعمك الحق الوصل إليه، وأمكنك التحقق دونه والورود عليه: { الحمد لله الذي } توحد بذاته ونقدس بأسمائه وصفاته، وتفرد بألوهيته، واستقل بوجوده وربوبيته إلى حيث { لم يتخذ ولدا } يخلف عنه لكونه صمدا قيوما أزليا سرمديا، لا يعرضه الفناء ولا يعتريه الانصرام والانقضاء { ولم يكن له شريك في الملك } والملكوت يظاهره أو يزاحمه ويخاصمه؛ إذ لا شيء في الوجود سواه { ولم يكن له ولي } يولي أمره ويعين عليه حين ما لحقه { من الذل } المسقط لعزه الأصلي وعظمه الحقيقي الأزلي؛ إذ لا تغير ولا تبدل في ذاته أصلا.

{ و } بالجملة: { كبره تكبيرا } [الإسراء: 111] ذاتيا حقيقيا وعظمه تعظيما صوريا ومعنويا؛ إذ لا وجود للغير معه حتى يتصور هناك النسبة والإضافة، بل هو أجل وأكبر لذاته بلا توهم الإضافة فيه.

اهدنا بفضلك سواء سبيلك إلى توحيدك، واجعلنا من زممرة أرباب تمييزك وتمجيدك.

خاتمة السورة.

Shafi da ba'a sani ba